علم أصول الحديث
ويقال له: علم رواية الحديث، والأول: أشهر، لكن ذكره صاحب الكشف في الدال، نظراً إلى المعنى فتأمل.
وهو علم يبحث فيه عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - إسناداً، ومتناً، ولفظاً، ومعنى، من حيث القبول والرد، وما يتبع ذلك من كيفية تحمل الحديث وروايته، وكيفية ضبطه وكتابته، وآداب رواته وطالبيه.
وقيل في رسمه ما هو أخصر وهو أنه علم تعرف به أحوال الراوي والمروي، من جهة القبول والرد.
وموضوعه: الراوي والمروي من هذه الجهة.
وغايته: ما يقبل ويرد من ذلك.
والحافظ ابن حجر يرى ترادف الخبر والأثر، كما دل له تسمية كتابه ((نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر))، وهذا العلم كثير النفع لا غنى عنه لمن يدخل في علم الحديث، والكتب فيه كثيرة جداً ما بين مختصر ومطول.
منها كتاب ((إسبال المطر على قصب السكر)). (2/ 67)
وكتاب ((توضيح الأفكار شرح تنقيح الأنظار))، كلاهما للسيد الإمام المجتهد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير اليمني - رحمه الله -.
و ((الباعث الحثيث)) للحافظ ابن كثير.
و ((تدريب الراوي)) للسيوطي.
و ((منهج الوصول إلى اصطلاح أحاديث الرسول))، المؤلف الكتاب، وهو بالفارسية، وقد ذكرت فيه ما ألف في هذا العلم مرتباً على حروف المعجم، والله أعلم.
علم أصول الدين
المسمى بـ ((الكلام))، يأتي في الكاف.
وقال الأرنيقي: هو علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية، بإيراد الحجج عليها، ودفع الشبه عنها.
وموضوعه عند الأقدمين: ذات الله تعالى، وصفاته، لأن المقصود الأصلي من علم الكلام معرفته تعالى، وصفاته، ولما احتاجت مباديه إلى معرفة أحوال المحدثات، أدرج المتأخرون تلك المباحث في علم الكلام، لئلا يحتاج أعلى العلوم الشرعية إلى العلوم الحكمية، فجعلوا موضوعه الموجود من حيث هو موجود، وميزوه عن الحكمة بكون البحث فيه على قانون الإسلام، وفي الحكمة على مقتضى العقول.
ولما رأى المتأخرون احتياجه إلى معرفة أحوال الأدلة، وأحكام الأقيسة، وتحاشوا عن أن يحتاج أعلى العلوم الشرعية إلى علم المنطق، جعلوا موضوعه المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية تعلقاً قريباً أو بعيداً.
ثم إن علم الكلام شرطوا فيه أن تؤخذ العقيدة أولاً من الكتاب والسنة، ثم تثبت بالبراهين العقلية انتهى.
ثم ذكر الإنكار على علم الكلام نقلاً عن الأئمة الأربعة، وفصل أقوالهم في ذلك (2/ 68)، وأطال في بيانها، وبيان حدوث الاعتزال، وردُ أبي الحسن الأشعري عليه، قال: وعند ذلك ظهرت العقائد الواردة في الكتاب والسنة، وتحولت قواعد علم الكلام من أيدي المعتزلة إلى أيدي أهل السنة والجماعة انتهى.
ثم ذكر حال أبي منصور الماتريدي، وكتبه في العقائد.
قلت: والكتب في هذا العلم كثيرة جداً، وأحسنها كتب المحدثين في إثبات العقائد على الوجه المأثور عن الكتاب والسنة.
وفي الرد على المتكلمين منها: كتب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وكتب تلميذه الحافظ ابن القيم، وكتاب ((الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم)) للسيد الإمام محمد بن إبراهيم الوزير اليمني.
وكتاب ((السفاريني))، وهو مجلد كبير، وقد منّ الله تعالى بتلك الكتب النافعة عليّ مناً كافياً وافياً. وكتبت قبل ذلك رسالة سميتها ((قصد السبيل إلى ذم الكلام والتأويل))، وهي نفيسة جداً، وليس هذا الموضوع بسط القول في ذم الكلام، ومدح العقائد أهل الحديث الكرام.
قال في ((كشاف اصطلاحات الفنون)): أما وجه تسميته بـ ((الكلام))، فإنه يورث قدرة على الكلام في الشرعيات، أو لأن أبوابه عنونت أولاً بالكلام في كذا، ولأن مسئلة الكلام أشهر أجزائه حتى كثر فيه التقاتل.
قال: وسماه أبو حنيفة - رحمه الله - بـ ((الفقه الأكبر)).
وفي ((مجمع السلوك) ويسمى بـ ((علم النظر والاستدلال)) أيضاً.
ويسمى أيضاً بـ ((علم التوحيد والصفات)).
وفي ((شرح العقائد)) للتفتازاني: العلم المتعلق بالأحكام الفرعية، أي العلمية يسمى ((علم الشرائع والأحكام وبـ ((الأحكام الأصلية))، أي الاعتقادية يسمى ((علم التوحيد والصفات)) انتهى. (2/ 69)
ثم ذكر تعريف هذا العلم على ما تقدم وأبدى فوائد قيود حده المذكور آنفاً.
قال: وموضوعه: هو العلوم.
وقال الأرموي: ذات الله تعالى.
وقال طائفة منهم الغزالي: موضوعه الموجود بما هو موجود، أي من حيث هو غير مقيد بشيء.
وفائدته وغايته: الترقي من حضيض التقليد إلى ذروة الإيقان، وإرشاد المسترشدين بإيضاح الحجة لهم، وإلزام المعاندين بإقامة الحجة عليهم، وحفظ قواعد الدين عن أن تزلزلها شبهة المبطلين، وأن تبنى عليه العلوم الشرعية، فإنه أساسها، وإليه يؤول أخذها وأساسها، فإنه ما لم يثبت وجود صانع، عالم قادر، مكلف، مرسل للرسل، منزل للكتب، لم يتصور علم تفسير، ولا علم فقه، وأصوله، فكلها متوقفة على علم الكلام مقتبسة منه، فالأخذ فيها بدونه كبان على غير أساس.
وغاية هذه الأمور كلها: الفوز بسعادة الدارين، ومن هذا تبين مرتبة الكلام أي شرفه، فإن شرف الغاية يستلزم شرف العلم، وأيضاً دلائله يقينية يحكم بها صريح العقل، وقد تأيدت بالنقل، وهي أي شهادة العقل مع تأيدها بالنقل هي الغاية في الوثاق، إذ لا تبقي حينئذ شبهة في صحة الدليل.
وأما مسائله التي هي المقاصد: فهي كل حكم نظري لمعلوم، والكلام هو العلم الأعلى، إذ تنتهي إليه العلوم الشرعية كلها، وفيه تثبت موضوعاتها وحيثياتها، فليست له مباد تبين في علم آخر شرعياً أو غيره، بل مباديه إما مبينة بنفسها، أو مبينة فيه، فهي مسائل له من هذه الحيثية، ومباد لمسائل أخر منه لا تتوقف عليها، لئلا يلزم الدور، فلو وجدت في الكتب الكلامية مسائل لا يتوقف عليها إثبات العقائد في الكتاب (2/ 70) فمن الكلام يستمد غيره من العلوم الشرعية، وهو لا يستمد من غيره أصلاً، فهو رئيس العلوم الشرعية على الإطلاق بالجملة، فعلماء الإسلام، وقد دونوا إثبات العقائد الدينية المتعلقة بالصانع، وصفاته، وأفعاله، وما يتفرع عليها من مباحث النبوة، والمعاد، علماً يتوصل به إلى إعلاء كلمة الحق فيها، ولم يرضوا أن يكونوا محتاجين فيه إلى علم آخر أصلاً.
فأخذوا موضوعه على وجه يتناول تلك العقائد والمباحث النظرية التي تتوقف عليها تلك العقائد، سواء كان توقفها عليها باعتبار مواد أدلتها واعتبار صورها.
وجعلوا جميع ذلك مقاصد مطلوبة في علمهم هذا فجاء علماً مستغنياً في نفسه عما عداه، ليس له مباد تبين في علم آخر، هذا خلاصة ما في ((شرح المواقف)) انتهى.
وانظر في هذا الباب كتاب ((العواصم والقواصم)) للسيد محمد بن إبراهيم الوزير اليمني - رحمه الله -، يتضح لك الخطأ والصواب.
علم أصول الفقه
هو علم يتعرف منه استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها الإجمالية اليقينية.
وموضوعه: الأدلة الشرعية الكلية من حيث أنها كيف تستنبط منها الأحكام الشرعية؟.
ومباديه: مأخوذة من العربية وبعض من العلوم الشرعية، كأصول الكلام، والتفسير، والحديث، وبعض من العقلية.
والغرض منه: تحصيل ملكة استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها الأربعة، أعني الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. (2/ 71)
وفائدته: استنباط تلك الأحكام على وجه الصحة.
واعلم أن الحوادث وإن كانت متناهية في نفسها بانقضاء دار التكليف، إلا أنها لكثرتها وعدم انقطاعها ما دامت الدنيا غير داخلة تحت حصر الحاضرين، فلا تعلم أحكامها جزئياً، ولما كان عمل من أعمال الإنسان حكماً من قبل الشارع، منوطاً بدليل يخصه، جعلوها قضايا موضوعاتها أفعال المكلفين، ومحمولاتها أحكام الشارع، من الوجوب وأخواته فسموا العلم المتعلق بها، الحاصل من تلك الأدلة ((فقهاً)).
ثم نظروا في تفصايل الأدلة والأحكام وعمومها، فوجدوا الأدلة راجعة إلى الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، ووجدوا الأحكام راجعة إلى الوجوب، والندب، والحرمة، والكراهة، والإباحة، وتأملوا كيفية الاستدلال بتلك الأدلة على تلك الأحكام إجمالاً من غير نظر إلى تفصيلها إلا على طريق التمثيل، فحصل لهم قضايا كلية متعلقة بكيفية الاستدلال بتلك الأدلة على الأحكام الجزئية، وبيان طرقه وشارئط ليتوصل بكل من تلك القضايا إلى استنباط كثير من تلك الأحكام الجزئية عن أدلتها التفصيلية، فضبطوها ودونوها، وأضافوا إليها من اللواحق، وسموا العلم المتعلق بها ((أصول الفقه)).
قال الإمام علاء الدين الحنفي في ((ميزان الأصول)): اعلم أن أصول الفقه فرع لعلم أصول الدين، فكان من الضرورة أن يقع التصنيف فيه على اعتقاد مصنف الكتاب، وأكثر التصانيف في أصول الفقه لأهل الاعتزال المخالفين لنا في الأصول، ولأهل الحديث المخالفين لنا في الفروع، ولا اعتماد على تصانيفهم.
وتصانيف أصحابنا قسمان:
قسم: وقع في غاية الإحكام والإتقان، لصدوره ممن جمع الأصول والفروع، مثل: ((مآخذ الشروع))، وكتاب: ((الجدل)) للماتريدي، ونحوهما.
وقسم: وقع في نهاية التحقيق في المعاني، وحسن الترتيب، لصدروه ممن تصدى (2/ 72) لاستخراج الفروع من ظواهر المسموع، غير أنهم لما لم يتمهروا في دقائق الأصول، وقضايا المعقول، أفضى رأيهم إلى رأي المخالفين في بعض الفصول، ثم هجر القسم الأول، إما: لتوحش الألفاظ والمعاني، وإما: لقصور الهمم والتواني، واشتهر القسم الآخر. انتهى.
وهذا الذي نسبه إلى أهل الحديث، وعدم الاعتماد على تصانيفهم، نفس تعصبية صدرت من بطن التقليد، وإذا لم يعتمد تصنيف أهل الحديث الذين هم القدوة والأسوة في الدين، والعرفاء بالنصوص من الكتاب، والسنة، أكثر من أهل الفقه والمقلدة، بمراتب كثيرة، ومناحي غفيرة، فأي جماعة تليق بالاعتماد والتعويل؟
فما هذا الحرف من هذا الحنفي المتعصب إلا زلة شديدة لا يتأتى مثلها إلا عمن ليس من العلم والإنصاف في صدر، ولا ورد فهذا القول ليس عليه إثارة من علم.
