بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة ، والحمد لله على نعمة الهداية إلى الصراط المستقيم ، والهدي النبوي القويم وكفى بها نعمة ، الحمد لله على نعمة الفهم الصحيح فهم منهج السلف الصالح وكفى بها نعمة ، الحمد لله على نعمة العدل والأنصاف وكفى بها نعمة ، الحمد لله على معرفة الحق وكفى بها نعمة ، وأصلي وأسلم على سيد الأولين والآخرين سيدي رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد :
فإن الكثير من الطوائف وفيهم من انتسبوا إلى منهج السلف اغتروا بالكثرة ، وجعلوا يحتجون بها على من خالفهم ، فيقال لهم ، إن الكثرة ليست هي الدليل على الحق في كل وقت وحين ، الكثرة تكون حجة إذا كانت على المحجة ، اما الكثرة القائمة على التعصب والتقليد والتحزب فليست بحجة ..
وقد ذم الله سبحانه وتعالى الكثرة في أكثر من عشرين موضعا من كتابه بين قوله : (( ولكن أكثر النّاس لا يشكرون ، ولا يعلمون ، ولا يؤمنون ...)).
قال سبحانه وتعالى وتقدس :{ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ }(243) البقرة .
وقال سبحانه وتعالى وتقدس :{...وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }(13) سبأ.
فذم الكثرة التي كفرت نعم الله عليه ، ومدح القلة التي تشكر نعم الله ولا تكفرها ، ومن أعظم نعمه نعمة الهدية إلى الإسلام على منهاج النبوة وفهم من أنعم الله عليهم من الصديقين والشهداء والصالحين وسن اولئك رفيقا، ولا يشك أحد أن الصحابة منهم فليس فيهم إلا صادق أو شهيد أو صالح ..
وقال سبحانه وتعالى وتقدس :{...وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (187) الأعراف .
والأمر كذلك فأكثر النّاس يجهلون الحق الذي أراده الله لهم أن يكونوا عليه ، فقد فشا الجهل ، ونطق الرويبضة ، واتخذ كثير من الطوائف والفرق والحزبيين رؤساء جهل فافتوهم بغير هدى من الله على غير ما أراد الله سبحانه وما كان عليه رسوله وصحابته رضوان الله عليهم . وقال سبحانه وتعالى وتقدس :{... إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ }(17) هود.
فالله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق للنّاس كافة ، فما آمن له إلا القليل ، فنسبة المؤمنين إلى غيرهم من الكفار والمنحرفين عن الصراط المستقيم والمنهج القويم نسبة الشعرة الواحدة السوداء في جلد ثور أسود ، ونسبة أهل الحق في أمة الإجابة هي نسبة واحد من ثلاث وسبعين ، وليس من شك أن ذلك الواحد قليل جدا بالنسبة لثلاث وسبعين ، وذلك القليل هو الفرقة الناجية ، فالناجون قليل ..
والعاقل الذي يريد النجاة لنفسه ينبغي له أن يعلم حدود ومعالم تلك الفرقة القليلة الناجية لينجو بنجاتها ولا يغتر بالكثرة لأنها ليس هي الحق .
وقال سبحانه وتعالى وتقدس :{...وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ..} (24)ص .
وجعل الله النصرة للقلة القائمة على الكتاب والسنة على مراد الله ومراد رسوله ..
وقال سبحانه وتعالى وتقدس :{...قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}(249)البقرة.
وكذلك ذمها في آيات أخرى بصفات أخرى كالإعراض ن الحق ، واتباع الشيطان ، والحرص الشديد على ردة المؤمنين عن دينهم ، والكراهية للحق ، والفسق وفي كثير من الآيات يستثني القلة القلية وفي ذلك تضمين لمدحها...
وقال سبحانه وتعالى :{ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ } (83)البقرة .
ويقول جلت قدرته وتقدست أسماؤه :{ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ } (249)البقرة .
ويقول جلت قدرته وتقدست أسماؤه :{ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا }(83) النساء .
ويقول جل ذكره إخبارا عن إبليس:{لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا }(62) الإسراء.
ويقول جل جلاله في ذم الكثرة :{ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً }(109) البقرة .
ويقول جل جلاله وتقدست أسماؤه وصفاته في ذم الكثرة :{وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ }(7 الزخرف .
ويقول جل جلاله وتقدست أسماؤه وصفاته في ذم الكثرة :{وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ } (102) الأعراف . إلى غير ذلك من الآيات التي تذم الكثرة وتمدح القلة بمنطوق الخطاب وبمفهومه.
وهنا قاعدة عظيمة عند أهل السنة والجماعة أن النصوص في ذم الكثرة ، ومدح القلة، واضحة فلا يلزم من فساد الأكثرية فساد الأقلِّية من أهل السنة الصِّالحين .
فالسلفي هو من لا تسحره عاطفة الكثرة ، والقلة فيما يطلبه من الحق فيقلد الأكثرين ، ويميل مع التيار الجارف ، ويستند إلى الجدار الواقف .
لأن ذلك من سمات أهل الجاهلية ،وأهل البدع والضلال من أهل التقليد الذين يحتجون بالكثرة الكاثرة ، والسواد الأعظم فيقولون كما أخبرنا الله تعالى عنهم :{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) البقرة .
وقال تعالى :{ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ }(22) الزخرف .
فهذه الآيات من أشد الآيات على المقلدة الذين يتبعون كل ناعق مبطل يتباهى بكثرة الأتباع والمناصرين ..
والسلفي العدل هو من يعتزل الهوى ، وحظوظ النفس كلية فيما يريد من إصابة الحق على سبيل المؤمنين الذين رضي الله عنهم وأرضاهم ، فيقف بها حيث وقف القوم ولو كان في ذلك هلاكه ، فإن الله عز وجل يقول: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}(26) سورة ص.
وأي هلاك أشد أن يعيش في ضلال الهوى والانتصار في للنفس والانتقام لها من أهل الحق بالباطل .
إن السلفي الحق ليحذر أشد الحذر الانقياد لزخرفة القول ، وبهرج الباطل المزين ، وظاهر رياء الأدعياء الملبسين على النّاس الحق ، ولو كانوا أكثر من عدد رمل عالج ، فالحق عليه نور والمتمسكون به قلة ، وهو يعلم ذلك فيصبّر نفسه على ذلك فقد حذر الله - عز وجل - من هذه الطبقة على أيدي أنبيائه فقال عز وتقدس: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}(204) البقرة .
