إن الحمد لله نحمده سبحانه وتعالى ونستغفرهونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومنيضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبدهورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
إن من السنن التي ينبغي تذكير الناس بهاتعليمهم إياها ، إنما هي ما كان من السنن المدروسة التي أصبحت عند كثير من الناسنسياً منسياً ، وكأنما رسولنا صلوات الله وسلامه عليه لم يكن يعلمها الناس مطلقاًأيضاً.
هكذا تموت السنن وتحيى البدع حتى يعود الأمر غريباً ، وكما جاء في كثيرمن الآثار: (تموت السنن وتحيى البدع فإذا أحييت سنة قيل: أحييت سنة قيل: بدعة ،وإذا انتشرت بدعة قيل: إنها سنة) ولذلك الواجب على كل مسلم حريص على معرفة السننواتباعها أن يتنبه لها ، فإذا كان من طلاب العلم أحياها ، وإذا كان ليس منهم سألعنها حتى يحييها ، فيكتب له أجر من أحيى سنة أميتت بعده عليه الصلاة والسلام ، وذلكمن معاني الحديث المشهور الذي أخرجه الإمام مسلم وغيره من حديث جرير بن عبد اللهالبجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {من سن في الإسلامسنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة دون أن ينقص من أجرهم شيء ،ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عملا بها إلى يوم القيامة دون أنينقص من أجورهم شيء}.
هذا الحديث من سن في الإسلام سنة حسنة فإنما يعني من فتحطريقا إلى سنة مشروعة ، لأن كون السنة حسنة أو سيئة يمكن معرفتها إلا من طريق الشرعوليس من طريق العقل ، فلا ينبغي لإنسان أوتي ذرة من إيمان أن يحسن أو يقبح بعقله ،لأن ذلك من مذهب المعتزلة سواء من كان منهم قديماً أو كان من أذنابهم حديثاً ،أولئك هم الذين يُشرعون للناس بأهوائهم وليس بآيات ربهم وبأحاديث نبيهم ، ولذلك كانلزاما على كل داعية حقاً إلى الإسلام أن يُعنى بتذكير الناس ما كان من هذه السننالتي سنها الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم أصبحت نسيا منسياً كما ذكرت آنفاً.
منهذه السن التي أصبحت غريبة عن المصلين فضلاً عن غيرهم ، والتي عمت وطمت البلادالإسلامية التي طفت فيها أو جئت إليها ، من هذه السنن سنة الصلاة إلى سترة ، وأقولسنة على اعتبار أنها سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم لكل مصل ، ولست أعني أنهالا تجب ، ذلك لأن السنة لها اصطلاحان:
أحدهما: اصطلاح شرعي لغوي هو
الآخر: اصطلاح فقهي.
السنة في اللغة العربية التي جاء بها الشرع الكريم هي المنهجوالسبيل الذي سار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم هي تنقسم إلى ما هو فرض وإلىما هو سنة في الاصطلاح لفقهي.
واصطلاح الفقه كما تعلمون يعني بالسنة، ما يثابفاعله ولا يعاقب تاركه، وهي ليست بالفرض، وقد تنقسم إلى سنة مؤكدة وإلى سنة مستحبة،هذا هو الفرق بين السنة الشرعية وبين السنة الاصطلاحية الفقهية، أي أن السنة في لغةالشرع تشمل كل الأحكام الشرعية، فهي الطريق التي سار عليها نبينا صلوات الله وسلامهعليه، وتقسيم ذلك إنما يُفهم من نصوص الكتاب والسنة.
أما السنة الفقهية فهيمحصورة مما ليس بفريضة، رغم ذلك إلى ما كنت في صدد التنبيه عليه والتذكير به منالسنن التي أماتها الناس وصارت غريبة أمام الناس، وكلما تحدثنا بها جرى جدلٌ طويلٌحولها، وما ذاك إلا لعدم قيام أهل العلم بواجبهم من تعليم الناس وتبليغهم وعدمكتمانهم للعلم إلا من شاء الله تبارك وتعالى وقليل ما هم، هؤلاء القليل هم الغرباءالذين أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي ربما قدسمعتموه قليلاً أو كثيراً وهو قوله عليه الصلاة والسلام: {إن الإسلام بدأ غريباًوسيعود غريباً فطوبى للغرباء} وهناك روايتان أو حديثان آخران جاء فيهما بيان أو صفةهؤلاء الغرباء الذين لهم طوبى وحسن مآب، جاء في أحدهما أنهم قالوا: {يا رسول اللهمن هم هؤلاء الغرباء؟ قال: هم أناس قليلون صالحون بين ناس كثيرون من يعصيهم أكثرممن يُطيعهم}، ناس قليلون صالحون بين ناس كثيرين من يعصيهم أكثر ممن يُطيعهم، وأنتمتشاهدون وتلمسون لمس اليد هذا الوصف الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهؤلاء الغرباء ـ فإن أكثر الناس لا يعلمون، وإن أكثر الناس لا يتقون، فهؤلاءالغرباء ناس قليلون صالحون بين ناس كثيرين من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم، والحديثالآخر: سئل عليه الصلاة والسلام أيضاً عن الغرباء فأجاب بقوله صلى الله عليه وسلم: {هم الذين يُصلحون ما أفسد الناس من سنتي من بعدي}.
