بسم الله الرحمن الرحيم
يجب على المقتدر من الآباء تزويج من لم يستطع من الأبناء
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فكثير من الآباء فهمهم قاصر عن المسؤولية التي أقحموا أنفسهم فيها، ولم يعرفوا من مسؤوليتهم اتجاه أولادهم إلا الأكل والشرب واللباس والتعليم والعلاج وما أشبه.
وفي الصحيحين أنَّ عبدَ الله ابنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يقولُ: سمِعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: ((كلُّكم راعٍ، وكلُّكُم مسؤُولٌ عنْ رَعِيَّتِهِ، الإمامُ راعٍ، ومسؤُولٌ عن رعيَّتِهِ، والرجلُ راعٍ في أهلِهِ، وهو مسؤُولٌ عن رعيَّتِهِ، والمرأةُ راعيَةٌ في بَيْتِ زَوْجِها، ومسؤُولةٌ عنْ رَعِيَّتِها، والخادِمُ راعٍ في مالِ سيِّده، ومسؤُولٌ عَن رَعيَّتِهِ،- قالَ: وحسِبْتُ أنْ قدْ قالَ:- والرَّجلُ راعٍ في مالِ أبيهِ، ومسؤوُلٌ عنْ رَعِيَّتِهِ، وكلُّكُم راعٍ ومسؤُولٌ عنْ رَعيَّتِهِ)).
وقوله: (والرجلُ راعٍ في أهلِهِ) أعم من أن تحصر في تلك الأشياء وتخصص ببعض دون البعض، وهذه المسؤولية تشمل الجانب الديني والدنيوي، حيث أن الاهتمام بدينه وأدبه وأخلاقه تأتي في المرتبة الأولى، والتي يغفل عنها كثير من الآباء، منها: اختيار له الأم الصالحة والاسم الطيب وتغذيته بالحلال وتعليمه ما يجب عليه من الدين وغير ذلك.
ومن مسؤولية الأب المقتدر أن يزوج ابنه الذي قصرت يده عن تكاليف الزواج، لأن حاجة الزواج لا تقل عن حاجة الطعام والشرب، وخاصة إذا خشي الابن على نفسه أن يفرغ شهوته فيما حرم الله.
وإلى هذا ذهب جملة من أهل العلم.
قال الحافظ ابن الجوزي رحمه الله في ((تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر)): ((فإذا راهق الصبي فينبغي لأبيه أن يزوجه؛ فقد جاء في الحديث: (من بلغ له ولد أمكنه أن يزوجه فلم يفعل، وأحدث الولد إثماً كان الإثم بينهما) .
والعجب من الوالد كيف لا يذكر حاله عند المراهقة، وما لقي وما عانى بعد البلوغ، أو كان قد وقع في زلة فيعلم أن ولده مثله)) اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله في ((المغني)): ((قال أصحابنا: وعلى الأب إعفاف ابنه إذا كانت عليه نفقته، وكان محتاجا إلى إعفافه، وهو قول بعض أصحاب الشافعي)) اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله في ((المغني)): ((فإنه يجب إعفاف من لزمت نفقته من الآباء والأجداد)) اهـ.
وقال العلامة المرداوي رحمه الله في ((الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف)): ((يجب على الرجل إعفاف من وجبت نفقته عليه من الآباء والأجداد والأبناء وأبنائهم وغيرهم، ممن تجب عليه نفقتهم. وهذا الصحيح من المذهب. وهو من مفردات المذهب وما يتفرع عليها. وعنه: لا يجب عليه ذلك مطلقا. وقيل: لا يلزمه إعفاف غير عمودي النسب. فحيث قلنا: يجب عليه ذلك، لزمه أن يزوجه بحرة تعفه، أو بسرية)) اهـ.
وقال الإمام ابن باز رحمه الله في ((فتاوى نور على الدرب)): ((فالذي أنصح به جميع المسلمين أن يجتهدوا في تزويج أبنائهم وبناتهم وأن يساعدوا في ذلك حرصًا على عفتهم وبعدهم عن الشر وعملاً بالنصوص الدالة على ذلك، كقول الله سبحانه في كتابه العظيم: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، وقوله جل وعلا: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ}. ولهذا الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة، فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج)) الحديث، وقوله عليه الصلاة والسلام ((تزوجوا الولود الودود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)) فالواجب على الآباء أن يزوجوا أولادهم العاجزين إذا كان الوالد يستطيع تزويج ولده)) اهـ.
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)): ((ولو احتاج أحدهم إلى تزويج والآخر لا يحتاج، فالعدل أن يعطي من يحتاج إلى التزويج ولا يعطي الآخر، ولهذا يعتبر من الغلط أن بعض الناس يزوج أولاده الذين بلغوا سن الزواج، ويكون له أولاد صغار، فيكتب في وصيته: إني أوصيت لأولادي الذين لم يتزوجوا، أن يزوج كل واحد منهم من الثلث، فهذا لا يجوز؛ لأن التزويج من باب دفع الحاجات، وهؤلاء لم يبلغوا سن التزويج، فالوصية لهم حرام، ولا يجوز للورثة ـ أيضا ـ أن ينفذوها إلا البالغ الرشيد منهم إذا سمح بذلك، فلا بأس بالنسبة لحقه من التركة)) اهـ.