قال العلامة السعدي في تفسيره (1/93) أي: إذا تكلم راق كلامه للسامع، وإذا نطق، ظننته يتكلم بكلام نافع ، ويؤكد ما يقول بأنه {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} بأن يخبر أن الله يعلم، أن ما في قلبه موافق لما نطق به، وهو كاذب في ذلك، لأنه يخالف قوله فعله.
فلو كان صادقا، لتوافق القول والفعل ، كحال المؤمن غير المنافق، فلهذا قال: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} أي: إذا خاصمته، وجدت فيه من اللدد والصعوبة والتعصب، وما يترتب على ذلك، ما هو من مقابح الصفات، ليس كأخلاق المؤمنين، الذين جعلوا السهولة مركبهم، والانقياد للحق وظيفتهم، والسماحة سجيتهم.
وقال العلامة الألباني - رحمه الله – في شرح حديث الطائفة المنصورة ، وبيان صفاتهم كما وردت في أحاديث الغربة. تفريغ سلسلة الهدى والنور الشريط (499) (00:10:49).
لا شك أنَّ الذي أو الذين يعرفون هذا المنهج النَّقي الأبيض إنَّما هي الطائفة المنصورة التي تحدَّث النَّبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عنها في حديثٍ متواترٍ ثابتٍ عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من طرق قطعيَّة الثُّبوت؛ ألا وهي قوله عليه الصلاة والسلام: ((لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ لاَ يَضُرُّهُم مَنْ خَالَفَهُم حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)).
((لاَ يَضُرُّهُم مَنْ خَالَفَهُم))، هل هم الكثرة الكاثرة من المسلمين أم هم الطائفة القليلة المنصورة .
الحديث صريحٌ في ذلك ؛ ولذلك فلا يكن همُّ أحدكم أن يكون مع الأكثرين ؛ لأنَّ الله رب العالمين يذمُّ الأكثرين في غالب آيات القرآن الكريم؛ بمثل قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ([الأعراف: 187]. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} ([البقرة: 243].) {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنعام: 116).
ولذلك ينبغي أن يكون همُّ أحدنا أن يكون من عباده القليل، مِن الطَّائفة المنصورة، ما صفة هذه الطائفة المنصورة؟هنا بيت القصيد في هذه الكلمة. هي ما جاء ذكره في أحاديث الغربة، أحاديث الغربة التي جاء فيها ثلاثة روايات صحيحة.
الرواية الأولى: في صحيح مسلمٍ، من رواية سعد بن أبي وقاص -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إِنَّ الإسْلاَمَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ)) هذا حديث مسلم.
الحديث الثاني: في مسند الإمام أحمد -رحمه الله- ذكر هذا الحديث، وزاد زيادة طيبة، وهي: أن سائلاً سأل؛ فقال: (مَنْ هُمُ الغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ!؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلام: ((هُمْ نَاسٌ قَلِيلُونَ صَالِحُونَ، بَيْنَ نَاسٍ كَثِيرِينَ؛ مِنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُم)).
فانظروا هنا يمدح القلة لا يمدح الكثرة ؛ بل هو يذمها ؛ قال : ((هُمْ نَاسٌ قَلِيلُونَ صَالِحُونَ ، بَيْنَ نَاسٍ كَثِيرِينَ ؛ مِنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُم )).
فإذن من صفة هؤلاء الغرباء، الذين بشَّرَّهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بطوبى ، وهي شجرة في الجنَّة، يمشي الراكب الْمُسرِع تحتها مائة عامٍ لا يقطعها.
هؤلاء هم الغرباء الذين بشَّرَّهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهذه البِشَارة العُظمى ؛ فقال : ((هُمْ نَاسٌ قَلِيلُونَ صَالِحُونَ ، بَيْنَ نَاسٍ كَثِيرِينَ ، مِنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُم )) وهذه الصفة ينبغي أن تكون صفة عامة في الغرباء.
أما الصفة التالية؛ وهي في الحديث الثالث:
فهي صفةٌ من خاصَّة الغرباء، هي صفةٌ من خاصة الغرباء؛ أي: هي صفة في علماء الغرباء؛ ذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أجاب مرةً عن ذاك السؤال: "من هم الغرباء" فقال عليه الصلاة والسلام في المرة الأخرى: ((هُمُ الَّذِينَ يُصلِحُونَ مَا أفْسَدَ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِيِ مِنْ بَعْدِيِ)).
فإذن كلمة الغرباء تعني: "المتمسكين بالكتاب والسنة، وعلى منهج السلف"؛ أي: هم الفرقة النَّاجية.انتهى كلامه .
وهذا نبينا - صلى الله عليه وسلم - يشبه الكثرة بالقطيع من الإبل لا تجد فيهم واحدا يصلح للسفر .
عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( إِنَّمَا النَّاسُ كإبل مئة لا يَجِدُ الرجل فيها راحلة)) متفق عليه ، البخاري (6496)ومسلم بَابُ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لَا تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً (2547)
قال ابن بطال في شرح البخاري (10/207) وقوله: (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) يريد - صلى الله عليه وسلم- أن الناس كثير والمَرْضِّي منهم قليل، كما أن المائة من الإبل لا تكاد تصاب فيها الراحلة الواحدة .
وهذا الحديث إنما يراد به القرون المذمومة في آخر الزمان، ولذلك ذكره البخاري في رفع الأمانة، ولم يرد به - صلى الله عليه وسلم- زمن أصحابه وتابعيهم؛ لأنه قد شهد لهم بالفضل فقال: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم،ثم يجئ بعدهم قوم يخونون ولا يؤتمنون ، ويشهدون ولا يستشهدون ، وينذرون ولا يوفون ..) الحديث ، فهؤلاء أراد بقوله : ( الناس كإبل مائة) والله الموفق.انتهى كلامه .
وقال الحافظ ابن حجر (11/335): فَعَلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ وَبِغَيْرِ تَكَادُ فَالْمَعْنَى لَا تَجِدُ فِي مِائَةِ إِبِلٍ رَاحِلَةً تَصْلُحُ لِلرُّكُوبِ لِأَنَّ الَّذِي يَصْلُحُ لِلرُّكُوبِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَطِيئًا سَهْلَ الِانْقِيَادِ وَكَذَا لَا تَجِدُ فِي مِائَةٍ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَصْلُحُ لِلصُّحْبَةِ بِأَنْ يُعَاوِنَ رَفِيقَهُ وَيُلِينَ جَانِبَهُ.
وقال عبد العزيز بن عبد اللطيف بن حسن آل الشيخ :" ولا يصدنكم عن الحق وبيانه كثرة من ضل، فإن الكثرة لا تدل على أن الحق في جانبهم، بل إن الله قد ذم الكثرة في مواضع:
منها قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}(26) سورة الحديد .ومنها قوله :{ وإنَّ كَثيرًا مِن النَّاسِ لفاسقون } (49) سورة المائدة .
