العقلانيون أفراخ إبليس
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فمن رد النصوص الشريعة والأحاديث النبوية بعقله السقيم، فقد شابه إبليس فهو أول من عارض أمر الله عز وجل بالسجود لآدم بعقله المريض، وقال كما جاء في كتاب الله العزيز: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12، ص: 76].
وهذا القياس العقلي الفاسد يصادم الأوامر الشرعية.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في ((الصواعق المرسلة)): ((والقياس إذا صادم النص وقابله كان قياسا باطلا ويسمى قياسا إبليسيا فإنه يتضمن معارضة الحق بالباطل وتقديمه عليه ولهذا كانت عقوبته أن أفسد عليه عقله ودنياه وآخرته وقد بينا فيما تقدم أنه ما عارض أحد الوحي بعقله إلا أفسد الله عليه عقله حتى يقول ما يضحك منه العقلاء)) اهـ.
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في ((أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)): ((مثل قياس إبليس نفسه على عنصره، الذي هو النار وقياسه آدم على عنصره، الذي هو الطين واستنتاجه من ذلك أنه خير من آدم. ولا ينبغي أن يؤمر بالسجود لمن هو خير منه، مع وجود النص الصريح الذي هو قوله تعالى: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} يسمى في اصطلاح الأصوليين فاسد الاعتبار. وإليه الإشارة بقول صاحب "مراقي السعود":
والخلف للنص أو إجماع دعا *** فساد الاعتبار كل من وعى
فكل من رد نصوص الوحي بالأقيسة فسلفه في ذلك إبليس وقياس إبليس هذا لعنه الله باطل من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه فاسد الاعتبار؛ لمخالفة النص الصريح كما تقدم قريبا.
الثاني: أنا لا نسلم أن النار خير من الطين، بل الطين خير من النار؛ لأن طبيعتها الخفة والطيش والإفساد والتفريق، وطبيعته الرزانة والإصلاح فتودعه الحبة فيعطيكها سنبلة والنواة فيعطيكها نخلة.
وإذا أردت أن تعرف قدر الطين فانظر إلى الرياض الناضرة، وما فيها من الثمار اللذيذة، والأزهار الجميلة، والروائح الطيبة. تعلم أن الطين خير من النار.
الثالث: أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن النار خير من الطين، فإنه لا يلزم من ذلك أن إبليس خير من آدم؛ لأن شرف الأصل لا يقتضي شرف الفرع، بل قد يكون الأصل رفيعا الفرع وضيعا، كما قال الشاعر:
إذا افتخرت بآباء لهم شرف *** قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا)) اهـ.
ومن لم يمتثل الأمر الشرعية؛ ورد الأخبار النبوية، وركن إلى عقله المريض، فقد شابه إبليس اللعين.
قال الشهرستاني رحمه الله في ((الملل والنحل)): ((اعلم أن أول شبهة وقعت في الخليقة : شبهة إبليس لعنه الله ومصدرها استبداده بالرأي في مقابلة النص واختياره الهوى في معارضة الأمر واستكباره بالمادة التي خلق منها وهي النار على مادة آدم عليه السلام وهي الطين)) اهـ.
وقال الحافظ ابن الجوزي رحمه الله في ((صيد الخاطر)): ((فأما الخالق سبحانه فإن العقل لا ينتهي إلى حكمته، بلى، قد ثبت عنده وجوده وملكه وحكمته.
فتعرضه بالتفاصيل على ما تجري به عادات الخلق جهل.
ألا ترى إلى أول المعترضين وهو إبليس كيف ناظر فقال {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}، وقول خليفته وهو أبو العلاء المعري: رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا)) اهـ.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في ((الصواعق المرسلة)): ((إن معارضة الوحي بالعقل ميراث عن الشيخ أبي مرة فهو أول من عارض السمع بالعقل وقدمه عليه فإن الله سبحانه لما أمره بالسجود لآدم عارض أمره بقياس عقلي)) اهـ.
فما أكثر من يرد النصوص الشرعية بعقله، حتى وجد من يصحح ويضعف الحديث برأيه السقيم، ورد ما لم يوافق هواه بعقله المريض، بل منهم يأتي بأقيسة عقلية أفسد من قياس إبليس.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في ((الصواعق المرسلة)): ((ولما علم الشيخ [يعني: إبليس] أنه قد أصيب من معارضة الوحي بالعقل وعلم أنه لا شيء أبلغ في مناقضة الوحي والشرع وإبطاله من معارضته بالعقول أوحى إلى تلامذته وإخوانه من الشبهات الخيالية ما يعارض به الوحي وأوهم أصحابه وتلاميذه أنها قواطع عقلية وقال إن قدمتم الوحي عليها فسدت عقولكم قال تعالى : {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121].
ومن المعلوم أن وحيهم إنما هو شبه عقلية وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ * أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 112-117])) اهـ.
فكل عقلاني عارض الكتاب والسنة شابه إبليس في قياسه العقلي.
هذا وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: يوم الاثنين 13 صفر سنة 1440 هـ
الموافق 22 اكتوبر 2018 ف