الخيرُ قادمٌ فلَا تكنْ أحدَ المحرومَينِ (المشركَ أوْ المشاحنَ)
الحمد لله رب العالمين، الغفور الرحيم، و صلى الله على نبينا محمد الأمين، سيد الأنبياء و المرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، و على آله الطاهرين، و صحبه الأكرمين، و من اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد، فمن المعلوم في ديننا أن أوصى الله تعالى عباده المؤمنين بالتواد و التآخي فيما بينهم(1) فقال عز و جل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات 10].
و امتن الله على عباده بأن جعلهم إخوانا {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران 103].
و جعل الأخوة من صفات أهل الجنة فقال {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر 47].
كما جاء الحث على التآخي في سنة النبي صلى الله عليه و سلم بنوعيها : القولية و الفعلية.
فقد قال صلى الله عليه و سلم : "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" رواه البخاري و مسلم عن عبد الله بن عمر.
و روى مسلم في صحيح عن عبد الرحمن بن شماسة، أنه سمع عقبة بن عامر، على المنبر يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : "المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر".
و لمسلم عن أبي هريرة، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره التقوى هاهنا" ويشير إلى صدره ثلاث مرات" بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه".
و روى الحاكم و أبو داود و ابن ماجه عن سويد بن حنظلة، قال : خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حجر فأخذه عدو له فتحرج القوم أن يحلفوا وحلفت أنه أخي فخلي سبيله، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن القوم تحرجوا وحلفت أنا أنه أخي، فقال : "صدقت المسلم أخو المسلم" صححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (375.
و لأبي داود في السنن عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه" حسنه الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (491.
و قد حرص النبي صلى الله عليه و سلم على هذه الأخوة بفعله، فكان يؤاخي بين الصحابة رضي الله عنهم.
روى البخاري عن أبي جحيفة، قال : "آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان، وأبي الدرداء".
و له أيضا عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : "لما قدمنا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع".
و له عن ابن عباس رضي الله عنهما : "{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ}، قال : "ورثة" : {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال : "كان المهاجرون لما قدموا المدينة، يرث المهاجر الأنصاري دون ذوي رحمه، للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت : {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسخت".
و روى مسلم عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "آخى بين أبي عبيدة بن الجراح، وبين أبي طلحة".
و روى النسائي في الصغرى عن أنس، قال : "آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار" صححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن النسائي (338.
و روى البخاري في الأدب المفرد عن أنس قال : "آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين ابن مسعود والزبير" صححه الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد (56.
و قد نهى الشرع عن صفات قبيحة، كالظلم و التجسس و الحسد و التناجش و الخذلان و البيع فوق بيع الرجل و الخطبة فوق على الرجل، و هذا ورد في نصوص كثيرة ليس هذا معرض ذكرها.
إلا أن هذه الصفات المحرمة جاء النهي عنها خاصة في معرض ذكر الأخوة في الدين كقوله صلى الله عليه و سلم : "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" رواه الشيخان، و قوله " لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره" رواه مسلم.
و جاء هذا التخصيص بالذكر لها في هذا الموضع لأنها مما ينكس هذه الأخوة و ينغصها، فبهذه الأمور يقع التهاجر و التشاحن بين المسلمين.
ألا و إن الله تعالى جعل لعباده أسبابا لنيل مغفرته، و يتفضل الله على عباده في أوقات فاضلة على عباده بالمغفرة، و إن الشارع الحكيم و نهى عن أمور تحرم أصحابها من هذه المغفرة، و من تلكم الأمور الشحناء بين المسلمين.
روى مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : "تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين، ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال : أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا".
عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين، يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن، إلا عبدا بينه وبين أخيه شحناء، فيقال : اتركوا، أو اركوا، هذين حتى يفيئا".
و الشحناء هي : العداوة.
قال فضل الله الجيلاني رحمه الله في فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد (2/75) : "(الشحناء) العداوة إذا امتلأت منها النفس و البغض و الحقد".
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم (16/132) : "الشحناء : العداوة، كأنه شحن بغضا له لملائه".
قال العظيم آبادي رحمه الله في عون المعبود شرح سنن أبي داود (13/17 : "(شحناء) من الشحن، أي : عداوة تملأ القلب".
و إنه مما تفضل الله تعالى على عباده أن جعل ليلة النصف من شعبان ليلة يغفر الله لباده المؤمنين ذنوبهم رحمة و تفضلا منه عز و جل، إلا أنه يحرم من هذا الخير المشرك و المشاحن.
روى ابن حبان في صحيحه عن معاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يطلع الله إلى خلقه في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن" صححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (426.
و لابن ماجه عن أبي موسى الأشعري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن" صححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن ابن ماجه (1409).
و للبزار عن أبي بكر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا كان ليلة النصف من شعبان ينزل الله تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا فيغفر لعباده إلا ما كان من مشرك أو مشاحن لأخيه" صححه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب و الترهيب (2769).
و ليست العداوة و الهجران و التباغض في الله من هذا التشاحن المذموم المانع من المغفرة.
قال الصديقي الشافعي رحمه الله في دليل الفالحين لطرق رياض الصاليحين (8/70) : "(فيقال أنظروا) بفتح الهمزة و كسر الظاء المعجمة، أي : أخروا (حتى يصطلحا) و هذا محمول على العداوة لحظ النفس، أما هي لله تعالى فلا تمنع من المغفرة، و قد جاء الأمر بها قال صلى الله عليه و سلم : "أفضل الحب الحب لله و أفضل البغض البغض في الله"".
قال الإمام المنذري رحمه الله في الترغيب و الترهيب : "قال أبو داود : "إذا كانت الهجرة لله فليس من هذا بشيء؛ فإن النبي صلى الله عليه و سلم هجر بعض نسائه أربعين يوما، و ابن عمر هجر ابنا له إلى أن مات" من صحيح الترغيب و الترهيب (3/53).
و إذا أحد المتخاصمين أبى الصلح و دفْعَ الشحناء فلا يضر الآخر.
قال الأمير الصنعاني رحمه الله في التنوير بشرح الجامع الصغير (5/77) : "قال ابن رسلان : و يظهر أنه لو صالح أحدهما الآخر فلم يقبل غفر للمصالح".
فاللهم يا حي يا قيوم أذهب الشحناء من قلوبنا، و اغفر لنا و لا تحرمنا من رحمتك، و أصلح ذات بيننا.
سبحانك اللهم و بحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك.
و صلى الله على نبينا محمد و على آله و سلم.
كتبه على عجلة
يوسف صفصاف
14 شعبان 1436
01 جوان 2015
هامش :
(1) هذا مما أفادنا به شيخنا الفاضل محمد مزيان حفظه الله في محاضرته القيمة بعين الكبيرة ولاية سطيف مساء السبت الماضي فجزاه الله خيرا.