بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله والصَّلاة والسَّلام على من لا نبي بعده؛ أمَّا بعد:
الحمد لله والصَّلاة والسَّلام على من لا نبي بعده؛ أمَّا بعد:
اعلم أيُّها القارئ النَّبيه! أنَّه ومن الجدير بالذِّكر هنا! أن تعلم ـــ بارك الله فيك ونفع بك وزادك حرصاً على ما ينفعك!!! ـــ؛ باعتبارك مسلماً؛ وحلقةً من حلقات الإسلام والإيمان، وباعتبارك سنيًّا؛ وأثرةً من أثر أهل الأتباع والمتابعة، بأنَّ خير الدِّين عندك وكذا عند السَّلف والخلف هو "الورع!!" الذي قيل فيه ما قيل، وجمع فيه من الأخبار والآثار ما جمع، فبه تتحرَّى عن فعلك، وبه تتحرَّج خوفاً عن دينك، وقد قالوا قديماً: "لا معقل أحرز من الورع"، وقالوا: "ملاك الدِّين الورع".
ثمَّ واعلم! أنَّ العاقل يتَّقي على رأيه الزَّلل كما يتَّقي الورع على دينه الحرج. فقد قيل لابن سيرين: "ما أشدُّ الورع! قال: ما أيسره! إذا شككت في شيء فدعه". فالورع هذا ـــ إذن ـــ هو الوقوف مع الشَّرع. ولذلك قالوا: لا خير في الفقه إلاَّ مع الورع.
فإذا لم تتورَّع من إهمالك لصلاة الجماعة ـــ على جلالتها وعظمتها في الشَّريعة الغرَّاء! ـــ بقصدٍ أو عن غير قصد؛ فعن أيِّ شيء تتورَّع؟!! وقد ثبت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وصحابته رضي الله عنهم صلاتها دائماً وأبداً، في الحضر والسَّفر، وفي المرض والعرض، بل في كلِّ شأنٍ وحالٍ؛ إذ لم يتركوها أبداً إلاَّ لعذر جامحٍ قوي؛ وهو الثَّابت المعلوم. فهكذا كانوا رضي الله عنهم وهكذا ماتوا عليها، وهكذا أخذوا عنهم جميعاً ورووا عنهم؛ في إقامتها وصلاتها وفي الحفاظ عليها والتَّرغيب إليها!!!
فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (من سمع النِّداء فلم يجب فلا صلاة له إلاَّ من عذر)(1).
وقال الإمام أحمد: يروى عن عليِّ وابن مسعود وابن عبَّاس بلفظ: (من سمع النِّداء فلم يجب فلا صلاة له)(2).
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (كنَّا إذا فقدنا الرَّجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظَّنَّ)(3).
وقال ابن مسعود: (من سرَّه أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصَّلوات حيث ينادى بهنَّ)(4).
وروى عنه أيضا: (إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم علّمنا سنن الهدى، وإنَّ من سنن الهدى الصَّلاة في المسجد الذي أذِّن فيه)(5).
وروى أيضا: (لوأنَّكم صلَّيتم في بيوتكم كما يصلِّي هذا المتخلِّف في بيته لتركتم سنَّة نبيِّكم، ولوترتكم سنَّة نبيِّكم لضللتم)(6).
وقال البخاري: (باب وجوب صلاة الجماعة، وقال الحسن رضي الله عنه: "إذا منعته أمُّه عن العشاء في جماعة فلا يطعها").
وقال ابن تيميَّة(7): (صلاة الجماعة فرض عين عند أكثر السَّلف وأئمَّة أهل الحديث كإسحاق وأحمد وغيرهما وطائفةٌ من أصحاب الشَّافعي).
وقال: (من داوم على ترك السُّنن الرَّاتبة فإنَّه باتِّفاق الأئمَّة تسقط عدالته، فكيف بترك صلاة الجماعة التي هي أعظم شعائر الإسلام).
قلت: إذا عرفنا هذا! وعرفنا أيضاً أنَّ أحسن الإقتداء هو الإقتداء بالنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وبأصحابه؛ ومن أصحابه أبو بكر وعمر! وكذا ابن مسعود، قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمَّار، وتمسَّكوا بعهد إبن أم عبد)(.
وكتب عمر للكوفة: (بعثت إليكم عمَّار بن ياسر...وابن مسعود معلِّماً ووزيراً؛ وهما من النُّجباء من أصحاب محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم من أهل بدر؛ فاقتدوا بهما واسمعوا قولهما...).
وسُئل حذيفة رضي الله عنه عن رجلٍ قريب الهدي بالنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى يؤخذ عنه العلم؛ فقال: (ما أعرف أحداً أقرب سمتاً وهدياً ودَلاًّ من النَّبيِّ من ابن مسعود)(9).
