((وحذار من الكلام في دين الله، والإفتاء للنّاس بغير علم مؤهّل لذلك، وحذار من صرف النّاس عن العلم وأهله إذا رأيتهم قد افتتنوا بك))
غفر الله له
عبد الحميد بن باديس
الشهاب: ج2، م8 شعبان 1351 هـ
الشهاب: ج2، م8 شعبان 1351 هـ
تذكير المسلمين بخطر الرأي في الدّين
إعداد
أبي عبد الله غريب الأثري القسنطيني
إعداد
أبي عبد الله غريب الأثري القسنطيني
غفر الله له
الحمد لله رب العامين والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وبعد:
فإنّ من أعظم الأخطار التي تهدد المسلمين وتهدد دينهم وعقيدتهم القول في دين لله بالاستحسان والظنّ وما تهوى الأنفس، ولقد ذمّ الله تعالى الذين يقولون في دينه بغير علم فقال سبحانه: ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) سورة الأعراف
قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى: ((وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)): في أسمائه وصفاته وأفعاله، وشرعه.
فكل هذه قد حرمها الله، ونهى العباد عن تعاطيها، لما فيها من المفاسد الخاصة والعامة، ولما فيها من الظلم والتجرؤ على الله، والاستطالة على عباد الله، وتغيير دين الله وشرعه))اهـ.
وقال الإمام البغوي رحمه الله: ((وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)): في تحريم الحرث والأنعام، في قول مقاتل . وقال غيره، هو عام في تحريم القول في الدين من غير يقين . اهـ
قال الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى: ((ومن حيله ومكايده: الكلام الباطل، والآراء المتهافتة، والخيالات المتناقضة، التى هى زبالة الأذهان، ونُحاتة الأفكار، والزبد الذى يقذف به القلوب المظلمة المتحيرة، التى تعدل الحق بالباطل، والخطأ بالصواب.
قد تقاذفت بها أمواج الشبهات، ورانت عليها غيوم الخيالات، فمركبها القيل والقال، والشك والتشكيك، وكثرة الجدال، ليس لها حاصل من اليقين يعول عليه، ولا معتقد مطابق للحق يرجع إليه، يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، فقد اتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا، وقالوا من عند أنفسهم فقالوا منكرا من القول وزورا، فهم فى شكهم يعمهون، وفى حيرتهم يترددون، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تلته الشياطين على ألسنة أسلافهم من أهل الضلال، فهم إليه يحاكمون، وبه يتخاصمون، فارقوا الدليل واتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل)). اهـ
((موارد الأمان المنتقى من إغاثة اللهفان للشيخ علي حسن ص191-192)).
وقال الإمام عبد الحميد بن باديس عليه رحمة الله: ((العلم قبل العمل، ومن دخل في العمل بغير علم لا يأمن على نفسه من الضلال ولا على عبادته من مداخل الفساد والاختلال، وربّما اغترّ به الجهّال فسألوه فاغترّ هو بنفسه فتكلّم بما لا يعلم فضلّ وأضلّ)) الشهاب: ج2، م8، شعبان1351هـ
وقال العلامة الفقيه أحمد حمّاني –مفتي الجزائر الأسبق- رحمه الله تعالى: ((فمن الواجب أن يتّهم المرء رأيهُ، ولو زُيِّنَ لهُ وأن يتّبع نبيَّه في كلّ ما جاء به لأنّه أعرف منه بمصلحته)) اهـ ((صراع بين السنّة والبدعة 1/21 دار البعث، قسنطينة))
فالله الله في دين الله والحذر الحذر من القول على الله بغير علم ولا أثر.
ما المقصود بالرأي ؟
قال فضيلة الدكتور الشيخ محمّد حسين الذّهبي رحمه الله: ((يطلق الرأي على الاعتقاد، وعلى الاجتهاد، وعلى القياس، ومنه أصحاب الرأي أي أصحاب القياس)).( التفسير والمفسرون1/183مكتبة وهبة ط8 سنة 1424هـ).وهذا النوع من الرأي ليس هو المقصود في بحثنا هذا.
وللمزيد من التفاصيل حوله راجع الكتاب القيّم ((التفسير والمفسّرون)) للدكتور محمّد حسين الذهبي عليه رحمة الله (1/183-194) و((الإتقان في علوم القرآن)) للحافظ السيوطي رحمه الله (1/21-24).
ما هو الرأي الذي حذّر منه السلف ؟
والمقصود بالرأي في بحثنا هذا هو القول على الله بغير علم أو بالإستحسان والظنون والهوى في نحو مشكل القرآن ومتشابهه، ومشكل الحديث ومتشابهه، مما لا يُعلمُ إلا عن طريق النّقل الثابت الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلّم أو عن أصحابه رضوان الله عليهم.
