بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله وكفى والصَّلاة على من لا نبي بعده؛ وبعد:
الحمد لله وكفى والصَّلاة على من لا نبي بعده؛ وبعد:
يحضرني هنا ـ وأنا أنظر إلى هذه القاعدة الخبيثة، وما جاء فيها من الشَّرِّ والخطر، وأيضاً بما لاح فيها من الهلاك والحذر!! ـ ذاك المثل القديم: "هذه شنشنةٌ نعرفها من أخزم!!!".
نعم! هي قاعدة ليست بالجديدة هنا ولا بالقديمة عنَّا، ولا غائبةٌ عن الجزائر ولا عن بعض أفرادها القدامى(1)، ولا عن غيرها من البلدان الأخرى، بل هي وكما يقال: "هدنةٌ على دخن". فقد عادت من جديدٍ لتطلَّ أو لتظهر مرَّة أخرى في السَّاحة ـ كما هو الواقع!! ـ حتَّى كدنا نقول أنَّه قد امتنع خفاؤها، بل عادت! وعادت معها فتنتها وشبهتها وخداعها وشررها بين النَّاس، فحصدت على إثر ذلك الأنفس والألسن، وأتعبتها أيَّما تعب. بل لقد تأثَّر بها بعض الأغرار ـ من الأحداث المميَّعين!!! ـ ممَّن تستهويهم زخارف القول، وتغريهم لوامع (الظُّهور!!!) و(التصدُّر!!!)، إلاَّ ـ فقط ـ بقايا من عباده السَّلفيِّين الذين اعتمدوا على الكبار وأخذوا عنهم، فلم يتحيَّروا في ظلمتها، ولم يشايعوا أهلها على شبهتها، وما ذاك منهم إلاَّ لأنَّهم اتَّخذوا ربَّهم حرزاً، كما اتَّخذوا دينه عزاً.
هؤلاء الكبار! ـ وفي زمن الفتنة هذه ـ هم بحقٍّ مصابيح النُّور في أفواههم تزهر، وألسنتهم بحجج الكتاب تنطق؛ فشتَّان ثمَّ شتَّان ما بين (الأحداث!!) و(الكبار!!) في زمن الفتنة، وهيهات ثمَّ هيهات! ما بين علمهما ودعوتهما!!
وهذا كبير (الأحداث!!) المدعو (عرعور)؛ هو رأسها في هذه الفتنة القائمة على ساق، كما أنَّه هو الأوَّل من أحدث وأذاع هذه القاعدة الخطيرة، وهو من أشاعها ـ أيضاً ـ في لبِّ النَّاس وعقولهم المشوَّشة، وبالخصوص هؤلاء (الأحداث!!) المميَّعين! من الأبواق والأعناق والأتباع والأشياع؛ وحتَّى من الرِّعاع! قد راحوا جميعاً ينشرونها بدورهم في كلِّ مكانٍ هنا وهناك؛ كما قيل: "قد أفرخ القوم بيضتهم". بل يصدق عليهم جميعاً!! ذاك المثل العربي القديم: "وافق شنٌّ طبقة". لأنَّ كلَّ ما يكون في خاطر المميَّع يظهر من الكلام الذي يخرج من فيه، وكلَّ وعاءٍ ما ينضح إلاَّ بما فيه.
فلمَّا كان الحال ذلك؛ وكان الحقُّ بين ذينك على شفا خطر وظهْر غرر!!؟ ادَّخر الله عزَّ وجلَّ عبده ـ الشَّيخ ربيع حفظه الله ـ ذخيرة لنيل كلِّ خطر، ودفع كلِّ خطير، ودحض كلِّ شبهة، وغلق كلِّ فهاهة؛ فقد ـ والله ـ فضح القوم وقاعدتهم، وتكلَّم على المميَّعين ودعوتهم؛ فلله درُّه!!!
ثمَّ وها هي الآن تعود إلينا من جديد ـ وبالضَّبط من مدينتنا أرزيو!! ـ لتزيد الطِّين بلَّة، أو حمأةٌ مدَّت بماء، وكأنِّي بها أشبه بـ "النَّعل حاضرة إن عادت العقرب" أو كما قيل.
