الترهيب من اللعن وزجر المتهاونين فيه
الخطبة الأولى:
الحمد لله الحي القيوم ذي الجلال والإكرام، والعزة والجبروت والفضل والإنعام، الذي هدانا لا تباع شرعه القويم، وأصلح لنا به القلوب والألسن والجوارح لنكون من أهل النعيم المقيم، فله الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً على فضله وإحسانه الدائم العميم، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد الموصوف بأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، وجواد بالخير كريم، وعلى أزواجه وذريته وسائر أهل بيته الأعلام، وعلى أصحابه أكابر أهل الدين والعلم، والتابعين لهم بإحسان من الأنام، ما تتابعت الليالي والأيام.
أما بعد، أيها الناس:
اتقوا الله ربكم، ولا تغتروا بإمهاله لكم، وحلمه عليكم، وأصلحوا أقوالكم وأفعالكم، فإنها محصاة عليكم، وإنكم لمجازون عليها، وقد قال ربكم - جل وعلا - مرهباً لكم ومحذراً: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }.
{ رقيب عتيد } يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر، حتى إنه يكتب قوله: أكلتُ وشربت وذهبت وجئت ورأيت، قاله حبر الأمة ابن عباس - رضي الله عنه -.
ويوم القيامة تُحْضر هذه الكتب التي سجلت فيها الملائكة الكرام أقوال الناس وأفعالهم فتطير لها القلوب، وتَعظم من وقعها الكروب، وتكاد لها الصم الصلاب تذوب، ويشفق منها المجرمون، فإذا رأوها مُسَطِرة عليهم أعمالهم، ومحصى عليهم فيها أقوالهم وأفعالهم قالوا: { يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا }.
أي: لا يترك خطيئة صغيرة ولا كبيرة إلا وهي مكتوبة فيه، محفوظة لم يُنس منها عمل سِرٍ ولا علانية، ولا ليل ولا نهار.
{ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }.
شهيد على الظواهر والسرائر، والخبايا والخفايا، والأقوال والأفعال، والحركات والسكنات.
أيها الناس:
إن بعض المسلمين من الذكور والإناث - سلمهم الله من الشر وأصلح أحوالهم - قد درجت ألسنتهم على اللعن، حتى صرنا نسمعه من الجد والجدة، والوالد والوالدة، والأخ والأخت، والعم والعمة، والخال والخالة، والزوج والزوجة، والقريب والقريبة، والمعلم والمعلمة، والصاحب والصاحبه، والعاقل الرزين وضعيف العقل، والوجيه وغير الوجيه، والمسن والعجوز، والشاب والشابة، والصغير المميز وغير المميز.
ونسمعه في البيوت وأماكن العمل، وفي المدارس والمراكز، وفي المجالس والملتقيات، وفي الطرقات والمنتزهات، وفي الملاعب والمحافل، وفي الفضائيات والإذاعات.
ونراه يخرج على أمور يسيره، وزلات خفيفة، بل قد يخرج من بعضهم في حال اللعب والمزح، أو يخرج وهم يبتسمون ويضحكون.
حتى إنك لتسمع من بعض الناس شديد اللعن وأنكره، وأغلظه وأبشعه، وأقبحه وأسوأه، وقد يكون صادراً عنهم في حق أنفسهم، أو حق والديهم، أو حق أبنائهم وبناتهم، أو حق إخوانهم وأخواتهم، أو حق زوجاتهم وأزواجهم، أو حق أصحابهم وجلسائهم، أو حق معلميهم ومعلماتهم، أو حق حكامهم وأمرائهم ووزرائهم، أو حق خدمهم ومن يعملون عندهم أو معهم.
بل قد يظن السامع أن النطق باللعن قد أصبح عند بعض من يراهم ويسمعهم ويخالطهم ويجالسهم من أسهل الكلام وأيسره، وأخف القول وأهونه، وكأنه من المباح لا الحرام، إذ يراه يخرج منهم مراراً، ويسمعه منهم في أحوال متعددة، وأوقات مختلفة، وفي الجد والهزل، وحين اللعب والسرور، وعند الغضب والضحك، وعلى الحقير والجليل، وفي حق الصغير والكبير، ومع القريب والبعيد، والصاحب والعدو.