قال في ((كشاف اصطلاحات الفنون)): علم أصول الفقه ويسمى بـ ((علم الدراية)) أيضاً، على ما في ((مجمع السلوك))، وله تعريفان:
أحدهما: باعتبار الإضافة.
وثانيهما: باعتبار اللقب، أي باعتبار أنه لقب لعلم مخصوص، ثم ذكر هذين التعريفين، وبسط القول في فوائدهما.
ونقل عن ((إرشاد القاصد)) للشيخ، شمس الدين الأكفاني السخاوي:
إن أصول الفقه: علم يتعرف منه تقرير مطلب الأحكام الشرعية العملية، وطرق استنباطها، ومواد حججها، واستخراجها بالنظر.
وموضوعه: الأدلة الشرعية والأحكام، إذ يبحث فيه عن العوارض الذاتية للأحكام الشرعية، وهي إثباتها للحكم، وعن العوارض الذاتية للأحكام، وهي ثبوتها بتلك الأدلة.
قال: وإن شئت زيادة التحقيق فارجع إلى ((التوضيح والتلويح)) انتهى كلام ((الكشاف)) ملخصاً.
ثم اعلم أن أول من صنف في أصول الفقه الإمام الشافعي ذكره الإسنوي في ((التمهيد))، وحكى الإجماع فيه، وهو شيخ المحدثين والفقهاء.
والكتب المصنفة فيه كثيرة معروفة، وأحسنها ترتيباً، وأكملها تحقيقاً، وتهذيباً (2/ 73)، وأبلغها قبولاً، وأعدلها إنصافاً، كتاب: ((إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول))، لقاضي القضاة شيخنا محمد بن علي الشوكاني اليمني؛ المتوفى في سنة خمس وخمسين ومائتين وألف؛ وقد لخصنا كتابه هذا، وسميناه: ((بحصول المأمول من علم الأصول))، وهو نفيس جداً، فإن كنت ممن يبغي تحقيق الحق على جانب من التقليد والعصبية لآراء الرجال، ويعرف هذا العلم على ما فيه من القيل والقال، فارجع إليهما، تجدهما ديباجة الدنيا، ومكرمة الدهر، ونكتة عطارد، التي يفتخر بها الفخر.
مذاهب شتى للمحبين في الهوى ** ولي مذهب واحد أعيش به وحدي.
وكم من رأي في الدين للشريعة محرف، ولهم عن جماعة السنة المطهرة محرف، {فاعبد ربك حتى يأتيك اليقين}.
وقال في: ((مدينة العلوم)): ومن الكتب القديمة المصنفة في هذا العلم، كتاب الجصاص أحمد بن علي أبي بكر الرازي وكتاب: ((الأسرار))، وكتاب: ((تقويم الأدلة)) للإمام زيد الدبوسي - قرية بين بخارا وسمرقند -؛ المتوفى سنة 402.
ومنها: ((أصول فخر الإسلام)) للبزدوي؛ ولكتابه شروح كثيرة أشهرها: ((الكشف)) لعبد العزيز بن أحمد البخاري.
ومنها: ((أصول شمس الأئمة السرخسي)).
وإحكام الأحكام)) للآمدي.
و: ((منتهى السول والأمل، في علمي الأصول، والجدل))، ومختصر هذين كلاهما لابن الحاجب وشروحه تزيد على عشرة.
وكتاب: ((القواعد، والبديع)) لابن الساعاتي البعلبكي.
ومنها: ((المنار)) للنسفي، وله شروح.
ومنها: ((المغني)) للخبازي، وشرحه لسراج الدين الهندي قاضي الحنفية بالقاهرة.
وكتاب: ((المنتخب للأخسيكثي))، و: ((التحصيل)) للابي وردي، و: ((المحصول)) للفخر الرازي و: ((التنقيح))، وشرحه: ((التوضيح لصدر الشريعة والتلويح على شرح التنقيح)). (2/ 74) للسعد التفتازاني و: ((فصول البدائع في الأصول الشرائع)) لشمس الدين الفتازاي، و: ((منهاج الوصول إلى علم الأصول)) للقاضي البيضاوي على مذهب الشافعي، وله شروح.
ومنها: ((مرقاة الوصول إلى علم الأصول))، وغير ذلك. انتهى حاصل كلامه.
قلت: ومنها: ((جمع الجوامع)) لتاج الدين السبكي، وله شروح، قد طبع بمصر القاهرة في هذا الزمان؛ وأحسن كتب هذا العلم كتاب شيخنا الشوكاني، الذي تقدم ذكره، فاشدد يديك عليه، تهتدي إلى جادة الحق.
فصل: قال قاضي القضاة مؤيد الدين عبد الرحمن بن خلدون - - رحمه الله - تعالى - في كتاب: ((العبر، وديوان المبتدأ والخبر))، ما نصه:
اعلم: أن أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية، من حيث تؤخذ منها: الأحكام، والتكاليف، وأصول الأدلة الشرعية، هي: الكتاب - الذي هو القرآن -، ثم السنة، المبينة له، فعلى عمل النبي - - صلى الله عليه وسلم - - كانت الأحكام تتلقى منه ما يوحى إليه، من القرآن، ويبينه بقوله، وفعله، بخطاب شفاهي، لا يحتاج إلى نقل، ولا إلى نظر وقياس، ومن بعده - - صلى الله عليه وسلم - - تعذر الخطاب الشفاهي، وانحفظ القرآن بالتواتر.
وأما السنة: فأجمع الصحابة - رضوان الله عليهم - على وجوب العمل بما يصل إلينا منها: قولاً، وفعلاً، بالنقل الصحيح الذي يغلب على الظن صدقه، وتعينت دلالة الشرع في الكتاب والسنة بهذا الاعتبار، ثم ينزل الإجماع منزلتها إلا إجماع الصحابة على النكير على مخالفيهم، ولا يكون ذلك إلا عن مستند، لأن مثلهم لا يتفقون من غير دليل ثابت، مع الشهادة الدالة بعصمة الجماعة؛ فصار الإجماع دليلاً ثابتاً في الشرعيات.
ثم نظرنا في طرق استدلال الصحابة، والسلف، بالكتاب، والسنة، فإذا هم يقيسون الأشباه بالأشباه منهما، ويناظرون الأمثال بالأمثال بإجماع منهم، وتسليم بعضهم لبعض يفي ذلك، فإن كثيراً من الواقعات بعده، لم تندرج (2/ 75) في النصوص الثابتة، فقاسوها بما يثبت، وألحقوها بما نص عليه بشروط في ذلك الإلحاق، تصح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين، حتى يغلب على الظن أن حكم الله تعالى فيهما واحد، وصار ذلك دليلاً شرعياً بإجماعهم عليه، وهو: القياس؛ وهو رابع الأدلة، واتفق جمهور العلماء على أن هذه: هي أصول الأدلة، وإن خالف بعضهم في الإجماع والقياس، إلا أنه شذوذ؛ وألحق بعضهم بهذه الأربعة أدلة أخرى لا حاجة بنا إلى ذكرها لضعف مداركها، وشذوذ القول فيها، فكان أول مباحث هذا الفن، بما يصح منها، - كما قلناه - معتضداً بما كان عليه العمل في حياته - - صلى الله عليه وسلم - - من إنفاذ الكتب والرسل إلى النواحي بالأحكام، والشرائع، آمراً، وناهياً.
وأما الإجماع: فلاتفاقهم على إنكار مخالفته، مع العصمة الثابتة للأمة.
وأما القياس: فبإجماع الصحابة - رضي الله عليه عنهم -، كما قدمنا هذه أصول الأدلة.
ثم إن: المنقول من السنة، محتاج إلى تصحيح الخبر، بالنظر في طرق النقل، وعدالة الناقلين، لتتميز الحالة المحصلة للظن بصدقه، الذي هو مناط وجوب العمل، وهذه أيضاً من قواعد الفن، ويلحق بذلك عند التعارض بين الخبرين، وطلب المتقدم منهما، معرفة الناسخ والمنسوخ، وهي من فصوله أيضاً، وأبوابه، ثم بعد ذلك يتعين النظر في دلالة الألفاظ، وذلك أن استفادة المعاني على الإطلاق، يتوقف على معرفة الدلالات الوضعية، مفردة، ومركبة، والقوانين اللسانية في ذلك هي: علوم النحو والتصريف، والبيان، وحين كان الكلام ملكة لأهله، لم تكن هذه علوماً، ولا قوانين، ولم يكن الفقه حينئذ يحتاج إليها، لأنه جبلة، وملكة، فلما فسدت الملكة في لسان العرب، قيدها الجهابذة المتجردون لذلك، بنقل صحيح، ومقايس مستنبطة صحيحة، وصارت علوماً يحتاج إليها الفقيه في معرفة أحكام الله تعالى.
ثم إن هناك استفادات أخرى خاصة من تراكيب الكلام وهي: استفادة الأحكام الشرعية بين المعاني من أدلتها الخاصة من تراكيب الكلام، وهو الفقه، (2/ 76) ولا يكفي فيه معرفة الدلالات الوضعية على الإطلاق، بل لا بد من معرفة أمور أخرى، تتوقف عليها تلك الدلالات الخاصة، وبها تستفاد الأحكام، بحسب ما أصل أهل الشرع، وجهابذة العلم من ذلك وجعلوه قوانين لهذه الاستفادة، مثل: أن اللغة لا تثبت قياساً، والمشترك لا يراد به معنياه معاً، والواو لا تقتضي الترتيب، والعام، إذا أخرجت أفراد الخاص منه، هل يبقى حجة في ما عداها؟ والأمر للوجوب أو الندب؟ وللفور أو التراخي؟ والنهي يقتضي الفساد أو الصحة؟ والمطلق هل يحمل على المقيد؟ والنص على العلة كاف في التعدد أم لا؟ وأمثال هذه؛ فكانت كلها من قواعد هذا الفن، ولكونها من مباحث الدلالة كانت لغوية.
ثم إن النظر في القياس من أعظم قواعد هذا الفن: لأن فيه تحقيق الأصل والفرع فيما يقاس، ويماثل، من الأحكام، وينفتح الوصف الذي يغلب الظن أن الحكم علق به في الأصل، من تبين أوصاف ذلك المحل، أو وجود ذلك الوصف، والفرع من غير معارض يمنع من ترتيب الحكم عليه، في مسائل أخرى من توابعة ذلك، كلها قواعد لهذا الفن.
واعلم: أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة، وكان السلف في غنية عنه، بما أن استفادة المعاني من الألفاظ إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية
وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصاً: فمنهم أخذ معظمها، وأما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر فيها لقرب العصر، وممارسة النقلة، وخبرتهم، فلما انقرض السلف، وذهب الصدر الأول، وانقلبت العلوم كلها صناعة، احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين، والقواعد، لاستفادة الأحكام من الأدلة، فكتبوها فناً قائماً برأسه: ((أصول الفقه)).
وكان أول من كتب فيه: الشافعي أملى فيه رسالته المشهورة، تكلم فيها في الأوامر، والنواهي، والبيان، والخبر، والنسخ، وحكم العلة المنصوصة من القياس.
ثم كتب فقهاء الحنفية فيه، وحققوا تلك القواعد، وأوسعوا القول فيها. (2/ 77)
وكتب المتكلمون أيضاً كذلك، إلا أن كتابة الفقهاء فيها أمس بالفقه، وأليق بالفروع، لكثرة الأمثلة منها، والشواهد، وبناء المسائل فيها على النكت الفقهية.
والمتكلمون يجردون صور تلك المسائل عن الفقه، ويميلون إلى الاستدلال العقلي ما أمكن، لأنه غالب فنونهم، ومقتضى طريقتهم، فكان لفقهاء الحنفية فيها اليد الطولى، من الغوص على النكت الفقهية، والتقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن.
وجاء أبو زيد الدبوسي من أئمتهم، فكتب في القياس بأوسع من جميعهم، وتمم الأبحاث والشروط، التي يحتاج إليها فيه، وكملت صناعة أصول الفقه بكماله، وتهذبت مسائله، وتمهدت قواعده.
وعني الناس بطريقة المتكلمين فيه، وكان من أحسن ما كتب فيه المتكلمون كتاب: ((البرهان)) لإمام الحرمين، و: ((المستصفى)) للغزالي، وهما من الأشعرية.