فلمَّا رأينا ذلك؛ ورأينا كذلك شبهات الخلط واللَّبط عند المميَّعة، وكذا خوفا على الإخوة من الإغترار بهم وبقاعدتهم الباردة والفاسدة تارة، وبما قد "أبدى الصَّريح عن الرَّغوة" تارة أخرى؛ وأيضا بما جاء في أمثال العرب: "لا أخاف إلاَّ من سيل تلعتي". أردنا أن ندلو فيها دلونا بما تيسَّر؛ فنقول:
الرَّدُّ على هذه القاعدة الباطلة يكون ـ إن شاء الله ـ مبنيٌّ على مقدِّمتين:
(المقدِّمة الأولى): وهي هامَّة جداً! وهي في معرفة أصحاب الحديث ـ وبأنَّهم هم الطَّائفة المنصورة!!! ـ وكذا ثباتهم على الحقِّ، وبأنَّه هم حرَّاس الشَّريعة والدِّين؛ قال الخطيب البغدادي رحمه الله(2): "فقد جعل الله الطَّائفة المنصورة حرَّاس الدِّين، وصرف عنهم كيد المعاندين لتمسُّكهم بالشَّرع المتين، واقتفائهم آثار الصَّحابة والتَّابعين، فشأنهم حفظ الآثار، وقطع المفاوز والقفار، وركوب البراري والبحار في اقتباس ما شرع الرَّسول المصطفى لا يعوجون عنه إلى رأيٍ ولا هوى، قبلوا شريعته قولاً وفعلاً، وحرسوا سنَّته حفظاً ونقلاً، حتَّى أثبتوا بذلك أصلها وكانوا أحقَّ بها وأهلها، وكم من ملحدٍ يروم أن يخلط بالشَّريعة ما ليس منها، والله تعالى يذبُّ بأصحاب الحديث عنها، فهم الحفَّاظ لأركانها والقوَّامون بأمرها وشأنها إذا صدف النَّاس عن الدِّفاع عنها، فهم دونها يناضلون.. [أولئك حزب الله، ألا إنَّ حزب الله هم المفلحون]".
وقال(33): "وقد جعل الله تعالى أهلَه (أي الحديث) أركان الشَّريعة، وهدَّم بهم كلَّ بدعةٍ شنيعة، فهُم أمناءُ الله من خليقته، والواسطة بين النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأمَّته، والمجتهدون في حفظ ملَّته.. وكلُّ فئة تتحيَّز إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأياً تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث، فإنَّ الكتابَ عُدَّتُهم، والسنَّةَ حجَّتُهم، والرَّسولَ فئتُهم، وإليه نسبتهم، لا يعرِّجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى الآراء، يُقبل منهم ما رووا عن الرَّسول، وهم المأمونون عليه والعدول، حفظة الدِّين وخزنته وأوعية العلم وحملتُه".
وقال ابن حبَّان رحمه الله في مدحه لأهل الحديث ووصفه لهم: ".. ثمَّ اختار الله طائفة لصفوته، وهداهم لزوم طاعته، من اتِّباع سبل الأبرار، في لزوم السُّنن والآثار، فزيَّن قلوبهم بالإيمان، وأنطق ألسنتهم بالبيان من كشف أعلام دينه، واتِّباع سنن نبيِّه بالدؤوب في الرِّحَلِ والأسفار، وفراق الأهل والأوطار، في جمع السُّنن ورفض الأهواء، والتَّفقُّه فيها بترك الآراء، فتجرَّد القوم للحديث وطلبوه، ورحلوا فيه وكتبوه... حتَّى حفظ الله بهم الدِّين على المسلمين، وصانه من ثلب القادحين، وجعلهم عند التَّنازع أئمَّة الهدى، وفي النَّوازل مصابيح الدُّجى، فهم ورثة الأنبياء، ومأنس الأصفياء"(4).