أَمَا طرق أسماع أهل اللعن، أَمَا قرأت عيون اللعانين، أَمَا أفزع قلوب من يلعن أخاه المسلم أو أخته المسلمة ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن اللعن واللعانين من الأحاديث الكثيرة المتنوعة؟
أَمَا علموا أن النبي صلى الله عليه سلم نفى أن يكون اللعن من خِلال المؤمن وصفاته، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِطَعَّانٍ، وَلَا بِلَعَّانٍ، وَلَا الْفَاحِشِ الْبَذِيءِ)).
أَمَا أيقظهم أن اللعن يزحزحهم عن منزلة الصديقية العظيمة، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا )).
أَمَا ردعهم أن اللعن من أسباب حرمان العبد أن يكون من الشفعاء والشهداء عند الله يوم القيامة، فقد صحَّ عن زيد بن أسلم: (( أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، بَعَثَ إِلَى أُمِّ الدَّرْدَاءِ بِأَنْجَادٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، قَامَ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنَ اللَّيْلِ، فَدَعَا خَادِمَهُ، فَكَأَنَّهُ أَبْطَأَ عَلَيْهِ، فَلَعَنَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَتْ لَهُ أُمُّ الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُكَ اللَّيْلَةَ، لَعَنْتَ خَادِمَكَ حِينَ دَعَوْتَهُ، فَقَالَتْ: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ» )).
أما زجرهم وأوقفهم أن اللعنة تغلق دونها أبواب السماء وأبواب الأرض، فإن لم تجد الملعون يستحقها رجعت إلى قائلها، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَعَنَ شَيْئًا صَعِدَتِ اللَّعْنَةُ إِلَى السَّمَاءِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا، ثُمَّ تَهْبِطُ إِلَى الْأَرْضِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا، ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَإِذَا لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا رَجَعَتْ إِلَى الَّذِي لُعِنَ، فَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ أَهْلًا وَإِلَّا رَجَعَتْ إِلَى قَائِلِهَا )).
أما زجرهم وأخافهم أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يعدون لعن المسلم لأخيه المسلم من عِظام الذنوب وغِلاظها، فقد ثبت عن سلمة بن الأكوع ــ رضي الله عنه ــ أنه قال: (( كُنَّا إِذَا رَأَيْنَا الرَّجُلَ يَلْعَنُ أَخَاهُ، رَأَيْنَا أَنَّهُ قَدْ أَتَى بَابًا مِنَ الْكَبَائِرِ )).
بل أشد من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم الثابت الصحيح: (( لَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ )).
أما علموا أن اللعن من أسباب كثرة دخول الناس النار، فقد صح عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال: (( خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى المُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ» فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ )).
أيها الناس:
إن من أشد اللعن وأقبحه، وأشنعه وأبغضه، وأبشع العقوق وأغلظه، لعن الولد لوالديه، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ )).
وقد لا يقوم الولد بلعن والديه بلسان نفسه، لكنه يتسبب في لعنهما، فيكون كمن لعنهما، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ )).
بارك الله لي ولكم فيما سمعتم، وطهر ألسنتنا عن كل نُطق يغضبه، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، إن ربي غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد الذي له ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم، والصلاة والسلام على جميع النبيين والمرسلين، الذين بعثهم الله هداية ورحمة لمن جاءوا إليه، وعلى آل كلٍ وأصحابهم وأتباعهم المؤمنين والصادقين.
أما بعد، أيها الناس:
لا تستهينوا بلعن بعضكم لبعض، فإن اللعن مذموم ومستقبح حتى في حق غير الآدميين، فقد صح عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أنه قال: (( بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَامْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ، فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا، فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ، قَالَ عِمْرَانُ: فَكَأَنِّي أَرَاهَا الْآنَ تَمْشِي فِي النَّاسِ، مَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ )).