وكتاب: ((العهد)) لعبد الجبار، وشرحه: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري، وهما من المعتزلة
وكانت الأربعة: قواعد هذا الفن، وأركانه، ثم لخص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكلمين المتأخرين وهما: الإمام فخر الدين بن الخطيب، في كتاب: ((المحصول)) وسيف الدين الآمدي، في كتاب: ((الأحكام))، واختلفت طرائقهما في الفن بين التحقيق، والحجاج، فابن الخطيب أميل إلى الاستكثار من الأدلة، والاحتجاج، والآمدي مولع بتحقيق المذاهب، وتفريع المسائل.
وأما كتاب: ((المحصول))، فاختصره تلميذ الإمام سراج الدين الأرموي في كتاب: ((التحصيل)) وتاج الدين الأرموي، في كتاب: ((الحاصل))، واقتطف شهاب الدين القرافي منهما مقدمات، وقواعد، في كتاب صغير سماه: ((التنقيحات))، وكذلك فعل البيضاوي في كتاب: ((المنهاج))، وعنى المبتدون بهذين الكتابين وشرحهما كثير من الناس. (2/ 78)
وأما كتاب: ((الأحكام)) للآمدي، وهو أكثر تحقيقاً في المسائل، فلخصه أبو عمرو ابن الحاجب في كتابه المعروف بـ: ((المختصر الكبير))، ثم اختصره في كتاب آخر تداوله طلبة العلم، وعنى أهل المشرق والمغرب به، وبمطالعته، وشرحه، وحصلت زبدة طريقة المتكلمين في هذا الفن في هذه المختصرات.
وأما طريقة الحنفية: فكتبوا فيها كثيراً، وكان من أحسن كتابة فيها: للمتقدمين، تأليف أبي زيد الدبوسي، وأحسن كتابة للمتأخرين، فيها تأليف سيف الإسلام البزدوي من أئمتهم، وهي مستوعب.
وجاء ابن الساعاتي، من فقهاء الحنفية، فجمع بين كتاب: ((الأحكام))، وكتاب البزدوي، في الطريقتين، وسمى كتابه: ((البدائع))، فجاء من أحسن الأوضاع، وأبدعها، وأئمة العلماء لهذا العهد يتداولونه، قراءة، وبحثاً، وولع كثير من علماء العجم بشرحه، والحال على ذلك لهذا العهد.
هذه حقيقة هذا الفن، وتعيين موضوعاته، وتعديد التآليف المشهورة لهذا العهد فيه، والله ينفعنا بالعلم، ويجعلنا من أهله، بمنه، وكرمه، إنه على كل شيء قدير. انتهى كلامه.
ومن الكتب المصنفة في هذا العلم: كتاب: ((مغتنم الحصول في علم الأصول)) للشيخ حبيب الله. القندهاري، من رجال هذه المائة، و: ((مسلم الثبوت)) لمحب الله البهاري، و: ((رسالة الشيخ محمد إسماعيل الدهلوي))، و: ((حصول المأمول لكاتب الحروف)) - عفا الله عنه.
علم الأطعمة والمزورات
ذكره أبو الخير من فروع علم الطب، وقال: هو علم باحث عن كيفية تركيب الأطعمة اللذيذة، والنافعة، بحسب الأمزجة، ورأيت فيه تصنيفاً. انتهى.
ولا يخفى أنه صناعة الطبخ، وفيه: ((الدبيخ في الطبيخ)).
علم إعجاز القرآن
ذكره أبو الخير من جملة فروع علم التفسير، وقال: صنف فيه جماعة فذكر منهم: (2/ 79) الخطابي، والرماني، والرازي. انتهى.
ومنهم: الباقلاني، وابن سراقة، وابن أبي الأصبع، والزملكاني، - رحمهم الله.
علم أعداد الوفق
ذكره أبو الخير من فروع علم العدد، قال في: ((الكشف))، وسيأتي بيانه في علم الوفق، ولم يذكر هناك.
قال في ((مدينة العلوم)): علم أعداد الوفق، والدفق، جداول مربعة، لها بيوت مربعة، يوضع في تلك البيوت، أرقام عددية، أو حروف بدل الأرقام، بشرط أن يكون أضلاع تلك الجداول وأقطارها متساوية في العدد، وأن لا يوجد عدد مكرر في تلك البيوت، وذكروا أن لاعتدال الأعداد خواص فائضة، من روحانيات تلك الأعداد والحروف، وتترتب عليها آثار عجيبة، وتصرفات غريبة، بشرط اختيار أوقات متناسبة، وساعات شريفة.
وهذا العلم من فروع علم العدد، باعتبار توقفه على الحساب، ومن فروع علم الخواص، باعتبار آثاره، قال: وسنذكره في موضعه - إن شاء الله تعالى -.
وفي هذا العلم كتب كثيرة أحسنها: كتاب: ((شمس الآفاق في علم الحروف والأوفاق))، و: ((بحر الوقوف في علم الأوفاق والحروف)).
قال: وفي هذا العلم كتب كثيرة، خارجة عن حد التعداد. انتهى.
لكن في جواز استعمالها خلاف، والحق منعه، لعدم ورود النقل به، عن الشارع - عليه السلام.
علم الإعراب
ويقال له: علم النحو؛ يأتي في باب النون - إن شاء الله تعالى -.
والكتب المؤلفة في هذا العلم لا تحصى، كثرة، وتزيد في كل زمان.
ومن أحسن مختصراته كتاب: ((غنية الطالب ومنية الراغب)) للشيخ أحمد فارس (2/ 80) أفندي مدير الجوانب، اشتمل على دروس، وفوائد نفيسة، لا توجد في غيره.
و: ((تهذيب النحو)) للشيخ بهاء الدين العاملي وهو أبلغ، وأجمع من ((الكافية)) لابن الحاجب، وكتبت عليه شرحاً فارسياً في زمان الطلب، سميته: ((تذهيب التهذيب))، و: ((منتخب النحو)) للسيد أمير حيدر البلجرامي حرر فيه ما استعمل في اللسان الفارسي من قواعد علم النحو العربي، وهو كتاب لم يسبق إليه فيما علمت - والله أعلم-.
علم إعراب القرآن
وهي من فروع علم التفسير على ما في: ((مفتاح السعادة))، لكنه في الحقيقة هو: من علم النحو؛ وعده علماً مستقلا، ليس كما ينبغي، وكذا سائر ما ذكره السيوطي في: ((الإتقان))، من الأنواع، فإنه عد علوماً، ثم ذكر ما يجب على المعرب مراعاته من الأمور، التي ينبغي أن تجعل مقدمة لكتاب ((إعراب القرآن)) ولكنه أراد تكثير العلوم والفوائد.
وهذا النوع أفرده بالتصنيف جماعة منهم:
الشيخ الإمام مكي بن أبي طالب حموش بن محمد، القيسي، النحوي، المتوفى سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، أوله: أما بعد، حمد الله جل ذكره، وكتابه في المشكل خاصة.
وأبو الحسن علي بن إبراهيم، الحوفي، النحوي، المتوفى سنة اثنتين وستين وخمسمائة، وكتابه أوضحها، وهو في عشر مجلدات.
وأبو البقاء عبد الله بن الحسين، العكبري، النحوي، المتوفى سنة ست عشرة وستمائة، وكتابه أشهرها، وسماه: ((البيان))، أوله: الحمد لله الذي وفقنا لحفظ كتابه.
وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد السفاقسي، المتوفى سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، وكتابه أحسن منه، وهو في مجلدات سماه: ((المجيد في إعراب القرآن المجيد))، أوله: الحمد لله (2/ 81)، الذي شرفنا بحفظ كتابه. الخ. ذكر فيه البحر بشيخه أبي حيان، ومدحه، ثم قال: لكنه سلك سبيل المفسرين، في الجمع بين التفسير، والإعراب، فتفرق فيه المقصود، فاستخار في تلخيصه، وجمع ما بقي في كتاب أبي البقاء، من إعرابه، لكونه كتاباً قد عكف الناس عليه، فضمه إليه بعلامة الميم، وأورد ما كان له بقلت، ولما كان كتاباً، كبير الحجم، في مجلدات، لخص الشيخ محمد بن سليمان الصرخدي الشافعي، المتوفى سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، واعترض عليه في مواضع.
وأما كتاب الشيخ شهاب الدين أحمد بن يوسف، المعروف بالسمين الحلبي، المتوفى سنة ست وخمسين وسبعمائة فهو مع اشتماله على غيره، أجل ما صنف فيه، لأنه جمع العلوم الخمسة الإعراب، والتصريف، واللغة، والمعاني، والبيان، ولذلك قال السيوطي في: ((الإتقان))، هو مشتمل على حشو، وتطويل، لخصه السفاقسي فجوده. انتهى.
وهو وهم منه، لأن السفاقسي ما لخص إعرابه منه بل من ((البحر)) - كما عرفت -، و: ((السمين))، لخصه أيضاً من ((البحر))، في حياة شيخه أبي حيان، وناقشه فيه كثيراً، وسماه: ((الدر المصون في علم الكتاب المكنون))، أوله: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، وفرغ عنه في واسط رجب سنة أربع وثلاثين وسبعمائة.
فائدة أوردها تقي الدين في طبقاته وهي: أن المولى الفاضل علي بن أمر الله، المعروف بابن الحنا، القاضي بالشام، حضر مرة درس الشيخ العلامة بدر الدين الغزي، لما ختم في الجامع الأموي من التفسير الذي صنفه، وجرى فيه بينهما أبحاث منها: ((اعتراضات السمين على شيخه)).
فقال الشيخ: إن أكثرها غير وارد.
وقال المولى علي: الذي في اعتقادي أن أكثرها وارد، وأصر على ذلك، ثم إن المولى المذكور، كشف عن ترجمة ((السمين))، فرأى أن الحافظ ابن حجر وافقه فيه، حيث قال في: ((الدرر))، صنف في حياة شيخه، وناقشه مناقشات كثيرة، غالبها جيدة، فكتب إلى (2/ 82) الشيخ أبياتا، يسأله أن يكتب ما عثر الشهاب عليه من أبحاث، فاستخرج عشرة منها، ورجح فيها كلام أبي حيان، وزيف اعتراضات ((السمين))، عليها وسماه بـ: ((الدر الثمين في المناقشة بين أبي حيان والسمين))، وأرسلها إلى القاضي، فلم وقف انتصر لـ ((السمين))، ورجح كلامه على كلام أبي حيان، وأجاب عن اعتراضات الشيخ بدر الدين، ورد كلامه في رسالة كبيرة، وقف عليها علماء الشام، ورجحوا كتابته على كتابة البدر، وأقروا له بالفضل، والتقدم.
وممن صنف في إعراب القرآن من القدماء: الإمام أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني، المتوفى سنة ثمان وأربعين ومائتين.
وأبو مروان عبد الملك بن حبيب بن سليمان المالكي القرطبي، المتوفى سنة تسع وثلاثين ومائتين.
وأبو العباس محمد بن يزيد، المعروف بالمبرد، النحوي، المتوفى سنة ست وثمانين ومائتين.
وأبو العباس أحمد بن يحيى، الشهير: بثعلب النحوي، المتوفى سنة إحدى وتسعين ومائتين.
وأبو جعفر محمد بن أحمد بن النحاس، النحوي، المتوفى سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة.
وأبو طاهر إسماعيل بن خلف الصقلي، النحوي، المتوفى سنة خمس وخمسين وأربعمائة، وكتابه في تسع مجلدات.
والشيخ أبو زكريا يحيى بن علي بن محمد الخطيب التبريزي، المتوفى سنة اثنتين وخمسمائة، في أربع مجلدات.
والشيخ أبو البركات عبد الرحمن بن أبي سعيد محمد الأنباري، النحوي، المتوفى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، وسماه: ((البيان))، أوله الحمد لله منزل الذكر الحكيم. (2/ 83)
والإمام الحافظ قوام السنة أبو القاسم إسماعيل بن محمد الطلحي الأصفهاني، المتوفى سنة خمس وثلاثين وخمسمائة.
ومنتخب الدين حسين بن أبي العز بن الرشيد الهمداني، المتوفى سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وكتابه تصنيف متوسط، لا بأس به، أوله: الحمد لله الذي بنعمته حمد، وبهدايته عبد، وبخذلانه جحد، وسماه بـ: ((كتاب الفريد في إعراب القرآن المجيد)).