وهنا الآن موضوعنا، فإن منالسنن التي أفسدها الناس بإعراضهم عن العمل بها حتى كثير من أئمة المساجد الذينينبغي ويُفترض فيهم أن يكونوا قدوة للناس، قد أعرضوا عن هذه السنة بالمعنى الشرعي،وصاروا يصلون في كثير من الأحيان في منتصف المسجد ليس بين أيديهم سترة، وقليل جداًلأنهم من هؤلاء الغرباء الذين نراهم يضعون بين أيديهم سترة يصلون إليها، لا يجوزللمسلم إذا دخل المسجد وأراد أن يصلي تحية المسجد مثلاً أو سنة الوقت، أن يقف حيثماتيسر له الوقوف وصلى وأمامه فراغ، ليس أمامه شاخص يُصلي إليه، هذا الشاخص الذي يصليإليه هي السترة، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة فيما يتعلقبالصلاة إلى السترة، فكثير منها من فعله عليه الصلاة والسلام وبعضها من قوله،ولعلكم سمعتم أو قرأتم حديث خروج النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد إلىالمصلى، والمصلى كما تعلمون هو غير المسجد، عبارة عن أرض فسيحة اتُخذ لإقامة صلاةالأعياد فيها وللصلاة على الجنازة فيها، ففي هذا المكان أو المسمى بالصلاة عادة لايكون هناك جدار ولا سارية عمود ولا أي شيء يمكن أن يتوجه إليه المصلي وأن يجعلهسترة بين يدي صلاته، ففي الحديث المشار إليه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذاخرج إلى صلاة العيد خرج ومعه العنزة – وهي عصاة لها رأس معكوف- فيغرس هذه العصا علىالأرض ثم هو يصلي إليها}.
هكذا كان عليه الصلاة والسلام إذا سافر أو خرج إلىالعراء فحضرته الصلاة صلى إلى سترة، فقد تكون هذه السترة هي عَنزَته، وقد تكون شجرةيصلي إليها، وكان أحيانا يصلي إلى الرَّحل، وهو ما يُرمى على ظهر الجمل يضعه بينيديه ويصلي إليه.
هذا هو السترة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليإليها في كل صلواته ، فنرى المسلمين اليوم قد جهلوا هذه السنة وأعرضوا عن فعلها ،وإذا كنتم تلاحظوا فيما بعد وادخلوا أي مسجد فترى الناس هنا وهناك يصلون لا إلىسترة ، هذا مع أن فيه مخالفة صريحة لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: {صلُّا كمارأيتموني أصلي} ففيه مخالفة أصْرح من ذلك وأخص من ذلك وهو قوله عليه الصلاةوالسلام: {إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة ، لا يقطع الشيطان عليه صلاته}.
وفيرواية أخرى هما روايتان يقول عليه الصلاة والسلام: {إذا صلى أحدكم فليدنو من سترتهلا يقطع الشيطان عليه صلاته} ففي هذين الروايتين الأمر لأمرين اثنين:
الأمرالأول: أن المسلم إذا قام يصلي فيجب أن يصلي إلى شيء بين يديه.
والأمر الثاني: أن لا يكون بعيدا عن هذه السترة ، وإنما عليه أن يدنو منها ، هذا الدنو قد جاءتحديده في حديث سها بن سعد رضي الله عنه الذي أخرجه البخاري في صحيحه: {أن النبيصلى الله عليه وسلم كان إذا صلى كان بينه وبين سترته ممرُّ شاةٍ} ممر شاة تكون عادةفي عرض شبر أو شبرين بكثير ، وإذا سجد المصلي فيكون الفراغ الذي بينه وبين السترةمقدار شبر أو شبرين ، هذا هو الدنو الذي ذكره الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديثالثاني: {إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدنو منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته} فإذا صلىالمسلم في هذا المسجد أو في غيره فهو على خيار ، إن شاء أن يتقدم إلى الجدار القبليفيجعل بينه وبين قيامه نحو ثلاثة أذرع ، بحيث إذا سجد لا يكون بعيداً عن الجدار إلابمقدار المذكور آنفا شبر أو شبرين.
كما أن بعض الناس يُبالغون في التقرب إلىالسترة حتى ليكاد أحدهم أن ينطحَ الجدار برأسه ، هذا خطأ مخالف للحديث.
الناسكما تفهمون ما بين إفراط وتفريط ، ما بين مُهمل للسترة أو يصلي في منتصف المسجدوالسترة بعيدة عنه كلَّ البعد ، وما بين مُقترب إلى سترة حتى لا تجد بين رأسه وبينالسترة مقدار ممر شاة.
الصلاة إلى السترة قد فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلموأمر بها وجعل بينها وبين المصلي مقدار ممر شاة.
وهنا يأتي السؤال الذي يفرضنفسه كما يُقال ، ما حكم الصلاة إلى السترة؟ وعلى العكس من ذلك ما حكم هذه الصلواتالتي يصليها جماهير الناس لا إلى السترة؟
الجواب: حكم هذه الصلاة إلى السترةأنها واجبة.