وصح عن أَبِي بَرْزَةَ الأَسلمي - رضي الله عنه - أنه قال: (( بَيْنَمَا جَارِيَةٌ عَلَى نَاقَةٍ، عَلَيْهَا بَعْضُ مَتَاعِ الْقَوْمِ، إِذْ بَصُرَتْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَضَايَقَ بِهِمِ الْجَبَلُ، فَقَالَتْ: حَلْ، اللهُمَّ الْعَنْهَا، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُصَاحِبْنَا نَاقَةٌ عَلَيْهَا لَعْنَةٌ )).
إلا فاتقوا الله عباد الله وصونوا ألسنتكم وأبعدوها عن جميع الأقوال المحرمة من الكذب والنميمة والغيبة والسباب واللعن والقذف وشهادة الزور وعيب الناس والسخرية والاستهزاء بهم وهجوِهِم والتنكيت عليهم ونبزِهم بالسوء وتعييرِهم، فإن اللسان من أخوف ما يخافه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته، فقد ثبت أن سفيان بن عبد الله الثقفي - رضي الله عنه - سأل نبي الله صلى الله عليه وسلم: (( ما أخوفُ ما تخافُ عليَ؟ فأخذَ - صلى الله عليه وسلم - بلسان نفسه ثم قال: هذا )).
وثبت عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: (( والذي لا إله غيرُهُ ما على ظهر الأرضِ شيءٌ أحوجُ إلى طول سَجنٍ من لسان )).
اللهم وفقنا لمعرفة الحق واتباعه، ومعرفة الباطل واجتنابه، واهدنا الصراط المستقيم، اللهم أكرمنا بدعائك في الليل والنهار، ومُنَّ علينا بالإجابة، اللهم تجاوز عن تقصيرنا وسيئاتنا، واغفر لنا ولوالدينا وسائر أهلينا، وبارك لنا في أعمارنا وأعمالنا وأقواتنا وأوقاتنا، اللهم اكشف عن المسلمين ما نزل بهم من ضر وبلاء، وفقر وتشرد، وضعف وتقصير، وقتل واقتتال، ووسع عليهم في الأمن والرزق والعافية، وجنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن، وصل اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وقوموا إلى صلاتكم سددكم الله.
خطبة:
لعبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد منقول من موقع ميراث الانبياء
الخطبة الأولى:
الحمد لله الحي القيوم ذي الجلال والإكرام، والعزة والجبروت والفضل والإنعام، الذي هدانا لا تباع شرعه القويم، وأصلح لنا به القلوب والألسن والجوارح لنكون من أهل النعيم المقيم، فله الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً على فضله وإحسانه الدائم العميم، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد الموصوف بأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، وجواد بالخير كريم، وعلى أزواجه وذريته وسائر أهل بيته الأعلام، وعلى أصحابه أكابر أهل الدين والعلم، والتابعين لهم بإحسان من الأنام، ما تتابعت الليالي والأيام.
أما بعد، أيها الناس:
اتقوا الله ربكم، ولا تغتروا بإمهاله لكم، وحلمه عليكم، وأصلحوا أقوالكم وأفعالكم، فإنها محصاة عليكم، وإنكم لمجازون عليها، وقد قال ربكم - جل وعلا - مرهباً لكم ومحذراً: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }.
{ رقيب عتيد } يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر، حتى إنه يكتب قوله: أكلتُ وشربت وذهبت وجئت ورأيت، قاله حبر الأمة ابن عباس - رضي الله عنه -.
ويوم القيامة تُحْضر هذه الكتب التي سجلت فيها الملائكة الكرام أقوال الناس وأفعالهم فتطير لها القلوب، وتَعظم من وقعها الكروب، وتكاد لها الصم الصلاب تذوب، ويشفق منها المجرمون، فإذا رأوها مُسَطِرة عليهم أعمالهم، ومحصى عليهم فيها أقوالهم وأفعالهم قالوا: { يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا }.
أي: لا يترك خطيئة صغيرة ولا كبيرة إلا وهي مكتوبة فيه، محفوظة لم يُنس منها عمل سِرٍ ولا علانية، ولا ليل ولا نهار.
{ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }.
شهيد على الظواهر والسرائر، والخبايا والخفايا، والأقوال والأفعال، والحركات والسكنات.