ومنها قوله - عز وجل -: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (119) سورة الأنعام .
كما أن القلة لا تعني أن الحق ليس معهم ، فإن الله قد أثنى على القلة في مواضع:
فقال : {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (13) سورة سبأ .
وقال - سبحانه -: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} (24)سورة ص.
وغير ذلك من الآيات ، وقد مر معك أخي القارئ بعضا منها .
فعُلم بهذا أن العبرة إنما هي بالحق ، وإن كنت وحدك، كما قاله بعض السلف. انتهى كلامه . مجلة البحوث الإسلامية - مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد (60/44).
وقال بعضهم : وكذلك أيضا يجب على السلفي ألا ينساق لما اعتاده الناس وجروا عليه مما يخالف الشرع ، بل عليه أن يجاهد نفسه في ذات الله ، وأن يوطنها على الحق الذي عرف ، ولا تستهوينه عاطفة القرابة ، والصحبة ، والجماعة والحزب والطائفة فعليه البلاغ والبيان وقول الحق وإن رفضه الناس، فهذه هي دعوة الرسل ، والله - سبحانه - يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (69)العنكبوت.
وقال بعض السلف : إذا أردت أن تختبر نفسك فتنظر أنت مع من؟ مع الكثرة أو مع القلة؟ إذا وجدت أعمالك أعمال الكثرة فاتهم نفسك لأن الكثرة مذمومة في الشرع : {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ} [الأنعام: 116]. {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].
وهكذا تجد ذم الكثرة، في مواضع كثيرة من القرآن ؛ حينئذٍ إذا وجدت نفسك أنت مع الكثرة فانتبه راجع نفسك حاسب نفسك ولا تغتر بكثرة الهالكين فتهلك معهم ، وإذا وجدت نفسك مع القلة حينئذٍ تعرف أنك على حقٍ - إن شاء الله تعالى- وأنت من القليل الذين قال الله تعالى فيهم : {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (13)سورة سبأ.
وأيضًا من جهةٍ أخرى قد يكون الحق مع الكثرة فهي ليست دائما مذمومة وأن ما عليه باطل ؛بل قد تكون على الحق ، وحينئذ يقع الاغترار بها والعجب فتهلك..
وعلى سبيل التمثيل قد يكون الأتباع مع داعيةٍ سلفي أو مع عالم صاحب دعوة صحيحة سلفية واضحة بينّة وهم كثرة، فيقع الاغترار من بعضهم بهذه الكثرة.
وهذا لاشك أنه مذموم ، ومن وقع فيه ملوم ، إذًا يا طالب النجاة في الحق لا تغتر بالكثرة سواءٌ كنت على باطل في الاستدلال بها على صاحب الدعوة ، أو كنت محقًا لأن هذا فيه التفات إلى غير الحق ، وفيه وقوفٌ مع السبب ، وحينئذٍ يعتمد عليهم ويثق بهم أكثر من ثقته بربه جل وعلا.. انتهى المقصود منه بتصرف .
ويقال للذين يعجبون بالكثرة ويغترون بها؛ فهذا الواقع أمامهم ؛ فهل أعمى الله أبصارهم ؟؟ فهذه أمة الإسلام يبلغ عددها مليار ونصف مليار فما أغنت عنهم وقد تكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب ؟؟
فكذلك يقال في الفِرق المتكاثرة والمستكثرة المخالفة لمنهج السلف هي كثيرة ، وأتباع السلفية قليلون -ولا يضرهم ذلك – ولأنهم على الحق ، والنصر لهذا المنهج ولو اجتمع عليهم من بأقطارها .
وقد قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِائَةٍ، وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلافٍ، وَلا يُغْلَبُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ )) (أحمد 2682) وأخرجه عبد بن حميد (652) ، وأبو داود (2611) ، والترمذي (1555) من حديث ابن عباس ، وقال الشيخ الألباني صحيح.
وقد ذم الله تعالى الإعجاب بالكثرة حتى لو كانت على الحق فلمّا أعجب بعض المسلمين في غزوة خنين بكثرتهم ، ولا يشك أح أنهم كانوا على الحق ؛فقال قائلهم لا نغلب اليوم من قلة ؛ فرد الله ذلك ولم يقبله .
فقال :{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ }(25)التوبة .
قال ابن كثير – رحمه الله في تفسيره – (4/125) يَذْكُرُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانَهُ لَدَيْهِمْ فِي نَصْرِهِ إِيَّاهُمْ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ مِنْ غَزَوَاتِهِمْ مَعَ رَسُولِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى، وَبِتَأْيِيدِهِ وَتَقْدِيرِهِ، لَا بعَددهم وَلَا بعُددهم وَنَبَّهَهُمْ عَلَى أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِهِ، سَوَاءٌ قَلَّ الْجَمْعُ أَوْ كَثُرَ، فَإِنَّ يَوْمَ حُنين أَعْجَبَتْهُمْ كَثْرَتُهُمْ، وَمَعَ هَذَا مَا أَجْدَى ذَلِكَ عَنْهُمْ شَيْئًا فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ أَنْزَلَ [اللَّهُ] نَصْرَهُ وَتَأْيِيدَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَعَهُ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُفَصَّلًا لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَبِإِمْدَادِهِ وَإِنَّ قَلَّ الْجَمْعُ، فَكَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.
وقال ابن القيم في الزاد (3/419) وَلِيُبَيِّنَ سُبْحَانَهُ لِمَنْ قَالَ: (لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ عَنْ قِلَّةٍ) أَنَّ النَّصْرَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَنَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ فَلَا غَالِبَ لَهُ، وَمَنْ يَخْذُلُهُ فَلَا نَاصِرَ لَهُ غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى نَصْرَ رَسُولِهِ وَدِينِهِ، لَا كَثْرَتُكُمُ الَّتِي أَعْجَبَتْكُمْ، فَإِنَّهَا لَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا، فَوَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ، فَلَمَّا انْكَسَرَتْ قُلُوبُهُمْ أُرْسِلَتْ إِلَيْهَا خِلَعُ الْجَبْرِ مَعَ بَرِيدِ النَّصْرِ {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26] .
وَقَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنَّ خِلَعَ النَّصْرِ وَجَوَائِزَهُ إِنَّمَا تَفِيضُ عَلَى أَهْلِ الِانْكِسَارِ، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5] [الْقَصَصِ: 6] .
