بسم الله الرحمن الرحيم
النفاق التقني
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
ففي هذه الشبكة العنكبوتية بعامة وفي مواقع التواصل بخاصة من النفاق العملي ما الله به عليم، وفي هذه المقالة سأتعرض لبعض صور هذا المرض الخطير وهذا الداء الفتاك، مما يقع فيه مستخدمي هذه البرامج.
أولا: الطعن والسخرية بالمشايخ والعلماء.
كما طعن المنافقون في النبي عليه الصلاة والسلام وسخروا منه، كذلك طعنوا وسخروا من أصحابه وورثته.
قال الله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ، لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ، إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ، نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 64-66].
قال العلامة صالح الفوزان حفظه الله في ((الأجوبة المفيدة عن أسئلة المناهج الجديدة)): ((لا يقع في أعراض العلماء المستقيمين على الحق إلا أحد ثلاثة :
إما منافق معلوم النفاق، وإما فاسق يبغض العلماء ؛لأنَّهم يمنعونه من الفسق، وإما حزبي ضال يبغض العلماء، لأنَّهم لا يوافقونه على حزبيته وأفكاره المنحرفة)) اهـ.
وما نلمسه من قدح وغمز ولمز من صبية أصاغر الشبكة – النت - في علماء هذه الأمة بل خيرة أهل العلم مما يندى له الجبين ويتمزق القلب حزنا لما آل إليه حال هؤلاء الشرذمة الأغمار.
قال الشيخ العالم عبدالمجيد بن جمعة الجزائري حفظه الله في مقدمته على ((ردع المجرم عن سب المسلم)) للحافظ ابن حجر (ص 12-13): ((وقد نبتت نابتة، وأينعت رؤوس، وخرجت حيات من جحور، من أصاغر العلم الأغمار، حدثاء الأسنان والأعمار، في مختلف المدن والأمصار، لم يؤتوا حظا من العلم، ولا نصيبا من الفهم؛ اتخذوا مواقع التوصل، وشبكة النت مرتعا لنشر الزور، وترويج الكذب والفجور، ما تضيق به الصدور، لا يرقبون في العلماء ذمة، ولا يراعون لهم حرمة، ينهشون من لحومهم، ويخوضون في أعراضهم، يتتبعون لعوراتهم، ويتصيدون لعثراتهم؛ دون رادع يردعهم، ولا وازع يمنعهم، والله المستعان.
وقد فتح هؤلاء باب المحنة، وأوقدوا نار الفتنة، فجر هذا الفعل منهم تسلط الدهماء على العلماء، وطعن السفهاء في الفقهاء، وسهلوا على كل من هب ودب، وأحسن الشتم والسب، من الجماعات الحزبية المنحرفة، طريق الوقيعة فيهم، حتى تكلموا في خيار المشايخ من أهل العلم والفضل، وأظهروا تناقصهم، وجاهروا بذكر مساوئهم، حتى أضحت أعراضهم مرتعا مباحا لكل ناعق، ومسرحا مستباحا لكل بائق، وعند الله الموعد، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله)) اهـ.
ثانيا: ذو الوجهين.
من صور هذا المرض القبيح أن يكون للواحد أكثر من حساب، في أحد الحسابات يظهر بالمظهر الطيب وفي الغالب يكون مصرحا باسمه، وفي الحساب الآخر يظهر الفجور والقبح من القول – سب وشتم وتنقص وكذب ... إلخ – وفي الغالب لا يصرح باسمه وتكون الكنية هي السمه الرائجة، وهذا النفاق العملي بعينه غير أنه تقني.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ((إن شر الناس ذو الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه)).
متفق عليه.
ثالثا: التثبيط.
من سمات قطاع الطرق تثبيط إخوانهم الذين لهم جهود في نشر العلم في مواقع التواصل والمنتديات وبث الدروس والفوائد والنكت من كلام أهل العلم، وحال هؤلاء المثبطين مثل حال المنافقين.
فعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: ((لما أمرنا بالصدقة كنا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رئاء، فنزلت: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79])).
متفق عليه.
رابعا الكذب.
وما أكثر ما نشاهده في برامج التواصل، هذا الداء الذي ركبه ممن يحسب على طلبة العلم، فإن كان الكذب الذي هو خصلة من خصال النفاق قبيح في كلام الناس، ففي حديث طلاب العلم أقبح، والأمثلة والشواهد لا تعد ولا تحصى.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)).
متفق عليه.
خامسا: الولاء لأصحاب الأموال.
وهذا أيضا من أمراض المنافقين التي تجدها في هذه البرامج، فتلحظ من أبتلي بهذا الداء ينفق بسخاء من الإعجابات والثناء والمدح لإخوانه الأغنياء، وتجده شحيحا بخيلا على غيرهم من إخوانه وكأنه يخرج هذه الإعجابات من خزانة أمواله.
قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58].
