معرفة الموتى لمن يزورهم في قبورهم
السؤال ٢٣٥ :
هل الميت يعلم عن الأحياء أخبارهم ، فقد سمعت من بعض أهل العلم من يقول ذلك ، وآخر ينفيه ، وآخر من يقول : هذه المسألة لا أحد يسأل عنها ، لأنها من علم الغيب ؟
الجواب :
هذه المسألة من المسائل المهمة جدا ، وكما ذكر السائل تنوعت أقوال أهل العلم فيها : ما بين نافٍ مطلقا ، وما بين مثبت مطلقا ، وما بين مفصل في المسألة بحسب ما ورد في الدليل .
والصواب في ذلك التفصيل : فمن نفى مطلقا بأن الأموات لا يسمعون ، ولا يعلمون ، بل انقطع سبيلهم ، استدلوا بقوله جل وعز { وما أنت بمسمع من في القبور ) 《 فاطر : ٢٢》 ، واستدلوا بأن الميت انقطع من هذه الدنيا ، وارتحل إلى الآخرة ، فهو مشغول عن هذه الدنيا بالآخرة ، وهو في حياة البرزخ . وحياة البرزخ مختلفة عن هذه الحياة ، فصلته بهذه الحياة الدنيا تحتاج إلى دليل ، ولا دليل يدل على سماعه مطلقا ، فلذلك وجب نفيه ، لدلالة قوله تعالى { وما أنت بمسمع من في القبور } ، ولم يدل أيضا الدليل على أن الملائكة تبلغ الأموات الأخبار والأحوال ، فبنوا على هذا النفي العام في أن الميت لا يسمع شيئا .
والقول الثاني : أن الأموات يسمعون مطلقا ، ويبلّغون ؛ يعني : يسمعون ما يحدث عندهم ، ويبلّغون ما يحصل من أهليهم وأقاربهم من خير أو شر ، فيأنسون للخير ويستاءون للشر . وهؤلاء بنوا كلامهم على أن في الأدلة ما يدل على جنس سماع الميت لكلام الحي ؛ كقوله صلى الله عليه وسلم { حتى إنه ليسمع قرع نعالهم } (١) ؛ واستدلوا بهذا على أنه يسمع ، ويستدلون أيضا ببعض الأحاديث الضعيفة ، كحديث التلقين _ حديث أبي أمامة الضعيف في التلقين _(٢) ، ونحوه بأنه يسمع بعض السماع ، ويستدلون أيضا بما ورد من الأحاديث بأن الملائكة تبلّغ الميت بأخبار أهله من بعده ، ويعرضون عليه ما فعلوا ، فإن وجد خيرا ، فرح واستبشر ، وإن وجد وبُلّغ غير ذلك استاء من أهله ، ويستدلون أيضا بما يحصل للأحياء من رؤية للأموات في المنام لأرواح الأموات في المنام ، و أنهم ربما قالوا لهم : فعلت كذا ، وقلت كذا ، وأتانا خبرك بكذا ، ونحو ذلك .
وهؤلاء في مسألة خاصة استدلوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع صناديد قريش لما دفنهم في القليب ، ورماهم ، فأطل عليهم صلى الله عليه وسلم ، وقال لهم { يا أبا جهل بن هشام يا أميّة بن خلف يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا } ، فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف يسمعوا وأنى يجيبوا وقد جَيَّفوا قال { والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا } (٣) ، واستدلوا بهذا اللفظ { ما أنتم بأسمع لما أقول منهم } على أنهم يسمعون ، وإذا كانوا يسمعون ، فإنهم لهم نوع تعلق بالدنيا ، فلا يمنع أن يبلغوا ، ويقوي ما جاء في هذا الباب من أحاديث .