فالكثرة التي تقوم على الطائفية والحزبية ، والبدع والخرافات الشركية والإلحاد والتقليد والتعصب والانحراف عن منهج الأسلاف ، والإعجاب والغرور تكون غثاء كغثاء السيل ، لا تسمن ولا تغني من جوع مما يجعل الأمم الأعداء يتداعون فيما بينهم على هذه الأمة لتفريقها وتشتيتها وإرادة هلاكها حتى لا تقم لها قائمة .
وكذلك ذم النبي - صلى الله عليه وسلم - الكثرة وجعلها كغثاء السيل الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ، إذا كانت قلوب أصحابها متعلقة بحب الدنيا وكراهية الموت ، وذلك هو الوهن الذي يجعل الأعداء يتكالبون على هذه الأمة .
عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا»، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَمِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي
قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ»، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» سنن أبي داود (4297)
وقال الشيخ الألباني صحيح .
وفي مسند الإمام أحمد ( 8713)عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِثَوْبَانَ: " كَيْفَ أَنْتَ يَا ثَوْبَانُ، إِذْ تَدَاعَتْ عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَتَدَاعِيكُمْ عَلَى قَصْعَةِ الطَّعَامِ تُصِيبُونَ مِنْهُ؟ " قَالَ ثَوْبَانُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا؟ قَالَ: " لَا، بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ يُلْقَى فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنُ " قَالُوا: وَمَا الْوَهَنُ؟ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " حُبُّكُمُ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَتُكُمُ الْقِتَالَ "
قال شعيب الأرنئوط في تحيقي المسند (14/332) ولم نقف على أحد أخرجه من حديث أبي هريرة غير الِإمام أحمد، وأخرجه أبو داود (4297) من حديث ثوبان نفسه، وسيأتي في مسند ثوبان( 5/27:
قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكَلَة على قصعتها"، قال: قلنا. يا رسول الله، أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: "أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن، قال: قلنا: وما الوهن؟ قال: "حب الحياة وكراهية الموت". وسنده حسن.
ويقال لهؤلاء الذين يستدلون بالكثرة إنما يستدلون بقول فرعون يصف أهل الحق موسى ومن معه بأنهم شرذمة قليلون ، وهو ومن معه أهل كثرة وقوة وأهل حق .
أخبرنا الله تعالى في كتابه عن فرعون : {فأرسل فرعون في المدائن حاشرين *إنّ هؤلاء لشرذمة قليلون *وإنهم لنّا لغائظون } (53 - (55)الشعراء .
تماما كما يقوله اليوم أهل الباطل من أهل الأهواء لأهل الحق أنتم قليلون لا حول ولا قوة لكم ، وأن العالم الإسلامي أغلبه وأكثره أشاعرة ، أو صوفية ، أو أنتم شرذمة قليلة توشك أن تندثر وتذهب ، وخاصة إذا مات بعض كبارئكم ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم ، وهل الحق مرتبط بالرجال ، فقد ذهب رسول الله ،وذهب الصحابة وذهب العلماء مشايخ الإسلام في كل عصر ومصر ، وها هو منهج السلف يسير وينتصر ، والعاقبة له بأذن العزيز القدير .
فيقال لهم أيضا لا تغتروا بكثرتكم فالكثرة إذا وافقت الحق تكون مباركة وحجة ، ولكن إذا أُعجب أصحابها بها كانت عليهم ويلا ووبالا ، أما إذا خالفت الحق فليس كذلك؛ بل شر من ذلك ، والحق لا يعرف بالرجال ، وإنما يعرف الرجال بالحق .
قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: " فَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «وَكَيْفَ لَنَا بِالْجَمَاعَةِ؟» فَقَالَ لِي: «يَا عَمْرُو بْنَ مَيْمُونٍ ، إِنَّ جُمْهُورَ الْجَمَاعَةِ هِيَ الَّتِي تُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ ، إِنَّمَاالْجَمَاعَةُ مَا وَافَقَ طَاعَةَ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتَ وَحْدَكَ» شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/121).
فالسلفي لا يستوحش من قلة السالكين على الصراط المستقيم ووسطية المنهج القويم ؛ فهؤلاء الأنبياء وهم من هم قدوته ؟ معصومون ، ومؤيدون بالوحي والمعجزات قد نالهم من الأذى ما نالهم وذهب بعضهم إلى الله ولم يتبعهم على سنتهم وطاعتهم إلا الرجل والرجلان ، ومنهم من لم يؤمن به أحد على كثرة المدعوين .
فعن ابن عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطَ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلَ، وَالرَّجُلَيْنِ وَالنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ... )) أخرجه البخاري (6541) ومسلم (220) (374).
ويقال لهم أيضا إن الإسلام بدأ بالقلة ، ونفر اشتدت عليهم الغربة في ديارهم وبين قومهم ، وكذلك ستعود تلك الغربة ، وسيجد المؤمن السني السلفي نفسه في غربة أشد من الظلام الحالك بين قومه وأقاربه ، ولكن العاقبة للمتقين . والنصر من عند الله العزيز الحكيم .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، قِيلَ: مَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: «النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ» مصنف ابن أبي شيبة (260) وأحمد (3784)وأخرجه الترمذي (2629) ، وابن ماجه (398 قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه أحمد شاكر في تحقيق المسند (4/30) وقال شعيب الأرنئوط في تحقيق المسند وسنن ابن ماجة صحيح ، وصححه الألباني في صحيح الترمذي وابن ماجة لكن قال دون قوله : قال قيل .
قال البغوي في شرح السنة (1/119) قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ» فَالنُّزَّاعُ جَمْعُ نَزِيعٌ، وَهُوَ الْغَرِيبُ الَّذِي نَزَعَ عَنْ أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ، وَالنَّزَائِعُ مِنَ الإِبِلِ: الْغَرَائِبُ.
الخلاصة : فإذا عرفت هذا أخي ، فقد رفت فألزم ، واسأل الله الثبات وأكثر من هذا الدعاء الذي كان نبينا صلى الله عليه وسلم يكثر منه .
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «يَا مُثَبِّتَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ» ، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّ سَلَمَةَ مَا أَكْثَرَ مَا تَقُولُ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا»
وفي صحيح الأدب المفرد (683) عن أنس قال :كان النبي صلى عليه وسلم يكثر أن يقول :(( اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)).
[قال الشيخ الألباني] : صحيح .
وأخيرا أقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، واسأله أن يستر عيوبنا وأن يغفر ذنوبنا وأن يكفر عنّا سيئاتنا ويتوفنا مسلمين وأن يلحقنا بالصالحين .
والحمد لله رب العالمين .
الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة ، والحمد لله على نعمة الهداية إلى الصراط المستقيم ، والهدي النبوي القويم وكفى بها نعمة ، الحمد لله على نعمة الفهم الصحيح فهم منهج السلف الصالح وكفى بها نعمة ، الحمد لله على نعمة العدل والأنصاف وكفى بها نعمة ، الحمد لله على معرفة الحق وكفى بها نعمة ، وأصلي وأسلم على سيد الأولين والآخرين سيدي رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد :
فإن الكثير من الطوائف وفيهم من انتسبوا إلى منهج السلف اغتروا بالكثرة ، وجعلوا يحتجون بها على من خالفهم ، فيقال لهم ، إن الكثرة ليست هي الدليل على الحق في كل وقت وحين ، الكثرة تكون حجة إذا كانت على المحجة ، اما الكثرة القائمة على التعصب والتقليد والتحزب فليست بحجة ..
وقد ذم الله سبحانه وتعالى الكثرة في أكثر من عشرين موضعا من كتابه بين قوله : (( ولكن أكثر النّاس لا يشكرون ، ولا يعلمون ، ولا يؤمنون ...)).
قال سبحانه وتعالى وتقدس :{ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ }(243) البقرة .
وقال سبحانه وتعالى وتقدس :{...وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }(13) سبأ.
فذم الكثرة التي كفرت نعم الله عليه ، ومدح القلة التي تشكر نعم الله ولا تكفرها ، ومن أعظم نعمه نعمة الهدية إلى الإسلام على منهاج النبوة وفهم من أنعم الله عليهم من الصديقين والشهداء والصالحين وسن اولئك رفيقا، ولا يشك أحد أن الصحابة منهم فليس فيهم إلا صادق أو شهيد أو صالح ..
وقال سبحانه وتعالى وتقدس :{...وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (187) الأعراف .
والأمر كذلك فأكثر النّاس يجهلون الحق الذي أراده الله لهم أن يكونوا عليه ، فقد فشا الجهل ، ونطق الرويبضة ، واتخذ كثير من الطوائف والفرق والحزبيين رؤساء جهل فافتوهم بغير هدى من الله على غير ما أراد الله سبحانه وما كان عليه رسوله وصحابته رضوان الله عليهم . وقال سبحانه وتعالى وتقدس :{... إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ }(17) هود.
فالله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق للنّاس كافة ، فما آمن له إلا القليل ، فنسبة المؤمنين إلى غيرهم من الكفار والمنحرفين عن الصراط المستقيم والمنهج القويم نسبة الشعرة الواحدة السوداء في جلد ثور أسود ، ونسبة أهل الحق في أمة الإجابة هي نسبة واحد من ثلاث وسبعين ، وليس من شك أن ذلك الواحد قليل جدا بالنسبة لثلاث وسبعين ، وذلك القليل هو الفرقة الناجية ، فالناجون قليل ..
والعاقل الذي يريد النجاة لنفسه ينبغي له أن يعلم حدود ومعالم تلك الفرقة القليلة الناجية لينجو بنجاتها ولا يغتر بالكثرة لأنها ليس هي الحق .
وقال سبحانه وتعالى وتقدس :{...وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ..} (24)ص .
وجعل الله النصرة للقلة القائمة على الكتاب والسنة على مراد الله ومراد رسوله ..
وقال سبحانه وتعالى وتقدس :{...قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}(249)البقرة.
وكذلك ذمها في آيات أخرى بصفات أخرى كالإعراض ن الحق ، واتباع الشيطان ، والحرص الشديد على ردة المؤمنين عن دينهم ، والكراهية للحق ، والفسق وفي كثير من الآيات يستثني القلة القلية وفي ذلك تضمين لمدحها...
وقال سبحانه وتعالى :{ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ } (83)البقرة .
ويقول جلت قدرته وتقدست أسماؤه :{ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ } (249)البقرة .
ويقول جلت قدرته وتقدست أسماؤه :{ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا }(83) النساء .
ويقول جل ذكره إخبارا عن إبليس:{لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا }(62) الإسراء.
ويقول جل جلاله في ذم الكثرة :{ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً }(109) البقرة .
ويقول جل جلاله وتقدست أسماؤه وصفاته في ذم الكثرة :{وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ }(7 الزخرف .
ويقول جل جلاله وتقدست أسماؤه وصفاته في ذم الكثرة :{وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ } (102) الأعراف . إلى غير ذلك من الآيات التي تذم الكثرة وتمدح القلة بمنطوق الخطاب وبمفهومه.
وهنا قاعدة عظيمة عند أهل السنة والجماعة أن النصوص في ذم الكثرة ، ومدح القلة، واضحة فلا يلزم من فساد الأكثرية فساد الأقلِّية من أهل السنة الصِّالحين .
فالسلفي هو من لا تسحره عاطفة الكثرة ، والقلة فيما يطلبه من الحق فيقلد الأكثرين ، ويميل مع التيار الجارف ، ويستند إلى الجدار الواقف .
لأن ذلك من سمات أهل الجاهلية ،وأهل البدع والضلال من أهل التقليد الذين يحتجون بالكثرة الكاثرة ، والسواد الأعظم فيقولون كما أخبرنا الله تعالى عنهم :{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) البقرة .
وقال تعالى :{ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ }(22) الزخرف .
فهذه الآيات من أشد الآيات على المقلدة الذين يتبعون كل ناعق مبطل يتباهى بكثرة الأتباع والمناصرين ..
والسلفي العدل هو من يعتزل الهوى ، وحظوظ النفس كلية فيما يريد من إصابة الحق على سبيل المؤمنين الذين رضي الله عنهم وأرضاهم ، فيقف بها حيث وقف القوم ولو كان في ذلك هلاكه ، فإن الله عز وجل يقول: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}(26) سورة ص.
وأي هلاك أشد أن يعيش في ضلال الهوى والانتصار في للنفس والانتقام لها من أهل الحق بالباطل .
إن السلفي الحق ليحذر أشد الحذر الانقياد لزخرفة القول ، وبهرج الباطل المزين ، وظاهر رياء الأدعياء الملبسين على النّاس الحق ، ولو كانوا أكثر من عدد رمل عالج ، فالحق عليه نور والمتمسكون به قلة ، وهو يعلم ذلك فيصبّر نفسه على ذلك فقد حذر الله - عز وجل - من هذه الطبقة على أيدي أنبيائه فقال عز وتقدس: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}(204) البقرة .