قلت: وهذا هنا مصداقاً لما قاله صلَّى الله عليه وسلَّم في حقِّهم: (يحمل هذا العلم من كلِّ خلفٍ عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)(4). وما قاله الله عزَّ وجلَّ في محكم كتابه: (إنَّا نحن نزَّلنا الذِّكر وإنَّا له لحافظون)(5)؛ وهذا يقتضي أنّ شريعة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا تزال محفوظة, وسنته لا تبرح محروسة، فقد حفظ الله هذه الأمَّة بحفظ قرآنها وبتيسير معرفة الصَّحيح من سنَّة نبيِّها، حفظها من مزالق الزَّلل ومواطن الإنهيار، وذلك كلُّه بواسطة هذه الطَّائفة المنصورة؛ التي أعاذها الله تعالى من كيد الخنَّاس وأتباع الوسواس، كما حفظ بهم كتابه المبين وشرعه المتين؛ فرضي الله عنهم أجمعين.
(المقدِّمة الثَّانية): وهي من جهة الإجمال والتَّفصيل:
فأمَّا الإجمال: فهو أن تعلم ـ كما رأينا ذلك آنفاً ـ بأنَّ الله عزَّ وجلَّ قد تكفَّل بحفظ دينه وشريعته، فقيَّض من أجل ذلك الصَّحابة والتَّابعين ومن بعدهم من السَّلف الصَّالح بحفظ السنَّة; تارة بالتثبُّت في الرِّواية كما جاء عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه وغيره من الصَّحابة، وتارةً بالسُّؤال عن الإسناد، وتارةً بذكر أحوال الرُّواة وبيان من يؤخذ عنه الدِّين ومن لا يؤخذ عنه، وتارةً بوضع ضوابط عامَّة يعرف بها الحديث الموضوع وغيره(6).
كما قيل للإمام ابن المبارك هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: "يعيش لها الجهابذة"(7).
وقال ابن سيرين: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلمَّا وقعت الفتنة؛ قالوا: سمُّوا لنا رجالكم؛ فيُنظر إلى أهل السنَّة فيؤخذ حديثهم، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم"(.
وقال: "إنَّ هذا العلم دين؛ فانظروا عمَّن تأخذون دينكم"(9).
وقال ابن المبارك أيضاً: "الإسناد من الدِّين؛ ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"(10).
وقال: "بيننا وبين القوم القوائم - يعني الإسناد"(11).
وقال شعبة: "كنت أفرح بهذه النُّخبة(122) من الرِّجال، فصرت اليوم ليس شيء أبغض إليَّ من أن أرى واحداً منهم".
ويقول ابن عتبة ـ موجِّهاً كلامه لهؤلاء(13) ـ: "لو رآنا عمر وإيَّاكم لأوجعنا ضرباً".
وكان الشَّعبي يتنقَّل من راوٍ إلى راوٍ حتَّى قال يحيى بن سعيد: "وهذا أوَّل من فتَّش في الإسناد".
وقال أبو العالية: "كنَّا نسمع الرِّواية بالبصرة عن أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فما رضينا حتَّى رحلنا إليهم فسمعناها من أفواههم"(14).
وكان ابن عبَّاس لا يأذن للبعض أثناء الحديث؛ أي: لا يعطي المحدِّث أذنه ولا يصغي إليه، حتَّى إذا ما سئل في ذلك أجاب: "كنَّا إذا سمعنا الرَّجل يقول: قال رسول اللَّه صلَّى الله عليه وسلَّم ابتدرناه بأبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا؛ فلمَّا ركب النَّاس الصَّعب والذَّلول لم نأخذ من النَّاس إلاَّ ما نعرف"(15).
وقال الثَّوري: "لمَّا استعمل الرُّواة الكذب استعملنا لهم التَّاريخ".
