الحمدُ لله رب العالمين ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلَّى اللهُ وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين . اللهم علِّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علَّمتنا ، وزدنا علمًا ، وأصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين . أما بعد :
هذه وقفة معاشر الكرام مع هذه النعمة العظيمة التي منَّ الله سبحانه وتعالى بها على العباد وتفضل ، وهو جل في علاه واسع المن عظيم الفضل . أعني ما استمعنا إليه في قول الله عز وجل {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ(12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ }[الزخرف:12] .
فهذه يا معاشر الكرام نعمة عظيمة ومنَّة جليلة يسَّرها الله سبحانه وتعالى للعباد وسخرها ، وفي سورة النحل التي يسميها بعض أهل العلم «سورة النِّعم» ذكر الله سبحانه وتعالى هذه النعمة في أوائل النعم في هذه السورة ، قال جل في علاه: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8 )} ، قد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى أن المركوبات الحديثة التي يسَّرها الله سبحانه وتعالى للعباد داخلة تحت قوله { وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، ففي الآية إشارة إليها . والواجب على العبد المؤمن أن يكون ذاكرًا لنعمة الله سبحانه وتعالى عليه معترفًا له بالفضل والمنة كما قال سبحانه وتعالى في تمام عدِّه للنِّعم في سورة النعم {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} . فالواجب على العبد أن يعرف لله سبحانه وتعالى الفضل والمن على عباده ، وأن ينسب النعمة إليه "هذا من فضل ربي ، هذا فضل الله علي" ، وأن يكون شاكرًا لله مستعملا نعمته في طاعته وما يقرب إليه سبحانه وتعالى .
وفي آيات الزخرف التي استمعنا إليها في قراءة القارئ الكريم يقول الله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ(12)} أي سخر لكم هذه المركوبات ؛ أما الفلك فتنقلكم من مكان إلى مكان ومن جهة إلى جهة في البحار ، وأما الأنعام فتنقلكم من جهة إلى جهة في البراري . والواجب على العبد في تنقله على هذه المركوبات وغيرها أن يذكر نعمة ربه عليه { ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)} ؛ فيذكر فضل الله عليه .
وينبغي أن يكون هذا الذكر لفضل الله على عبده بالمركوب في كل مرة يركب ، ليس مرةً ويقف ! بل في كل مرة يركب دابته أو سيارته أو دراجته أو غير ذلك من المركوبات من قطار أو طائرة أو سفينة أو غير ذلك يذكر نعمة الله سبحانه وتعالى عليه بهذه المركوبات التي سهلت له الانتقال من مكان إلى مكان وسهلت له حمل المتاع من مكان إلى مكان ، فيذكر نعمة الله عليه في كل مرة { تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} .
وقد جاءت السنة عن نبينا عليه الصلاة والسلام بمشروعية قول هذا الذكر في كل مرة يركب المرء دابته ؛ فقد خرَّج أبو داود والترمذي وغيرهما عن علي بن ربيعة قال : شَهِدْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأُتِيَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا ، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ» ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» ، ثُمَّ قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 14]، ثُمَّ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ قَالَ: «سُبْحَانَكَ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» ، ثُمَّ ضَحِكَ رضي الله عنه ، قال علي بن ربيعة: فقلت له مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ؟ قَالَ: « رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ كَمَا فَعَلْتُ» يعني من الأذكار ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ؟ قَالَ عليه الصلاة والسلام : ((إِنَّ رَبَّكَ يَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي)) .
ففي هذا الحديث -وهو حديث صحيح ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام- مشروعية هذا الذكر وهو يقال في كل مرة تركب دابتك أو مركوبك أيًا كان سواء في سفر أو في حضر ، تقوله في كل مرة تركب دابتك أو مركوبك ذاكرا لله ، مستحضرًا نعمة الله عليك ، حامدًا ربك ومولاك ، مقرًا بتقصيرك في جنب الله عز وجل ارتكابك للخطايا والذنوب مع نعم الله السابغة وآلائه المتعددة ، وتنزه الله وتقدسه جل في علاه وتسأله جل وعلا غفران الذنوب . وهو ذكر جدير بكل مسلم أن يحفظه وأن يحافظ عليه وأن يقوله في كل مرة يركب دابته .
تعليق