وكثير ما يقع ويُفاجأ المصلي بمرور شيء ما ، قد يكون كلب أسود أوكلب غير أسود ، الكلب الأسود إذا مر وهو عادة يمرُّ سريعا فقد بطلت صلاة المصلي ،أما إذا كان قد صلى إلى سترة ومرَّ هذا الكلب أو غيره ممن ذكر معه فصلاته صحيحة ،لأنه ائتمر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث السابقة: {إذا صلى أحدكمفليصلي إلى سترة} ، {إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدنو منها} ، ويترتب على اتخاذالسترة حكم شرعي ينتفي هذا الحكم بانتفاء السترة.
جاء في بعض الأحاديث الصحيحة: {إذا صلى أحدكم فأراد أحدٌ أن يمر بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هوشيطان} ، وهذا معناه أنه إذا كان يصلي لا إلى سترة فليس له أن يدفعه فضلا عن أنهليس له أن يقاتله، هذا وذاك من آثار اتخاذ هذه السترة أو الإعراض عنها.
وأخيراًلابد من التذكير بأمر يخالف هذه الأحاديث كلها ، وهذا الأمر خاص في بيت الله الحرام، ثم سرى إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، إن عامة الناس حتى بعض الخاصةيذهبون إلى أن السترة في المسجد الحرام غير واجبة ، حكم خاص زعموا في المسجد الحرام، ثم صارت هذه العدوة إلى المسجد النبوي الكريم ، ينبغي أن تَعلموا أن الحكم السابقفي كل الأحاديث التي مضت تشمل المسجد الحرام كما تشمل مساجد الدنيا ، وإنما صارتفكرة استثناء المسجد الحرام من وجوب السترة من حديث أخرجه النسائي في سننه وأحمد فيمسنده وغيرهما: {أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوماً في حاشية المطاف والناسيمرون بين يديه} هذا الحديث أولاً لا يصح من حيث إسناده ، وإن فيه جهالة كما هومذكور في بعض كتب التخريجات المعروفة ومنها أذكر (إرواء الغليل)ولو صح فليس فيهدليل على أن المرور كان بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام ، فقد ذكرنا آنفاً أنالمرور الممنوع إنما هو بين المصلي وبين موضع سجوده ، ولم يذكر في هذا الحديث الذييحتجون به على أن المصلي في المسجد الحرام لا يجب عليه أن يتخذ سترة ، لو صح هذاالحديث كان يُمكن أن يكون حجة لو صرَّح بأن الناس كانوا يمرون بين يديه عليه السلام، أي بينه قائماً وبين موضع سجوده ، هذا لم يذكر في هذا الحديث ، ولذلك لا يجوزالاستدلال به من الناحيتين :
1- من ناحية الرواية
2- ومن ناحية الدراية
- أما الرواية فلضعف إسنادها.
- وأما الدراية فلعدم دلالة الحديث لو صح أن المروركان بينه عليه السلام وبين موضع سجوده ، ولذلك فالواجب على كل مصل أن يستتر أيضاولو في مسجد الحرام ، نحن نشعر بسبب غلبة الجهل لهذه المسألة بصورة عامة ، وفي غلبةالاحتجاج بهذا الحديث فيما يتعلق بالمسجد الحرام بصفة خاصة ، أن المصلي في المسجدالحرام لكي يتحاشى أخطاء النار للمرور بين يديه ، لأنه ينصرف عن الصلاة وهو في كللحظة يجب أن يعمل بيده هكذا ويُخاصم الناس ، والناس اليوم في الخصومة ألداء ، ولذلكفينبغي للمسلم أن يبتعد عن المكان الذي يغلب على ظنه أنه مكان متروك الناس يمرونبين يديه لا يابلون بصلاته أية مبالاة ، ولكن عليه أن يصلي في مكان وإلى سترة لكييحقق أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
أما المسجد النبوي فأمر الناس فيه أعجب لأنهإن كان لهم عذر فيما يتعلق بالمسجد الحرام ، وإن كان هذا العذر عند كرام الناس غيرمقبول ، لأنه مخالف لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فالعجب أن مسجد الرسول منهانطلقت كل هذه الأحاديث التي سمعتموها ، وإذا بها تعطل لدعوى أن مسجد الرسول هوكمسجد الحرام ، فكلاهما مستثنا منهما وجوب السترة ، فإذا عرفتم أن المسجد الحرامحديث الوارد في خصوص عدم اتخاذ السترة ضعيف ، ولو صح لم يدل على المقصود ، فاعلمواأن المسجد النبوي لا شيئا يُلحقه بالمسجد الحرام ، بل ما قال رسول الله صلى اللهعليه وسلم : {إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة} {إذا صلى أحدكم فليدنو من سترته يقطعصلاة أحدكم إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل المرأة والحمار والكلب الأسود} ،ما قال الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الأحاديث وما تستره بالجدار وجعل بينه وبينسترته ممر شاة إلا في مسجده ، هذا من غربة الإسلام وإماتة السنن مع ممرالزمان.
ولذلك أحببت أن أذكركم بأني كلما دخلت مسجدا كهذا أو غيره أرى الناسيصلون صلاة لا إلى سترة ، لأننا قد يرد إشكال وهو كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء ،وهو أن بعض المساجد كهذا المسجد الإمام يصلي في منتصف المسجد والعشاء إلىالمحراب.