قلت: فهذا هنا فيضٌ من غيضٍ كما يقال، وبعضٌ من درر وجواهر تلك الطَّائفة المنصورة أو لنقل ذاك (الجيل المثالي!!!)، في وضع اللَّبنة الأولى لـ (علم الجرح والتَّعديل!!). ثمَّ ولقد انتدب في ذلك الزَّمان لنقد الرَّجال الحافظان: يحيى بن سعيد القطَّان وعبد الرَّحمن بن مهدي؛ وكانا محلُّ ثقة بين النَّاس! فمن وثَّقاه صار موثوقاً عندهم ومن جرَّحاه صار مجروحاً. ومن اختلفا فيه - وهو قليل - رجع النَّاس فيه إلى ما ترجَّح عندهم. ثمَّ ظهرت طبقة أخرى يرجع إليهم من هذا الفنِّ منهم يزيد بن هارون وأبو داود الطَّيالسي وعبد الرزَّاق بن همَّام وأبو عاصم النَّبيل بن مخلد.
ثمَّ صنِّفت ـ بعد ذلك ـ الكتب في (الجرح والتَّعديل) و(العلل)، وبيِّنت فيها أحوال الرِّجال، وكان أقطاب الجرح والتَّعديل آنئذٍ جماعة؛ منهم: يحيى بن معين من طبقة أحمد بن حنبل، وكاتب الواقدي محمَّد بن سعد وأبو خيثمة زهير بن حرب وأبو جعفر النَّبيل وعلي بن المديني وابن نمير وأبو بكر بن أبي شيبة صاحب "المصنَّف" المعروف؛ وكلُّ هؤلاء من أئمَّة الجرح والتَعديل! وقد وضعوا في ذلك المؤلَّفات، فمنهم من تكلَّم عن الضُّعفاء من الرُّواة وآخرون اقتصروا على الثِّقات وبعضهم جمع بين النَّوعين(16).
وهذا منهم ـ كما ترى أيُّها النَّبيه! ـ هو فقط للحفاظ على الدِّين وشرعه، وعلى السنَّة وهديها، وعلى الفقه وأحكامه، وعلى المنهج وأصوله، وعلى العقيدة ومصادرها، بل فقط ـ وفقط ـ للحفاظ على ما كانت عليه القرون الثَّلاثة المفضَّلة؛ من غير زيادةٍ ولا نقصان، ومن غير تأويلٍ ولا تعطيل، وكذا لبيان الثِّقات والضُّعفاء، ومن هو صالح للأخذ عنه ـ ما يتعلَّق بأمور الدِّين من عبادةٍ أو سلوكٍ ـ ومن هو غير صالح، بل هم رضي الله عنهم لم يفرِّقوا البتَّة ما بين رجال أهل الرِّواية وأهل الفقه، ولا ما بين رجال الزُّهد والسُّلوك، ولا ما بين رجال الفرقة الفلانية والفرقة العلاَّنية؛ فالكلُّ سواء هنا في باب الجرح والتَّعديل! لأنَّ الجامع بينهم هو الدِّين؛ فلا يخرجون من هذا الميزان الدَّقيق.
وإذا فهمنا هذا! حينها يمكن لنا القول وهو:
وأمَّا التَّفصيل: فإنَّ هؤلاء الأئمَّة ـ وباعتبارهم ـ هم من قنَّنوا قانون (الجرح والتَّعديل)، وكذا من أصَّلوا أصوله وقواعده وضوابطه؛ فهم ـ بلا ريبٍ!!! ـ من أعلم النَّاس بأحوال تطبيقاته العلميَّة والعمليَّة، ومن أدرى النَّاس بواقع المجروحين، فضلاً عن خبرتهم الواسعة بالقرائن والشَّواهد الدَّالَّة عليهم. ثمَّ وعلى سبيل التَّوضيح نذكر هنا مثلاَ هذه النَّماذج للبيان والتَّبيان:
ـ فهذا ابن أنيسة؛ يقول: "لا تأخذوا عن أخي". وهذا منه جرحاً له.
ـ ومثله عليُّ بن المديني؛ يقول عن أبيه: "سلوا عنه غيري". ومن الملاحظ عنهما ـ أي ابن أنيسة وابن المديني ـ أنَّهما لم تأخذهما العاطفة ولا القرابة في غمزهما. فكيف والحال ذلك؛ لم يطبِّقا عليهما القاعدة المولَّدة والمميَّعة (نصحِّح ولا نجرِّح!!)؛ فلما إذاً لم يفعلا ذلك؟!!
