بسم الله الرحمن الرحيم
أولئك هم المؤمنون حقا
يقول الله تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) [الرحمن 60] وفي الصحيحة [416] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يشكر الله من لا يشكر الناس".أولئك هم المؤمنون حقا
عباد الله: إن ديننا الحنيف ليأمرنا بمقابلة الإنعام بالشكر ومجازاة الإحسان بالإحسان، وأن نكافئ الناس على ما أسدوه لنا من خير، فإن لم نجد فلا أقل من الدعاء لهم والثناء عليهم، وإن أعظم الناس فضلا علينا بعد نبينا صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضوان الله عليهم، فلولاهم ما عرفنا الإسلام ولا الإيمان ولا التوحيد ولا القرءان، ولولاهم لكنا في عماية الشرك وظلمة الجهل نحيا حياة الأنعام، فمن الواجب علينا دينا وعقلا ومروءة أن نشكر لهم فضلهم، وأن نعرف لهم قدرهم، وأن نرعى لهم حقهم، فإن ذلك علامة إجلالنا للإسلام، أما من كان لا يرى دين الإسلام نعمة فلن ير الداعي إليه محسنا.
يا أتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم: إن عقولنا والحمد لله لتعجز أيما عجز عن قبول فرية الرافضة أن الصحابة ارتدوا عن بكرة أبيهم إلا ثلة لم تبلغ العشرة منهم، حينما نطالع سيرة هؤلاء الرجال الكمل، ونقرأ ما ورد فيهم من الثناء العطر من ربهم ومن نبيهم، نعلم يقينا أنهم ما خلقوا إلا للإيمان وما وجدوا إلا لحمل الإسلام.
لقد بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم في زمن انطمس فيه نور النبوة، وانقطعت صلة الناس بالوحي، بعثه في قوم قد غلظت طباعهم، وفسدت أخلاقهم وساءت عقائدهم ومعاملاتهم، يعبدون الأوثان من الحجارة والقبور والأشجار، ويتعصبون لها تعصبا عظيما، فدعاهم صلى الله عليه وسلم إلى نبذ هذه الأوثان وتوحيد الله بالعبادة، والانقياد له ولدينه، ورغّبهم في تزكية نفوسهم وتطهير قلوبهم، وحثهم على المكارم، ووصف لهم الجنة والنار ووعظهم المواعظ البليغة وأقام عليهم الحجج العقلية.
فاستجاب له ذووا العقول الراجحة والألباب الذكية والنفوس الطاهرة، الذين نزهوا عقولهم وصانوا أبدانهم عن تعبيدها لحجارة وأشجار وقبور لا تملك نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، فقابلهم أقوامهم بأشد أنواع الأذى والسخرية، عذبوهم وفتنوهم وحرقوهم ليردوهم عن دينهم، فلما اشتد عليهم الأذى تركوا أموالهم وأهاليهم وديارهم هاجروا إلى الحبشة، دارٍ لا مال لهم فيها ولا أنيس، بين أقوام مخالفين لهم في الدين والعادات واللغة، فرارا بدينهم، وخوفا على إسلامهم، ورغبة في إقامة عبادتهم لربهم، راضين بالفقر والغربة.
ثم هاجروا إلى المدينة ليحملوا راية الجهاد والدعوة مع إخوانهم الأنصار، باذلين أموالهم وأنفسهم في سبيل إعلاء كلمة الله وإرضاء رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى فتح الله بهم بلاد العرب ودخل الناس في دين الله أفواجا، وتوفي صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم، مبشرا لهم برضوان الله وجنات النعيم، وحاثّا لمن جاء بعدهم على اتباعهم والاهتداء بهديهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور) [الصحيحة 2735].
ولطيب معدنهم وحبهم للخير حملوا على أعتاقهم مسؤولية تبليغ هذا الخير للناس كافة كما أمرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم، فلم يركنوا إلى الراحة والدعة بل واصلوا مسيرة التعليم ونشر الدين وتبليغ الإسلام مشارق الأرض ومغاربها، لا يقاتلون إلا من وقف في وجه الدعوة وحال بين الناس وبين تعلم الإسلام.