وأبو عبد الله حسين بن أحمد المعروف بابن خالويه، النحوي، المتوفى سنة سبعين وثلاثمائة، وكتابه في إعراب ثلاثين سورة، من الطارق إلى آخر القرآن، والفاتحة، بشرح أصول كل حرف، وتلخيص فروعه.
والشيخ موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف، البغدادي، الشافعي، المتوفى سنة تسع وعشرين وستمائة، وكتابه في إعراب الفاتحة.
والشيخ إسحاق بن محمود بن حمزة، تلميذ ابن الملك، جمع إعراب الجزء الأخير من القرآن، وسماه: ((التنبيه))، وأوله أول البيان المذكور آنفاً.
والمولى أحمد بن محمد الشهير بنشانجي زاده، المتوفى سنة ست وثمانين وتسعمائة كتب إلى سورة الأعراف،- لم يتمه - ومن الكتب المصنفة في أعراف القرآن ((تحفة الأقران فيما قرئ بالتثليث من القرآن))، إلى غير ذلك مما يعرفه أهل هذا الشأن.
علم آفات الجاه
وسبب حب الجاه هو: أن الروح الإنساني لكونه أمراً ربانياً، من عالم الملكوت، يحب العلم، والقدرة، والحرية بالطبع، فيتسلط بعلمه على عجائب مصنوعات الله تعالى، ويتسلط بقدرته على أموال الناس وأعراضهم، ويحب الاستغناء بحريته عن سائر الخلق، وكل ذلك توهم باطل، لأن العلم الحقيقي لله تعالى، ولا علم للعبد إلا بفيض منه تعالى، لأن القدرة التامة لله تعالى، وإنما للعبد الكسب فقط؛ وأن محل الحرية إنما هي الآخرة فيكون مبنى حب الجاه على الجهالة، ومن هو من أهل المعرفة لا يتورط في ذلك. (2/ 84)
وأيضاً لو أطاعك جميع من على بسيط الأرض لم يبق ذلك بعد خمسين سنة أو ستين سنة؛ فلا ينبغي للعاقل أن يضيع دينه لأجل لذة وهمية، زائلة عن قريب، وعيش فان.
علم آفات الدنيا
وهي عبارة عن الأمور التي قبل الموت، كما أن الآخرة عبارة عن الأمور التي بعد الموت، والدنيا ثلاثة أقسام:
أحدها: ما له لذة عاجلة فقط، كالمعاصي، والمباحات.
وثانيها: ما له لذة عاجلة، وأجله، كالعلم، والطاعات، لمن يلتذ بها.
وثالثها: ما هو متوسط بينهما، وهو كل لذيذ، يستعان به على أمور الآخرة، كالقوت من الطعام، وما يستر العورة، ويقي من الحر والبرد، من اللباس، ونحو ذلك، وليس للعبد بعد الموت إلا صفاء القلب، وطهارته، وذلك بالكف عن الشهوات، والأنس بالله، وذلك لكثرة ذكر الله تعالى، والمحبة لله، ذلك لا يحصل إلا بالمعرفة، وهي تتولد من الفكر، فكل ما يشغلك عن الفكر من أمور الدنيا، يجب أن يحترز عنه، وكل ما يعينك على ذلك، فهو من أمور الآخرة، وإن كان من الدنيا ظاهراً.
علم آفات الرياء
وهي على أربعة مراتب:
الأولى: وهي أغلظها أن لا يكون مراده الثواب أصلاً، فهو الممقوت عند الله عز وجل.
والثانية: أن يقصد الثواب قصداً ضعيفاً، بحيث لو كان في الخلوة لا يفعل، فهذا قريب مما قبله.
والثالثة: أن يكون قصد الثواب والرياء متساويين، بحيث لو خلا كل منهما (2/ 85) عن الآخر لم يبعثه على العمل، فيرجى أن يسلم رأساً برأس.
والرابعة: أن يكون اطلاع الناس مرجحاً، ومقوياً لنشاطه، ولو لم يكن لكان لا يترك العباد، فالذي يظن والعلم عند الله: أنه لا يحبط أصل الثواب، ولكن ينقص منه، أو يعاقب على مقدار قصد الرياء، ويثاب على مقدار قصد الثواب؛ والمخلص من جميع ذلك، أن يلاحظ جناب الحق، وكون الخلق عاجزين، ومقهورين، تحت قدرته، وليس للعاقل أن يدع رضى الغالب، القاهر، لرضى المغلوب، المقهور.
علم آفات العجب
وهو أن يرى في نفسه فضيلة تحصل بها للنفس هزة، وفرح، ولا يشترط فيه روية الغير، بل لو لم يوجد أحد غيره يمكن أن يحصل له العجب، بخلاف الكبر: فإنه رؤية النفس أنها أفضل من غيرها.
وآفاته كثيرة: لأنه قد يؤدي إلى الكبر، وستأتي آفاته.
ومن آفاته: أنه ينسى ذنوبه، ويظن أنه استغنى عن تفقدها، ويستصغرها، ولا يتداركها، وربما يظن أنها تغفر له.
ومنها: أنه يستعظم عباداته، ويمتن بها على الله - سبحانه وتعالى -، ويغتر بنفسه، وربه، ويأمن مكر الله، ويظن أنه عند الله بمكان، ويخرجه العجب إلى أن يحمد نفسه، ويثني عليها، ويزكيها برأيه، وإن كان خطأ، ويستنكف عن سؤال من هو أعلم منه.
وعلاجه: المعرفة بأن جميع ما له من الكمال إنما هو نعمة من الله وفضل، من غير سابقة تدبير، وتصرف من نفسه، فإذا عرف ذلك حق المعرفة، وعرف أنه ليس له من نفسه كمالاً، ينقطع عرق العجب الذي ينشأ من الجهل. (2/ 86)
علم آفات الغرور
وهو: سكون النفس إلى ما يوافق الهوى، ويميل إليه الطبع عن شبهة، وخدعة من الشيطان.
والمغرورون أصناف:
منهم: العلماء الذين أحكموا العلوم الشرعية، والعقلية، وتعمقوا فيها، وأهملوا محافظة الجوارح عن المعاصي، وإلزامها الأعمال الصالحة؛ وهم مغرورون: لأن العلم إذا لم يقارنه العمل لا يكون له مكان عند الله تعالى، وعند الخواص من عباده.
ومنهم: الذين أحكموا العلم، والعمل، وأهملوا تزكية نفوسهم عن الأخلاق الذميمة؛ وهم مغرورون أيضاً، إذ لا ينجو في الآخرة إلا من أتى الله بقلب سليم.
ومنهم: الذين اعترفوا بأن النجاة في الآخرة إنما هي بتزكية النفس عن الأخلاق الذميمة، إلا أنهم يزعمون أنهم منفكون عنها؛ وهؤلاء مغرورون أيضاً، لأن هذا من العجب، والعجب من أشد الصفات المهلكات.
ومنهم: الذين اتصفوا بالعلم، وتزكية الأخلاق، لكن بقي منها خبايا في زوايا القلب، ولم يشعروا بها؛ وهؤلاء أيضاً مغرورون بظاهر أحوالهم، وغفلوا عن تحصيل القلب السليم.
ومنهم: الذين اقتصروا على علم الفتاوى، وإجراء الأحكام؛ وهم مغرورون، لأنهم اقتصروا على فرض الكفاية، وأخلوا بفرض العين، وهو: إصلاح أنفسهم، وتزكية أخلاقهم، وتصفية قلوبهم من الحقد والحسد، وأمثال ذلك.
ومنهم: الوعاظ وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس، وصفات القلب، من الخوف، والرجاء، والإخلاص، ونحو ذلك؛ وأكثرهم مغرورون، لأنهم يتكلمون فيما ذكر، وليس لهم من ذلك شيء. (2/ 87)
ومنهم: من اشتغل باللغة، ودقائق العلوم العربية، وأفنوا عمرهم فيها، ظناً منهم أنهم من علماء الأمة، لأنهم في صدد أحكام مباني الكتاب، والسنة؛ وهم مغرورون، لأنهم: اتخذوا القشر مقصوداً، فاغتروا به؛ وأصناف المغرورين من الناس، لا يمكن تعدادهم، وفي هذا القدر كفاية لمن اعتبر - اللهم ألهمنا طريق دفع الغرور -، ولا يمكن ذلك إلا بالعقل الذي هو مبنى الخيرات، وأساسها ثم بالمعرفة وهي لا تعم إلا بمعرفة نفسه بالذل، والعبودية، ومعرفة ربه بالجلال، والهيبة، وصفا بقلبه بلذة المناجات، واستوت عنده من الدنيا ذهبها، ومدرها، ولا يبقى للشيطان عليه من سلطان {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور}.
علم آفات الغضب
وهو مذموم بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله - - صلى الله عليه وسلم - -، وإجماع الصحابة والتابعين.
وحقيقته أنه حرارة تنبعث من الباطن لدفع المضار البدنية، لأن البدن لكونه غير مأمون عن الضرر خلق الله تعالى في البدن نار الغضب لتدفع الضرر عنه وله درجات.
إحداها: الإفراط: وهو مذموم لأنه يتجاوز عن حد دفع الشر إلى إيقاع الشر.
وثانيتها: التفريط: وهو أيضاً مذموم لأنه لا يقدر على تحقيق ما خلق الغضب له وهو دفع الشر.
وثالثتها: الاعتدال: وهو أن ينتظر إشارة العقل والدين فينبعث حيث تجب (2/ 88) الحمية، وينطفئ، حيث يحسن الحلم، وهو الوسط، ولتحصيل هذا الاعتدال طرق، ورياضات يعرفها أهلها، وليس هذا المقام موضع تفصيلها.
علم آفات الكبر
وهو صفة في النفس، وما في الظاهر من إماراتها.
وهو أن يرى نفسه فوق الغير في صفات الكمال فيحصل في قلبه اغترار، وهزة، وفرح، وركون، إلى رؤية نفسه، والتكبر إما على الله تعالى، - والعياذ بالله من ذلك -، كتكبر فرعون، ونمرود.
وإما على الرسل، والأنبياء: بأن لا يطيعهم، كتكبر أبي جهل، و أبي بن خلف.
وإما على الخلق: وهذا وإن كان دون الأولين إلا أنه داء عظيم، ولهذا ذمه الله تعالى، ورسوله، والكتاب والسنة مشحونان من ذمه، ومدح التواضع، وأسبابه الظاهرة.
وإما العلم: لأنه يكون سبباً لرؤية النفس، واستحقار الغير.
وإما العمل والعبادة: لأن صاحبه يرى فضيلته في نفسه بذلك على غيره.
وإما بالحسب والنسب، وقلما ينفك عنه نسيب.
وإما الجمال وأكثر ما يكون ذلك في النساء.
وإما المال كما يرى في الأغنياء.
وإما القوة كما ترى في الأقوياء فإنهم يتكبرون بها على الضعفاء.
وإما كثرة الخدام، والعبيد، والأقارب، والبنين، من ذلك المكاثرة بالمستفيدين بين العلماء. (2/ 89)
وأما أسبابه الباطنة فهي: إما العجب وهو أكبر الباطن. 0
وإما الحقد: لأنه إذا رسخ في القلب تأنف النفس من أن تطيع المحق.
وإما الحسد: وهو أيضاً يبعثه على أن يعامله بأخلاق الكبر.
وإما الرياء: فإن كثيراً من الناس يتكبر على آخر ولا يستفيد منه العلم لئلا يقال أنه أفضل منه.
وطريق معالجة الكبر.
إما عام: يقطع عرقه بالكلية، وهو أن يعرف ذل نفسه، وأن الكبرياء لله تعالى، وأن يواظب على قصد التواضع، والتشبه بالمتواضعين، إلى أن يرسخ فيه ذلك ويتذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبيد))، مع أن له من المنصب الجليل فوق جميع المناصب
وإما خاص: وهو أن يدفع الكبر بالنسب؛ لأن ذلك اعتداد بكمال الغير، ويدفع الكبر بالجمال؛بملاحظة ما في باطنه من الأقذار، وبما سيصير إليه في القبر، ويدفع الكبر بالقوة؛ بأنه إذا مرض يصير أعجز العاجزين وبأن الحمار والبقر أكمل في ذلك منه.
ويدفع الكبر بالغنى، والأعوان، والأنصار، بأن جميع ذلك في معرض الآفات ويدفع الكبر؛ بالعلم بأن حجة الله تعالى على العالم أوكد، وبأن الكبر لا يليق إلا لله - عز وجل سبحانه.
