بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد :
فإن الرد على المخالف للدليل من الوحي كتابا وسنة ، بفهم السلف الصالح أي كان ، وأي كانت مخالفته مطلب شرعي ، بل هو من الجهاد في سبيل الله، والرباط على ثغر من ثغور الدين حراسة لحدوده ، ومعالمه من الدخيل ، والتأويل والتحريف والتبديل ، وما حصل لأهل الكتاب قبلنا من التحريف والتبديل إلاّ بسبب فقدان المرابطين الذين يرابطون على ثغور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فينتقدون ما خالف كتاب الله وما جاءتهم به الرسل.
ولقد رد الله تعالى على المخالفين للرسل ، ولقن رسله الحجة وأفحم خصومهم بها ، وتلك الحجة التي أنزلها على رسوله - صلى الله عليه وسلم - المعجزة الخالدة مازالت تقرع حجج الباطل والمبطلين ، وتكشف شبه الزائغين ، وترفع من شأن الحق وأهله ، وهي باقية قائمة على ألسنة المجددين من أمته ؛ والعلماء الربانيين علماء النقد الجهابذة المدافعين عن دينه، وحياض سنة نبيه ، المتمثلين في الطائفة المنصورة ؛ طلبة العلم ، وعلماء الحديث الذين منّ الله عليهم وخصهم بالذكر ليحفظ بهم الذكر المنزّل ، والوحي المبجل .
ولم يعرف في تاريخ الرسل ولا في سيرتهم أنهم كانوا يسبون النّاس ويشتمونهم ؛ بله تعاملهم مع أصحابهم وأتباعهم ؛ بل كانوا على جانب كبير من الرفق واللطف والمعاملة الحسنة ، والدفع بالتي هي أحسن ، والدعوة إلى الله على بصيرة والرد على المخالفين لهم بالحجة والبرهان ، رغم ما نالهم من أقوامهم من سوء شديد وسب وشتم ، وإذاية تصل إلى القتل مرة والضرب أخرى ، والحبس والنفي ، والتسفيه ، والاعتداء ، والعصيان وغير ذلك ، وهذا نبيّنا عليه الصلاة والسلام ناله القسط الأوفر من ذلك ، ومع ذلك لم يكن سبّابا ولا فحّاشّا ، ولا لعّانًا مع أعدائه فكيف مع أتباعه ؟؟؟
وقد قال له ربه :{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ..}159 آل عمران.
قال قتادة : قوله :((ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك))، إي والله، طهَّره الله من الفظاظة والغلظة، وجعله قريبًا رحيما بالمؤمنين رؤوفًا ، وذكر لنا أن نعت محمد - - في التوراة : (( ليس بفظ ولا غليظ ولا سخّاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح))(1).
وقال ابن كثير (2/14: قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} الْفَظُّ: الْغَلِيظُ، [وَ] الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا غَلِيظُ الْكَلَامِ؛ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: {غَلِيظَ الْقَلْبِ} أَيْ: لَوْ كُنْتَ سيِّئَ الْكَلَامِ قَاسِيَ الْقَلْبِ عَلَيْهِمْ لَانْفَضُّوا عَنْكَ وَتَرَكُوكَ..
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَّابًا، وَلاَ فَحَّاشًا، وَلاَ لَعَّانًا، كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عِنْدَ المَعْتِبَةِ : ((مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ)) (خ 6031) و (6046)وأحمد(12274).
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: " قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَسْمًا، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أُرِيدَ بِهَذَا وَجْهُ اللَّهِ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ، فَتَمعَّرَ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: (( يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ بِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هَذَا، فَضَبَرَ )). هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ. (خ 122-3401-3405-6336) (م1062-2380).
وإذا كان الأمر كذلك ، وأن الذين مع رسول الله - رحماء بينهم – أشداء على الكفار ؛ واسمع - يرحمني الله وإياك - إلى ما وصفهم الله به فليس هو من وصف أحد بل من وصف الله تعالى { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ..}.