وترك خيارهم وعلماؤهم مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشروا في بلاد الله من عرب وعجم ليعلموا الناس القرءان وينشروا الإسلام، إلى أن توفاهم الله سبحانه، وانقرض جيلهم الفاضل وقد بلّغوا الإسلام كاملا مكملا، القرءان والسنة وتفسيرهما الصحيح، فأعز الله بهم الإسلام وحزبه، وأذل بهم الكفر وأهله، فكان ممن أخزاه الله على أيديهم أهلُ الردة ومانعوا الزكاة، بقيادة أبي بكر رضي الله عنه، والفرسُ المجوس عباد الناس علي يد عمر الفاروق رضي الله عنه، أما أهل الردة فقد قاتلهم أبو بكر حتى ردّهم إلى حظيرة الإسلام، فكان من البديهي أن يعاديه رؤوسهم الذين يريدون استعباد الناس وتسخيرهم وأكل أموالهم بالباطل، وأما المجوس دولة الرافضة اليوم، فقد مزق الله ملكم على يد الفاروق عمر، فقتل طواغيتهم وأخمد نيرانهم، وقسم أموالهم في سبيل الله مصداقا لنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لعدي بن حاتم قبل أن يسلم: "وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى، قُلْتُ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ؟! قَالَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ ".[البخاري 3328] فمن الطبيعي أن يحقدوا عليهم وأن يسعوا في قتله والكيد لدين الإسلام، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. أقول هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وبعد: فإن الحاقدين على الإسلام ممن سلبوا رئاستهم ومنعوا من استعباد الناس، لما لم يقدروا على الإطاحة بالإسلام، ولا الطعن في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، لِمَا أظهر من براهين وحجج قاطعات، عمدوا إلى حَمَلة هذا الدين، صحابة النبي الكريم، الذين هم همزة الوصل بين الناس بين مصدر الإسلام الأول، فرموهم بالكفر والنفاق، لينسفوا كل ما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيسقط الإسلام بزعمهم، وليقال: عن النبي صلى الله عليه وسلم رجل سوء ولو كان رجلا صالحا لكان أصحابه وزوجاته صالحين. قبحهم الله من قوم لا عقول لهم، أيعقل أن دينا كالإسلام العظيم يرتد ناقلوه عنه وقد بلغوا مئات الآلف فلا يبق منه إلا أقل من عشرة، فما عسى أن يبلغ عشرة من الدين؟
أما نحن فإن عقولنا تقول: إن ما مر على الصحابة من محن وشدائد منذ البعثة إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قد محصهم وغربلهم وميّز الطيب من الخبيث، حتى لم يبق فيهم إلا مؤمن راسخ الإيمان قد اختلط الإيمان بلحمه وعظمه، فمن محنة التعذيب إلى محنة خبر الإسراء التي لم تصدقها عقول الضعفاء فارتدوا، إلى محنة الهجرة الأولى والثانية والثالثة، إلى محنة الجهاد وغزوة بدر الكبرى، ثم تكالب العرب عليهم يوم الأحزاب حتى قال الله تعالى: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدً) [الأحزاب 10-11]إلى مصيبة موت النبي صلى الله عليه وسلم وهي أعظم الابتلاءات التي ارتد فيها قبائل من العرب لولا تثبيت الله لهم بالصديق الأكبر رضي الله عنه، إلى فتنة فتح الدنيا عليهم ووفرة الأموال والعبيد والجواري التي تركوها وراء ظهورهم فلم تمنعهم من مواصلة الجهاد...إلى غير ذلك من الفتن التي قال الله فيها: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران 179 ]كل هذا يكسبنا يقينا والحمد لله أن القوم قد سبقت لهم من الله الحسنى، وأنه ما كان ليضيع إيمانهم، وأنهم ما كانوا ليصبروا على دينهم في هذه الشدائد ثم يرتدوا عنه إذا جاء الفرج، قد علم هذا العقلاء المنصفون حتى من الكفار: قال هرقل لأبي سفيان: " وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ". [البخاري 6 ومسلم 3322]
عباد الله: إن الله قسم المؤمنين ثلاث مراتب كما في سورة الحشر، فذكر المهاجرين بقوله: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر8 ] وذكر الأنصار بقوله: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر9 ] وهاتان مرتبتان قد مضتا، ولم يبق إلا الثالثة من لم يكن من أهلها لم يكن من المسلمين وهي قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر10 ]فاللهم ارزقنا حبك وحب نبيك وحب أصحاب نبيك واحشرنا في زمرتهم واجمعنا بهم في جناتك جنات النعيم، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. وصل اللهم وسلم على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.