منقول .
ويقال له: علم رواية الحديث، والأول: أشهر، لكن ذكره صاحب الكشف في الدال، نظراً إلى المعنى فتأمل.
وهو علم يبحث فيه عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - إسناداً، ومتناً، ولفظاً، ومعنى، من حيث القبول والرد، وما يتبع ذلك من كيفية تحمل الحديث وروايته، وكيفية ضبطه وكتابته، وآداب رواته وطالبيه.
وقيل في رسمه ما هو أخصر وهو أنه علم تعرف به أحوال الراوي والمروي، من جهة القبول والرد.
وموضوعه: الراوي والمروي من هذه الجهة.
وغايته: ما يقبل ويرد من ذلك.
والحافظ ابن حجر يرى ترادف الخبر والأثر، كما دل له تسمية كتابه ((نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر))، وهذا العلم كثير النفع لا غنى عنه لمن يدخل في علم الحديث، والكتب فيه كثيرة جداً ما بين مختصر ومطول.
منها كتاب ((إسبال المطر على قصب السكر)). (2/ 67)
وكتاب ((توضيح الأفكار شرح تنقيح الأنظار))، كلاهما للسيد الإمام المجتهد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير اليمني - رحمه الله -.
و ((الباعث الحثيث)) للحافظ ابن كثير.
و ((تدريب الراوي)) للسيوطي.
و ((منهج الوصول إلى اصطلاح أحاديث الرسول))، المؤلف الكتاب، وهو بالفارسية، وقد ذكرت فيه ما ألف في هذا العلم مرتباً على حروف المعجم، والله أعلم.
علم أصول الدين
المسمى بـ ((الكلام))، يأتي في الكاف.
وقال الأرنيقي: هو علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية، بإيراد الحجج عليها، ودفع الشبه عنها.
وموضوعه عند الأقدمين: ذات الله تعالى، وصفاته، لأن المقصود الأصلي من علم الكلام معرفته تعالى، وصفاته، ولما احتاجت مباديه إلى معرفة أحوال المحدثات، أدرج المتأخرون تلك المباحث في علم الكلام، لئلا يحتاج أعلى العلوم الشرعية إلى العلوم الحكمية، فجعلوا موضوعه الموجود من حيث هو موجود، وميزوه عن الحكمة بكون البحث فيه على قانون الإسلام، وفي الحكمة على مقتضى العقول.
ولما رأى المتأخرون احتياجه إلى معرفة أحوال الأدلة، وأحكام الأقيسة، وتحاشوا عن أن يحتاج أعلى العلوم الشرعية إلى علم المنطق، جعلوا موضوعه المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية تعلقاً قريباً أو بعيداً.
ثم إن علم الكلام شرطوا فيه أن تؤخذ العقيدة أولاً من الكتاب والسنة، ثم تثبت بالبراهين العقلية انتهى.
ثم ذكر الإنكار على علم الكلام نقلاً عن الأئمة الأربعة، وفصل أقوالهم في ذلك (2/ 68)، وأطال في بيانها، وبيان حدوث الاعتزال، وردُ أبي الحسن الأشعري عليه، قال: وعند ذلك ظهرت العقائد الواردة في الكتاب والسنة، وتحولت قواعد علم الكلام من أيدي المعتزلة إلى أيدي أهل السنة والجماعة انتهى.
ثم ذكر حال أبي منصور الماتريدي، وكتبه في العقائد.
قلت: والكتب في هذا العلم كثيرة جداً، وأحسنها كتب المحدثين في إثبات العقائد على الوجه المأثور عن الكتاب والسنة.
وفي الرد على المتكلمين منها: كتب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وكتب تلميذه الحافظ ابن القيم، وكتاب ((الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم)) للسيد الإمام محمد بن إبراهيم الوزير اليمني.
وكتاب ((السفاريني))، وهو مجلد كبير، وقد منّ الله تعالى بتلك الكتب النافعة عليّ مناً كافياً وافياً. وكتبت قبل ذلك رسالة سميتها ((قصد السبيل إلى ذم الكلام والتأويل))، وهي نفيسة جداً، وليس هذا الموضوع بسط القول في ذم الكلام، ومدح العقائد أهل الحديث الكرام.
قال في ((كشاف اصطلاحات الفنون)): أما وجه تسميته بـ ((الكلام))، فإنه يورث قدرة على الكلام في الشرعيات، أو لأن أبوابه عنونت أولاً بالكلام في كذا، ولأن مسئلة الكلام أشهر أجزائه حتى كثر فيه التقاتل.
قال: وسماه أبو حنيفة - رحمه الله - بـ ((الفقه الأكبر)).
وفي ((مجمع السلوك) ويسمى بـ ((علم النظر والاستدلال)) أيضاً.
ويسمى أيضاً بـ ((علم التوحيد والصفات)).
وفي ((شرح العقائد)) للتفتازاني: العلم المتعلق بالأحكام الفرعية، أي العلمية يسمى ((علم الشرائع والأحكام وبـ ((الأحكام الأصلية))، أي الاعتقادية يسمى ((علم التوحيد والصفات)) انتهى. (2/ 69)
ثم ذكر تعريف هذا العلم على ما تقدم وأبدى فوائد قيود حده المذكور آنفاً.
قال: وموضوعه: هو العلوم.
وقال الأرموي: ذات الله تعالى.
وقال طائفة منهم الغزالي: موضوعه الموجود بما هو موجود، أي من حيث هو غير مقيد بشيء.
وفائدته وغايته: الترقي من حضيض التقليد إلى ذروة الإيقان، وإرشاد المسترشدين بإيضاح الحجة لهم، وإلزام المعاندين بإقامة الحجة عليهم، وحفظ قواعد الدين عن أن تزلزلها شبهة المبطلين، وأن تبنى عليه العلوم الشرعية، فإنه أساسها، وإليه يؤول أخذها وأساسها، فإنه ما لم يثبت وجود صانع، عالم قادر، مكلف، مرسل للرسل، منزل للكتب، لم يتصور علم تفسير، ولا علم فقه، وأصوله، فكلها متوقفة على علم الكلام مقتبسة منه، فالأخذ فيها بدونه كبان على غير أساس.
وغاية هذه الأمور كلها: الفوز بسعادة الدارين، ومن هذا تبين مرتبة الكلام أي شرفه، فإن شرف الغاية يستلزم شرف العلم، وأيضاً دلائله يقينية يحكم بها صريح العقل، وقد تأيدت بالنقل، وهي أي شهادة العقل مع تأيدها بالنقل هي الغاية في الوثاق، إذ لا تبقي حينئذ شبهة في صحة الدليل.
وأما مسائله التي هي المقاصد: فهي كل حكم نظري لمعلوم، والكلام هو العلم الأعلى، إذ تنتهي إليه العلوم الشرعية كلها، وفيه تثبت موضوعاتها وحيثياتها، فليست له مباد تبين في علم آخر شرعياً أو غيره، بل مباديه إما مبينة بنفسها، أو مبينة فيه، فهي مسائل له من هذه الحيثية، ومباد لمسائل أخر منه لا تتوقف عليها، لئلا يلزم الدور، فلو وجدت في الكتب الكلامية مسائل لا يتوقف عليها إثبات العقائد في الكتاب (2/ 70) فمن الكلام يستمد غيره من العلوم الشرعية، وهو لا يستمد من غيره أصلاً، فهو رئيس العلوم الشرعية على الإطلاق بالجملة، فعلماء الإسلام، وقد دونوا إثبات العقائد الدينية المتعلقة بالصانع، وصفاته، وأفعاله، وما يتفرع عليها من مباحث النبوة، والمعاد، علماً يتوصل به إلى إعلاء كلمة الحق فيها، ولم يرضوا أن يكونوا محتاجين فيه إلى علم آخر أصلاً.
فأخذوا موضوعه على وجه يتناول تلك العقائد والمباحث النظرية التي تتوقف عليها تلك العقائد، سواء كان توقفها عليها باعتبار مواد أدلتها واعتبار صورها.
وجعلوا جميع ذلك مقاصد مطلوبة في علمهم هذا فجاء علماً مستغنياً في نفسه عما عداه، ليس له مباد تبين في علم آخر، هذا خلاصة ما في ((شرح المواقف)) انتهى.
وانظر في هذا الباب كتاب ((العواصم والقواصم)) للسيد محمد بن إبراهيم الوزير اليمني - رحمه الله -، يتضح لك الخطأ والصواب.
علم أصول الفقه
هو علم يتعرف منه استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها الإجمالية اليقينية.
وموضوعه: الأدلة الشرعية الكلية من حيث أنها كيف تستنبط منها الأحكام الشرعية؟.
ومباديه: مأخوذة من العربية وبعض من العلوم الشرعية، كأصول الكلام، والتفسير، والحديث، وبعض من العقلية.
والغرض منه: تحصيل ملكة استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها الأربعة، أعني الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. (2/ 71)
وفائدته: استنباط تلك الأحكام على وجه الصحة.
واعلم أن الحوادث وإن كانت متناهية في نفسها بانقضاء دار التكليف، إلا أنها لكثرتها وعدم انقطاعها ما دامت الدنيا غير داخلة تحت حصر الحاضرين، فلا تعلم أحكامها جزئياً، ولما كان عمل من أعمال الإنسان حكماً من قبل الشارع، منوطاً بدليل يخصه، جعلوها قضايا موضوعاتها أفعال المكلفين، ومحمولاتها أحكام الشارع، من الوجوب وأخواته فسموا العلم المتعلق بها، الحاصل من تلك الأدلة ((فقهاً)).
ثم نظروا في تفصايل الأدلة والأحكام وعمومها، فوجدوا الأدلة راجعة إلى الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، ووجدوا الأحكام راجعة إلى الوجوب، والندب، والحرمة، والكراهة، والإباحة، وتأملوا كيفية الاستدلال بتلك الأدلة على تلك الأحكام إجمالاً من غير نظر إلى تفصيلها إلا على طريق التمثيل، فحصل لهم قضايا كلية متعلقة بكيفية الاستدلال بتلك الأدلة على الأحكام الجزئية، وبيان طرقه وشارئط ليتوصل بكل من تلك القضايا إلى استنباط كثير من تلك الأحكام الجزئية عن أدلتها التفصيلية، فضبطوها ودونوها، وأضافوا إليها من اللواحق، وسموا العلم المتعلق بها ((أصول الفقه)).
قال الإمام علاء الدين الحنفي في ((ميزان الأصول)): اعلم أن أصول الفقه فرع لعلم أصول الدين، فكان من الضرورة أن يقع التصنيف فيه على اعتقاد مصنف الكتاب، وأكثر التصانيف في أصول الفقه لأهل الاعتزال المخالفين لنا في الأصول، ولأهل الحديث المخالفين لنا في الفروع، ولا اعتماد على تصانيفهم.
وتصانيف أصحابنا قسمان:
قسم: وقع في غاية الإحكام والإتقان، لصدوره ممن جمع الأصول والفروع، مثل: ((مآخذ الشروع))، وكتاب: ((الجدل)) للماتريدي، ونحوهما.
وقسم: وقع في نهاية التحقيق في المعاني، وحسن الترتيب، لصدروه ممن تصدى (2/ 72) لاستخراج الفروع من ظواهر المسموع، غير أنهم لما لم يتمهروا في دقائق الأصول، وقضايا المعقول، أفضى رأيهم إلى رأي المخالفين في بعض الفصول، ثم هجر القسم الأول، إما: لتوحش الألفاظ والمعاني، وإما: لقصور الهمم والتواني، واشتهر القسم الآخر. انتهى.
وهذا الذي نسبه إلى أهل الحديث، وعدم الاعتماد على تصانيفهم، نفس تعصبية صدرت من بطن التقليد، وإذا لم يعتمد تصنيف أهل الحديث الذين هم القدوة والأسوة في الدين، والعرفاء بالنصوص من الكتاب، والسنة، أكثر من أهل الفقه والمقلدة، بمراتب كثيرة، ومناحي غفيرة، فأي جماعة تليق بالاعتماد والتعويل؟
فما هذا الحرف من هذا الحنفي المتعصب إلا زلة شديدة لا يتأتى مثلها إلا عمن ليس من العلم والإنصاف في صدر، ولا ورد فهذا القول ليس عليه إثارة من علم.