وبمناسبة المحراب ، لا بد من التذكير بهذه النصيحة ، وإن كان الناس عنهغافلون ، أن المسجد النبوي لم يكن له محراب ، وإنما جدار القبلي كسائر الجدر هكذامسحاً ، ليس فيه هذا إطلاق وبخاصة أن الناس اليوم تفننوا جدا جداً ، بحيث جعلوا عمقالمحراب إلى القبلة لو أن الإمام وقف فيه غرق ولم يظهر شخصه للمصلين خلفه من يمينأو يسار ، هذا المحراب إنما تسرَّب إلى المسلمين مع الأسف من كنائس النصارى ،فالمحاريب هذه لم يكن من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من عهد الصحابة ، وإنماحدث ذلك فيما بعد ، وللحافظ السيوطي رسالة لطيفة مفيدة سماها بـ(تنبيه الأريب فيبدعة المحاريب) وهذه الرسالة نافعة يحسن لطلاب العلم أن يطلعوا عليها ، ولكن حذاريمن بعض التعليقات التي كُتبت عليها بقلم أحد الغُماريين المغاربة ، لأن هؤلاءالغماريين وإن كان لهم مشاركة في علم الحديث ولكنهم من أهل الأهواء والبدع الذينتؤثر فيهم علمهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ودراستهم لأحاديثه ، ويكفي في ذلكأنهم هم مشايخ الطرق ، فكيف يجتمع أن يكون محدثاً وطرقياً ، والطرق كلها ضلالةلأدلة الكتاب والسنة ، ولسنا الآن في هذه الحاجة ، إنما القصد الاعتماد على ما ذكرهالسيوطي في هذه الرسالة دون الاغترار بما جاء في تلك الحواشي التي خلاصتها تمريروتسليط ما اعتاده المسلمون من هذه محاريب المساجد وبخاصتها في هذا الزمان الذبنفننوا في بناء المحاريب فيها.
من تلك الشبهات أن المحراب يدلُّ الغريب على جهةالقبلة ومن هنا قد يأخذ بعض الناس من هذه الحواشي ، فنحن نقول الغاية لا تبررالوسيلة ، إذا كان المسجد النبوي لم يكن فيه هذا المحراب ، أليس قد كان هناك ما يدلعلى سنة القبلة وجهاتها؟ لا شك من ذلك فما هو؟ هو الشيء الذي كان يومئذ ينبغي عليناأن نتخذه كعلامة لجدار القبلة يصلي المصلي الغريب إلى هذا الجدار وليس إلى الجدرالأخرى.
من الواضح جداً كما أنتم تشاهدون حتى اليوم أن المنبر يُبنى لنفس الجهةالتي يكون فيها المحراب ، فإذا ما ادَّاعي من جعل علامتين اثنتين تدل كل منهما علىالقبلة ؟ فالمنبر لا بد منه ، ها هو يدل إذاً على جهة القبلة فطاح ذلك الذي يتكئعليه هؤلاء الذين يريدون تشبيك الواقع ولو كان مخالفاً للسنة.
فإذاً حينما لايصلي الإمام إلى الجدار ، وإنما يقف بعيداً عنه لعدة صفوف ، فعلى هذا الإمام أولاًأن يضع سترة بين يديه كما رأيت في هذا المسجد والحمد لله ، ثم على المصلين الذينيريدون أن يصلوا السنة ، إما أن يتقدموا إلى الجدار القبلي و يصلون على النحو الذيوصفنا آنفاً ، وإما أن يتسترون ببعض هذه القوائم التي هي مثل هذه الطاولات التيتوضع عليها المصاحف والكتب أو يستترون ببعض الأعمدة ، أخيراً قد يكون هناك بعضالمصلين صلوا جلسوا ينتظرون إقامة الصلاة ، فمن الممكن أن يتخذ الداخل للمسجد سترةأحد هؤلاء الجالسين المنتظرين للصلاة.
ذكرت هذا لأن بعض الناس وأنا بالسترةالإمام يصلي في منتصف المسجد تقريباً ، فهو إذا تقدم إلى الجدار وأُقيمت الصلاة وقفالصف حائلاً بينه وبين أن يمر فيتخذ مكاناً في الصف ، هذه شبهة يبنى حكايتها علىالجد عليها لوهائها وضعفها ، فلو صلى أحدهم إلى جدار القبلة ثم أقيمت الصلاة ياترى؟ ورجع القهقري لا يفصحون له المجال ليصلي حتى في الصف الأول؟ إذا فرضنا أنهم لايفسحون له مجالاً ، فسيجد فراغاً يمررونه فيه حتى يقف في الصف الثاني أو الصفالثالث على حسب الازدحام الذي يكون في المسجد.
إذا خلاصة القول ، يجب الانتباه لهذه المسألة لأنها مهجورة في أكثر المساجد لغفلة الناس عنها وقلة من يذكر بها ،حتى لو كان في المسجد الحرام على التفصيل الذي ذكرته آنفاً ؛ وقد ذكرت بعض الآثارالصحيحة عن بعض السلف الصالح ومنهم عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: {أنهكان إذا صلى في المسجد الحرام وضع بين يديه سترة} هذا من فعل السلف ، وذلك تطبيقلكل هذه الأحاديث التي سبق ذكرها ، وهذه ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين.