أيها الناس:
إن بعض المسلمين من الذكور والإناث - سلمهم الله من الشر وأصلح أحوالهم - قد درجت ألسنتهم على اللعن، حتى صرنا نسمعه من الجد والجدة، والوالد والوالدة، والأخ والأخت، والعم والعمة، والخال والخالة، والزوج والزوجة، والقريب والقريبة، والمعلم والمعلمة، والصاحب والصاحبه، والعاقل الرزين وضعيف العقل، والوجيه وغير الوجيه، والمسن والعجوز، والشاب والشابة، والصغير المميز وغير المميز.
ونسمعه في البيوت وأماكن العمل، وفي المدارس والمراكز، وفي المجالس والملتقيات، وفي الطرقات والمنتزهات، وفي الملاعب والمحافل، وفي الفضائيات والإذاعات.
ونراه يخرج على أمور يسيره، وزلات خفيفة، بل قد يخرج من بعضهم في حال اللعب والمزح، أو يخرج وهم يبتسمون ويضحكون.
حتى إنك لتسمع من بعض الناس شديد اللعن وأنكره، وأغلظه وأبشعه، وأقبحه وأسوأه، وقد يكون صادراً عنهم في حق أنفسهم، أو حق والديهم، أو حق أبنائهم وبناتهم، أو حق إخوانهم وأخواتهم، أو حق زوجاتهم وأزواجهم، أو حق أصحابهم وجلسائهم، أو حق معلميهم ومعلماتهم، أو حق حكامهم وأمرائهم ووزرائهم، أو حق خدمهم ومن يعملون عندهم أو معهم.
بل قد يظن السامع أن النطق باللعن قد أصبح عند بعض من يراهم ويسمعهم ويخالطهم ويجالسهم من أسهل الكلام وأيسره، وأخف القول وأهونه، وكأنه من المباح لا الحرام، إذ يراه يخرج منهم مراراً، ويسمعه منهم في أحوال متعددة، وأوقات مختلفة، وفي الجد والهزل، وحين اللعب والسرور، وعند الغضب والضحك، وعلى الحقير والجليل، وفي حق الصغير والكبير، ومع القريب والبعيد، والصاحب والعدو.
أَمَا طرق أسماع أهل اللعن، أَمَا قرأت عيون اللعانين، أَمَا أفزع قلوب من يلعن أخاه المسلم أو أخته المسلمة ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن اللعن واللعانين من الأحاديث الكثيرة المتنوعة؟
أَمَا علموا أن النبي صلى الله عليه سلم نفى أن يكون اللعن من خِلال المؤمن وصفاته، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِطَعَّانٍ، وَلَا بِلَعَّانٍ، وَلَا الْفَاحِشِ الْبَذِيءِ)).
أَمَا أيقظهم أن اللعن يزحزحهم عن منزلة الصديقية العظيمة، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا )).
أَمَا ردعهم أن اللعن من أسباب حرمان العبد أن يكون من الشفعاء والشهداء عند الله يوم القيامة، فقد صحَّ عن زيد بن أسلم: (( أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، بَعَثَ إِلَى أُمِّ الدَّرْدَاءِ بِأَنْجَادٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، قَامَ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنَ اللَّيْلِ، فَدَعَا خَادِمَهُ، فَكَأَنَّهُ أَبْطَأَ عَلَيْهِ، فَلَعَنَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَتْ لَهُ أُمُّ الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُكَ اللَّيْلَةَ، لَعَنْتَ خَادِمَكَ حِينَ دَعَوْتَهُ، فَقَالَتْ: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ» )).
أما زجرهم وأوقفهم أن اللعنة تغلق دونها أبواب السماء وأبواب الأرض، فإن لم تجد الملعون يستحقها رجعت إلى قائلها، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَعَنَ شَيْئًا صَعِدَتِ اللَّعْنَةُ إِلَى السَّمَاءِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا، ثُمَّ تَهْبِطُ إِلَى الْأَرْضِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا، ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَإِذَا لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا رَجَعَتْ إِلَى الَّذِي لُعِنَ، فَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ أَهْلًا وَإِلَّا رَجَعَتْ إِلَى قَائِلِهَا )).
