إِنَّ الذِّي تَطلُبُ أَمَامَكَ!
الحمد لله رب العالمين، و صلى الله و سلم على من بعثه رحمة للناس أجمعين، نبينا محمد الأمين، و على آله الطاهرين، و صحبه الطيبين، و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
و بعد، فقد انتصف شهر رمضان، شهر التوبة و الغفران، فانقسم الناس قسمان :
قسمٌ : اغتنموا هذه البركات، سائلين الله المغفرة في الصلوات، راجين منه السعادة و الثبات، و دخول الجنة بعد الممات، و ما هذا إلا بتوفيق رب الأرض و السموات.
و قسمٌ : لا يزالون في الشهوات و الملذات غارقين ، في المعاصي و الملهيات ساهرين، ألهتهم كرةُ المجانين.
ضيّعوا على أنفسهم فرصةً لعلّهم لا يوفقون أن يعيشوها بعد عامهم هذا، فُتحت أبواب الجنان، و أغلقت أبواب النيران، و صفدت الشياطين، لله في هذا الشهر عتقاء من النار، و للصائم دعوة مستجابة كل يوم، خيرات كثيرة أبدلت بملذات الدنيا، نسأل الله السلامة و العافية.
لكن أقول لم يفت الأوان، فإننا مقبلون على العشر الأواخر من هذا الشهر المبارك، فيها ليلة هي خيرٌ من ألف شهر، ليلة مباركة، من حُرمها فقد حرم الخير كله، و لا يُحْرم خيرها إلا محروم، و من اغتنمها فقد اغتنم خيرا كثيرا، فيا من ضيع ما مرَّ من أيام الشهر لا تكن المحروم، تدارك نفسك، و سل الله أن يغفر ذنبك، تسعد يوم تلقى ربك، و يا من كان مغتنما لهذا الشهر، فلتجتهد أكثر في هذه العشر، تفرح بعد يوم الحشر.
أحببت أن أكتب هذه الأسطر لرفع الهمم، تذكيرا للعاملين المجدِّين، و تبصيرا للغافلين المتكاسلين، فإن فيها أجرا كبيرا، و خيرا كثيرا، و فضائل عظيمة، أنقل منها ما يسر الله تعالى جمعه، سائلا الله النفع بها، لي و لإخواني إنه جواد كريم.
من فضائل ليلة القدر :
1_ ليلة القدر خير من ألف شهر : قال الله تعالى {ليلة القدر خير من ألف شهر} (القدر)، روى ابن ماجة عن أنس بن مالك، قال : دخل رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : "إن هذا الشهر قد حضركم، و فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، و لا يحرم خيرها إلا محروم". صححه الألباني رحمه الله.
_ قال العلامة السعدي رحمه الله [صحيفة 890] : "أي تعادل من فضلها ألف شهر، فالعمل الذي يقع فيها خير من العمل في ألف شهر خالية منها".
_ و قال العلامة الشنقيطي رحمه الله [الجزء : 9 صحيفة : 215] : {خير من ألف شهر} فيه النص صراحة على علو قدرها و رفعتها، إذ أنها تعدل في الزمن فوق ثلاث و ثمانين سنة، أي فوق متوسط أعمار هذه الأمة".
2 _ ليلة القدر تنزَّل الملائكةُ و الرّوح فيها : قال الله تعالى {تنزل الملائكة و الروح فيها} (القدر).
قال ابن كثير رحمه الله [الجزء : 7 صحيفة : 333] : "أي : يكثر نزول الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، و الملائكة يتنزلون مع تنزيل البركة و الرحمة كما يتنزلون عند تلاوة القرآن، و يحيطون بحلق الذكر، و يضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيما له".
_ قال العلامة الشنقيطي رحمه الله [الجزء 9 صحيفة : 217] : "قيل : الروح هو جبريل، كما في قوله تعالى {فنفخنا فيه من روحنا} و يكون فيها أي : في جماعة من الملائكة، أو معطوف على الملائكة عطف الخاص على العام.
و قيل : إن الروح نوع من الملائكة مستقل، و يكون فيها ظرف للنزول أي تلك الليلة".
3 _ ليلة القدر سلام حتى مطلع الفجر : قال الله تعالى {سلام هي حتى مطلع الفجر} (القدر).
_ قال القرطبي رحمه الله [الجزء : 20 صحيفة : 95] : "أي ليلة القدر سلامة و خير كلها لا شر فيها".
_ و قال السعدي رحمه الله [صحيفة 890] : "أي : سالمة من كل آفة و شر، و ذلك لكثرة خيرها".
_ و قال الطبري رحمه الله [الجزء : 12 صحيفة : 654] : "سلام ليلة القدر من الشر كله، من أولها إلى طلوع الفجر من ليلتها".
4 _ ليلة القدر ليلة مباركة نزل القرآن فيها : قال الله تعالى {حم و الكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة} (الدخان).