أما بعد:
إن من السنن التي ينبغي تذكير الناس بهاتعليمهم إياها ، إنما هي ما كان من السنن المدروسة التي أصبحت عند كثير من الناسنسياً منسياً ، وكأنما رسولنا صلوات الله وسلامه عليه لم يكن يعلمها الناس مطلقاًأيضاً.
هكذا تموت السنن وتحيى البدع حتى يعود الأمر غريباً ، وكما جاء في كثيرمن الآثار: (تموت السنن وتحيى البدع فإذا أحييت سنة قيل: أحييت سنة قيل: بدعة ،وإذا انتشرت بدعة قيل: إنها سنة) ولذلك الواجب على كل مسلم حريص على معرفة السننواتباعها أن يتنبه لها ، فإذا كان من طلاب العلم أحياها ، وإذا كان ليس منهم سألعنها حتى يحييها ، فيكتب له أجر من أحيى سنة أميتت بعده عليه الصلاة والسلام ، وذلكمن معاني الحديث المشهور الذي أخرجه الإمام مسلم وغيره من حديث جرير بن عبد اللهالبجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {من سن في الإسلامسنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة دون أن ينقص من أجرهم شيء ،ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عملا بها إلى يوم القيامة دون أنينقص من أجورهم شيء}.
هذا الحديث من سن في الإسلام سنة حسنة فإنما يعني من فتحطريقا إلى سنة مشروعة ، لأن كون السنة حسنة أو سيئة يمكن معرفتها إلا من طريق الشرعوليس من طريق العقل ، فلا ينبغي لإنسان أوتي ذرة من إيمان أن يحسن أو يقبح بعقله ،لأن ذلك من مذهب المعتزلة سواء من كان منهم قديماً أو كان من أذنابهم حديثاً ،أولئك هم الذين يُشرعون للناس بأهوائهم وليس بآيات ربهم وبأحاديث نبيهم ، ولذلك كانلزاما على كل داعية حقاً إلى الإسلام أن يُعنى بتذكير الناس ما كان من هذه السننالتي سنها الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم أصبحت نسيا منسياً كما ذكرت آنفاً.
منهذه السن التي أصبحت غريبة عن المصلين فضلاً عن غيرهم ، والتي عمت وطمت البلادالإسلامية التي طفت فيها أو جئت إليها ، من هذه السنن سنة الصلاة إلى سترة ، وأقولسنة على اعتبار أنها سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم لكل مصل ، ولست أعني أنهالا تجب ، ذلك لأن السنة لها اصطلاحان:
أحدهما: اصطلاح شرعي لغوي هو
الآخر: اصطلاح فقهي.
السنة في اللغة العربية التي جاء بها الشرع الكريم هي المنهجوالسبيل الذي سار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم هي تنقسم إلى ما هو فرض وإلىما هو سنة في الاصطلاح لفقهي.
واصطلاح الفقه كما تعلمون يعني بالسنة، ما يثابفاعله ولا يعاقب تاركه، وهي ليست بالفرض، وقد تنقسم إلى سنة مؤكدة وإلى سنة مستحبة،هذا هو الفرق بين السنة الشرعية وبين السنة الاصطلاحية الفقهية، أي أن السنة في لغةالشرع تشمل كل الأحكام الشرعية، فهي الطريق التي سار عليها نبينا صلوات الله وسلامهعليه، وتقسيم ذلك إنما يُفهم من نصوص الكتاب والسنة.
أما السنة الفقهية فهيمحصورة مما ليس بفريضة، رغم ذلك إلى ما كنت في صدد التنبيه عليه والتذكير به منالسنن التي أماتها الناس وصارت غريبة أمام الناس، وكلما تحدثنا بها جرى جدلٌ طويلٌحولها، وما ذاك إلا لعدم قيام أهل العلم بواجبهم من تعليم الناس وتبليغهم وعدمكتمانهم للعلم إلا من شاء الله تبارك وتعالى وقليل ما هم، هؤلاء القليل هم الغرباءالذين أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي ربما قدسمعتموه قليلاً أو كثيراً وهو قوله عليه الصلاة والسلام: {إن الإسلام بدأ غريباًوسيعود غريباً فطوبى للغرباء} وهناك روايتان أو حديثان آخران جاء فيهما بيان أو صفةهؤلاء الغرباء الذين لهم طوبى وحسن مآب، جاء في أحدهما أنهم قالوا: {يا رسول اللهمن هم هؤلاء الغرباء؟ قال: هم أناس قليلون صالحون بين ناس كثيرون من يعصيهم أكثرممن يُطيعهم}، ناس قليلون صالحون بين ناس كثيرين من يعصيهم أكثر ممن يُطيعهم، وأنتمتشاهدون وتلمسون لمس اليد هذا الوصف الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهؤلاء الغرباء ـ فإن أكثر الناس لا يعلمون، وإن أكثر الناس لا يتقون، فهؤلاءالغرباء ناس قليلون صالحون بين ناس كثيرين من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم، والحديثالآخر: سئل عليه الصلاة والسلام أيضاً عن الغرباء فأجاب بقوله صلى الله عليه وسلم: {هم الذين يُصلحون ما أفسد الناس من سنتي من بعدي}.