قال العلامة السعدي في تفسيره (1/93) أي: إذا تكلم راق كلامه للسامع، وإذا نطق، ظننته يتكلم بكلام نافع ، ويؤكد ما يقول بأنه {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} بأن يخبر أن الله يعلم، أن ما في قلبه موافق لما نطق به، وهو كاذب في ذلك، لأنه يخالف قوله فعله.
فلو كان صادقا، لتوافق القول والفعل ، كحال المؤمن غير المنافق، فلهذا قال: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} أي: إذا خاصمته، وجدت فيه من اللدد والصعوبة والتعصب، وما يترتب على ذلك، ما هو من مقابح الصفات، ليس كأخلاق المؤمنين، الذين جعلوا السهولة مركبهم، والانقياد للحق وظيفتهم، والسماحة سجيتهم.
وقال العلامة الألباني - رحمه الله – في شرح حديث الطائفة المنصورة ، وبيان صفاتهم كما وردت في أحاديث الغربة. تفريغ سلسلة الهدى والنور الشريط (499) (00:10:49).
لا شك أنَّ الذي أو الذين يعرفون هذا المنهج النَّقي الأبيض إنَّما هي الطائفة المنصورة التي تحدَّث النَّبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عنها في حديثٍ متواترٍ ثابتٍ عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من طرق قطعيَّة الثُّبوت؛ ألا وهي قوله عليه الصلاة والسلام: ((لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ لاَ يَضُرُّهُم مَنْ خَالَفَهُم حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)).
((لاَ يَضُرُّهُم مَنْ خَالَفَهُم))، هل هم الكثرة الكاثرة من المسلمين أم هم الطائفة القليلة المنصورة .
الحديث صريحٌ في ذلك ؛ ولذلك فلا يكن همُّ أحدكم أن يكون مع الأكثرين ؛ لأنَّ الله رب العالمين يذمُّ الأكثرين في غالب آيات القرآن الكريم؛ بمثل قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ([الأعراف: 187]. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} ([البقرة: 243].) {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنعام: 116).
ولذلك ينبغي أن يكون همُّ أحدنا أن يكون من عباده القليل، مِن الطَّائفة المنصورة، ما صفة هذه الطائفة المنصورة؟هنا بيت القصيد في هذه الكلمة. هي ما جاء ذكره في أحاديث الغربة، أحاديث الغربة التي جاء فيها ثلاثة روايات صحيحة.
الرواية الأولى: في صحيح مسلمٍ، من رواية سعد بن أبي وقاص -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إِنَّ الإسْلاَمَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ)) هذا حديث مسلم.
الحديث الثاني: في مسند الإمام أحمد -رحمه الله- ذكر هذا الحديث، وزاد زيادة طيبة، وهي: أن سائلاً سأل؛ فقال: (مَنْ هُمُ الغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ!؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلام: ((هُمْ نَاسٌ قَلِيلُونَ صَالِحُونَ، بَيْنَ نَاسٍ كَثِيرِينَ؛ مِنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُم)).
فانظروا هنا يمدح القلة لا يمدح الكثرة ؛ بل هو يذمها ؛ قال : ((هُمْ نَاسٌ قَلِيلُونَ صَالِحُونَ ، بَيْنَ نَاسٍ كَثِيرِينَ ؛ مِنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُم )).
فإذن من صفة هؤلاء الغرباء، الذين بشَّرَّهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بطوبى ، وهي شجرة في الجنَّة، يمشي الراكب الْمُسرِع تحتها مائة عامٍ لا يقطعها.
هؤلاء هم الغرباء الذين بشَّرَّهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهذه البِشَارة العُظمى ؛ فقال : ((هُمْ نَاسٌ قَلِيلُونَ صَالِحُونَ ، بَيْنَ نَاسٍ كَثِيرِينَ ، مِنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُم )) وهذه الصفة ينبغي أن تكون صفة عامة في الغرباء.
أما الصفة التالية؛ وهي في الحديث الثالث:
فهي صفةٌ من خاصَّة الغرباء، هي صفةٌ من خاصة الغرباء؛ أي: هي صفة في علماء الغرباء؛ ذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أجاب مرةً عن ذاك السؤال: "من هم الغرباء" فقال عليه الصلاة والسلام في المرة الأخرى: ((هُمُ الَّذِينَ يُصلِحُونَ مَا أفْسَدَ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِيِ مِنْ بَعْدِيِ)).
فإذن كلمة الغرباء تعني: "المتمسكين بالكتاب والسنة، وعلى منهج السلف"؛ أي: هم الفرقة النَّاجية.انتهى كلامه .
وهذا نبينا - صلى الله عليه وسلم - يشبه الكثرة بالقطيع من الإبل لا تجد فيهم واحدا يصلح للسفر .
عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( إِنَّمَا النَّاسُ كإبل مئة لا يَجِدُ الرجل فيها راحلة)) متفق عليه ، البخاري (6496)ومسلم بَابُ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لَا تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً (2547)
قال ابن بطال في شرح البخاري (10/207) وقوله: (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) يريد - صلى الله عليه وسلم- أن الناس كثير والمَرْضِّي منهم قليل، كما أن المائة من الإبل لا تكاد تصاب فيها الراحلة الواحدة .
وهذا الحديث إنما يراد به القرون المذمومة في آخر الزمان، ولذلك ذكره البخاري في رفع الأمانة، ولم يرد به - صلى الله عليه وسلم- زمن أصحابه وتابعيهم؛ لأنه قد شهد لهم بالفضل فقال: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم،ثم يجئ بعدهم قوم يخونون ولا يؤتمنون ، ويشهدون ولا يستشهدون ، وينذرون ولا يوفون ..) الحديث ، فهؤلاء أراد بقوله : ( الناس كإبل مائة) والله الموفق.انتهى كلامه .
وقال الحافظ ابن حجر (11/335): فَعَلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ وَبِغَيْرِ تَكَادُ فَالْمَعْنَى لَا تَجِدُ فِي مِائَةِ إِبِلٍ رَاحِلَةً تَصْلُحُ لِلرُّكُوبِ لِأَنَّ الَّذِي يَصْلُحُ لِلرُّكُوبِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَطِيئًا سَهْلَ الِانْقِيَادِ وَكَذَا لَا تَجِدُ فِي مِائَةٍ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَصْلُحُ لِلصُّحْبَةِ بِأَنْ يُعَاوِنَ رَفِيقَهُ وَيُلِينَ جَانِبَهُ.
وقال عبد العزيز بن عبد اللطيف بن حسن آل الشيخ :" ولا يصدنكم عن الحق وبيانه كثرة من ضل، فإن الكثرة لا تدل على أن الحق في جانبهم، بل إن الله قد ذم الكثرة في مواضع:
منها قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}(26) سورة الحديد .ومنها قوله :{ وإنَّ كَثيرًا مِن النَّاسِ لفاسقون } (49) سورة المائدة .
