من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، وكل ما هو آت قريب. إن ربكم لم يخلقكم عبثاً ولم يترككم سدىً، فتزوّدوا من دنياكم ما تحرزون به أنفسكم غداً. فالأجل مستور، والأمل خادع. تمر الجنائز بالناس يجهزونها ويصلون عليها ويسيرون خلفها يشيعونها محمولة إلى مثواها. فتراهم يلقون عليها نظرات عابرة، وربما طاف بهم طائف من الحزن يسير. أو أظلهم ظلال من الكآبة خفيف. ثم سرعان ما يغلب على الناس نشوة الحياة وغفلة المعاش. أهل الغفلة أعمارهم عليهم حجة، وأيامهم تقودهم إلى شقوة. كيف ترجى الآخرة بغير عمل؟ أم كيف ترجى التوبة مع الغفلة والتقصير وطول الأمل؟ ويل لأهل الغفلة: إن أعطوا لم يشبعوا، وإن منعوا لم يقنعوا، يأمرون بما لا يفعلون، ينهون وهم لا ينتهون، هم للناس لوامون ولأنفسهم مداهنون. يا أهل الغفلة: هذه الدنيا كم من واثق فيها فجعته؟ وكم من مطمئن إليها صرعته؟ وكم من محتال فيها خدعته؟ وكم من مختال أصبح حقيراً؟ وذي نخوة أردته ذليلاً؟ سلطانها دول، وحلوها مر، وعذبها أجاج، وعزيزها مغلوب، العمر فيها قصير، والعظيم فيها يسير، وجودها إلى عدم، وسرورها إلى حزن، وكثرتها إلى قلة، وعافيتها إلى سقم، وغناها إلى فقر. دارها مكارة، وأيامها غرَّارة، ولأصحابها بالسوء أمَّارة. الأحوال فيها إما نعم زائلة وإما بلايا نازلة وإما منايا قاضية. عمارتها خراب، واجتماعها فراق، وكل ما فوق التراب تراب.
أهل الغفلة لا يشبعون مهما جمعوا، ولا يدركون كل ما أملوا. ولا يحسنون الزاد لما عليه قد أقدموا، يجمعون ولا ينتفعون، ويبنون ما لا يسكنون. ويأملون ما لا يدركون: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [الحجر: 3].طويل الأمل: يبني ويهدم، وينقض ويبرم، ويقدر فيخطئ التقدير. يقول ويفعل، ويخطط ويدبر، وتأتي الأمور مخالفة للتدبير. يسيء في الاكتساب ويسوف في المتاب ثم ها هو قد تم أجله وانقطع عمله وأسلمه أهله وانقطعت عنه المعاذير: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)} [الشعراء: 205 - 207].يا أهل الغفلة “أكثروا من ذكر هادم اللذات” بهذا أوصى نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم كلام مختصر وجيز، قد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة؛ فمن ذكر الموت حق ذكره حاسب نفسه في عمله وأمانيه ولكن النفوس الراكدة والقلوب الغافلة – كما يقول القرطبي رحمه الله – تحتاج إلى تطويل الوعاظ وتزويق الألفاظ.أكثروا من ذكر هادم اللذات ومفرِّق الجماعات، “فما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه، ولا سعة إلا ضيقها”وأيمْ الله ليوشكن الباقي منا ومنكم أن يبلى، والحي منا ومنكم أن يموت وأن تدال الأرض منا كما أدلنا منها، فتأكل لحومنا وتشرب دماءنا، كما مشينا على ظهرها وأكلنا من ثمرها وشربنا من مائها ثم تكون كما قال الله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68].لقد وقف نبيكم محمد على شفير قبر فبكى حتى بلّ الثرى ثم قال: “يا إخواني لمثل هذا فأعدوا”، وسأله عليه الصلاة والسلام رجل فقال: من أكيس الناس يا رسول الله؟ فقال: “أكثرهم ذكراً للموت وأشدهم استعداداً له، أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة”، “الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت”يقول الحسن رحمه الله: إن الموت قد فضح الدنيا فلم يدع لذي لبٍّ بها فرحاً.ويقول يونس بن عبيد: ما ترك ذكر الموت لنا قرة عين في أهل ولا مال.ويقول مطرِّفٌ: إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا نعيماً لا موت فيه. لقد أمِنَ أهل الجنة الموت فطاب لهم عيشهم وأمنوا الأسقام فهنيئاً لهم طول مقامهم.اذكروا الموت والسكرات، وحشرجة الروح والزفرات، اذكروا هول المطَّلعَ. من أكثر ذكر الموت أكرمه الله بثلاث: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة. ومن نسي الموت ابتلي بثلاث: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة.كفى بالموت للقلوب مقطعاً، وللعيون مبكياً، وللذات هادماً. وللجماعات مفرِّقاً. وللأماني قاطعاً.