وهنا الآن موضوعنا، فإن منالسنن التي أفسدها الناس بإعراضهم عن العمل بها حتى كثير من أئمة المساجد الذينينبغي ويُفترض فيهم أن يكونوا قدوة للناس، قد أعرضوا عن هذه السنة بالمعنى الشرعي،وصاروا يصلون في كثير من الأحيان في منتصف المسجد ليس بين أيديهم سترة، وقليل جداًلأنهم من هؤلاء الغرباء الذين نراهم يضعون بين أيديهم سترة يصلون إليها، لا يجوزللمسلم إذا دخل المسجد وأراد أن يصلي تحية المسجد مثلاً أو سنة الوقت، أن يقف حيثماتيسر له الوقوف وصلى وأمامه فراغ، ليس أمامه شاخص يُصلي إليه، هذا الشاخص الذي يصليإليه هي السترة، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة فيما يتعلقبالصلاة إلى السترة، فكثير منها من فعله عليه الصلاة والسلام وبعضها من قوله،ولعلكم سمعتم أو قرأتم حديث خروج النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد إلىالمصلى، والمصلى كما تعلمون هو غير المسجد، عبارة عن أرض فسيحة اتُخذ لإقامة صلاةالأعياد فيها وللصلاة على الجنازة فيها، ففي هذا المكان أو المسمى بالصلاة عادة لايكون هناك جدار ولا سارية عمود ولا أي شيء يمكن أن يتوجه إليه المصلي وأن يجعلهسترة بين يدي صلاته، ففي الحديث المشار إليه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذاخرج إلى صلاة العيد خرج ومعه العنزة – وهي عصاة لها رأس معكوف- فيغرس هذه العصا علىالأرض ثم هو يصلي إليها}.
هكذا كان عليه الصلاة والسلام إذا سافر أو خرج إلىالعراء فحضرته الصلاة صلى إلى سترة، فقد تكون هذه السترة هي عَنزَته، وقد تكون شجرةيصلي إليها، وكان أحيانا يصلي إلى الرَّحل، وهو ما يُرمى على ظهر الجمل يضعه بينيديه ويصلي إليه.
هذا هو السترة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليإليها في كل صلواته ، فنرى المسلمين اليوم قد جهلوا هذه السنة وأعرضوا عن فعلها ،وإذا كنتم تلاحظوا فيما بعد وادخلوا أي مسجد فترى الناس هنا وهناك يصلون لا إلىسترة ، هذا مع أن فيه مخالفة صريحة لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: {صلُّا كمارأيتموني أصلي} ففيه مخالفة أصْرح من ذلك وأخص من ذلك وهو قوله عليه الصلاةوالسلام: {إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة ، لا يقطع الشيطان عليه صلاته}.
وفيرواية أخرى هما روايتان يقول عليه الصلاة والسلام: {إذا صلى أحدكم فليدنو من سترتهلا يقطع الشيطان عليه صلاته} ففي هذين الروايتين الأمر لأمرين اثنين:
الأمرالأول: أن المسلم إذا قام يصلي فيجب أن يصلي إلى شيء بين يديه.
والأمر الثاني: أن لا يكون بعيدا عن هذه السترة ، وإنما عليه أن يدنو منها ، هذا الدنو قد جاءتحديده في حديث سها بن سعد رضي الله عنه الذي أخرجه البخاري في صحيحه: {أن النبيصلى الله عليه وسلم كان إذا صلى كان بينه وبين سترته ممرُّ شاةٍ} ممر شاة تكون عادةفي عرض شبر أو شبرين بكثير ، وإذا سجد المصلي فيكون الفراغ الذي بينه وبين السترةمقدار شبر أو شبرين ، هذا هو الدنو الذي ذكره الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديثالثاني: {إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدنو منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته} فإذا صلىالمسلم في هذا المسجد أو في غيره فهو على خيار ، إن شاء أن يتقدم إلى الجدار القبليفيجعل بينه وبين قيامه نحو ثلاثة أذرع ، بحيث إذا سجد لا يكون بعيداً عن الجدار إلابمقدار المذكور آنفا شبر أو شبرين.
كما أن بعض الناس يُبالغون في التقرب إلىالسترة حتى ليكاد أحدهم أن ينطحَ الجدار برأسه ، هذا خطأ مخالف للحديث.
الناسكما تفهمون ما بين إفراط وتفريط ، ما بين مُهمل للسترة أو يصلي في منتصف المسجدوالسترة بعيدة عنه كلَّ البعد ، وما بين مُقترب إلى سترة حتى لا تجد بين رأسه وبينالسترة مقدار ممر شاة.
الصلاة إلى السترة قد فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلموأمر بها وجعل بينها وبين المصلي مقدار ممر شاة.
وهنا يأتي السؤال الذي يفرضنفسه كما يُقال ، ما حكم الصلاة إلى السترة؟ وعلى العكس من ذلك ما حكم هذه الصلواتالتي يصليها جماهير الناس لا إلى السترة؟
الجواب: حكم هذه الصلاة إلى السترةأنها واجبة.