قال في ((كشاف اصطلاحات الفنون)): علم أصول الفقه ويسمى بـ ((علم الدراية)) أيضاً، على ما في ((مجمع السلوك))، وله تعريفان:
أحدهما: باعتبار الإضافة.
وثانيهما: باعتبار اللقب، أي باعتبار أنه لقب لعلم مخصوص، ثم ذكر هذين التعريفين، وبسط القول في فوائدهما.
ونقل عن ((إرشاد القاصد)) للشيخ، شمس الدين الأكفاني السخاوي:
إن أصول الفقه: علم يتعرف منه تقرير مطلب الأحكام الشرعية العملية، وطرق استنباطها، ومواد حججها، واستخراجها بالنظر.
وموضوعه: الأدلة الشرعية والأحكام، إذ يبحث فيه عن العوارض الذاتية للأحكام الشرعية، وهي إثباتها للحكم، وعن العوارض الذاتية للأحكام، وهي ثبوتها بتلك الأدلة.
قال: وإن شئت زيادة التحقيق فارجع إلى ((التوضيح والتلويح)) انتهى كلام ((الكشاف)) ملخصاً.
ثم اعلم أن أول من صنف في أصول الفقه الإمام الشافعي ذكره الإسنوي في ((التمهيد))، وحكى الإجماع فيه، وهو شيخ المحدثين والفقهاء.
والكتب المصنفة فيه كثيرة معروفة، وأحسنها ترتيباً، وأكملها تحقيقاً، وتهذيباً (2/ 73)، وأبلغها قبولاً، وأعدلها إنصافاً، كتاب: ((إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول))، لقاضي القضاة شيخنا محمد بن علي الشوكاني اليمني؛ المتوفى في سنة خمس وخمسين ومائتين وألف؛ وقد لخصنا كتابه هذا، وسميناه: ((بحصول المأمول من علم الأصول))، وهو نفيس جداً، فإن كنت ممن يبغي تحقيق الحق على جانب من التقليد والعصبية لآراء الرجال، ويعرف هذا العلم على ما فيه من القيل والقال، فارجع إليهما، تجدهما ديباجة الدنيا، ومكرمة الدهر، ونكتة عطارد، التي يفتخر بها الفخر.
مذاهب شتى للمحبين في الهوى ** ولي مذهب واحد أعيش به وحدي.
وكم من رأي في الدين للشريعة محرف، ولهم عن جماعة السنة المطهرة محرف، {فاعبد ربك حتى يأتيك اليقين}.
وقال في: ((مدينة العلوم)): ومن الكتب القديمة المصنفة في هذا العلم، كتاب الجصاص أحمد بن علي أبي بكر الرازي وكتاب: ((الأسرار))، وكتاب: ((تقويم الأدلة)) للإمام زيد الدبوسي - قرية بين بخارا وسمرقند -؛ المتوفى سنة 402.
ومنها: ((أصول فخر الإسلام)) للبزدوي؛ ولكتابه شروح كثيرة أشهرها: ((الكشف)) لعبد العزيز بن أحمد البخاري.
ومنها: ((أصول شمس الأئمة السرخسي)).
وإحكام الأحكام)) للآمدي.
و: ((منتهى السول والأمل، في علمي الأصول، والجدل))، ومختصر هذين كلاهما لابن الحاجب وشروحه تزيد على عشرة.
وكتاب: ((القواعد، والبديع)) لابن الساعاتي البعلبكي.
ومنها: ((المنار)) للنسفي، وله شروح.
ومنها: ((المغني)) للخبازي، وشرحه لسراج الدين الهندي قاضي الحنفية بالقاهرة.
وكتاب: ((المنتخب للأخسيكثي))، و: ((التحصيل)) للابي وردي، و: ((المحصول)) للفخر الرازي و: ((التنقيح))، وشرحه: ((التوضيح لصدر الشريعة والتلويح على شرح التنقيح)). (2/ 74) للسعد التفتازاني و: ((فصول البدائع في الأصول الشرائع)) لشمس الدين الفتازاي، و: ((منهاج الوصول إلى علم الأصول)) للقاضي البيضاوي على مذهب الشافعي، وله شروح.
ومنها: ((مرقاة الوصول إلى علم الأصول))، وغير ذلك. انتهى حاصل كلامه.
قلت: ومنها: ((جمع الجوامع)) لتاج الدين السبكي، وله شروح، قد طبع بمصر القاهرة في هذا الزمان؛ وأحسن كتب هذا العلم كتاب شيخنا الشوكاني، الذي تقدم ذكره، فاشدد يديك عليه، تهتدي إلى جادة الحق.
فصل: قال قاضي القضاة مؤيد الدين عبد الرحمن بن خلدون - - رحمه الله - تعالى - في كتاب: ((العبر، وديوان المبتدأ والخبر))، ما نصه:
اعلم: أن أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية، من حيث تؤخذ منها: الأحكام، والتكاليف، وأصول الأدلة الشرعية، هي: الكتاب - الذي هو القرآن -، ثم السنة، المبينة له، فعلى عمل النبي - - صلى الله عليه وسلم - - كانت الأحكام تتلقى منه ما يوحى إليه، من القرآن، ويبينه بقوله، وفعله، بخطاب شفاهي، لا يحتاج إلى نقل، ولا إلى نظر وقياس، ومن بعده - - صلى الله عليه وسلم - - تعذر الخطاب الشفاهي، وانحفظ القرآن بالتواتر.
وأما السنة: فأجمع الصحابة - رضوان الله عليهم - على وجوب العمل بما يصل إلينا منها: قولاً، وفعلاً، بالنقل الصحيح الذي يغلب على الظن صدقه، وتعينت دلالة الشرع في الكتاب والسنة بهذا الاعتبار، ثم ينزل الإجماع منزلتها إلا إجماع الصحابة على النكير على مخالفيهم، ولا يكون ذلك إلا عن مستند، لأن مثلهم لا يتفقون من غير دليل ثابت، مع الشهادة الدالة بعصمة الجماعة؛ فصار الإجماع دليلاً ثابتاً في الشرعيات.
ثم نظرنا في طرق استدلال الصحابة، والسلف، بالكتاب، والسنة، فإذا هم يقيسون الأشباه بالأشباه منهما، ويناظرون الأمثال بالأمثال بإجماع منهم، وتسليم بعضهم لبعض يفي ذلك، فإن كثيراً من الواقعات بعده، لم تندرج (2/ 75) في النصوص الثابتة، فقاسوها بما يثبت، وألحقوها بما نص عليه بشروط في ذلك الإلحاق، تصح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين، حتى يغلب على الظن أن حكم الله تعالى فيهما واحد، وصار ذلك دليلاً شرعياً بإجماعهم عليه، وهو: القياس؛ وهو رابع الأدلة، واتفق جمهور العلماء على أن هذه: هي أصول الأدلة، وإن خالف بعضهم في الإجماع والقياس، إلا أنه شذوذ؛ وألحق بعضهم بهذه الأربعة أدلة أخرى لا حاجة بنا إلى ذكرها لضعف مداركها، وشذوذ القول فيها، فكان أول مباحث هذا الفن، بما يصح منها، - كما قلناه - معتضداً بما كان عليه العمل في حياته - - صلى الله عليه وسلم - - من إنفاذ الكتب والرسل إلى النواحي بالأحكام، والشرائع، آمراً، وناهياً.
وأما الإجماع: فلاتفاقهم على إنكار مخالفته، مع العصمة الثابتة للأمة.
وأما القياس: فبإجماع الصحابة - رضي الله عليه عنهم -، كما قدمنا هذه أصول الأدلة.
ثم إن: المنقول من السنة، محتاج إلى تصحيح الخبر، بالنظر في طرق النقل، وعدالة الناقلين، لتتميز الحالة المحصلة للظن بصدقه، الذي هو مناط وجوب العمل، وهذه أيضاً من قواعد الفن، ويلحق بذلك عند التعارض بين الخبرين، وطلب المتقدم منهما، معرفة الناسخ والمنسوخ، وهي من فصوله أيضاً، وأبوابه، ثم بعد ذلك يتعين النظر في دلالة الألفاظ، وذلك أن استفادة المعاني على الإطلاق، يتوقف على معرفة الدلالات الوضعية، مفردة، ومركبة، والقوانين اللسانية في ذلك هي: علوم النحو والتصريف، والبيان، وحين كان الكلام ملكة لأهله، لم تكن هذه علوماً، ولا قوانين، ولم يكن الفقه حينئذ يحتاج إليها، لأنه جبلة، وملكة، فلما فسدت الملكة في لسان العرب، قيدها الجهابذة المتجردون لذلك، بنقل صحيح، ومقايس مستنبطة صحيحة، وصارت علوماً يحتاج إليها الفقيه في معرفة أحكام الله تعالى.
ثم إن هناك استفادات أخرى خاصة من تراكيب الكلام وهي: استفادة الأحكام الشرعية بين المعاني من أدلتها الخاصة من تراكيب الكلام، وهو الفقه، (2/ 76) ولا يكفي فيه معرفة الدلالات الوضعية على الإطلاق، بل لا بد من معرفة أمور أخرى، تتوقف عليها تلك الدلالات الخاصة، وبها تستفاد الأحكام، بحسب ما أصل أهل الشرع، وجهابذة العلم من ذلك وجعلوه قوانين لهذه الاستفادة، مثل: أن اللغة لا تثبت قياساً، والمشترك لا يراد به معنياه معاً، والواو لا تقتضي الترتيب، والعام، إذا أخرجت أفراد الخاص منه، هل يبقى حجة في ما عداها؟ والأمر للوجوب أو الندب؟ وللفور أو التراخي؟ والنهي يقتضي الفساد أو الصحة؟ والمطلق هل يحمل على المقيد؟ والنص على العلة كاف في التعدد أم لا؟ وأمثال هذه؛ فكانت كلها من قواعد هذا الفن، ولكونها من مباحث الدلالة كانت لغوية.
ثم إن النظر في القياس من أعظم قواعد هذا الفن: لأن فيه تحقيق الأصل والفرع فيما يقاس، ويماثل، من الأحكام، وينفتح الوصف الذي يغلب الظن أن الحكم علق به في الأصل، من تبين أوصاف ذلك المحل، أو وجود ذلك الوصف، والفرع من غير معارض يمنع من ترتيب الحكم عليه، في مسائل أخرى من توابعة ذلك، كلها قواعد لهذا الفن.
واعلم: أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة، وكان السلف في غنية عنه، بما أن استفادة المعاني من الألفاظ إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية
وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصاً: فمنهم أخذ معظمها، وأما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر فيها لقرب العصر، وممارسة النقلة، وخبرتهم، فلما انقرض السلف، وذهب الصدر الأول، وانقلبت العلوم كلها صناعة، احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين، والقواعد، لاستفادة الأحكام من الأدلة، فكتبوها فناً قائماً برأسه: ((أصول الفقه)).
وكان أول من كتب فيه: الشافعي أملى فيه رسالته المشهورة، تكلم فيها في الأوامر، والنواهي، والبيان، والخبر، والنسخ، وحكم العلة المنصوصة من القياس.
ثم كتب فقهاء الحنفية فيه، وحققوا تلك القواعد، وأوسعوا القول فيها. (2/ 77)
وكتب المتكلمون أيضاً كذلك، إلا أن كتابة الفقهاء فيها أمس بالفقه، وأليق بالفروع، لكثرة الأمثلة منها، والشواهد، وبناء المسائل فيها على النكت الفقهية.
والمتكلمون يجردون صور تلك المسائل عن الفقه، ويميلون إلى الاستدلال العقلي ما أمكن، لأنه غالب فنونهم، ومقتضى طريقتهم، فكان لفقهاء الحنفية فيها اليد الطولى، من الغوص على النكت الفقهية، والتقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن.
وجاء أبو زيد الدبوسي من أئمتهم، فكتب في القياس بأوسع من جميعهم، وتمم الأبحاث والشروط، التي يحتاج إليها فيه، وكملت صناعة أصول الفقه بكماله، وتهذبت مسائله، وتمهدت قواعده.
وعني الناس بطريقة المتكلمين فيه، وكان من أحسن ما كتب فيه المتكلمون كتاب: ((البرهان)) لإمام الحرمين، و: ((المستصفى)) للغزالي، وهما من الأشعرية.