ـ وقيل لعليِّ بن عثَّام رجلٌ يقول: ليس في حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقه؛ فقال: "هذا فاجر؛ فأين الفقه وأين الخير إلاَّ فيه!!؟"(17). والشَّاهد فيه قوله: "هذا فاجر"؛ وهذا تجريح له كما ترى! فلماذا إذاً لم يصحِّح له كلامه أو مقصده أو ما شابه؛ بل على العكس جرَّحه وكفى بها من حقٍّ.
ـ وقال سفيان بن عيينة لرجل: من أين جئت؟ فقال الرَّجل: من جنازة فلان. فقال سفيان: "اتَّبعت رجل يشتم الصَّحابة! لا أحدِّثك سنة"(1. فلماذا هو الآخر لم يصحِّح له ـ ما يراه المميَّع ـ من قاعدته الباطلة والعاطلة؟!!
ـ ويقول أيُّوب السِّختياني: "إذا حدَّثت الرَّجل بالسنَّة؛ فقال: دعنا من هذا وحدِّثنا بالقرآن؛ فاعلم أنَّه ضال"(19). وهذا واضح في تجريح من يصدر عنه مثل هذا أو شبيه؛ فلماذا لم يقل تتبَّعوا كلامه وصحِّحوه؟!!
ـ وقال عليُّ الطَّيالسي: مسحت يدي على أحمد بن حنبل وهو ينظر، فغضب وجعل ينفض يده؛ ويقول: "عمَّن أخذتم هذا؟!"(20). وهذا إنكار منه شديد على الفعل؛ وقد يكون أيضاً تجريحا لفاعله. فلماذا والحال ذلك! لم يصحِّح فعله بدل من الغضب عليه؟!!
ـ وقال أحمد: "علماء الكلام زنادقة". فلما حكم عليهم بالزَّندقة بدل من أن يصحِّح لهم مقالاتهم ودعاويهم؟! لما يا ترى؟!!!
ـ وقال أبو إسماعيل محمَّد بن إسماعيل التِّرمذي: "كنت أنا وأحمد بن الحسن التِّرمذي عند أبى عبد الله أحمد بن محمَّد بن حنبل؛ فقال له أحمد بن الحسن: يا أبا عبد الله! ذكروا لابن أبى فتيلة بمكَّة أصحاب الحديث؛ فقال: أصحاب الحديث قوم سوء، فقام أبو عبد الله وهو ينفض ثوبه؛ فقال: زنديق زنديق زنديق! ودخل البيت". فلماذا لم يصحِّح كلامه أو يؤخذه على أحسن الوجوه أو يظنَّ به خيراً؟ وأين هذه القاعدة المريضة عند الإمام أحمد في تطبيقها على ذاك أبي فتيلة؟!
ـ وقال صالح بن محمَّد الحافظ: "كلُّ شيء كان يحدِّثنا به ابن حميد نتَّهمه فيه". من غير استثناء ولا تصحيح؛ فلما لم يطبِّق عليه القاعدة المميَّعة؟!!
ـ وقال فضيل بن عيَّاض: "عملٌ قليلٌ في سنَّةٍ خير من عمل صاحب بدعة، وإذا رأيتم الرَّجل يجلس مع صاحب بدعة فاحذروه، ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة". ومثل هذا الكلام كثير عند أئمَّة السَّلف، ثمَّ الشَّاهد فيه هو قوله: "يجلس مع صاحب بدعة"؛ فلما لم يصحِّح له باعتبار قاعدة (نصحِّح ولا نجرِّح)؟!!
ـ وقال مهدي بن جعفر بن عبد الله: "جاء رجلٌ إلى مالك بن أنس؛ فقال له: يا أبا عبد الله! (الرَّحمن على العرش استوى)؛ كيف استوى؟ قال: فما رأيت مالكاً وجد من شيءٍ كوجدته من مقالته، وعلاه الرَّحضاء يعني العرق، وأطرق القوم وجعلوا ينتظرون ما يأتي منه؛ فقال: فسري عنه؛ فقال: الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسُّؤال عنه بدعة. فإنِّي أخاف أن تكون ضالاً وأمر به فأخرج".