_ قال السعدي رحمه الله [صحيفة 738] : "أي : كثيرة الخير و البركة،ر و هي ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، فأنزل أفضل الكلام بأفضل الليالي و الأيام، على أفضل الأنام، بلغة العرب الكرام، لينذر بِهِ قوما عمتهم الجهالة، غلبت عليهم الشقاوة، فيستضيؤا بنوره، و يقتبسوا من هداه، و يسيروا وراءه، فيحصل لهم الخير الدنيوي، و الخير الأخروي".
_ قال الشنقيطي رحمه الله [ الجزء : 7 صحيفة : 208] : "أي كثيرة البركات و الخيرات".
5 _ ليلة القدر يقدر فيها التقدير السنوي : قال الله تعالى {فيها يفرق كل أمر حكيم} (الدخان).
_ قال ابن كثير رحمه الله [ الجزء : 6 صحيفة : 245] : "أي في ليلة القدر يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة، و ما يكون فيها من الآجال و الأرزاق و ما يكون فيها إلى آخرها".
_ قال القرطبي رحمه الله [الجزء : 16 صحيفة : 94] : "و قال ابن عباس : يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت و حياة و رزق و مطر حتى الحج، يقال : يحج فلان و فلان".
6 _ ليلة القدر سبب لمغفرة الذنوب لمن قامها : روى البخاري و اللفظ له، و مسلم، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من يقم ليلة القدر، إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه".
_ قال ابن حجر رحمه الله في الفتح [الجزء : 4 صحيفة : 306] : "إيمانا : أي تصديقا بوعد الله بالثواب عليه، و احتسابا : أي طلبا للأجر لا لقصد آخر من رياء و نحوه".
7 _ ليلة القدر حثَّ النبي صلى الله عليه و سلم على التماسها : روى البخاري في صحيحه عن أبي سلمة، قال: سألت أبا سعيد، وكان لي صديقا فقال : اعتكفنا مع النبي صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان، فخرج صبيحة عشرين فخطبنا، وقال : "إني أريت ليلة القدر، ثم أنسيتها -أو نسيتها- فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر، وإني رأيت أني أسجد في ماء وطين، فمن كان اعتكف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليرجع"، فرجعنا وما نرى في السماء قزعة، فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد، وكان من جريد النخل، وأقيمت الصلاة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين، حتى رأيت أثر الطين في جبهته.
_ قال العلامة بن عثيمين في "شرح عمدة الأحكام" [الجزء 3 صحيفة : 104]: "فالتمسوها : فتحروها".
_ و قال [الجزء : 3 صحيفة : 102]: "(تحروا ليلة القدر) : اطلبوا مصادفتها بالعمل الصالح و القيام فيها".
8 _ ليلة القدر اعتكف النبي صلى الله عليه و سلم شهرا يلتمسها : روى البخاري في صحيحه، عن أبي سلمة، قال : انطلقت إلى أبي سعيد الخدري فقلت : ألا تخرج بنا إلى النخل نتحدث، فخرج، فقال : قلت : حدثني ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر، قال : اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر الأول من رمضان واعتكفنا معه، فأتاه جبريل، فقال : إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الأوسط، فاعتكفنا معه فأتاه جبريل فقال : إن الذي تطلب أمامك، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا صبيحة عشرين من رمضان فقال : "من كان اعتكف مع النبي صلى الله عليه وسلم، فليرجع، فإني أريت ليلة القدر، وإني نسيتها، وإنها في العشر الأواخر، في وتر، وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء" وكان سقف المسجد جريد النخل، وما نرى في السماء شيئا، فجاءت قزعة، فأمطرنا، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرنبته تصديق رؤياه.
_ قال العلامة بن عثيمين رحمه الله في "شرح عمدة الأحكام" [الجزء 3 صحيفة : 105] : "أن من أهم مقاصده [قلت : أي الاعتكاف، على حسب السياق] تحري ليلةَ القدر، ليتفرغ للعمل الصالح فيها".
9 _ ليلة القدر تكثر فيها الملائكة في الأرض : عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : "ليلة القدر ليلة سابعة أو تاسعة و عشرين، و إن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر عددا من الحصى" (الصحيحة 2205).
10 _ ليلة القدر أفضل ما تدعوا الله فيها ما علمه النبيُّ صلى الله عليه و سلم عائشةَ رضي الله عنها :روى ابن ماجة و الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله! : أرأيت إن علمت ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال : "قولي اللهم إنك عفو تحب الغفو فاعف عني" صححه الألباني رحمه الله.
أسأل الله تعالى أن يوفقنا لاغتنام بركات هذه الليلة المباركة، و أن يجعلنا ممن غفر له في هذا الشهر، و أعتق رقبته من النار.
و صلى الله و سلم على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين، و اتبع هداهم إلى يوم الدين.
كتبه :يوسف صفصاف.