وكتاب: ((العهد)) لعبد الجبار، وشرحه: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري، وهما من المعتزلة
وكانت الأربعة: قواعد هذا الفن، وأركانه، ثم لخص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكلمين المتأخرين وهما: الإمام فخر الدين بن الخطيب، في كتاب: ((المحصول)) وسيف الدين الآمدي، في كتاب: ((الأحكام))، واختلفت طرائقهما في الفن بين التحقيق، والحجاج، فابن الخطيب أميل إلى الاستكثار من الأدلة، والاحتجاج، والآمدي مولع بتحقيق المذاهب، وتفريع المسائل.
وأما كتاب: ((المحصول))، فاختصره تلميذ الإمام سراج الدين الأرموي في كتاب: ((التحصيل)) وتاج الدين الأرموي، في كتاب: ((الحاصل))، واقتطف شهاب الدين القرافي منهما مقدمات، وقواعد، في كتاب صغير سماه: ((التنقيحات))، وكذلك فعل البيضاوي في كتاب: ((المنهاج))، وعنى المبتدون بهذين الكتابين وشرحهما كثير من الناس. (2/ 78)
وأما كتاب: ((الأحكام)) للآمدي، وهو أكثر تحقيقاً في المسائل، فلخصه أبو عمرو ابن الحاجب في كتابه المعروف بـ: ((المختصر الكبير))، ثم اختصره في كتاب آخر تداوله طلبة العلم، وعنى أهل المشرق والمغرب به، وبمطالعته، وشرحه، وحصلت زبدة طريقة المتكلمين في هذا الفن في هذه المختصرات.
وأما طريقة الحنفية: فكتبوا فيها كثيراً، وكان من أحسن كتابة فيها: للمتقدمين، تأليف أبي زيد الدبوسي، وأحسن كتابة للمتأخرين، فيها تأليف سيف الإسلام البزدوي من أئمتهم، وهي مستوعب.
وجاء ابن الساعاتي، من فقهاء الحنفية، فجمع بين كتاب: ((الأحكام))، وكتاب البزدوي، في الطريقتين، وسمى كتابه: ((البدائع))، فجاء من أحسن الأوضاع، وأبدعها، وأئمة العلماء لهذا العهد يتداولونه، قراءة، وبحثاً، وولع كثير من علماء العجم بشرحه، والحال على ذلك لهذا العهد.
هذه حقيقة هذا الفن، وتعيين موضوعاته، وتعديد التآليف المشهورة لهذا العهد فيه، والله ينفعنا بالعلم، ويجعلنا من أهله، بمنه، وكرمه، إنه على كل شيء قدير. انتهى كلامه.
ومن الكتب المصنفة في هذا العلم: كتاب: ((مغتنم الحصول في علم الأصول)) للشيخ حبيب الله. القندهاري، من رجال هذه المائة، و: ((مسلم الثبوت)) لمحب الله البهاري، و: ((رسالة الشيخ محمد إسماعيل الدهلوي))، و: ((حصول المأمول لكاتب الحروف)) - عفا الله عنه.
علم الأطعمة والمزورات
ذكره أبو الخير من فروع علم الطب، وقال: هو علم باحث عن كيفية تركيب الأطعمة اللذيذة، والنافعة، بحسب الأمزجة، ورأيت فيه تصنيفاً. انتهى.
ولا يخفى أنه صناعة الطبخ، وفيه: ((الدبيخ في الطبيخ)).
علم إعجاز القرآن
ذكره أبو الخير من جملة فروع علم التفسير، وقال: صنف فيه جماعة فذكر منهم: (2/ 79) الخطابي، والرماني، والرازي. انتهى.
ومنهم: الباقلاني، وابن سراقة، وابن أبي الأصبع، والزملكاني، - رحمهم الله.
علم أعداد الوفق
ذكره أبو الخير من فروع علم العدد، قال في: ((الكشف))، وسيأتي بيانه في علم الوفق، ولم يذكر هناك.
قال في ((مدينة العلوم)): علم أعداد الوفق، والدفق، جداول مربعة، لها بيوت مربعة، يوضع في تلك البيوت، أرقام عددية، أو حروف بدل الأرقام، بشرط أن يكون أضلاع تلك الجداول وأقطارها متساوية في العدد، وأن لا يوجد عدد مكرر في تلك البيوت، وذكروا أن لاعتدال الأعداد خواص فائضة، من روحانيات تلك الأعداد والحروف، وتترتب عليها آثار عجيبة، وتصرفات غريبة، بشرط اختيار أوقات متناسبة، وساعات شريفة.
وهذا العلم من فروع علم العدد، باعتبار توقفه على الحساب، ومن فروع علم الخواص، باعتبار آثاره، قال: وسنذكره في موضعه - إن شاء الله تعالى -.
وفي هذا العلم كتب كثيرة أحسنها: كتاب: ((شمس الآفاق في علم الحروف والأوفاق))، و: ((بحر الوقوف في علم الأوفاق والحروف)).
قال: وفي هذا العلم كتب كثيرة، خارجة عن حد التعداد. انتهى.
لكن في جواز استعمالها خلاف، والحق منعه، لعدم ورود النقل به، عن الشارع - عليه السلام.
علم الإعراب
ويقال له: علم النحو؛ يأتي في باب النون - إن شاء الله تعالى -.
والكتب المؤلفة في هذا العلم لا تحصى، كثرة، وتزيد في كل زمان.
ومن أحسن مختصراته كتاب: ((غنية الطالب ومنية الراغب)) للشيخ أحمد فارس (2/ 80) أفندي مدير الجوانب، اشتمل على دروس، وفوائد نفيسة، لا توجد في غيره.
و: ((تهذيب النحو)) للشيخ بهاء الدين العاملي وهو أبلغ، وأجمع من ((الكافية)) لابن الحاجب، وكتبت عليه شرحاً فارسياً في زمان الطلب، سميته: ((تذهيب التهذيب))، و: ((منتخب النحو)) للسيد أمير حيدر البلجرامي حرر فيه ما استعمل في اللسان الفارسي من قواعد علم النحو العربي، وهو كتاب لم يسبق إليه فيما علمت - والله أعلم-.
علم إعراب القرآن
وهي من فروع علم التفسير على ما في: ((مفتاح السعادة))، لكنه في الحقيقة هو: من علم النحو؛ وعده علماً مستقلا، ليس كما ينبغي، وكذا سائر ما ذكره السيوطي في: ((الإتقان))، من الأنواع، فإنه عد علوماً، ثم ذكر ما يجب على المعرب مراعاته من الأمور، التي ينبغي أن تجعل مقدمة لكتاب ((إعراب القرآن)) ولكنه أراد تكثير العلوم والفوائد.
وهذا النوع أفرده بالتصنيف جماعة منهم:
الشيخ الإمام مكي بن أبي طالب حموش بن محمد، القيسي، النحوي، المتوفى سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، أوله: أما بعد، حمد الله جل ذكره، وكتابه في المشكل خاصة.
وأبو الحسن علي بن إبراهيم، الحوفي، النحوي، المتوفى سنة اثنتين وستين وخمسمائة، وكتابه أوضحها، وهو في عشر مجلدات.
وأبو البقاء عبد الله بن الحسين، العكبري، النحوي، المتوفى سنة ست عشرة وستمائة، وكتابه أشهرها، وسماه: ((البيان))، أوله: الحمد لله الذي وفقنا لحفظ كتابه.
وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد السفاقسي، المتوفى سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، وكتابه أحسن منه، وهو في مجلدات سماه: ((المجيد في إعراب القرآن المجيد))، أوله: الحمد لله (2/ 81)، الذي شرفنا بحفظ كتابه. الخ. ذكر فيه البحر بشيخه أبي حيان، ومدحه، ثم قال: لكنه سلك سبيل المفسرين، في الجمع بين التفسير، والإعراب، فتفرق فيه المقصود، فاستخار في تلخيصه، وجمع ما بقي في كتاب أبي البقاء، من إعرابه، لكونه كتاباً قد عكف الناس عليه، فضمه إليه بعلامة الميم، وأورد ما كان له بقلت، ولما كان كتاباً، كبير الحجم، في مجلدات، لخص الشيخ محمد بن سليمان الصرخدي الشافعي، المتوفى سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، واعترض عليه في مواضع.
وأما كتاب الشيخ شهاب الدين أحمد بن يوسف، المعروف بالسمين الحلبي، المتوفى سنة ست وخمسين وسبعمائة فهو مع اشتماله على غيره، أجل ما صنف فيه، لأنه جمع العلوم الخمسة الإعراب، والتصريف، واللغة، والمعاني، والبيان، ولذلك قال السيوطي في: ((الإتقان))، هو مشتمل على حشو، وتطويل، لخصه السفاقسي فجوده. انتهى.
وهو وهم منه، لأن السفاقسي ما لخص إعرابه منه بل من ((البحر)) - كما عرفت -، و: ((السمين))، لخصه أيضاً من ((البحر))، في حياة شيخه أبي حيان، وناقشه فيه كثيراً، وسماه: ((الدر المصون في علم الكتاب المكنون))، أوله: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، وفرغ عنه في واسط رجب سنة أربع وثلاثين وسبعمائة.
فائدة أوردها تقي الدين في طبقاته وهي: أن المولى الفاضل علي بن أمر الله، المعروف بابن الحنا، القاضي بالشام، حضر مرة درس الشيخ العلامة بدر الدين الغزي، لما ختم في الجامع الأموي من التفسير الذي صنفه، وجرى فيه بينهما أبحاث منها: ((اعتراضات السمين على شيخه)).
فقال الشيخ: إن أكثرها غير وارد.
وقال المولى علي: الذي في اعتقادي أن أكثرها وارد، وأصر على ذلك، ثم إن المولى المذكور، كشف عن ترجمة ((السمين))، فرأى أن الحافظ ابن حجر وافقه فيه، حيث قال في: ((الدرر))، صنف في حياة شيخه، وناقشه مناقشات كثيرة، غالبها جيدة، فكتب إلى (2/ 82) الشيخ أبياتا، يسأله أن يكتب ما عثر الشهاب عليه من أبحاث، فاستخرج عشرة منها، ورجح فيها كلام أبي حيان، وزيف اعتراضات ((السمين))، عليها وسماه بـ: ((الدر الثمين في المناقشة بين أبي حيان والسمين))، وأرسلها إلى القاضي، فلم وقف انتصر لـ ((السمين))، ورجح كلامه على كلام أبي حيان، وأجاب عن اعتراضات الشيخ بدر الدين، ورد كلامه في رسالة كبيرة، وقف عليها علماء الشام، ورجحوا كتابته على كتابة البدر، وأقروا له بالفضل، والتقدم.
وممن صنف في إعراب القرآن من القدماء: الإمام أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني، المتوفى سنة ثمان وأربعين ومائتين.
وأبو مروان عبد الملك بن حبيب بن سليمان المالكي القرطبي، المتوفى سنة تسع وثلاثين ومائتين.
وأبو العباس محمد بن يزيد، المعروف بالمبرد، النحوي، المتوفى سنة ست وثمانين ومائتين.
وأبو العباس أحمد بن يحيى، الشهير: بثعلب النحوي، المتوفى سنة إحدى وتسعين ومائتين.
وأبو جعفر محمد بن أحمد بن النحاس، النحوي، المتوفى سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة.
وأبو طاهر إسماعيل بن خلف الصقلي، النحوي، المتوفى سنة خمس وخمسين وأربعمائة، وكتابه في تسع مجلدات.
والشيخ أبو زكريا يحيى بن علي بن محمد الخطيب التبريزي، المتوفى سنة اثنتين وخمسمائة، في أربع مجلدات.
والشيخ أبو البركات عبد الرحمن بن أبي سعيد محمد الأنباري، النحوي، المتوفى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، وسماه: ((البيان))، أوله الحمد لله منزل الذكر الحكيم. (2/ 83)
والإمام الحافظ قوام السنة أبو القاسم إسماعيل بن محمد الطلحي الأصفهاني، المتوفى سنة خمس وثلاثين وخمسمائة.
ومنتخب الدين حسين بن أبي العز بن الرشيد الهمداني، المتوفى سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وكتابه تصنيف متوسط، لا بأس به، أوله: الحمد لله الذي بنعمته حمد، وبهدايته عبد، وبخذلانه جحد، وسماه بـ: ((كتاب الفريد في إعراب القرآن المجيد)).
وأبو عبد الله حسين بن أحمد المعروف بابن خالويه، النحوي، المتوفى سنة سبعين وثلاثمائة، وكتابه في إعراب ثلاثين سورة، من الطارق إلى آخر القرآن، والفاتحة، بشرح أصول كل حرف، وتلخيص فروعه.