ومن ذلك أيضا الفتاوى الشاذّة التي لا يعضدها دليل ولا تستند إلى أثر أو أثارة من علم وسيأتي بعضها فيما بعد إن شاء الله تعالى.
إذنفالرأي الذي حذر منه الصحابة والسلف وأهل العلم قاطبة هو أن يقول المرء في دين الله برأيهواستحسانه اعتماداً على عقله دون الرجوع إلى الأثر!
و في ذلك يقول الإمام سعد بن علي الزنجاني رحمه الله (من أئمة القرن الرابع الهجري) :
تمسك بحبل الله و اتبع الأثر ****ودع عنك رأيا لا يلائمه خبر.
(اجتماع الجيوش لابن القيم ص 119 ط/1 دار الكتب العلمية).
قال العلامة الشاطبي رحمه الله: ((الوجه الخامس من النقل: ما جاء منه في ذم الرأي المذموم،وهو المبني على غير أس، والمستند إلى غير أصل من كتاب ولا سنّة، لكنه وجه تشريعي فصار نوعا من الابتداع، بل هو الجنس فيها، فإنّجميع البدع إنّما هي رأي على غير أصل ولذلك وصف بوصف الضلال ...)). ((الإعتصام 1/107 المكتبة التوفيقية تحقيق هانني الحاج))
وقال أيضا: (( وقد اختلف العلماء في الرأي المقصود بهذه الأخبار والآثار
فقد قالت طائفة المراد به رأى اهل البدع المخالفين للسنن لكن في الاعتقاد كمذهب جهم وسائر مذاهب اهل الكلام لانهم استعملوا آراءهم في رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل وفي رد ظواهر القرآن لغير سبب يوجب الرد ويقتضي التأويل كما قالوا بنفي الرؤية نفيا للظاهر بالمحتملات ونفى عذاب القبر ونفى الميزان والصراط.
وكذلك ردوا احاديث الشفاعة والحوض إلى اشياء يطول ذكرها وهي مذكورة في كتب الكلام.
وقالت طائفة انما الرأي المذموم المعيب الرأي المبتدع وما كان مثله من ضروب البدع فإن حقائق جميع البدع رجوع إلى الرأي وخروج عن الشرع وهذا هو القول الاظهر.
إذ الأدلة المتقدمة لا تقتضي بالقصد الأوّل من البدع نوعا دون نوع
بل ظاهرها تقتضي العموم في كل بدعه حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة كانت من الاصول او الفروع...)) (الإعتصام 1/109)
وقال بخاري المغرب الحافظ ابن عبد البّر رحمه الله :
وقال جمهور أهل العلم: ((الرأي المذموم هو القولُ في شرائع الدين بالإستحسان والظنون، والإشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات... فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل، وفرّعت وشققت قبل أن تقع، وتكلّم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن.
قالوا: وفي الإشتغال بهذا والإستغراق فيه تعطيل السنن والبعث على حملها.اهـ (جامع بيان العلم وفضله 2/302 نقلا عن المقدمة السلفية لفضيلة الشيخ أبي عبد الباري الأثري الجزائري ص24 مكتبة الفرقان)
وقال كذلك في تعليقه على الحديث الذي أخرجه الحاكم (4/430) والخطيب في تاريخه (13/309): ((تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة اعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم يحرمون به ما احل الله ويحلون به ما حرم الله))
((هذا هو القياس على غير أصل والكلام فى الدين بالتخرص والظن ألا ترى إلى قوله في الحديث ((يحلون الحرام ويحرمون الحلال)) ومعلوم أن الحلال ما في كتاب الله وسنة رسوله تحليله والحرام ما كان فى كتاب الله وسنة رسوله تحريمه فمن جهل ذلك وقال فيما سئل عنه بغير علم وقاس برأيه ما خرج منه عن السنة فهذا الذى قاس برأيه فضل وأضل ومن رد الفروع فى علمه إلى أصولها فلم يقل برأيه )). (الإعتصام 1/107)فيها الرأي قبل أن تنزل، وفرّعت وشققت قبل أن تقع، وتكلّم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن.