وفي رواية عبد الله بن وهب؛ قال: "كنَّا عند مالك بن أنس فدخل رجلٌ فقال: يا أبا عبد الله! (الرَّحمن على العرش استوى) كيف استواؤه؟ قال: فاطرق مالك وأخذته الرَّحضاء، ثمَّ رفع رأسه فقال: (الرَّحمن على العرش استوى) كما وصف نفسه ولا يقال له كيف، وكيف عنه مرفوع؛ وأنت رجل سوءٍ صاحب بدعة. أخرجوه! قال: فأخرج الرَّجل".
فلماذا قال الإمام مالك رحمه الله في ذاك الرَّجل السَّائل ما قاله، ولم يصحِّح له قصده أو مأخذه؛ بل رماه بأنَّه رجل سوء وصاحب بدعة؟ فأين هي قاعدة المميَّع ودعاتها في مقالة مالك؟!!!
ـ وروى العقيلي في "الضُّعفاء"(1/144) عن بشر بن عمر؛ قال: "سألت مالك بن أنس عن رجلٍ؛ فقال: هل رأيته في كتبي؟ قلت: لا, قال: لو كان ثقة لرأيته في كتبي". فلما لم يصحِّح مالك حاله ويروي عنه؟!!
ـ وقال البردعي: شهدت أبا زرعة سئل عن الحارث المحاسبي وكتبه؟ فقلت للسَّائل: إيَّاك وهذه الكتب! هذه كتب بدعٍ وضلالات؛ عليك بالأثر، فإنَّك تجد فيه ما يغني عن هذه الكتب. قيل له: في هذه الكتب عبرة؛ قال: "من لم يكن له في كتاب الله عبرةٌ فليس له في هذه الكتب عبرة، بلغكم أنَّ مالك بن أنس وسفيان الثَّوري والأوزاعي، والأئمَّة المتقدِّمين صنَّفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء، هؤلاء قومٌ خالفوا أهل العلم فأتونا مرَّة بالحارث المحاسبي، ومرَّة بعبد الرَّحيم الذبيلي، ومرَّة بحاتم الأصمِّ، ومرَّة بشقيق البلخي". ثمَّ قال: "ما أسرع النَّاس إلى البدع"(21).
ومثله ما رواه أبو بكر الخلاَّل في كتاب "السنَّة" عن أحمد بن جنبل أنَّه قال: "حذِّروا من الحارث أشدَّ التَّحذير، أصل البليَّة يعني في حوادث الكلام جهم ذاك جالسه فلان وفلان، وأخرجهم إلى رأي جهم، ما زال مأوى أصحاب الكلام حارث بمنزلة المرابط، انظر أيَّ يوم يثبُّ على النَّاس".
فهما ـ يعني أحمد وأبا زرعة ـ لما لم يصحِّحا ابتداء مخرجه وواقع حاله؟ وأين تلك القاعدة هنا؟
قلت: إنَّ هنالك من النُّصوص الكثيرة والنُّقولات الوفيرة في هذا المقصد والمعنى ما لا يحصى، ويكفينا هنا ما ألحقناه وذكرناه؛ المهمُّ أنَّ جميعها قد دلَّت دلالة واضحة على تطبيق قاعدة الجرح تلك، إمَّا في الرُّواة وإمَّا في الفقهاء وإمَّا في أهل السُّلوك؛ لا فرق في تطبيقها بينهم وبين غيرهم. كما أنَّ ردودهم على أهل البدع عند ظهور البدع هو من قَبيل بيان الحقِّ عند ظهور الباطل، وليس مجرَّد ردود أفعال كما يبدو.
فهم رضي الله عنهم لا يعرفون ما أطلقوا عليه مميِّعي زماننا بـ (نصحِّح ولا نجرِّح)، ولا توجد في واقع تطبيقاتهم كما رأينا آنفاً، ولا خطرت حتَّى في نيَّاتهم وخواطرهم؛ بل هي متنافية ومتناقضة ـ تمام الإنتفاء والنَّقض ـ مع قاعدتهم (الجرح والتَّعديل)، بل مفادها ـ أي قاعدة المميَّع ـ أنَّها تنفي ما أسَّسوه هؤلاء الأئمَّة من الجيل المثالي، وتنفي ما جاء به الكتاب والسنَّة، وما صنَّفوه أئمَّة الجرح والتَّعديل من تلك المصنَّفات الكثيرة: في الضُّعفاء والمجروحين والمتروكين، وتنفي كذلك ما جاء من قول عليُّ بن المديني: "الفقه في معاني الحديث نصف العلم، ومعرفة الرِّجال نصف العلم".