والثالث : _وهو الصواب_ : التفصيل ، وهو أن الميت يسمع بعض الأشياء التي ورد الدليل بأن يسمعها ، والأصل أن الميت لا يُسَمَّع ، لقوله تعالى : { وما أنت بمسمع من في القبور } وأنه أيضا لا يسمع ، فما خرج عن الأصل احتاج إلى دليل ، وكذلك التبليغ - تبليغ الأخبار - أيضا خلاف الأصل ، ولهذا كان من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جعل له ملائكة سيّاحين في الأرض يبلغون أمته السلام ، وهذا هو الأقرب للدليل ، وهو الأظهر من حيث أصول الشريعة . وهو أن الميت لا يسمع كل شيء : لا يسمع من ناداه ، لا يسمع من أتاه يخبره بأشياء ، وأنه لا دليل على أنه يُبَلَّغ ما يحصل ، لأن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن الأحاديث الواردة في ذلك أنه يبلّغ ونحو ذلك ، أنها أحاديث ضعيفة لا تقوم الحجة بها ، فينحصر إذًا سماعه فيما دل الدليل عليه ، وهو أنه يسمع قرع النّعال ، وأن أهل بدر سمعوا ، يعني : المشركين من صناديد قريش سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم ، لهذا في الرواية الثانية الصحيحة أيضا أنه قال لما قالوا له : أتكلم أمواتا ؟ قال : { إنهم ليسمعون الآن ما أقول لهم } (٤)، وهذه الرواية ظاهرة الدلالة في أن سماعهم وتكليمهم هو نوع تبكيم وتعذيب لهم ، وزيادة (الان) زيادة صحيحة ظاهرة ، وبها يجتمع قول من نفى وقول من أثبت ، فيكون الإثبات بالسماع فيه تخصيص لهم بتلك الحالة ، لازدياد تبكيتهم وتعذيبهم أحياء وميتين .
والعلماء ألفوا في هذا أيضا تآليف في ثلاثة اتجاهات : يعني : في القول الأول ، والثاني ، والثالث .
وابن القيم في كتاب الروح توسع فيها هذا على القول الثاني ، لكن هذا القول أو غيره ليس موافقا لقول المشركين الذين يجيزون مناداة الميت ، وسؤال الميت الحاجات ، وطلب تفريج الكربات ، وإغاثة اللهفات ، ونذر النذور ليخاطبوه ، وليستغيثوا به ، أو يستشفعوا به ، هذا غير داخل في المسألة ، لكن هذه المسألة أساس يروّج به من دعا إلى الشرك ، لأنهم يعتمدون على مثل هذه الأقوال.
صنف إبن القيم كتاب الروح ، وبحث فيه هذه المسألة ، وتوسع فيها جدا ، حتى إنه رحمه الله نقل منامات وحكايات في هذا المقام من قبيل الشواهد على طريقته ، لمن ااعبرة بما دل عليه الدليل من الكتاب والسنة . ولا مُتَمَسِّك في كلام إبن القيم لمن زعم أن الموتى يغيثون ، وأنهم يسمعون ، ويجيبون من سألهم ، ...... إلى آخره ، بل إبن القيم رحمه الله ، مع ما أورد رد على المشركين والخرافيين وأهل البدع والضلال الذين يصفون الأموات بأوصاف الإله -جل الله عما ادعى المدعون- ، وهناك من ذهب إلى المنع مطلقا ، وهم عدد من أهل العلم ، ومذهب الحنفية بالخصوص ، وتأليف طائفة من الحنفية في هذا الباب على هذا الأساس ، من أن الأموات لا يسمعون أصلا ، فكيف يبلّغون ؟! وكيف يجيبون ؟! والصواب الذي عليه الدليل هو التفصيل الذي مرّ ذكره.
أما السلام - سلام النبي صلى الله عليه وسلم - ذكر شيخ الإسلام في رده على البكري قاعدة مهمة في فحوى كلامه ، وهي أن الميت - على القول بسماعه وسماع النبي صلى الله عليه وسلم بخصوص - لا يسمع بقوة هي أكبر من قوته في الدنيا ، لا يسمع البعيد ، لأن إعطاءه قوة أكبر من قوته في الدنيا على السماع هذا باطل ، ولم يدل عليه أصل ، ولم يقل به أحد ، ولهذا جاء في بعض الآثار ، جاء في بعض الأحاديث - وإن كان فيها مقال طبعا ، وفيها تعليل وبحث معروف - : { من سلم علي عند قبري أجبته أو رددت عليه ، ومن سلم علي بعيدا بلّغته } ، وهذا الصواب فيه أنه من قول بعض السلف ، يعني : استظهارا بأن من سلم قريبا أجيب ، ومن سلم بعيدا بلّغ ، ولا يصح الحديث في ذلك.