ومنها قوله - عز وجل -: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (119) سورة الأنعام .
كما أن القلة لا تعني أن الحق ليس معهم ، فإن الله قد أثنى على القلة في مواضع:
فقال : {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (13) سورة سبأ .
وقال - سبحانه -: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} (24)سورة ص.
وغير ذلك من الآيات ، وقد مر معك أخي القارئ بعضا منها .
فعُلم بهذا أن العبرة إنما هي بالحق ، وإن كنت وحدك، كما قاله بعض السلف. انتهى كلامه . مجلة البحوث الإسلامية - مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد (60/44).
وقال بعضهم : وكذلك أيضا يجب على السلفي ألا ينساق لما اعتاده الناس وجروا عليه مما يخالف الشرع ، بل عليه أن يجاهد نفسه في ذات الله ، وأن يوطنها على الحق الذي عرف ، ولا تستهوينه عاطفة القرابة ، والصحبة ، والجماعة والحزب والطائفة فعليه البلاغ والبيان وقول الحق وإن رفضه الناس، فهذه هي دعوة الرسل ، والله - سبحانه - يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (69)العنكبوت.
وقال بعض السلف : إذا أردت أن تختبر نفسك فتنظر أنت مع من؟ مع الكثرة أو مع القلة؟ إذا وجدت أعمالك أعمال الكثرة فاتهم نفسك لأن الكثرة مذمومة في الشرع : {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ} [الأنعام: 116]. {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].
وهكذا تجد ذم الكثرة، في مواضع كثيرة من القرآن ؛ حينئذٍ إذا وجدت نفسك أنت مع الكثرة فانتبه راجع نفسك حاسب نفسك ولا تغتر بكثرة الهالكين فتهلك معهم ، وإذا وجدت نفسك مع القلة حينئذٍ تعرف أنك على حقٍ - إن شاء الله تعالى- وأنت من القليل الذين قال الله تعالى فيهم : {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (13)سورة سبأ.
وأيضًا من جهةٍ أخرى قد يكون الحق مع الكثرة فهي ليست دائما مذمومة وأن ما عليه باطل ؛بل قد تكون على الحق ، وحينئذ يقع الاغترار بها والعجب فتهلك..
وعلى سبيل التمثيل قد يكون الأتباع مع داعيةٍ سلفي أو مع عالم صاحب دعوة صحيحة سلفية واضحة بينّة وهم كثرة، فيقع الاغترار من بعضهم بهذه الكثرة.
وهذا لاشك أنه مذموم ، ومن وقع فيه ملوم ، إذًا يا طالب النجاة في الحق لا تغتر بالكثرة سواءٌ كنت على باطل في الاستدلال بها على صاحب الدعوة ، أو كنت محقًا لأن هذا فيه التفات إلى غير الحق ، وفيه وقوفٌ مع السبب ، وحينئذٍ يعتمد عليهم ويثق بهم أكثر من ثقته بربه جل وعلا.. انتهى المقصود منه بتصرف .
ويقال للذين يعجبون بالكثرة ويغترون بها؛ فهذا الواقع أمامهم ؛ فهل أعمى الله أبصارهم ؟؟ فهذه أمة الإسلام يبلغ عددها مليار ونصف مليار فما أغنت عنهم وقد تكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب ؟؟
فكذلك يقال في الفِرق المتكاثرة والمستكثرة المخالفة لمنهج السلف هي كثيرة ، وأتباع السلفية قليلون -ولا يضرهم ذلك – ولأنهم على الحق ، والنصر لهذا المنهج ولو اجتمع عليهم من بأقطارها .
وقد قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِائَةٍ، وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلافٍ، وَلا يُغْلَبُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ )) (أحمد 2682) وأخرجه عبد بن حميد (652) ، وأبو داود (2611) ، والترمذي (1555) من حديث ابن عباس ، وقال الشيخ الألباني صحيح.
وقد ذم الله تعالى الإعجاب بالكثرة حتى لو كانت على الحق فلمّا أعجب بعض المسلمين في غزوة خنين بكثرتهم ، ولا يشك أح أنهم كانوا على الحق ؛فقال قائلهم لا نغلب اليوم من قلة ؛ فرد الله ذلك ولم يقبله .
فقال :{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ }(25)التوبة .
قال ابن كثير – رحمه الله في تفسيره – (4/125) يَذْكُرُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانَهُ لَدَيْهِمْ فِي نَصْرِهِ إِيَّاهُمْ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ مِنْ غَزَوَاتِهِمْ مَعَ رَسُولِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى، وَبِتَأْيِيدِهِ وَتَقْدِيرِهِ، لَا بعَددهم وَلَا بعُددهم وَنَبَّهَهُمْ عَلَى أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِهِ، سَوَاءٌ قَلَّ الْجَمْعُ أَوْ كَثُرَ، فَإِنَّ يَوْمَ حُنين أَعْجَبَتْهُمْ كَثْرَتُهُمْ، وَمَعَ هَذَا مَا أَجْدَى ذَلِكَ عَنْهُمْ شَيْئًا فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ أَنْزَلَ [اللَّهُ] نَصْرَهُ وَتَأْيِيدَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَعَهُ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُفَصَّلًا لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَبِإِمْدَادِهِ وَإِنَّ قَلَّ الْجَمْعُ، فَكَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.
وقال ابن القيم في الزاد (3/419) وَلِيُبَيِّنَ سُبْحَانَهُ لِمَنْ قَالَ: (لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ عَنْ قِلَّةٍ) أَنَّ النَّصْرَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَنَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ فَلَا غَالِبَ لَهُ، وَمَنْ يَخْذُلُهُ فَلَا نَاصِرَ لَهُ غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى نَصْرَ رَسُولِهِ وَدِينِهِ، لَا كَثْرَتُكُمُ الَّتِي أَعْجَبَتْكُمْ، فَإِنَّهَا لَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا، فَوَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ، فَلَمَّا انْكَسَرَتْ قُلُوبُهُمْ أُرْسِلَتْ إِلَيْهَا خِلَعُ الْجَبْرِ مَعَ بَرِيدِ النَّصْرِ {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26] .
وَقَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنَّ خِلَعَ النَّصْرِ وَجَوَائِزَهُ إِنَّمَا تَفِيضُ عَلَى أَهْلِ الِانْكِسَارِ، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5] [الْقَصَصِ: 6] .