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((مثل المنافق، كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة)).
أخرجه مسلم.
سادسا: الحرص على كثرة الإعجابات وعدد المشاهدين والثناء والمدح.
قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 42].
فمثل هؤلاء الذين ينشرون الخير رجاء الإعجابات والمدح مثل هؤلاء المنافقين الذين يحرصون على المكاسب الدنيوية العاجلة ويزهدون فيما عند الله والدار الآخرة.
وتجد الواحد يسأل إخوانه لماذا لا يعملون لي إعجاب؟
والآخر ينشر على صفحته تهديد ووعيد لمن لا يتفاعل مع منشوراته بإلغاء الصداقة.
هل ينشر العلم والفوائد لنيل ما عند الله أم ينشره للمدح والإعجاب؟
سابعا: الرياء.
لا ينشر الخير والفوائد العلمية إلا لإحصاء عدد المعجبين والمشاهدين والمادحين.
قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142].
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو، تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
متفق عليه.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في ((مدارج السالكين)): ((زرع النفاق ينبت على ساقيتين: ساقية الكذب، وساقية الرياء.
ومخرجهما من عينين: عين ضعف البصيرة، وعين ضعف العزيمة.
فإذا تمت هذه الأركان الأربع، استحكم نبات النفاق وبنيانه، ولكن بمدارج السيول على شفا جرف هار؛ فإذا شاهدوا سيل الحقائق يوم تبلى السرائر، وكشف المستور، وبعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، تبين حينئذ لمن كانت بضاعته النفاق أن حواصله التي حصلها كانت كالسراب؛ {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 188])) اهـ.
ثامنا: السب والشتم والتنابز بالألقاب والسخرية.
فإن مما يحزن القلب ويمزق الفؤاد وينقبض من أجله الصدر ما تراه وتلحظه في برامج التواصل الاجتماعي من الفجور في الخصومة، ومن الجدال العقيم المغلف بالسب والشتم والقول البذيء والفاحش والسخرية وهذا من خصائص المنافقين.
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79].
وعن قرة المزني قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر عنده الحياء، فقالوا: يا رسول الله! الحياء من الدين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(وإن الشحّ والفحش والبذاء من النفاق، وإنّهن ينقصْن من الآخرة، ويزدن في الدنيا، وما ينقصْن من الآخرة أكثر مما يزدن من الدنيا)).
أخرجه يعقوب بن سفيان الفسويّ في ((المعرفة)) وأودعه الإمام الألباني رحمه الله في ((الصحيحة)) (رقم 3381) وتوسع في تخريجه.
تاسعا: الخيانة.
قال الله تعالى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تخونوا الله وَالرَّسُول وتخونوا أماناتكم وَأَنْتُم تعلمُونَ} [الأنفال: 27].
هذا الخلق الذميم الذي ركبه بعض السفهاء ومن صوره التسجيل خلسة وخاصة لأهل العلم وبتر ودمج والتلاعب بالصوتية وإن سلمت من هذا العبث تنشر فإنها تنشر بدون إذن، وكذلك نشر ما يحدث على الخاص على العام وما ينشر من أمور شخصية، ما إن تقع جفوة بين الصديقين تقنيا حتى ينشر سره وما باح له به أخوه على الخاص، وبعض ما ينشر ربما اعترافات بأشياء تاب منها، وغير ذلك مما لا يحسن نشره ويعد من الخيانة، ويزاد الطين بلة بزيادة ونقصان ما جرى من محادثات، وكان الواجب عليه النصيحة عند الخطأ والستر.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)).
متفق عليه.
وعن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ خيركم قرني، ثمَّ الذين يَلونهم، ثمَّ الذين يلونهم، ثمَّ يكون قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويَخونون ولا يؤتمنون، ويَنذرون ولا يُوفُون، ويظهر فيهم السِّمن)).
متفق عليه.
عشرا: الطعن في السنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في ((مجموع الفتاوى)): ((وقد كان أولهم خرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى قسمة النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد اعدل فإنك لم تعدل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد خبت وخسرت إن لم أعدل)) فقال له بعض أصحابه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال: ((إنه يخرج من ضئضئ هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم)) الحديث.
فكان مبدأ البدع هو الطعن في السنة بالظن والهوى؛ كما طعن إبليس في أمر ربه برأيه وهواه)) اهـ.
وهذا البلاء من كثرته ما يموت القلب من كمد.
هذه عشرة كاملة من أبرز صور النفاق العملي التقني الذي يحصل في برامج التواصل، وأسأل الله أن يجنبنا النفاق من قول وعمل.
هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: ليلة الأثنين 19 ذي القعدة سنة 1440 هـ
الموافق لـ: 22 يوليو سنة 2019 ف
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: ليلة الأثنين 19 ذي القعدة سنة 1440 هـ
الموافق لـ: 22 يوليو سنة 2019 ف