والمقصود من هذا أن تبليغ سلام من سلم للنبي صلى الله عليه وسلم يدل على أنه ليس عنده قوة تحضر في كل مكان ، من سلم عليه صلى الله عليه وسلم عند قبره ، فله حكم من سلم عليه عند قبره ، يرد عليه السلام ، والآن القبر بعيد ، قبر النبي صلى الله عليه وسلم بعيد ، ليس قريبا ، وبينك وبينه أربعة جدران - جدران كبيرة - فإذا تكلم المرء خافتا بأدب وسلم ( السلام عليك يا رسول الله ) بهدوء ، فإنه لو كان صلى الله عليه وسلم حيا في مكانه - يعني : في غرفته ، في حجرته التي دفن فيها - لما سمع ، ولهذا ليس ثم فيه إلا التبليغ الآن ، أنه يبلَّغ ، الملائكة تبلغه من سلم عليه ، لأن الذي يسلم بعيد ، ولا يسمع ، فذكر إبن تيمية أنه لم يدل دليل على أنه يعطى قوة غير القوة التي كانت معه في الدنيا ، فلو قيل : إن الميت يسمع ، الميت عامة يسمع ، فإنه لا يسمع من يكلمه من خلف المقبرة ، أو بينه وبينه عشرون مترا ، ويتكلم بهدوء ، أو نحو ذلك ، فإن هذا من وسائل الاعتقادات الباطلة ، أو من وسائل الشرك والخرافة ، أما النبي صلى الله عليه وسلم ، فحياته حياة كاملة برزخية ، ولا شك أكمل من حياة الشهداء على كل حال . [ شرح الطحاوية ]
الأجوبة والبحوث والمدارسات المشتملة عليها الدروس العلمية للعلامة صالح آل الشيخ حفظه الله(٢ /٢٩٨-٣٠٢)
________________________________________
(١) أخرجه الطبراني في الأوسط(٤٤/٥) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢)أخرجه الطبراني(٢٤٩/٨).
(٣)أخرجه مسلم ( ٢٨٧٤) من حديث أنس رضي الله عنه.
(٤)أخرجه النسائي( ٢٠٧٦ ) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
السؤال ٢٣٥ :
هل الميت يعلم عن الأحياء أخبارهم ، فقد سمعت من بعض أهل العلم من يقول ذلك ، وآخر ينفيه ، وآخر من يقول : هذه المسألة لا أحد يسأل عنها ، لأنها من علم الغيب ؟
الجواب :
هذه المسألة من المسائل المهمة جدا ، وكما ذكر السائل تنوعت أقوال أهل العلم فيها : ما بين نافٍ مطلقا ، وما بين مثبت مطلقا ، وما بين مفصل في المسألة بحسب ما ورد في الدليل .
والصواب في ذلك التفصيل : فمن نفى مطلقا بأن الأموات لا يسمعون ، ولا يعلمون ، بل انقطع سبيلهم ، استدلوا بقوله جل وعز { وما أنت بمسمع من في القبور ) 《 فاطر : ٢٢》 ، واستدلوا بأن الميت انقطع من هذه الدنيا ، وارتحل إلى الآخرة ، فهو مشغول عن هذه الدنيا بالآخرة ، وهو في حياة البرزخ . وحياة البرزخ مختلفة عن هذه الحياة ، فصلته بهذه الحياة الدنيا تحتاج إلى دليل ، ولا دليل يدل على سماعه مطلقا ، فلذلك وجب نفيه ، لدلالة قوله تعالى { وما أنت بمسمع من في القبور } ، ولم يدل أيضا الدليل على أن الملائكة تبلغ الأموات الأخبار والأحوال ، فبنوا على هذا النفي العام في أن الميت لا يسمع شيئا .