وكثير ما يقع ويُفاجأ المصلي بمرور شيء ما ، قد يكون كلب أسود أوكلب غير أسود ، الكلب الأسود إذا مر وهو عادة يمرُّ سريعا فقد بطلت صلاة المصلي ،أما إذا كان قد صلى إلى سترة ومرَّ هذا الكلب أو غيره ممن ذكر معه فصلاته صحيحة ،لأنه ائتمر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث السابقة: {إذا صلى أحدكمفليصلي إلى سترة} ، {إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدنو منها} ، ويترتب على اتخاذالسترة حكم شرعي ينتفي هذا الحكم بانتفاء السترة.
جاء في بعض الأحاديث الصحيحة: {إذا صلى أحدكم فأراد أحدٌ أن يمر بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هوشيطان} ، وهذا معناه أنه إذا كان يصلي لا إلى سترة فليس له أن يدفعه فضلا عن أنهليس له أن يقاتله، هذا وذاك من آثار اتخاذ هذه السترة أو الإعراض عنها.
وأخيراًلابد من التذكير بأمر يخالف هذه الأحاديث كلها ، وهذا الأمر خاص في بيت الله الحرام، ثم سرى إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، إن عامة الناس حتى بعض الخاصةيذهبون إلى أن السترة في المسجد الحرام غير واجبة ، حكم خاص زعموا في المسجد الحرام، ثم صارت هذه العدوة إلى المسجد النبوي الكريم ، ينبغي أن تَعلموا أن الحكم السابقفي كل الأحاديث التي مضت تشمل المسجد الحرام كما تشمل مساجد الدنيا ، وإنما صارتفكرة استثناء المسجد الحرام من وجوب السترة من حديث أخرجه النسائي في سننه وأحمد فيمسنده وغيرهما: {أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوماً في حاشية المطاف والناسيمرون بين يديه} هذا الحديث أولاً لا يصح من حيث إسناده ، وإن فيه جهالة كما هومذكور في بعض كتب التخريجات المعروفة ومنها أذكر (إرواء الغليل)ولو صح فليس فيهدليل على أن المرور كان بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام ، فقد ذكرنا آنفاً أنالمرور الممنوع إنما هو بين المصلي وبين موضع سجوده ، ولم يذكر في هذا الحديث الذييحتجون به على أن المصلي في المسجد الحرام لا يجب عليه أن يتخذ سترة ، لو صح هذاالحديث كان يُمكن أن يكون حجة لو صرَّح بأن الناس كانوا يمرون بين يديه عليه السلام، أي بينه قائماً وبين موضع سجوده ، هذا لم يذكر في هذا الحديث ، ولذلك لا يجوزالاستدلال به من الناحيتين :
1- من ناحية الرواية
2- ومن ناحية الدراية
- أما الرواية فلضعف إسنادها.
- وأما الدراية فلعدم دلالة الحديث لو صح أن المروركان بينه عليه السلام وبين موضع سجوده ، ولذلك فالواجب على كل مصل أن يستتر أيضاولو في مسجد الحرام ، نحن نشعر بسبب غلبة الجهل لهذه المسألة بصورة عامة ، وفي غلبةالاحتجاج بهذا الحديث فيما يتعلق بالمسجد الحرام بصفة خاصة ، أن المصلي في المسجدالحرام لكي يتحاشى أخطاء النار للمرور بين يديه ، لأنه ينصرف عن الصلاة وهو في كللحظة يجب أن يعمل بيده هكذا ويُخاصم الناس ، والناس اليوم في الخصومة ألداء ، ولذلكفينبغي للمسلم أن يبتعد عن المكان الذي يغلب على ظنه أنه مكان متروك الناس يمرونبين يديه لا يابلون بصلاته أية مبالاة ، ولكن عليه أن يصلي في مكان وإلى سترة لكييحقق أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
أما المسجد النبوي فأمر الناس فيه أعجب لأنهإن كان لهم عذر فيما يتعلق بالمسجد الحرام ، وإن كان هذا العذر عند كرام الناس غيرمقبول ، لأنه مخالف لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فالعجب أن مسجد الرسول منهانطلقت كل هذه الأحاديث التي سمعتموها ، وإذا بها تعطل لدعوى أن مسجد الرسول هوكمسجد الحرام ، فكلاهما مستثنا منهما وجوب السترة ، فإذا عرفتم أن المسجد الحرامحديث الوارد في خصوص عدم اتخاذ السترة ضعيف ، ولو صح لم يدل على المقصود ، فاعلمواأن المسجد النبوي لا شيئا يُلحقه بالمسجد الحرام ، بل ما قال رسول الله صلى اللهعليه وسلم : {إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة} {إذا صلى أحدكم فليدنو من سترته يقطعصلاة أحدكم إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل المرأة والحمار والكلب الأسود} ،ما قال الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الأحاديث وما تستره بالجدار وجعل بينه وبينسترته ممر شاة إلا في مسجده ، هذا من غربة الإسلام وإماتة السنن مع ممرالزمان.
ولذلك أحببت أن أذكركم بأني كلما دخلت مسجدا كهذا أو غيره أرى الناسيصلون صلاة لا إلى سترة ، لأننا قد يرد إشكال وهو كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء ،وهو أن بعض المساجد كهذا المسجد الإمام يصلي في منتصف المسجد والعشاء إلىالمحراب.