استبدل الأموات بظهر الأرض بطناً، وبالسعة ضيقاً، وبالأهل غربة، وبالنور ظلمة، جاءوها حفاة عراة فراداً.اللحود مساكنهم، والتراب أكفانهم، والرفات جيرانهم لا يجيبون داعياً، ولا يسمعون منادياً. كانوا أطول أعماراً وأكثر آثاراً، فما أغناهم ذلك من شيء لما جاء أمر ربك، فأصبحت بيوتهم قبوراً، وما جمعوا بوراً، وصارت أموالهم للوارثين، وأزواجهم لقوم آخرين. حلَّ بهم ريب المنون، وجاءهم ما كانوا يوعدون: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } [المؤمنون: 115].هل تفكَّرت يوم المصرع، يوم ليس لدفعه حيلة، ولا ينفع عند نزوله ندم. أزِلْ عن قلبك غشاوة الغافلين، فإنك واقف بين يدي من يعلم وسواس الصدور، ومن يسأل عن لحظات العيون، ويحاسب على إصغاء الأسماع: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18].تذكر الموت يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي، ويمنع الركون إلى الدنيا، ويهون المصائب.. تذكروا الموت لعلكم تسلمون من حسرة الفوت.يقول الحسن رحمه الله: اتق الله يا بن آدم، لا يجتمع عليك خصلتان: سكرة الموت وحسرة الفوت.احذر السكرة والحسرة يفجأك الموت وأنت على غرة فلا يصف واصف قدر ما تلقى ولا قدر ما ترى.احذر لا يأخذك الله على ذنب فتلقاه ولا حجة لك.أين الخائف من قلة الزاد؟ وأين المتخفف من أثقال الدنيا؟ أين الوجل من بعد السفر ووحشة الطريق؟ اكتفى من الدنيا بطِّمريه، ومن طعامه بقرصيه. استعان على دنياه بالعفة والسداد فكفاه في دنياه القليل من الزاد. لقد استحيا من ربه حق الحياء تذكر الموت والبلى فحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى، أراد الآخرة فترك زينة الحياة الدنيا. آثر ما يبقى على ما يفنى ذلكم هو كيِّس الأكياس.توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، “بادروا بالأعمال قبل أن تشغلوا، فهل تنتظرون إلا فقراً منسياً أو غنىً مطغياً أو مرضاً مفسداً أو هرماً مفنّداً أو موتاً مجهزاً أو الدجال فشرٌّ غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمرُّ”لا تكونوا ممن يرجو الآخرة بغير عمل ويؤخر التوبة لطول الأمل. وقد علمتم أن الموت يأتي بغتة.أكثروا من زيارة القبور فإنها تذكِّر بالآخرة. اعتبروا بمن صار تحت التراب وانقطع عن أهله والأحباب، جاءه الموت في وقت لم يحتسبه وهول لم يرتقبه.وليتأمل الزائر حال من مضى من أقرانه، أكثَروا الآمال وجمعوا الأموال انقطعت آمالهم ولم تغن عنهم أموالهم، محا التراب محاسن وجوههم، وتفرّقت في القبور أشلاؤهم، وترملت من بعدهم نساؤهم وقسمت أموالهم ومساكنهم: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ } [الأنعام: 94].
الشيخ صالح بن عبدالله بن حميد
أهل الغفلة لا يشبعون مهما جمعوا، ولا يدركون كل ما أملوا. ولا يحسنون الزاد لما عليه قد أقدموا، يجمعون ولا ينتفعون، ويبنون ما لا يسكنون. ويأملون ما لا يدركون: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [الحجر: 3].طويل الأمل: يبني ويهدم، وينقض ويبرم، ويقدر فيخطئ التقدير. يقول ويفعل، ويخطط ويدبر، وتأتي الأمور مخالفة للتدبير. يسيء في الاكتساب ويسوف في المتاب ثم ها هو قد تم أجله وانقطع عمله وأسلمه أهله وانقطعت عنه المعاذير: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)} [الشعراء: 205 - 207].يا أهل الغفلة “أكثروا من ذكر هادم اللذات” بهذا أوصى نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم كلام مختصر وجيز، قد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة؛ فمن ذكر الموت حق ذكره حاسب نفسه في عمله وأمانيه ولكن النفوس الراكدة والقلوب الغافلة – كما يقول القرطبي رحمه الله – تحتاج إلى تطويل الوعاظ وتزويق الألفاظ.أكثروا من ذكر هادم اللذات ومفرِّق الجماعات، “فما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه، ولا سعة إلا ضيقها”وأيمْ الله ليوشكن الباقي منا ومنكم أن يبلى، والحي منا ومنكم أن يموت وأن تدال الأرض منا كما أدلنا منها، فتأكل لحومنا وتشرب دماءنا، كما مشينا على ظهرها وأكلنا من ثمرها وشربنا من مائها ثم تكون كما قال الله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68].