وفي قصة(10) كعب بن مالك وتخلُّفه عن غزوة تبوك وهجر النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم له ولصاحبيه؛ وقال: (أمَّا صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأمَّا أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدهم؛ فكنت أخرج فأشهد الصَّلاة مع المسلمين...)، ولم يكن ذلك عذرًا لأحدٍ في التخلُّف عن صلاة الجماعة! مع أنَّ كعباً يشهدها وهو مهجور من النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه.
وقال ابن عمر: (خرج عمر يوماً إلى حائطٍ له، فرجع وقد صلَّى النَّاس العصر؛ فقال عمر: إنا لله وإنَّا إليه راجعون. فاتتني صلاة العصر في الجماعة! أشهدكم أنَّ حائطي على المساكين صدقة).
وكان ابن عمر: إذا فاتته صلاة الجماعة صام يومًا، وأحيا ليلة، وأعتق رقبة.
وقال سعيد بن المسيِّب: (ما أذَّن مؤذِّن منذ عشرين سنة إلاَّ وأنا في المسجد).
وقال: (ما فاتتني الصَّلاة في جماعةٍ منذ أربعين سنة).
وقال: (من حافظ على الصَّلوات الخمس في جماعةٍ فقد ملأ البر والبحر عبادة).
وقال محمَّد بن واسع: (ما أشتهي من الدُّنيا إلاَّ ثلاثة: أخاً إنَّه إن تعوَّجت قوَّمني، وقوتاً من الرِّزق عَفْواً من غير تَبعةٍ، وصلاة في جماعة يرفع عنِّي سهوها ويكتب لي فضلها).
وقال حاتم الأصمِّ: (فاتتني الصَّلاة في الجماعة! فعزَّاني أبو إسحاق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لعزَّاني أكثر من عشر آلاف؛ لأنَّ مصيبة الدِّين أهون عند النَّاس من مصيبة الدُّنيا).
وروي أنَّ ميمون بن مهران أتى المسجد فقيل له: إنَّ النَّاس قد انصرفوا؛ فقال: (إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون! لفضل هذه الصَّلاة أحبُّ إليَّ من ولاية العراق).
وقال أبو سليمان الدَّاراني: (لا تفوت أحداً صلاة الجماعة إلاَّ بذنبٍ).
وقال محمَّد بن المبارك الصُّوري أنه: (كان سعيدٌ(11) إذا فاتته صلاة الجماعة بكى).
وقال غسان: حدَّثني ابن أخي بشر بن منصور رحمه الله؛ قال: (ما رأيت عمِّي فاتته التَّكبيرة الأولى).
وقال وكيع: (كان الأعمش رحمه الله قريباً من سبعين سنة لم تفته التَّكبيرة الأولى، واختلفت إليه قريباً من سنتين، فما رأيته يقضي ركعة).
وقال وكيع بن الجراح رحمه الله: (من تهاون بالتَّكبيرة الأولى فاغسل يديك منه).
وعن محمَّد بن سماعة القاضي رحمه الله أنَّه قال: (مكثت أربعين سنة لم تفتني التَّكبيرة الأولى إلاَّ يوماً واحداً ماتت فيه أمِّي، ففاتني فيه صلاة واحدة في جماعة، فقمت فصلَّيت خمساً وعشرين صلاة؛ أريد بذلك التَّضعيف فغلبتني عيني، فأتاني آتٍ فقال: يا محمَّد! قد صلَّيت خمسا وعشرين صلاة ولكن كيف لك بتأمين الملائكة؟!!).
وعن مخلد بن الحسين؛ قال: (كان بالبصرة رجلٌ يقال له شدَّاد، أصابه الجذام فتقطَّع فدخل عليه عوَّاده من أصحاب الحسن؛ فقال: كيف تجدك؟ قال: بخير! أما إنَّه ما فاتني جزئي باللَّيل، وقد سقطت وما بي إلاَّ أنِّي لا أقدر أن أحضر صلاة الجماعة).
وأورد الإمام الذَّهبي في ((سير أعلام النُّبلاء)) عن أبي حيَّان، عن أبيه؛ قال: (كان الرَّبيع بن خثيم يقاد إلى الصَّلاة وبه الفالج؛ فقيل له: قد رخِّص لك. قال: إنِّي أسمع وحيَّ على الصَّلاة! فإن استطعتم أن تأتوها ولو حبوا).
وقال ابن يونس في أبو عبد الله الدِّيباجي التُّستري: (كان يلزم صلاة الجماعة في المسجد، وكان يلزم صلاة الجمعة، وكان من أهل الورع والتوقُّف في الحديث).