والقول الثاني : أن الأموات يسمعون مطلقا ، ويبلّغون ؛ يعني : يسمعون ما يحدث عندهم ، ويبلّغون ما يحصل من أهليهم وأقاربهم من خير أو شر ، فيأنسون للخير ويستاءون للشر . وهؤلاء بنوا كلامهم على أن في الأدلة ما يدل على جنس سماع الميت لكلام الحي ؛ كقوله صلى الله عليه وسلم { حتى إنه ليسمع قرع نعالهم } (١) ؛ واستدلوا بهذا على أنه يسمع ، ويستدلون أيضا ببعض الأحاديث الضعيفة ، كحديث التلقين _ حديث أبي أمامة الضعيف في التلقين _(٢) ، ونحوه بأنه يسمع بعض السماع ، ويستدلون أيضا بما ورد من الأحاديث بأن الملائكة تبلّغ الميت بأخبار أهله من بعده ، ويعرضون عليه ما فعلوا ، فإن وجد خيرا ، فرح واستبشر ، وإن وجد وبُلّغ غير ذلك استاء من أهله ، ويستدلون أيضا بما يحصل للأحياء من رؤية للأموات في المنام لأرواح الأموات في المنام ، و أنهم ربما قالوا لهم : فعلت كذا ، وقلت كذا ، وأتانا خبرك بكذا ، ونحو ذلك .
وهؤلاء في مسألة خاصة استدلوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع صناديد قريش لما دفنهم في القليب ، ورماهم ، فأطل عليهم صلى الله عليه وسلم ، وقال لهم { يا أبا جهل بن هشام يا أميّة بن خلف يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا } ، فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف يسمعوا وأنى يجيبوا وقد جَيَّفوا قال { والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا } (٣) ، واستدلوا بهذا اللفظ { ما أنتم بأسمع لما أقول منهم } على أنهم يسمعون ، وإذا كانوا يسمعون ، فإنهم لهم نوع تعلق بالدنيا ، فلا يمنع أن يبلغوا ، ويقوي ما جاء في هذا الباب من أحاديث .
والثالث : _وهو الصواب_ : التفصيل ، وهو أن الميت يسمع بعض الأشياء التي ورد الدليل بأن يسمعها ، والأصل أن الميت لا يُسَمَّع ، لقوله تعالى : { وما أنت بمسمع من في القبور } وأنه أيضا لا يسمع ، فما خرج عن الأصل احتاج إلى دليل ، وكذلك التبليغ - تبليغ الأخبار - أيضا خلاف الأصل ، ولهذا كان من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جعل له ملائكة سيّاحين في الأرض يبلغون أمته السلام ، وهذا هو الأقرب للدليل ، وهو الأظهر من حيث أصول الشريعة . وهو أن الميت لا يسمع كل شيء : لا يسمع من ناداه ، لا يسمع من أتاه يخبره بأشياء ، وأنه لا دليل على أنه يُبَلَّغ ما يحصل ، لأن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن الأحاديث الواردة في ذلك أنه يبلّغ ونحو ذلك ، أنها أحاديث ضعيفة لا تقوم الحجة بها ، فينحصر إذًا سماعه فيما دل الدليل عليه ، وهو أنه يسمع قرع النّعال ، وأن أهل بدر سمعوا ، يعني : المشركين من صناديد قريش سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم ، لهذا في الرواية الثانية الصحيحة أيضا أنه قال لما قالوا له : أتكلم أمواتا ؟ قال : { إنهم ليسمعون الآن ما أقول لهم } (٤)، وهذه الرواية ظاهرة الدلالة في أن سماعهم وتكليمهم هو نوع تبكيم وتعذيب لهم ، وزيادة (الان) زيادة صحيحة ظاهرة ، وبها يجتمع قول من نفى وقول من أثبت ، فيكون الإثبات بالسماع فيه تخصيص لهم بتلك الحالة ، لازدياد تبكيتهم وتعذيبهم أحياء وميتين .
والعلماء ألفوا في هذا أيضا تآليف في ثلاثة اتجاهات : يعني : في القول الأول ، والثاني ، والثالث .
وابن القيم في كتاب الروح توسع فيها هذا على القول الثاني ، لكن هذا القول أو غيره ليس موافقا لقول المشركين الذين يجيزون مناداة الميت ، وسؤال الميت الحاجات ، وطلب تفريج الكربات ، وإغاثة اللهفات ، ونذر النذور ليخاطبوه ، وليستغيثوا به ، أو يستشفعوا به ، هذا غير داخل في المسألة ، لكن هذه المسألة أساس يروّج به من دعا إلى الشرك ، لأنهم يعتمدون على مثل هذه الأقوال.