وقال عبد العزيز بن رفيع: سئل عطاء عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: ألا تقول فيها برأيك؟
قال: إني أستحي من الله أن يدانفي الأرض برأيي. اهـ(التفسير والمفسرون 1/86)
وقال قتادة رحمه الله لم أفت برأي منذ ثلاثين سنة.(اللالكائي في شرح
أصول الاعتقاد72)
وقال الإمام أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى: ((روى الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((اتقوا الحديث علي إلا ما علمتم فمن كذب علي متعمدا فليبوأ مقعده من النار ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)) [ضعيف: انظر الحديث رقم 114 في ضعيف الجامع]
وروي أيضا عن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ)) [انظر الذي قبله].
قال أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار بن محمد الدفع النحوي اللغوي في كتاب الرد ... فحمل بعض أهل العلم هذا الحديث على أن الرأي معنى به الهوى من قال في القرآن قولا يوافق هواه لم يأخذه عن أئمة السلف فأصاب فقد أخطأ لحكمه على القرآن بما لا يعرف أصله ولا يقف على مذاهب أهل الأثر والنقل فيه.
وقال ابن عطية: ومعنى هذا أن يسأل الرجل عن معنى في كتاب الله عز وجل فيتسور عليه برأيه دون نظر فيما قال العلماء واقتضته قوانين العلم كالنحو والأصول وليس يدخل في هذا الحديث أن يفسر اللغويون لغته والنحويون نحوه والفقهاء معانيه ويقول كل واحد باجتهاده المبني على قوانين علم ونظر فإن القائل على هذه الصفة ليس قائلا بمجرد رأيه قلت هذا صحيح ... وإنما النهي يحمل على أحد وجهين:
أحدهما أن يكون له في الشيء رأي وإليه ميل في طبعه وهواه فيتأول القرآن على وفق رأيه وهواه ليحتج على تصحيح غرضه ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى وهذا النوع يكون تارة مع العلم ليث يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته وهو يعلم أن ليس المراد بالآية ذلك ولكن مقصوده أن يلبس على خصمه وتاره يكون مع الجهل وذلك إذا كانت الآية محتمله فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ويرجح دلك الجانب برأيه وهواه فيكون برأيه أي رأيه حمله على ذلك التفسير ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه (تفسير القرطبي 1/32-33)
السلف يذمّون الرأي وأصحابه :
اعلم رحمك الله أنّ السلف الصالح رضوان الله عليهم ومن تبعهم بإحسان قد ذمّوا الرأي والاستحسان في الدّين والقول على الله بغير علم. وذمّهم للرأي أكبر وأكثر من أن يجمع في مصنف واحد! وفيما يلي مجموعة من النّقولات عنهم:
فقد أخرج البخاري ( 3182 - فتح ) ومسلم ( 5 / 175 - 176 )وسعيد بن منصور ( 3 / 2 / 374 ) وابن أبي شيبة ( 15 / 299) عن سهل بن حُنيف رضي الله عنه قال:
((أيها الناس اتهموا رأيكم .. ))
قال الحافظ (13/28 :
((كأنه قال: اتهموا الرأي إذا خالف السنّة...))
وعن أبي غالب: أنه سمع أبا أمامة رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خرجت خارجة بالشام فقتلوا، وألقوا في جب، أو في بئر، فأقبل أبو أمامة رضي الله وأنا معه، حتى وقف عليهم، ثم بكى، ثم قال : سبحان الله ، ما فعل الشيطان بهذه الأمة ؟
((كلاب النار، كلاب النار، كلاب النار - ثلاثا - شر قتلى تحت ظل السماء ، خير قتلى تحت ظل السماء، خير قتلى تحت ظل السماء من قتلوه)).
قلت : يا أبا أمامة ، أشيء تقول برأيك ، أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال : إني إذا لجريء ، إني إذا لجريء ، إني إذا لجريء - ثلاثا - بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة، ولا مرتين، ولا ثلاثا، حتى عد عشراً ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سيأتي قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، أو لا يعدو تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يعودون في الإسلام حتى يعود السهم على فوقه ، طوبى لمن قتلهم ، او قتلوه)) .أخرجه الآجرّي في الشريعة بإسناد حسن برقم 62.
((وخرج ابن المبارك حديثا ((ان من اشراط الساعه ثلاثا وإحداهن ان يلتمس العلم عند الاصاغر)).
قيل لابن المبارك من الاصاغر ؟
قال: الذين يقولون برأيهم!
فأما صغير يروى عن كبير فليس بصغير.
وخرج ابن وهب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه قال ((أصبح اهل الرأي أعداء السنن أعيتهم الاحاديث أن يعوها وتفلتت منهم)).
قال سحنون: يعني البدع.
وفي رواية ((إياكم واصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأى فضلوا واضلوا)).