فالسَّلف من أهل الحديث والفقهاء والزهَّاد وأهل الورع قاطبة؛ كلُّهم كانوا على ذلك في صلاة الجماعة! لا يتخلَّف عنها إلاَّ ذوي الأعذار المعلوم عذرهم، وأمَّا من في قلوبهم مرض النِّفاق والشُّبهات من أهل البدعة والضَّلالة والتميُّع؛ فهؤلاء من أصحاب الهوى والشُّبهات، ومن متتبِّعي الرُّخص والفتاوى الشَّاذَّة وغيرهم، وخاصَّة أنَّه عندنا نحن هنا في مدينتنا (أرزيو!!!) من يقولها بكل جهالةٍ وفضاحة أنَّها ليست بواجبة، ممَّا قد تراه لا يؤدُّيها في المساجد، فممَّا وجب ـــ عندها ـــ التَّحذير بقوَّةٍ والإنتباه من هذا الشَّذوذ والتميُّع السَّائب والمفرط في أمثال هؤلاء وما أكثرهم! وما أجرؤهم على الباطل! في نشره على أصحاب الهوى وبائعي الضَّمائر ومريضي القلوب والنُّفوس، بل ما أحقرهم لمَّا باعوا دينهم بدنياهم! ولمَّا أرادوا من هذه الشَّعيرة ـــ وهي صلاة الجماعة ـــ أن تسقط ولا يكون لها هيبة في بيوت الله تعالى؛ بزعمهم الباطل والعاطل أنَّها ليست بواجبة.
فمن باب الورع الذي ذكرناه لك سابقاً؛ أنَّك من هؤلاء جميعاً أن تفرَّ وتولِّي الدُّبر، وتحذِّر منهم بما تستطيع وتقدر، وتنبِّه النَّاس على ما فيهم من الأخطاء وما عندهم من الشُّبهات؛ واعلم بأنَّ هؤلاء أيضاً ـــ هم فقط ـــ زمرة من الصَّادِّين عن دين الله بلا هدى من الله ولا كتاب مبين. واعلم أنَّه من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنَّة لم يزدد من الله إلاَّ بعداً.
فمن البدعة فُر! وعظِّم أمر (صلاة الجماعة!!) في قلوب النَّاس! وبين العامَّة والخاصَّة، وبين المثقَّفين والأميِّين، في كلِّ مكان وفي كلِّ المنتديات واللِّقاءات، ورغِّبهم بما كان عليه الجيل المثالي من ذاك السَّلف الصَّالح؛ وكيف كانوا مع (صلاة الجماعة!!)، بل علِّق النَّاس بهم وبعباداتهم وطاعاتهم التي هي خير العبادات وخير الطَّاعات في كلِّ زمانٍ ومكانٍ! يكفي هذا قائلهم ـــ وهو إبراهيم النَّخعي ـــ يقول: "إذا رأيت الرَّجل يتهاون بالتَّكبيرة الأولى، فاغسل يدك منه"(12).
وهذا معاذ بن جبل رضي الله عنه؛ يقول: "من سرَّه أن يأتي الله عزَّ وجلَّ وهو آمن، فليأت هذه الصَّلوات الخمس حيث ينادى بهنَّ، فإنَّهنَّ من سنن الهدى، وممَّا سنَّه لكم نبيُّكم صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا يقل إنَّ لي مصلَّى في بيتي فأصلِّي فيه، فإنَّكم إن فعلتم ذلك تركتم سنَّة نبيِّكم، ولو تركتم سنَّة نبيِّكم صلَّى الله عليه وسلَّم لضللتم"(13).
ولا تلتفت أبداً إلى من أطاع هواه وباع دينه بغواه، فقد علمت الحقَّ مع ذاك الجيل المثالي، كما علمت أيضاً أنَّ الباطل مع هؤلاء المميَّعين من أفراخ البدعة والضَّلالة؛ والله المستعان.
بقلم: العبد الفقير أبو حامد الإدريسي
أرزيو يوم: الثلاثاء 11 ربيع الثاني 1438هـ
الموافق لـ 10 جانفي 2017م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
(1) قال ابن حجر: رواه ابن أصبغ موقوفاً ومرفوعاً، وإسناده صحيح. وأخرجه ابن ماجَّة وابن حبَّان والبغوي والطَّبراني.
(2) أنظر ((مسائل صالح)).
(3) يقصد فقدوه في صلاة الجماعة، رواه البزَّار وصحَّحه الألباني رحمه الله.
(4) يقصد في المساجد، رواه مسلم.
(5) رواه مسلم.
(6) يقصد عن جماعة المسجد! رواه مسلم.
(7) أنظر ((المجموع))(23/252).
( يقصد ابن مسعود؛ رواه التِّرمذي وحسَّنه وصحَّحه الألباني.
(9) رواه البخاري.
(10) رواه البخاري ومسلم.
(11) هو سعيد بن عبد العزيز.
(12) أنظر ((صفوة الصفوة))(3/60).
أنظر ((تهذيب الحلية))(1/184).