وبمناسبة المحراب ، لا بد من التذكير بهذه النصيحة ، وإن كان الناس عنهغافلون ، أن المسجد النبوي لم يكن له محراب ، وإنما جدار القبلي كسائر الجدر هكذامسحاً ، ليس فيه هذا إطلاق وبخاصة أن الناس اليوم تفننوا جدا جداً ، بحيث جعلوا عمقالمحراب إلى القبلة لو أن الإمام وقف فيه غرق ولم يظهر شخصه للمصلين خلفه من يمينأو يسار ، هذا المحراب إنما تسرَّب إلى المسلمين مع الأسف من كنائس النصارى ،فالمحاريب هذه لم يكن من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من عهد الصحابة ، وإنماحدث ذلك فيما بعد ، وللحافظ السيوطي رسالة لطيفة مفيدة سماها بـ(تنبيه الأريب فيبدعة المحاريب) وهذه الرسالة نافعة يحسن لطلاب العلم أن يطلعوا عليها ، ولكن حذاريمن بعض التعليقات التي كُتبت عليها بقلم أحد الغُماريين المغاربة ، لأن هؤلاءالغماريين وإن كان لهم مشاركة في علم الحديث ولكنهم من أهل الأهواء والبدع الذينتؤثر فيهم علمهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ودراستهم لأحاديثه ، ويكفي في ذلكأنهم هم مشايخ الطرق ، فكيف يجتمع أن يكون محدثاً وطرقياً ، والطرق كلها ضلالةلأدلة الكتاب والسنة ، ولسنا الآن في هذه الحاجة ، إنما القصد الاعتماد على ما ذكرهالسيوطي في هذه الرسالة دون الاغترار بما جاء في تلك الحواشي التي خلاصتها تمريروتسليط ما اعتاده المسلمون من هذه محاريب المساجد وبخاصتها في هذا الزمان الذبنفننوا في بناء المحاريب فيها.
من تلك الشبهات أن المحراب يدلُّ الغريب على جهةالقبلة ومن هنا قد يأخذ بعض الناس من هذه الحواشي ، فنحن نقول الغاية لا تبررالوسيلة ، إذا كان المسجد النبوي لم يكن فيه هذا المحراب ، أليس قد كان هناك ما يدلعلى سنة القبلة وجهاتها؟ لا شك من ذلك فما هو؟ هو الشيء الذي كان يومئذ ينبغي عليناأن نتخذه كعلامة لجدار القبلة يصلي المصلي الغريب إلى هذا الجدار وليس إلى الجدرالأخرى.
من الواضح جداً كما أنتم تشاهدون حتى اليوم أن المنبر يُبنى لنفس الجهةالتي يكون فيها المحراب ، فإذا ما ادَّاعي من جعل علامتين اثنتين تدل كل منهما علىالقبلة ؟ فالمنبر لا بد منه ، ها هو يدل إذاً على جهة القبلة فطاح ذلك الذي يتكئعليه هؤلاء الذين يريدون تشبيك الواقع ولو كان مخالفاً للسنة.
فإذاً حينما لايصلي الإمام إلى الجدار ، وإنما يقف بعيداً عنه لعدة صفوف ، فعلى هذا الإمام أولاًأن يضع سترة بين يديه كما رأيت في هذا المسجد والحمد لله ، ثم على المصلين الذينيريدون أن يصلوا السنة ، إما أن يتقدموا إلى الجدار القبلي و يصلون على النحو الذيوصفنا آنفاً ، وإما أن يتسترون ببعض هذه القوائم التي هي مثل هذه الطاولات التيتوضع عليها المصاحف والكتب أو يستترون ببعض الأعمدة ، أخيراً قد يكون هناك بعضالمصلين صلوا جلسوا ينتظرون إقامة الصلاة ، فمن الممكن أن يتخذ الداخل للمسجد سترةأحد هؤلاء الجالسين المنتظرين للصلاة.
ذكرت هذا لأن بعض الناس وأنا بالسترةالإمام يصلي في منتصف المسجد تقريباً ، فهو إذا تقدم إلى الجدار وأُقيمت الصلاة وقفالصف حائلاً بينه وبين أن يمر فيتخذ مكاناً في الصف ، هذه شبهة يبنى حكايتها علىالجد عليها لوهائها وضعفها ، فلو صلى أحدهم إلى جدار القبلة ثم أقيمت الصلاة ياترى؟ ورجع القهقري لا يفصحون له المجال ليصلي حتى في الصف الأول؟ إذا فرضنا أنهم لايفسحون له مجالاً ، فسيجد فراغاً يمررونه فيه حتى يقف في الصف الثاني أو الصفالثالث على حسب الازدحام الذي يكون في المسجد.
إذا خلاصة القول ، يجب الانتباه لهذه المسألة لأنها مهجورة في أكثر المساجد لغفلة الناس عنها وقلة من يذكر بها ،حتى لو كان في المسجد الحرام على التفصيل الذي ذكرته آنفاً ؛ وقد ذكرت بعض الآثارالصحيحة عن بعض السلف الصالح ومنهم عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: {أنهكان إذا صلى في المسجد الحرام وضع بين يديه سترة} هذا من فعل السلف ، وذلك تطبيقلكل هذه الأحاديث التي سبق ذكرها ، وهذه ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين.
تعليق