فقوله رحمه الله "ومعرفة الرِّجال نصف العلم": تدلُّ صراحة على ما هم عليه من الحقِّ في قاعدة (الجح والتَّعديل)؛ فلا يعني من كلامه هذا إلاَّ ما أشرنا إليه آنفاً؛ وهو الحقُّ بلا ريبٍ! وأمَّا قاعدة المميَّع تلك (نصحِّح ولا نجرِّح) فهي بلا ريبٍ باطلة وعاطلة، بل ينطبق عليها المبدأ القائل: فرِّق تسد، أو بما قيل: عنزةٍ ولو طارت! المهمُّ أنَّ صاحبها والدَّافعون عنها هم فقط أناس اتَّبعوا هواهم. وفي الأثر: "من أطاع هواه باع دينه بدنياه"؛ والله المستعان ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله.
وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.
كتبه بقلمه العبد الفقير:
أبو حامد الإدريسي
يوم الأربعاء 03 جمادي الأولى 1438هـ
الموافق لـ 01 فيفري 20177م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ
(1) لقد سمعنا هذه القاعدة الملعونة لمَّا جاء هذا المدعو (عدنان عرعور) إلى العاصمة في التَّسعينيَّات [إمَّا في 92 أو 93] بدعوة منه من حركة الإنقاد أنذاك؛ فممَّا حاضر النَّاس بأحد مساجد العاصمة وذكر فيها جملة من قواعده الباطلة والعاطلة؛ ومنها قاعدة الباب!!!
(2) أنظر "شرف أصحاب الحديث"(ص/10) للخطيب البغدادي.
(3) نفس المصدر (ص/8و9).
(4) أنظر مقدّمة "صحيحه الإحسان"(1/100و101).
(5) صحَّحه الحافظ ابن عبد البرِّ، وحسَّنه الحافظ العلاَّئي.
(5) سورة الحجر، الآية:9.
(6) أنظر :الإعلام في إيضاح ما خفي على الإمام"(ص/4) لأبي عبد الله السنيد [بتصرف].
(7) رواه ابن أبي حاتم في تقدمة "الجرح والتَّعديل"(1/3) عن أبيه؛ قال: أخبرني عبدة بن سليمان؛ قال: فذكره.
( رواه مسلم في مقدِّمة "صحيحه"(1/ 84 نووي) عن ابن سيرين؛ قال: فذكره.
(9) ورواه أيضاً (1/ 84) من طريق أيُّوب وهشام ـ هو ابن حسَّان ـ عن محمَّد بن سيرين؛ قال: فذكره.
(10) ورواه (1/ 87) عن عبد الله بن المبارك قوله: فذكره.
(11) في (1/ 8.
(12) يعني بها القصَّاص الملفَّقين والمرتزقين المتكسِّبين، والجهلة بأحكام الشَّرع والدِّين، الذين يبثُّون الغرائب والمناكير، فكان مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً!!!
(13) أي هؤلاء القصَّاصين والمتطفِلين على الرِّواية وعلى الشَّرع الحنيف.
(14) أنظر مقدِّمة "التَّمهيد"(ص/15) لابن عبد البرِّ.
(15) أنظر "صحيح مسلم"(1/81).
(16) أنظر مقدمة "التلخيص الحبير"(1/2.
(17) أنظر "ذم الكلام"(ص/234).
(1 أنظر "اللالكائي"(243.
(19) أنظر "الحجَّة على تارك المحجة"(2/492).
(20) أنظر "سير أعلام النبلاء"(11/226).
(21) أنظر "الضُّعفاء"(2/562) لأبي زرعة الرَّازي.