فليس من الرحمة في شيءٍ السب والشتم واللعن والطعن على الأعداء في دعوتهم وبيان الحق لهم ؛ فكيف بذلك بحجة الرد على الإخوة المؤمنين وهم رحماء فيما بينهم ؟؟!.إن السب والشتم واللعن يتنافى مع الرحمة .
وإذا كان يُشرع الرد بالحجة والبرهان على من خالف منهج السلف الصالح ، ودين الرحمن ، فإنه ينبغي على المنتقد أن يرد بالعلم والحجة والدليل مع الأدب ، والعدل ، والورع دون تعصب ولا غلو، ودون ولوغ في الأعراض بالسب والشتم والطعن واللعن ، بحجة الرد على المخالف والتشديد على أهل الأهواء ؛ فهذا لم يكن من هدي السلف الصالح بتاتا فيما بينهم ؛ لأن السب والشتم والفحش من القول مفاتيح الشر، وأبواب العداوة والصد عن الألفة والمودة والرحمة بين المؤمنين .
فهل ما نسمعه ونقرؤه من حقد وبغض وسب وشتم وطعن بين السلفيين من الرحمة في شيء؟؟!
اللهم لا ؛ والسلفي ينبغي عليه أن يصون لسانه عن التلوث بألفاظ السِّباب ، والفحش ، واللعن ، والرجم بالغيب ؛ لأنه هو من صفوة المسلمين وخيرتهم الذين امتثلوا قول نبيهم : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا بِالْفَاحِشِ، وَلَا بِالْبَذِيءِ)) (2).
واتصف بقول نبيه : عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ((لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعانا))(3).
وقبل هذا وذاك وَضَعَ نصب عينه قول ربه سبحانه : {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].عن أبي جعفر وعطاء بن أبي رباح في قوله: (وقولوا للناس حسنا) ، قال: للناس كلهم.وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ .
وقال الحسن أيضا، لين القول، من الأدب الحسن الجميل والخلق الكريم، وهو مما ارتضاه الله وأحبه. ابن جرير (2/296) .
فهو الذي تصدى لحمل مشعل الأمانة ؛ أمانة المنهج السلفي الحق ليبلغه للناس على مراد الله ومراد رسوله ،وهذا هو مراد الله : {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}.
ومراده في قوله سبحانه وتعالى :{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} (53)الإسراء .
ففي الآية ((وقل يا محمد لعبادي إذا أردتم إيراد الحجة على المخالفين فاذكروا تلك الدلائل بالطريق الأحسن. وهو أن لا يكون ذكر الحجة مخلوطا بالشتم والسب، ونظير هذه الآية قوله: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ..} [النحل: 125] . وقوله:{ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن..}العنكبوت: 46].
ومراده تعالى وتقدس في قوله :{ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ }(96) المؤمنون .
وهذا مراده سبحانه في قوله :{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }(125).
ولمعترض أن يعترض فيقول : أكمل الآية التي بعدها فإنها تبيح للمظلوم المعاقبة بالمثل .. فأقول له ، نعم ؛ ولكن لا تنسى تكملتها أيضا - بارك الرحمن فيك – فقد قال تعالى فيها وما بعدها :{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ }(12 النحل.
ما أعظم هذا التوجيه الرباني للصبر؛ لأن الصبر على الأخ المؤمن السني الذي زل وأخطأ في حق أخيه، وصبر عليه فلم يعاقبه بالمثل ؛ بل تجاوز عنه وعفا عنه وهو يقدر عليه ، ودعا له بالرشد والثبات ، وأخذ بيده بالتي هي أحسن للتي هي أقوم ، فذلك أفضل وهو خلق عظيم أدعى إلى الترابط والمودة والمحبة والاستمرار في الاجتماع ونشر الخير ، وأنّ الصبر عليه وعلى من يدفعه بالكيد والمكر ومخافة الله فيهم كل ذلك إحسان ، وإن الله مع المحسنين ، ناهيك- أيها المحب - عمّا جاء أن الله مع الصابرين ، وأن الصابرين يؤتون أجرهم بغير حساب ، وأنه ما أُعطي أحدٌ شيئا خيرا وأوسع من الصبر .وأن المؤمن إذا صبر لا يضره كيد الكائدين شيئا .