صنف إبن القيم كتاب الروح ، وبحث فيه هذه المسألة ، وتوسع فيها جدا ، حتى إنه رحمه الله نقل منامات وحكايات في هذا المقام من قبيل الشواهد على طريقته ، لمن ااعبرة بما دل عليه الدليل من الكتاب والسنة . ولا مُتَمَسِّك في كلام إبن القيم لمن زعم أن الموتى يغيثون ، وأنهم يسمعون ، ويجيبون من سألهم ، ...... إلى آخره ، بل إبن القيم رحمه الله ، مع ما أورد رد على المشركين والخرافيين وأهل البدع والضلال الذين يصفون الأموات بأوصاف الإله -جل الله عما ادعى المدعون- ، وهناك من ذهب إلى المنع مطلقا ، وهم عدد من أهل العلم ، ومذهب الحنفية بالخصوص ، وتأليف طائفة من الحنفية في هذا الباب على هذا الأساس ، من أن الأموات لا يسمعون أصلا ، فكيف يبلّغون ؟! وكيف يجيبون ؟! والصواب الذي عليه الدليل هو التفصيل الذي مرّ ذكره.
أما السلام - سلام النبي صلى الله عليه وسلم - ذكر شيخ الإسلام في رده على البكري قاعدة مهمة في فحوى كلامه ، وهي أن الميت - على القول بسماعه وسماع النبي صلى الله عليه وسلم بخصوص - لا يسمع بقوة هي أكبر من قوته في الدنيا ، لا يسمع البعيد ، لأن إعطاءه قوة أكبر من قوته في الدنيا على السماع هذا باطل ، ولم يدل عليه أصل ، ولم يقل به أحد ، ولهذا جاء في بعض الآثار ، جاء في بعض الأحاديث - وإن كان فيها مقال طبعا ، وفيها تعليل وبحث معروف - : { من سلم علي عند قبري أجبته أو رددت عليه ، ومن سلم علي بعيدا بلّغته } ، وهذا الصواب فيه أنه من قول بعض السلف ، يعني : استظهارا بأن من سلم قريبا أجيب ، ومن سلم بعيدا بلّغ ، ولا يصح الحديث في ذلك.
والمقصود من هذا أن تبليغ سلام من سلم للنبي صلى الله عليه وسلم يدل على أنه ليس عنده قوة تحضر في كل مكان ، من سلم عليه صلى الله عليه وسلم عند قبره ، فله حكم من سلم عليه عند قبره ، يرد عليه السلام ، والآن القبر بعيد ، قبر النبي صلى الله عليه وسلم بعيد ، ليس قريبا ، وبينك وبينه أربعة جدران - جدران كبيرة - فإذا تكلم المرء خافتا بأدب وسلم ( السلام عليك يا رسول الله ) بهدوء ، فإنه لو كان صلى الله عليه وسلم حيا في مكانه - يعني : في غرفته ، في حجرته التي دفن فيها - لما سمع ، ولهذا ليس ثم فيه إلا التبليغ الآن ، أنه يبلَّغ ، الملائكة تبلغه من سلم عليه ، لأن الذي يسلم بعيد ، ولا يسمع ، فذكر إبن تيمية أنه لم يدل دليل على أنه يعطى قوة غير القوة التي كانت معه في الدنيا ، فلو قيل : إن الميت يسمع ، الميت عامة يسمع ، فإنه لا يسمع من يكلمه من خلف المقبرة ، أو بينه وبينه عشرون مترا ، ويتكلم بهدوء ، أو نحو ذلك ، فإن هذا من وسائل الاعتقادات الباطلة ، أو من وسائل الشرك والخرافة ، أما النبي صلى الله عليه وسلم ، فحياته حياة كاملة برزخية ، ولا شك أكمل من حياة الشهداء على كل حال . [ شرح الطحاوية ]
الأجوبة والبحوث والمدارسات المشتملة عليها الدروس العلمية للعلامة صالح آل الشيخ حفظه الله(٢ /٢٩٨-٣٠٢)
________________________________________
(١) أخرجه الطبراني في الأوسط(٤٤/٥) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢)أخرجه الطبراني(٢٤٩/٨).
(٣)أخرجه مسلم ( ٢٨٧٤) من حديث أنس رضي الله عنه.
(٤)أخرجه النسائي( ٢٠٧٦ ) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.