والشيخ موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف، البغدادي، الشافعي، المتوفى سنة تسع وعشرين وستمائة، وكتابه في إعراب الفاتحة.
والشيخ إسحاق بن محمود بن حمزة، تلميذ ابن الملك، جمع إعراب الجزء الأخير من القرآن، وسماه: ((التنبيه))، وأوله أول البيان المذكور آنفاً.
والمولى أحمد بن محمد الشهير بنشانجي زاده، المتوفى سنة ست وثمانين وتسعمائة كتب إلى سورة الأعراف،- لم يتمه - ومن الكتب المصنفة في أعراف القرآن ((تحفة الأقران فيما قرئ بالتثليث من القرآن))، إلى غير ذلك مما يعرفه أهل هذا الشأن.
علم آفات الجاه
وسبب حب الجاه هو: أن الروح الإنساني لكونه أمراً ربانياً، من عالم الملكوت، يحب العلم، والقدرة، والحرية بالطبع، فيتسلط بعلمه على عجائب مصنوعات الله تعالى، ويتسلط بقدرته على أموال الناس وأعراضهم، ويحب الاستغناء بحريته عن سائر الخلق، وكل ذلك توهم باطل، لأن العلم الحقيقي لله تعالى، ولا علم للعبد إلا بفيض منه تعالى، لأن القدرة التامة لله تعالى، وإنما للعبد الكسب فقط؛ وأن محل الحرية إنما هي الآخرة فيكون مبنى حب الجاه على الجهالة، ومن هو من أهل المعرفة لا يتورط في ذلك. (2/ 84)
وأيضاً لو أطاعك جميع من على بسيط الأرض لم يبق ذلك بعد خمسين سنة أو ستين سنة؛ فلا ينبغي للعاقل أن يضيع دينه لأجل لذة وهمية، زائلة عن قريب، وعيش فان.
علم آفات الدنيا
وهي عبارة عن الأمور التي قبل الموت، كما أن الآخرة عبارة عن الأمور التي بعد الموت، والدنيا ثلاثة أقسام:
أحدها: ما له لذة عاجلة فقط، كالمعاصي، والمباحات.
وثانيها: ما له لذة عاجلة، وأجله، كالعلم، والطاعات، لمن يلتذ بها.
وثالثها: ما هو متوسط بينهما، وهو كل لذيذ، يستعان به على أمور الآخرة، كالقوت من الطعام، وما يستر العورة، ويقي من الحر والبرد، من اللباس، ونحو ذلك، وليس للعبد بعد الموت إلا صفاء القلب، وطهارته، وذلك بالكف عن الشهوات، والأنس بالله، وذلك لكثرة ذكر الله تعالى، والمحبة لله، ذلك لا يحصل إلا بالمعرفة، وهي تتولد من الفكر، فكل ما يشغلك عن الفكر من أمور الدنيا، يجب أن يحترز عنه، وكل ما يعينك على ذلك، فهو من أمور الآخرة، وإن كان من الدنيا ظاهراً.
علم آفات الرياء
وهي على أربعة مراتب:
الأولى: وهي أغلظها أن لا يكون مراده الثواب أصلاً، فهو الممقوت عند الله عز وجل.
والثانية: أن يقصد الثواب قصداً ضعيفاً، بحيث لو كان في الخلوة لا يفعل، فهذا قريب مما قبله.
والثالثة: أن يكون قصد الثواب والرياء متساويين، بحيث لو خلا كل منهما (2/ 85) عن الآخر لم يبعثه على العمل، فيرجى أن يسلم رأساً برأس.
والرابعة: أن يكون اطلاع الناس مرجحاً، ومقوياً لنشاطه، ولو لم يكن لكان لا يترك العباد، فالذي يظن والعلم عند الله: أنه لا يحبط أصل الثواب، ولكن ينقص منه، أو يعاقب على مقدار قصد الرياء، ويثاب على مقدار قصد الثواب؛ والمخلص من جميع ذلك، أن يلاحظ جناب الحق، وكون الخلق عاجزين، ومقهورين، تحت قدرته، وليس للعاقل أن يدع رضى الغالب، القاهر، لرضى المغلوب، المقهور.
علم آفات العجب
وهو أن يرى في نفسه فضيلة تحصل بها للنفس هزة، وفرح، ولا يشترط فيه روية الغير، بل لو لم يوجد أحد غيره يمكن أن يحصل له العجب، بخلاف الكبر: فإنه رؤية النفس أنها أفضل من غيرها.
وآفاته كثيرة: لأنه قد يؤدي إلى الكبر، وستأتي آفاته.
ومن آفاته: أنه ينسى ذنوبه، ويظن أنه استغنى عن تفقدها، ويستصغرها، ولا يتداركها، وربما يظن أنها تغفر له.
ومنها: أنه يستعظم عباداته، ويمتن بها على الله - سبحانه وتعالى -، ويغتر بنفسه، وربه، ويأمن مكر الله، ويظن أنه عند الله بمكان، ويخرجه العجب إلى أن يحمد نفسه، ويثني عليها، ويزكيها برأيه، وإن كان خطأ، ويستنكف عن سؤال من هو أعلم منه.
وعلاجه: المعرفة بأن جميع ما له من الكمال إنما هو نعمة من الله وفضل، من غير سابقة تدبير، وتصرف من نفسه، فإذا عرف ذلك حق المعرفة، وعرف أنه ليس له من نفسه كمالاً، ينقطع عرق العجب الذي ينشأ من الجهل. (2/ 86)
علم آفات الغرور
وهو: سكون النفس إلى ما يوافق الهوى، ويميل إليه الطبع عن شبهة، وخدعة من الشيطان.
والمغرورون أصناف:
منهم: العلماء الذين أحكموا العلوم الشرعية، والعقلية، وتعمقوا فيها، وأهملوا محافظة الجوارح عن المعاصي، وإلزامها الأعمال الصالحة؛ وهم مغرورون: لأن العلم إذا لم يقارنه العمل لا يكون له مكان عند الله تعالى، وعند الخواص من عباده.
ومنهم: الذين أحكموا العلم، والعمل، وأهملوا تزكية نفوسهم عن الأخلاق الذميمة؛ وهم مغرورون أيضاً، إذ لا ينجو في الآخرة إلا من أتى الله بقلب سليم.
ومنهم: الذين اعترفوا بأن النجاة في الآخرة إنما هي بتزكية النفس عن الأخلاق الذميمة، إلا أنهم يزعمون أنهم منفكون عنها؛ وهؤلاء مغرورون أيضاً، لأن هذا من العجب، والعجب من أشد الصفات المهلكات.
ومنهم: الذين اتصفوا بالعلم، وتزكية الأخلاق، لكن بقي منها خبايا في زوايا القلب، ولم يشعروا بها؛ وهؤلاء أيضاً مغرورون بظاهر أحوالهم، وغفلوا عن تحصيل القلب السليم.
ومنهم: الذين اقتصروا على علم الفتاوى، وإجراء الأحكام؛ وهم مغرورون، لأنهم اقتصروا على فرض الكفاية، وأخلوا بفرض العين، وهو: إصلاح أنفسهم، وتزكية أخلاقهم، وتصفية قلوبهم من الحقد والحسد، وأمثال ذلك.
ومنهم: الوعاظ وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس، وصفات القلب، من الخوف، والرجاء، والإخلاص، ونحو ذلك؛ وأكثرهم مغرورون، لأنهم يتكلمون فيما ذكر، وليس لهم من ذلك شيء. (2/ 87)
ومنهم: من اشتغل باللغة، ودقائق العلوم العربية، وأفنوا عمرهم فيها، ظناً منهم أنهم من علماء الأمة، لأنهم في صدد أحكام مباني الكتاب، والسنة؛ وهم مغرورون، لأنهم: اتخذوا القشر مقصوداً، فاغتروا به؛ وأصناف المغرورين من الناس، لا يمكن تعدادهم، وفي هذا القدر كفاية لمن اعتبر - اللهم ألهمنا طريق دفع الغرور -، ولا يمكن ذلك إلا بالعقل الذي هو مبنى الخيرات، وأساسها ثم بالمعرفة وهي لا تعم إلا بمعرفة نفسه بالذل، والعبودية، ومعرفة ربه بالجلال، والهيبة، وصفا بقلبه بلذة المناجات، واستوت عنده من الدنيا ذهبها، ومدرها، ولا يبقى للشيطان عليه من سلطان {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور}.
علم آفات الغضب
وهو مذموم بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله - - صلى الله عليه وسلم - -، وإجماع الصحابة والتابعين.
وحقيقته أنه حرارة تنبعث من الباطن لدفع المضار البدنية، لأن البدن لكونه غير مأمون عن الضرر خلق الله تعالى في البدن نار الغضب لتدفع الضرر عنه وله درجات.
إحداها: الإفراط: وهو مذموم لأنه يتجاوز عن حد دفع الشر إلى إيقاع الشر.
وثانيتها: التفريط: وهو أيضاً مذموم لأنه لا يقدر على تحقيق ما خلق الغضب له وهو دفع الشر.
وثالثتها: الاعتدال: وهو أن ينتظر إشارة العقل والدين فينبعث حيث تجب (2/ 88) الحمية، وينطفئ، حيث يحسن الحلم، وهو الوسط، ولتحصيل هذا الاعتدال طرق، ورياضات يعرفها أهلها، وليس هذا المقام موضع تفصيلها.
علم آفات الكبر
وهو صفة في النفس، وما في الظاهر من إماراتها.
وهو أن يرى نفسه فوق الغير في صفات الكمال فيحصل في قلبه اغترار، وهزة، وفرح، وركون، إلى رؤية نفسه، والتكبر إما على الله تعالى، - والعياذ بالله من ذلك -، كتكبر فرعون، ونمرود.
وإما على الرسل، والأنبياء: بأن لا يطيعهم، كتكبر أبي جهل، و أبي بن خلف.
وإما على الخلق: وهذا وإن كان دون الأولين إلا أنه داء عظيم، ولهذا ذمه الله تعالى، ورسوله، والكتاب والسنة مشحونان من ذمه، ومدح التواضع، وأسبابه الظاهرة.
وإما العلم: لأنه يكون سبباً لرؤية النفس، واستحقار الغير.
وإما العمل والعبادة: لأن صاحبه يرى فضيلته في نفسه بذلك على غيره.
وإما بالحسب والنسب، وقلما ينفك عنه نسيب.
وإما الجمال وأكثر ما يكون ذلك في النساء.
وإما المال كما يرى في الأغنياء.
وإما القوة كما ترى في الأقوياء فإنهم يتكبرون بها على الضعفاء.
وإما كثرة الخدام، والعبيد، والأقارب، والبنين، من ذلك المكاثرة بالمستفيدين بين العلماء. (2/ 89)
وأما أسبابه الباطنة فهي: إما العجب وهو أكبر الباطن. 0
وإما الحقد: لأنه إذا رسخ في القلب تأنف النفس من أن تطيع المحق.
وإما الحسد: وهو أيضاً يبعثه على أن يعامله بأخلاق الكبر.
وإما الرياء: فإن كثيراً من الناس يتكبر على آخر ولا يستفيد منه العلم لئلا يقال أنه أفضل منه.
وطريق معالجة الكبر.
إما عام: يقطع عرقه بالكلية، وهو أن يعرف ذل نفسه، وأن الكبرياء لله تعالى، وأن يواظب على قصد التواضع، والتشبه بالمتواضعين، إلى أن يرسخ فيه ذلك ويتذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبيد))، مع أن له من المنصب الجليل فوق جميع المناصب
وإما خاص: وهو أن يدفع الكبر بالنسب؛ لأن ذلك اعتداد بكمال الغير، ويدفع الكبر بالجمال؛بملاحظة ما في باطنه من الأقذار، وبما سيصير إليه في القبر، ويدفع الكبر بالقوة؛ بأنه إذا مرض يصير أعجز العاجزين وبأن الحمار والبقر أكمل في ذلك منه.
ويدفع الكبر بالغنى، والأعوان، والأنصار، بأن جميع ذلك في معرض الآفات ويدفع الكبر؛ بالعلم بأن حجة الله تعالى على العالم أوكد، وبأن الكبر لا يليق إلا لله - عز وجل سبحانه.
منقول .
تعليق