قال تعالى :{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }(120)آل عمران .
وأن كل تلك الأخلاق الحميدة ، والفضائل الجليلة من عدم مقابلة السيئة بالسيئة ، والدفع بالتي هي أحسن ، والعفو والتجاوز عند المقدرة ، والصبر على الأذى من البعيد والقريب لا يلقاه إلا ذو حظ عظيم من منهج النبوة .
قال تعالى :{ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }(36) فصلت . فإما ينزغنك الشيطان عند الغضب وحظ النفس والانتقام حين يساء إليك فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم فإنما يريد أن يوقع بك وبدعوتك ، ويفرقك بينك وبين من تحب ..
وقال تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }(125) النحل.
ما أعظم هذا التوجيه الرباني لو فقهه السلفيون فيما بينهم ، فإذا كان هذا في غيرهم فكيف ينبغي أن يكون بينهم ، قد بَيَّنَهُ من لا ينطق عن الهوى بقوله : عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى )) متفق عليه .
وَاللَّهِ ، وبالله ، وتالله ؛ ما وُعِظَتْ أُمَّةٌ بِمِثْلِ ما وُعِظَتْ به هذهِ الأُمَّةُ بمثل هذه الدرر الربانية والجواهر الوعظية النبوية التي يقف عندها المؤمن منقادا متفاعلا بأدب وخشوع يفدي أخاه المؤمن بجسده محبة وولاية في غير بدعة ولا فسوق .
والعجب العجاب أننا نقرأ هذه النصوص وغيرها مما وُعِظْنا به ونصحنا به العلماء ، والكثير منّا يرددها؛ ولكن للأسف دون تفاعل ولا تطبيق لها إلا في حدود ضيقة مع من يناصرني ويقف معي أما من يخالفني وينصح لي ويأخذ بيدي فهو العدو الذي ينبغي أن يفضح ،ويسب ويشتم ، وينتقم منه ،حتى لو كان بالأمس القريب هو الوالد والأكابر ..من وراء الخط الأحمر .
ومن هنا وجدتني أذكر نفسي وأخي الذي أطلق للسانه العنان ، أو زل بشيء من القول السوء مما يضر بإخوانه ويشوه المنهج السلفي المبارك ؛ أن يكف لسانه عن الفحش ، وعن لعن النّاس وشتمهم وسبهم ؛ بل عن لعن الدواب هذا أقل ما يجب عليه إن لم يستطع أن يرطب لسانه بذكر الله ، ولزوم الحجة من القول بالوحي عملا بقوله - صلى الله عليه وسلم : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)).
والسب والشتم ليس من الخير في شيء؛ بل هو حجة العاجز عن مقارعة الحجة بالحجة ..والرد بمجرد السب والشتم لا يعجز عنه أحد . والصمت عن السوء من أعظم العبادات للنجاة من العقوبات ، ((وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ))(4).
وفي رواية (( ... يا معاذ ثكلتك أمك، وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا ما نطقت به ألسنتهم، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خير أو يسكت عن شر، قولوا خيرا تغنموا، واسكتوا عن شر تسلموا ))(5).
واللسان هو الأداة الحادة للفحش واللعن والسب والشتم ، والجارحة التي تورد صاحبها الموارد ، وتكبه على منخره في جهنّم ، والسلفي قد زكى الإيمان لسانه وقيده الخوف من ربه ، وأدب العلم قلمه على منهاج النبوة فلا يصدر منه إلا الخير برفق وحلم ..والنصيحة هي إرادة الخير للمنصوح ، وأي في السب والشتم والتعيير؟
فقد شبه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - المؤمن بالنخلة الشامخة ، تهزها الرياح من كل جانب تزعزها بشدّة ولا تقتلعها؛ لأنها ضاربة جذورها في الأرض ، ولا يستطيع الكثير من النّاس أن يصعد إلى أعلاها فيرميها بالحجارة وهي تبادله ثمارها، الله أكبر ما أروع هذا المثال ، وليتصور المؤمن حلاوة الثمار التي تعطيها النخلة لخصومها التي يضربونها بالحجارة ، فهل عجز السلفي أن يطعم خصومه الحجة بالتي هي أحسن حتى يتذوقوا طعمها الحلو الطيب وحالها الرطب اللين؟؟
فلا ينبغي للسلفي أن يتعود أذية السلفيين بفحش لسانه حتى يخافوا من شره، ويتقوا أذيته كما يتقون من أذية الشيطان ، ويتعوذون منه، وقد أمر الله تعالى بالتعوذ من شيطان الإنس، وهو المتشبه بالشيطان في الشر والتمرد، فقال الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} إلى آخر السورة.
عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها- قَالَتْقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ - أَوْ قَالَ: لِفُحْشِهِ)).(خ 6032-6054- 6131)، و(م2591).
إن الرد على المخالف لا يبيح ولا يخول للرّاد مهما كان أن يكون فاحشا ، لعانا طعانا همازا لمّازا ؛ لأن لغة العلم على منهج النبوة ، والعدل والورع ، لتأبى على السلفي الناصح لنفسه الذي يخاف العواقب أن تخرج منه كلمة لا يلقي لها بالا يهوي بها سبعين خريفا في النّار . عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: ((إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ )) (خ6477-647و(م298.
إن من يتعظ بهذا ويخاف العواقب ليحبس لسانه عن بعض المباح خشية الوقع فيما لا يباح .
لذلك ينبغي على الناصح لنفسه أن ينتهج في الردود على المخالفين بالعلم ، والحجة والعدل والورع ، والأدب في المناقشة والمجادلة بالتي هي أحسن للتي هي أقوم لأن ذلك ادعى إلى القبول ، والألفة ، والرجوع عن الخطأ فقد قال تعالى : { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }(36) فصلت .
سبحان الله ما أعظم هذا التوجيه الرباني الكريم ، {ادفع بالتي هي أحسن } هذا فيمن كانت عداوته أصلية ؛ فكيف بمن كانوا أخوة متحابين لدهر طويل ، وفجأة صاروا أعداء متخاصمين ، أين هم من هذا الوحي ؟؟ كيف تناسوا الفضل بينهم ؟ وفضل العلماء عليهم ، وأين رحمة أخوة الإيمان ؟ وأين هدي السنة الذي يردهم ، وأين حقوق الأبوة والبنوة العلمية التي كانت بينهم سائدة ؟؟؟!!
المفروض في السلفي داعية كان أو غيره أن يلين الجانب ، لإخوانه الذين هم بمنزلة نفسه ، يحفظ كرامتهم ويبرز الاحترام لهم ، يَكُفُّ عَلَيْهِم ضَيْعَتَهُم ،وَيَحُوطُهُم من ورائهم ينصح لهم بالتي هي أحسن للتي هي أقوم بصورة جميلة أدبية يسودها حسن الخلق أولا ، ولغة الحجة والخضوع لها ثانيا، والعدل والورع ثالثا حتى تنتهي العداوة ، وتثبت المودة والرحمة ، وتُقطع الطريق على العدو اللدود إبليس لعنه الله أولا ؛ وعلى أهل الأهواء المتربصين بالسلفيين – وما أكثرهم - لا كثرهم الله، ثانيا.
أحبتي هذه مقالة - شهد الله - كتبتها لأذكر نفسي وبعض الغافلين من أخواننا ، وأوقظ النائمين ، وأرشد التائهين حتى لا ينجروا في هذه الظاهرة الغريبة (6) التي نزلت بالساحة السلفية، وقد استفحلت - وللأسف الشديد - وهي كثرة الرجم ( أي السب والشتم ) والطعن واللعن بين الإخوة ، وقد تفرق السلفيون وانصدع جدار الأخوة والمودة والرحمة بينهم على غير ما أراده الله لهم أن يكونوا عليه :{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } .
وعلى غير مراده في قوله :{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }(71)التوبة .