وفي روايه لابن وهب ((إنّ اصحاب الرأي اعداء السنة اعيتهم ان يحفظوها وتفلتت منهم ان يعوها واستحيوا حين يسألوا ان يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فاياكم واياهم)).
قال أبو بكر بن أبي داود: ((اهل الرأي هم اهل البدع)).
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: ((من أحدث رأيا ليس في كتاب الله ولم تمض به سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدر ما هو عليه اذا لقى الله عز وجل)).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: ((قراؤكم يذهبون ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون الامور برأيهم)).
وخرج ابن وهب وغيره عن عمر بن الخطاب أنّه قال: ((السنة ما سنه الله ورسوله لا تجعلوا حظ الرأي سنة للامة)).
وخرج ايضا عن هشام بن عروه عن ابيه قال: ((لم يزل امر بني اسرائيل مستقيما حتى ادرك فيهم المولدون ابناء سبايا الامم فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوا بني اسرائيل)).
وعن الشعبي: ((إنما هلكتم حين تركتم الاثار واخذتم بالمقاييس)).
وعن الحسن: ((انما هلك من كان قبلكم حين شعبت بهم السبل وحادوا عن الطريق فتركوا الاثار وقالوا في الدين برأيهم فضلوا واضلوا)).
وعن دراج بن السهم بن اسمح قال: ((يأتي على الناس زمان يسمن الرجل راحلته حتى تعقد شحما ثم يسير عليها في الامصار حتى تعود نقضا يلتمس من يفتيه بسنة قد عمل بها فلا يجد الا من يفتيه بالظن )) انظر (الإعتصام 1/108-109)
ومن ذلك أيضا ما رواه الإمام ابن قتيبة عن الإمام الشعبي – رحمهما الله – أنه نظر الى أصحاب الرأي وقال: ((ما حدثك هؤلاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم فاقبله، وما أخبروك به عن رأيهم، فارم به في الحش))(يعني المرحاض)
وكان يقول: ((اياكم والقياس، فإنّكم إن أخذتم به، حرمتم الحلال، وأحللتم الحرام)).
وقيل للشعبي كذلك: انّ هذا لا يجيء في القياس، فقال: ((أير في القياس))!! الأير: أي الذكر، الجهاز التناسلي للرجل (تأويل مختلف الحديث للإمام ابن قتيبة 56-57 دار الكتب العلمية).
وقال الإمام أبو محمد الحسن البربهاري رحمه الله( شرح السنة 3 ):
((واعلم رحمك الله أن الدين إنما جاء من قبل الله تبارك وتعالى لم يوضع على عقول الرجال وآرائهم وعلمه عند الله وعند رسوله فلا تتبع شيئا بهواك فتمرق من الدين فتخرج من الإسلام فإنه لا حجة لك فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلّملأمته السنة وأوضحها لأصحابه وهم الجماعة وهم السواد الأعظم والسواد الأعظم الحق وأهله فمن خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّمفي شيء من أمر الدين فقد كفر .اهـ
وقال الإمام القدوة ابن بطة العكبري رحمه الله في ((الشرح والإبانة على أصول السنّو والدّيانة)) ص11 وما بعدها، دار الآثار:
(( أما بعد: فإني أسأل الله أن يحضرنا وإياك توفيقا يفتح لنا ولك به أبواب الصدق ويقيض لنا به العصمة من هفوات الخطأ وفلتات الآراء إنه رحيم ودود فعال لما يريد.
أني لما رأيه ما قد عم الناس وأظهروه، وغلب عليهم فاستحسنوه من فظائع الأهواء وقذائع الآراء وتحريف سنتهم وتبديل دينهم حتى صار ذلك سببا لفرقتهم وفتح باب البلية والعمى على أفئدتهم وتشتيت ألفتهم وتفريق جماعتهم، فنبذوا الكتاب وراء ظهورهم واتخذوا الجهال والضلال أربابا في أمورهم من بعد ما جاءهم العلم من ربهم و استعملوا الخصومات فيما يدعون وقطعوا الشهادات عليها بالظنون واحتجوا بالبهتان فيما ينتحلون وقلدوا في دينهم الذين لا يعلمون فيما لا برهان لهم به في الكتاب ولا حجة عندهم فيه من الإجماع، وأيم الله لكثير مما ألقت الشياطين على أفواه إخوانهم الملحدين من أقاويل الضلال وزخرف المقال من محدثات البدع بالقول المخترع بدع تشتبه على العقول وفتن تتلجلج في الصدور فلا يقوم لتعرضها بشر ولا يثبت لتلجلجها قدم إلا من عصم الله بالعلم وأيده بالتثبت والحلم، ... إلى آخر كلامه عليه رحمة الله.