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في ((اللقاء الشهري)): ((وأوصي أيضاً الآباء بالنسبة لأبنائهم وبناتهم: أن يتقوا الله تعالى فيهم، لأن الأب إذا كان قادراً على تزويج ابنه وجب عليه أن يزوجه وجوباً كما يجب أن يكسوه ويطعمه ويسقيه ويسكنه يجب عليه أن يزوجه، والعجب أنه يوجد آباء أغنياء يقول له الولد: زوجني، فيقول: لا أزوجك، أنت اعمل وزوج نفسك، سبحان الله! الأمر بيده، هل الدراهم موجودة على الرمال ورؤوس الجبال؟ أبداً، ولهذا نرى أن الرجل القادر على تزويج أبنائه يجب عليه أن يزوجهم وجوباً، فإن لم يفعل فهو ظالم آثم، ولست أقول هذا من عند نفسي بل قاله العلماء رحمهم الله، قالوا: إنه يجب على الرجل أن يعف أبناءه كما يجب عليه أن يسد جوعهم وعطشهم، بل قد تكون مسألة الزواج أخطر؛ لأنها قد تتعدى إلى الغير فيفسد غيره.
فيجب على الآباء أن يزوجوا أبناءهم إذا كانوا قادرين)) اهـ.
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في ((اللقاء الشهري)): ((المسألة الثانية: بعض الأولاد كبار يحتاجون إلى تزويج فيزوجهم، والآخرون صغار لا يحتاجون إلى التزويج، فهل يجب عليه أن يعطي الصغار مثل ما أعطى هؤلاء لمهر النكاح؟ لا.
لا يجب.
بل ولا يجوز؛ لأن الصغار لا يحتاجون إلى المهر، يعني: إلى الصداق، لكن هل يجب عليه أن يوصي لهم ويقول: إذا مت فأعطوا ابني الفلاني والفلاني والفلاني مثلما أعطيت الابن الذي تزوج؟
أقول: هل يجب أن يوصي بذلك أو لا؟
لا يجوز، لا يجب ولا يجوز للصغير، لا يجوز أن يوصي لهم، لماذا لا يجوز؟ لأن التزويج مثل النفقة، كل يعطى ما يحتاج، هؤلاء صغار مات وهم صغار لم يبلغوا أن يتزوجوا فلا يجوز أن يوصي لهم، لا يجب ولا يجوز)) اهـ.
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله كما في ((مجموع فتاواه ورسائله)): ((قلنا: لأن حاجة الإنسان إلى الزواج ملحة، قد تكون في بعض الأحيان كحاجته إلى الأكل والشرب، ولذلك قال أهل العلم: إنه يجب على من تلزمه نفقة شخص أن يزوجه إذا كان ماله يتسع لذلك، فيجب على الأب أن يزوج ابنه إذا احتاج الابن للزواج ولم يكن عنده ما يتزوج به، لكن سمعت أن بعض الآباء الذين نسوا حالهم حال الشباب إذا طلب ابنه منه الزواج قال له: تزوج من عرق جبينك، وهذا غير جائز وحرام عليه إذا كان قادراً على تزويجه، وسوف يخاصمه ابنه يوم القيامة إذا لم يزوجه مع قدرته على تزويجه.
وهنا مسألة: لو كان لرجل عدة أبناء منهم الذي بلغ سن الزواج فزوجه، ومنهم الصغير فهل يجوز لهذا الرجل أن يوصي بشيء من ماله يكون مهراً للأبناء الصغار لأنه أعطى أبناءه الكبار؟
الجواب: لا يجوز للرجل إذا زوج أبناءه الكبار أن يوصي بالمهر لأبنائه الصغار، ولكن يجب عليه إذا بلغ أحد من أبنائه سن الزواج أن يزوجه كما زوج الأول. أما أن يوصي له بعد الموت فإن هذا حرام، ودليل ذلك قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)) اهـ.
بل ذكر بعض أهل العلم يجب تزويج العبد إذا احتاج.
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)): ((قوله: (وإن طلب نكاحا زوجه أو باعه) إذا طلب العبد نكاحا وجب عليه أن يزوجه؛ لأن تزويجه من الإنفاق، أو يبيعه على من يغلب على ظنه أنه يزوجه، أما أن يبيعه على شخص لا يزوجه أو قد يكون أقسى من صاحبه الأول، فهذا لا فائدة في بيعه)) اهـ.
فالقول بوجوب تزويج الابن الغير مقتدر على تكاليف الزواج على الأب الغني قول له قوته وله حظه.
هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: ليلة الخميس 7 ذي الحجة سنة 1440 هـ
الموافق لـ: 9 أغسطس سنة 2019 ف
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: ليلة الخميس 7 ذي الحجة سنة 1440 هـ
الموافق لـ: 9 أغسطس سنة 2019 ف