لقد وقف نبيكم محمد على شفير قبر فبكى حتى بلّ الثرى ثم قال: “يا إخواني لمثل هذا فأعدوا”، وسأله عليه الصلاة والسلام رجل فقال: من أكيس الناس يا رسول الله؟ فقال: “أكثرهم ذكراً للموت وأشدهم استعداداً له، أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة”، “الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت”يقول الحسن رحمه الله: إن الموت قد فضح الدنيا فلم يدع لذي لبٍّ بها فرحاً.ويقول يونس بن عبيد: ما ترك ذكر الموت لنا قرة عين في أهل ولا مال.ويقول مطرِّفٌ: إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا نعيماً لا موت فيه. لقد أمِنَ أهل الجنة الموت فطاب لهم عيشهم وأمنوا الأسقام فهنيئاً لهم طول مقامهم.اذكروا الموت والسكرات، وحشرجة الروح والزفرات، اذكروا هول المطَّلعَ. من أكثر ذكر الموت أكرمه الله بثلاث: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة. ومن نسي الموت ابتلي بثلاث: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة.كفى بالموت للقلوب مقطعاً، وللعيون مبكياً، وللذات هادماً. وللجماعات مفرِّقاً. وللأماني قاطعاً.استبدل الأموات بظهر الأرض بطناً، وبالسعة ضيقاً، وبالأهل غربة، وبالنور ظلمة، جاءوها حفاة عراة فراداً.اللحود مساكنهم، والتراب أكفانهم، والرفات جيرانهم لا يجيبون داعياً، ولا يسمعون منادياً. كانوا أطول أعماراً وأكثر آثاراً، فما أغناهم ذلك من شيء لما جاء أمر ربك، فأصبحت بيوتهم قبوراً، وما جمعوا بوراً، وصارت أموالهم للوارثين، وأزواجهم لقوم آخرين. حلَّ بهم ريب المنون، وجاءهم ما كانوا يوعدون: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } [المؤمنون: 115].هل تفكَّرت يوم المصرع، يوم ليس لدفعه حيلة، ولا ينفع عند نزوله ندم. أزِلْ عن قلبك غشاوة الغافلين، فإنك واقف بين يدي من يعلم وسواس الصدور، ومن يسأل عن لحظات العيون، ويحاسب على إصغاء الأسماع: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18].تذكر الموت يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي، ويمنع الركون إلى الدنيا، ويهون المصائب.. تذكروا الموت لعلكم تسلمون من حسرة الفوت.يقول الحسن رحمه الله: اتق الله يا بن آدم، لا يجتمع عليك خصلتان: سكرة الموت وحسرة الفوت.احذر السكرة والحسرة يفجأك الموت وأنت على غرة فلا يصف واصف قدر ما تلقى ولا قدر ما ترى.احذر لا يأخذك الله على ذنب فتلقاه ولا حجة لك.أين الخائف من قلة الزاد؟ وأين المتخفف من أثقال الدنيا؟ أين الوجل من بعد السفر ووحشة الطريق؟ اكتفى من الدنيا بطِّمريه، ومن طعامه بقرصيه. استعان على دنياه بالعفة والسداد فكفاه في دنياه القليل من الزاد. لقد استحيا من ربه حق الحياء تذكر الموت والبلى فحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى، أراد الآخرة فترك زينة الحياة الدنيا. آثر ما يبقى على ما يفنى ذلكم هو كيِّس الأكياس.توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، “بادروا بالأعمال قبل أن تشغلوا، فهل تنتظرون إلا فقراً منسياً أو غنىً مطغياً أو مرضاً مفسداً أو هرماً مفنّداً أو موتاً مجهزاً أو الدجال فشرٌّ غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمرُّ”لا تكونوا ممن يرجو الآخرة بغير عمل ويؤخر التوبة لطول الأمل. وقد علمتم أن الموت يأتي بغتة.أكثروا من زيارة القبور فإنها تذكِّر بالآخرة. اعتبروا بمن صار تحت التراب وانقطع عن أهله والأحباب، جاءه الموت في وقت لم يحتسبه وهول لم يرتقبه.وليتأمل الزائر حال من مضى من أقرانه، أكثَروا الآمال وجمعوا الأموال انقطعت آمالهم ولم تغن عنهم أموالهم، محا التراب محاسن وجوههم، وتفرّقت في القبور أشلاؤهم، وترملت من بعدهم نساؤهم وقسمت أموالهم ومساكنهم: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ } [الأنعام: 94].
الشيخ صالح بن عبدالله بن حميد