هل نسي السلفيون أو تناسوا الآيات التي تحثهم وترغبهم في الاعتصام بحبل الله الواحد الأحد ، وتنهاهم عن التفرق والنزاعات الطائفية ، والحظوظ النفسية ، والعصبيات ، وتصفهم بأنهم جماعة واحدة ، بل جسد واحد يتألم أقربهم لأبعدهم ، وأعلاهم لأدناهم ، وأقواهم لأضعفهم ، وأعفاهم لمبتليهم ، فأصبحنا لا نقرأ ولا نسمع في مواقع التواصل ( بل التقاطع والتدابر )التي كشفت عيوب الكثير منّا ممن كان مستورا إلا الطعن والسب وإبراز العيوب والعورات ؟؟؟!(7).
يا قومنا؛ لقد جاء ذم السب والشتم في كتاب الله وسنة نبيه ، والنهي عنه ، فهل من متعظ ؟ وقبل أن أذكر شيئا من ذلك والنتائج الوخيمة المترتبة عليه أعرف السب لغة وشرعا.
تعريف السب : سبّ يسب سبا. وأصل السب الْقطع ثمَّ صَار السب شتما لِأَن السب خرق الْأَعْرَاض. قَالَ الشَّاعِر : (فَمَا كَانَ ذَنْب بني مَالك ... بِأَن سبّ مِنْهُم غُلَام فسَب) أَي شتم فَقطع. جمهرة اللغة (1/69).
وفي الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (1/144): السَبُّ: الشَتْمُ، وقد سَبَّهُ يَسُبُّهُ. وسَبَّهُ أيضاً بمعنى قَطَعَهُ. سب شتم، وسب عقر: والتَسابُّ: التشاتم. والتَسابُّ: التقاطُعُ. ورجل مسب بكر الميم: كثير السباب.
ويقال: صار هذا الأمر سُبَّةً عليه، بالضم، أي عاراً يُسَبُّ به. ورجل سُبَّةٌ، أي يَسُبُّهُ الناس. وسُبَبَةٌ، أي يَسُبُّ الناسَ. قال أبو عبيد: السِبُّ بالكسر: الكثير السِباب. وسِبُّكَ أيضاً: الذي يُسابُّكَ قال الشاعر (عبد الرحمن بن حسان.) :
لا تَسُبَّنَّني فَلَسْتُ بِسِبِّي .. إنَّ سِبِّي من الرجال الكَريمُ.
والسب شرعا هو : فحشٌ وفسوقٌ ورجم ، وقرضٌ ، وخلق قبيح يدل على تحقير المسبوب أو نسبته إلى نقيصة أو معرة وعيب في دينه أو عرضه أو دنياه بالباطل أو بالحق، وهو مرادف للشتم.
ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم- : ((عباد الله رفع الله الحرج إلا من اقترض عرض امرئ مسلم فذلك الذي حرج )) يريد إلا من سب عرض امرئ مسلم وقطعه بالذم وسوء القول.
وقرضُ الفأرة : قطعها الثوب ، ويقال قارضتُ فلانا وقرضته إذا ساببته وقطعتُ عِرضه بالسب.
وقال أبو الدرداء (النهاية 3 / 209) : (اقْرِضْ من عِرضكَ ليومِ فَقْرِكَ) . أي: مَنْ سبَّ أآباءك وأسلافك فلا تسبّ آباءه وأسلافه، ولكن اجعل ذلك قَرْضاً عليه ليوم القيامة . (8).
وَفِي الحَدِيث: (( إِن الله يُبْغِضُ الفَاحِشَ المُتَفَحِّش..)) فالفَاحِشُ هُوَ ذُو الفُحْشِ والخَنَا من قَول وفِعْل، والمتفحِّش : الَّذِي يَتكلَّف سَبَّ النّاس ، ويُفْحِش عَلَيْهِم بِلِسَانِهِ، وَيكون المُتَفَحِّش : الَّذِي يَأْتِي الفاحِشَة المَنْهِيَّ عَنْهَا وَجَمعهَا الفواحِش.
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ..))(خ 48-6044-7076)و(م116-64).
يتبع -إن شاء الله -
تعليق