الحمد لله ربّ العالمن والعاقبة للمتقين، وصلّى الله وسلم على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد:
فما زلنا نسمع-إلى الآن- أن المسجد الأقصى أو قل فلسطين الحبيبة لن تستقل حتى ينزل المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، فلا نعلم من أين جاءتنا هذه المعلومة السخيفة وما فتئتْ تطرأ على مسامعنا حتى اعتدنا على سماعها ولا ننكر، ولا نعلم سبب انتشارها بين العامة والخاصة إلا بفهم سقيم للنصوص، فكثيرا ما كنّا نرددّها ونحن صغار، ومع الأحداث الجارية مؤخرًا سمعت أحد العوام يذكرها أيضا، فأحببت التنبيه بنقلٍ يسير أوضّح فيه إن كان في القضية أثر أو حديث أو نص والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
وقبل الشروع في النقل أحببت أن أزيد الموضوع تبيانا وتوضيحا بقول شيخنا عثمان عيسى الجزائري.وفّقه الله تعالى.حين وجّهت إليه سؤالاً مفاده أنّ العامة يقولون أنّ المسجد الأقصى لن يتحرّر حتى ينزل عيسى عليه السلام، فكان جوابه مبسّط يسير، قال: أنّ الأمر غير صحيح، ثم قال: لمّا حرّرها صلاح الدين الأيوبي هل كان عيسى عليه السلام نزل؟
فسبحان من أجرى الحكمة على لسان مشايخنا الفضلاء، فتحرير القدس كان في سنة 583 للهجرة من قبل السلطان صلاح الدين -رحمه الله تعالى- في شهر الله رجب وفتحها قبله في نفس الشهر أيضا أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سنة 16 للهجرة، تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ولم ينزل المسيح ابن مريم ولم تقم الساعة!! فما يُشاع أنّ فلسطين والمسجد الأقصى لا يُحرَّران إلاّ وقد قامت الدنيا إنّما هو تثبيط وتعجيز وقولٌ على الله بغير علم ،قال الله تعالى:{ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } نسأل الله العافية والسلامة في الدنيا والآخرة.
والعامة إذا حدّثتها عن فتح فلسطين وعن الإجتماع لتحريره من أيدي اليهود الغاصبين إحتجّوا علينا بأن الأمر كذا وكذا، وأن النصر لا يكون إلا بقيام الساعة وبنزول عيسى عليه السلام، فلا سند يُذكر ولا أثر، وهذا كلّه من نسج خيالهم ومن تعجيز الشيطان لهم، ويظهر لنا من خلال كلامهم أنهم أخذوا ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود. خرّجه مسلم، إلاّ أنهم غلطوا في فهم نص الحديث فهذا الحديث - يبقى على ظاهره- وهو في مواجهة اليهود أينما وجدوا بحيث لا تقوم لهم راية، ولا يختص بقتال يهود فلسطين ولا بتحرير القدس المحتلّة -وإن اجتمع شرمة منهم هناك- فهب أن المسلمين اجتمعوا وقاتلوا يهود فلسطين وانتصروا عليهم فهذا لا يعني أنهم قتلوا كلّ يهودي على وجه الأرض ولم يُبقوا أحدًا فهذا محال، بخلاف الحديث المشهور عند مسلم وغيره أن الشجر والحجر يُخبران أن وراءهما يهودي، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم جهة معينة ولا مكان مخصص،بل جاء الحديث عامّا شاملا ممّا لا يدع لهم مخبأ ولا ملجأ إلاّ ما جاء عن شجر الغرقد.
فإن قالوا أننا في ضعفٍ كبير وأنّ ذنوبنا سبب خذلاننا وأننا إن لم نجتمع ونوحدّ الصف مع تركٍ للذنوب لن نفتح القدس ولن نواجه اليهودا ولا غيرهم، [فربما] هنا صدقوا ووافقوا قول الله عزّ وجلّ: { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فقد قال أبو جعفر الطبري في تفسيره لهذه الآية: يعني تعالى ذكره بذلك : أوحين أصابتكم، أيها المؤمنون، "مُّصِيبَةٌ"، وهي القتلى الذين قتلوا منهم يوم أحد، والجرحى الذين جرحوا منهم بأحد، وكان المشركون قتلوا منهم يومئذ سبعين نفرا " قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا"، يقول: قد أصبتم، أنتم أيها المؤمنون، من المشركين مثلي هذه المصيبة التي أصابوا هم منكم، وهي المصيبة التي أصابها المسلمون من المشركين ببدر، وذلك أنهم قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين" قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا "، يعني: قلتم لمّا أصابتكم مصيبتكم بأحد "أَنَّى هَذَا"، من أي وجه هذا؟ ومن أين أصابنا هذا الذي أصابنا، ونحن مسلمون وهم مشركون ، وفينا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي من السماء، وعدونا أهل كفر بالله وشرك؟ "قُلْ" يا محمد للمؤمنين بك من أصحابك" هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ "، يقول : قل لهم: أصابكم هذا الذي أصابكم من عند أنفسكم، بخلافكم أمري وترككم طاعتي، لا من عند غيركم، ولا من قبل أحد سواكم " إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"، يقول: إن الله على جميع ما أراد بخلقه من عفو وعقوبة، وتفضل وانتقام " قَدِيرٌ"، يعني : ذو قدرة . إنتهـى كلامه رحمه الله.
وقول الله عزّ وجلّ {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} فهذه المصائب التي سلّطت علينا، إنما بسبب ذنوبنا وعصياننا لربنا، فسبب التمكين والنصر المؤزّر لا يكون إلاّ بتحكيم كتابه والرجوع إليه سبحانه وتعالى والتمسك بحبله وهدي نبيّه صلى الله عليه وسلم، ودليل ذلك قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }. قال الشنقيطي.رحمه الله. في أضواء البيان - (7 / 251): ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن المؤمنين، إن نصروا ربهم، نصرهم على أعدائهم، وثبت أقدامهم، أي عصمهم من الفرار والهزيمة. وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، وبين في بعضها صفات الذين وعدهم بهذا النصر كقوله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]، ثم بين صفات الموعودين بهذا النصر في قوله تعالى بعده: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41]، وكقوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ، وقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر:51]. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173], إلى غير ذلك من الآيات. وقوله تعالى في بيان صفات من وعدهم بالنصر في الآيات المذكورة: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ} [الحج:41]. يدل على أن الذين لا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، ليس لهم وعد من الله بالنصر البتة. فمثلهم كمثل الأجير الذي لم يعمل لمستأجره شيئا ثم جاءه يطلب منه الأجرة.
فالذين يرتكبون جميع المعاصي ممن يتسمون باسم المسلمين ثم يقولون: إن الله سينصرنا مغرّرون لأنهم ليسوا من حزب الله الموعودين بنصره كما لا يخفي. ومعنى نصر المؤمنين لله، نصرهم لدينه ولكتابه، وسعيهم وجهادهم، في أن تكون كلمته هي العليا، وأن تقام حدوده في أرضه، وتتمثل أوامره وتجتنب نواهيه، ويحكم في عباده بما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم.انتهى كلامه رحمه الله.
هذا ما يسّر الله جمعه فإن أصبت فمن الله، وإن أسأت أو أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان من ذلك كلّه.
والله أعلم وصلّ الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم.
أخوكم:ستر الله عيوبه
محمّد عوّاد
الجزائر 10ذو القعدة 1438هـ
03/08/2017م
تعليق