أما زجرهم وأخافهم أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يعدون لعن المسلم لأخيه المسلم من عِظام الذنوب وغِلاظها، فقد ثبت عن سلمة بن الأكوع ــ رضي الله عنه ــ أنه قال: (( كُنَّا إِذَا رَأَيْنَا الرَّجُلَ يَلْعَنُ أَخَاهُ، رَأَيْنَا أَنَّهُ قَدْ أَتَى بَابًا مِنَ الْكَبَائِرِ )).
بل أشد من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم الثابت الصحيح: (( لَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ )).
أما علموا أن اللعن من أسباب كثرة دخول الناس النار، فقد صح عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال: (( خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى المُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ» فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ )).
أيها الناس:
إن من أشد اللعن وأقبحه، وأشنعه وأبغضه، وأبشع العقوق وأغلظه، لعن الولد لوالديه، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ )).
وقد لا يقوم الولد بلعن والديه بلسان نفسه، لكنه يتسبب في لعنهما، فيكون كمن لعنهما، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ )).
بارك الله لي ولكم فيما سمعتم، وطهر ألسنتنا عن كل نُطق يغضبه، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، إن ربي غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد الذي له ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم، والصلاة والسلام على جميع النبيين والمرسلين، الذين بعثهم الله هداية ورحمة لمن جاءوا إليه، وعلى آل كلٍ وأصحابهم وأتباعهم المؤمنين والصادقين.
أما بعد، أيها الناس:
لا تستهينوا بلعن بعضكم لبعض، فإن اللعن مذموم ومستقبح حتى في حق غير الآدميين، فقد صح عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أنه قال: (( بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَامْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ، فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا، فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ، قَالَ عِمْرَانُ: فَكَأَنِّي أَرَاهَا الْآنَ تَمْشِي فِي النَّاسِ، مَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ )).
وصح عن أَبِي بَرْزَةَ الأَسلمي - رضي الله عنه - أنه قال: (( بَيْنَمَا جَارِيَةٌ عَلَى نَاقَةٍ، عَلَيْهَا بَعْضُ مَتَاعِ الْقَوْمِ، إِذْ بَصُرَتْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَضَايَقَ بِهِمِ الْجَبَلُ، فَقَالَتْ: حَلْ، اللهُمَّ الْعَنْهَا، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُصَاحِبْنَا نَاقَةٌ عَلَيْهَا لَعْنَةٌ )).
إلا فاتقوا الله عباد الله وصونوا ألسنتكم وأبعدوها عن جميع الأقوال المحرمة من الكذب والنميمة والغيبة والسباب واللعن والقذف وشهادة الزور وعيب الناس والسخرية والاستهزاء بهم وهجوِهِم والتنكيت عليهم ونبزِهم بالسوء وتعييرِهم، فإن اللسان من أخوف ما يخافه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته، فقد ثبت أن سفيان بن عبد الله الثقفي - رضي الله عنه - سأل نبي الله صلى الله عليه وسلم: (( ما أخوفُ ما تخافُ عليَ؟ فأخذَ - صلى الله عليه وسلم - بلسان نفسه ثم قال: هذا )).
وثبت عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: (( والذي لا إله غيرُهُ ما على ظهر الأرضِ شيءٌ أحوجُ إلى طول سَجنٍ من لسان )).
اللهم وفقنا لمعرفة الحق واتباعه، ومعرفة الباطل واجتنابه، واهدنا الصراط المستقيم، اللهم أكرمنا بدعائك في الليل والنهار، ومُنَّ علينا بالإجابة، اللهم تجاوز عن تقصيرنا وسيئاتنا، واغفر لنا ولوالدينا وسائر أهلينا، وبارك لنا في أعمارنا وأعمالنا وأقواتنا وأوقاتنا، اللهم اكشف عن المسلمين ما نزل بهم من ضر وبلاء، وفقر وتشرد، وضعف وتقصير، وقتل واقتتال، ووسع عليهم في الأمن والرزق والعافية، وجنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن، وصل اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وقوموا إلى صلاتكم سددكم الله.
خطبة:
لعبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد منقول من موقع ميراث الانبياء