فالكثرة التي تقوم على الطائفية والحزبية ، والبدع والخرافات الشركية والإلحاد والتقليد والتعصب والانحراف عن منهج الأسلاف ، والإعجاب والغرور تكون غثاء كغثاء السيل ، لا تسمن ولا تغني من جوع مما يجعل الأمم الأعداء يتداعون فيما بينهم على هذه الأمة لتفريقها وتشتيتها وإرادة هلاكها حتى لا تقم لها قائمة .
وكذلك ذم النبي - صلى الله عليه وسلم - الكثرة وجعلها كغثاء السيل الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ، إذا كانت قلوب أصحابها متعلقة بحب الدنيا وكراهية الموت ، وذلك هو الوهن الذي يجعل الأعداء يتكالبون على هذه الأمة .
عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا»، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَمِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي
قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ»، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» سنن أبي داود (4297)
وقال الشيخ الألباني صحيح .
وفي مسند الإمام أحمد ( 8713)عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِثَوْبَانَ: " كَيْفَ أَنْتَ يَا ثَوْبَانُ، إِذْ تَدَاعَتْ عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَتَدَاعِيكُمْ عَلَى قَصْعَةِ الطَّعَامِ تُصِيبُونَ مِنْهُ؟ " قَالَ ثَوْبَانُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا؟ قَالَ: " لَا، بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ يُلْقَى فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنُ " قَالُوا: وَمَا الْوَهَنُ؟ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " حُبُّكُمُ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَتُكُمُ الْقِتَالَ "
قال شعيب الأرنئوط في تحيقي المسند (14/332) ولم نقف على أحد أخرجه من حديث أبي هريرة غير الِإمام أحمد، وأخرجه أبو داود (4297) من حديث ثوبان نفسه، وسيأتي في مسند ثوبان( 5/27:
قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكَلَة على قصعتها"، قال: قلنا. يا رسول الله، أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: "أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن، قال: قلنا: وما الوهن؟ قال: "حب الحياة وكراهية الموت". وسنده حسن.
ويقال لهؤلاء الذين يستدلون بالكثرة إنما يستدلون بقول فرعون يصف أهل الحق موسى ومن معه بأنهم شرذمة قليلون ، وهو ومن معه أهل كثرة وقوة وأهل حق .
أخبرنا الله تعالى في كتابه عن فرعون : {فأرسل فرعون في المدائن حاشرين *إنّ هؤلاء لشرذمة قليلون *وإنهم لنّا لغائظون } (53 - (55)الشعراء .
تماما كما يقوله اليوم أهل الباطل من أهل الأهواء لأهل الحق أنتم قليلون لا حول ولا قوة لكم ، وأن العالم الإسلامي أغلبه وأكثره أشاعرة ، أو صوفية ، أو أنتم شرذمة قليلة توشك أن تندثر وتذهب ، وخاصة إذا مات بعض كبارئكم ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم ، وهل الحق مرتبط بالرجال ، فقد ذهب رسول الله ،وذهب الصحابة وذهب العلماء مشايخ الإسلام في كل عصر ومصر ، وها هو منهج السلف يسير وينتصر ، والعاقبة له بأذن العزيز القدير .
فيقال لهم أيضا لا تغتروا بكثرتكم فالكثرة إذا وافقت الحق تكون مباركة وحجة ، ولكن إذا أُعجب أصحابها بها كانت عليهم ويلا ووبالا ، أما إذا خالفت الحق فليس كذلك؛ بل شر من ذلك ، والحق لا يعرف بالرجال ، وإنما يعرف الرجال بالحق .
قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: " فَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «وَكَيْفَ لَنَا بِالْجَمَاعَةِ؟» فَقَالَ لِي: «يَا عَمْرُو بْنَ مَيْمُونٍ ، إِنَّ جُمْهُورَ الْجَمَاعَةِ هِيَ الَّتِي تُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ ، إِنَّمَاالْجَمَاعَةُ مَا وَافَقَ طَاعَةَ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتَ وَحْدَكَ» شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/121).
فالسلفي لا يستوحش من قلة السالكين على الصراط المستقيم ووسطية المنهج القويم ؛ فهؤلاء الأنبياء وهم من هم قدوته ؟ معصومون ، ومؤيدون بالوحي والمعجزات قد نالهم من الأذى ما نالهم وذهب بعضهم إلى الله ولم يتبعهم على سنتهم وطاعتهم إلا الرجل والرجلان ، ومنهم من لم يؤمن به أحد على كثرة المدعوين .
فعن ابن عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطَ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلَ، وَالرَّجُلَيْنِ وَالنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ... )) أخرجه البخاري (6541) ومسلم (220) (374).
ويقال لهم أيضا إن الإسلام بدأ بالقلة ، ونفر اشتدت عليهم الغربة في ديارهم وبين قومهم ، وكذلك ستعود تلك الغربة ، وسيجد المؤمن السني السلفي نفسه في غربة أشد من الظلام الحالك بين قومه وأقاربه ، ولكن العاقبة للمتقين . والنصر من عند الله العزيز الحكيم .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، قِيلَ: مَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: «النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ» مصنف ابن أبي شيبة (260) وأحمد (3784)وأخرجه الترمذي (2629) ، وابن ماجه (398 قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه أحمد شاكر في تحقيق المسند (4/30) وقال شعيب الأرنئوط في تحقيق المسند وسنن ابن ماجة صحيح ، وصححه الألباني في صحيح الترمذي وابن ماجة لكن قال دون قوله : قال قيل .
قال البغوي في شرح السنة (1/119) قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ» فَالنُّزَّاعُ جَمْعُ نَزِيعٌ، وَهُوَ الْغَرِيبُ الَّذِي نَزَعَ عَنْ أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ، وَالنَّزَائِعُ مِنَ الإِبِلِ: الْغَرَائِبُ.
الخلاصة : فإذا عرفت هذا أخي ، فقد رفت فألزم ، واسأل الله الثبات وأكثر من هذا الدعاء الذي كان نبينا صلى الله عليه وسلم يكثر منه .
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «يَا مُثَبِّتَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ» ، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّ سَلَمَةَ مَا أَكْثَرَ مَا تَقُولُ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا»
وفي صحيح الأدب المفرد (683) عن أنس قال :كان النبي صلى عليه وسلم يكثر أن يقول :(( اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)).
[قال الشيخ الألباني] : صحيح .
وأخيرا أقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، واسأله أن يستر عيوبنا وأن يغفر ذنوبنا وأن يكفر عنّا سيئاتنا ويتوفنا مسلمين وأن يلحقنا بالصالحين .
والحمد لله رب العالمين .
تعليق