وقال الإمام القدوة محمد بن الحسين الآجرّي رحمه الله تعالى في كتابه العظيم ((الشريعة، ص11 دار الحديث سنة1425)):
(( ثم إن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتبع ما أنزل إليه ، ولا يتبع أهواء من تقدم من الأمم فيما اختلفوا فيه . ففعل صلى الله عليه وسلم ، وحذر أمته الاختلاف والإعجاب بالرأي ، واتباع الهوى )). اهـ
وقال أيضا: ((...ولا يقول إنسان في القران برأيه، ولا يفسر القرآن إلا بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن أحد من صحابته رضي الله عنهم، أو عن أحد من التابعين رحمة الله تعالى عليهم، أو عن إمام من أئمة المسلمين، ولا يماري ولا يجادل)) الشريعة ص60.
وقال الإمام الحافظ أبو الفداء ابن كثير رحمه الله تعالى: ((فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام ... ولهذا تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به (ابن كثير 1/6-7 بتصرّف)
وقال الإمام الأوزاعي رحمه الله: ((عليك بآثار من سلف وإن رفضك النّاس، وإيّاك وآراء الرجال وإن زخرفوه عليك بالقول)). أخرجه الآجري في الشريعة ص58 والبيهقي في المدخل ح233 ص199
وكان الأوزاعي يقول: إننا لا ننقم على أبي حنيفة أنه رأى، كلنا يرى، ولكننا ننقم عليه أنه يجيئه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلّم فيخالفه الى غيره. .(نفس المصدر ص52)
أصحاب الرأي في زمن الإمام ابن قتيبة رحمه الله تعالى:
قال أبو محمد: ((وقد تدبرت رحمك الله مقالة أهل الكلام فوجدتهم يقولون على الله مالا يعلمون ويفتنون الناس بما يأتون ويبصرون القذى في عيون الناس وعيونهم تطرف على الأجذاع ويتهمون غيرهم في النقل ولا يتهمون آراءهم في التأويل ومعاني الكتاب والحديث وما أودعاه من لطائف الحكمة وغرائب اللغة لا يدرك بالطفرة والتولد والعرض والجوهر والكيفية والكمية والأينية ولو ردوا المشكل منهما إلى أهل العلم بهما وضح لهم المنهج واتسع لهم المخرج ولكن يمنع من ذلك طلب الرياسة وحب الأتباع واعتقاد الإخوان بالمقالات والناس أسراب طير يتبع بعضها بعضا ولو ظهر لهم من يدعي النبوة مع معرفتهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء أو من يدعي الربوبية لوجد على ذلك أتباعا وأشياعا وقد كان يجب مع ما يدعونه من معرفة القياس وإعداد آلات النظر أن لا يختلفوا كما لا يختلف الحساب والمساح والمهندسون لأن آلتهم لا تدل إلا على عدد واحد وإلا على شكل واحد وكما لا يختلف حذاق الأطباء في الماء وفي نبض العروق لأن الأوائل قد وقفوهم من ذلك على أمر واحد فما بالهم أكثر الناس اختلافا لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحد في الدين فأبو الهذيل العلاف يخالف النظام،
والنجار يخالفهما،
وهشام بن الحكم يخالفهم،
وكذلك ثمامة ومويس وهاشم الأوقص وعبيد الله بن الحسن وبكر العمى وحفص وقبة وفلان وفلان ليس منهم واحد إلا وله مذهب في الدين يدان برأيه وله عليه تبع!!
قال أبو محمد ولو كان اختلافهم في الفروع والسنن لاتسع لهم العذر عندنا وإن كان لا عذر لهم مع ما يدعونه لأنفسهم كما اتسع لأهل الفقه ووقعت لهم الأسوة بهم ولكن اختلافهم في التوحيد وفي صفات الله تعالى وفي قدرته وفي نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار وعذاب البرزخ وفي اللوح ذلك من الأمور التي لا يعلمها نبي إلا بوحي من الله تعالى ولن يعدم هذا من رد مثل هذه الأصول إلى استحسانه ونظره وما أوجبه القياس عنده لاختلاف الناس في عقولهم وغفلوا واختياراتهم فإنك لا تكاد ترى رجلين متفقين حتى يكون كل واحد منهما يختار ما يختاره الآخر ويرذل ما يرذله الآخر إلا من جهة التقليد والذي خالف بين مناظرهم وهيئاتهم وألوانهم ولغاتهم وأصواتهم وخطوطهم وآثارهم حتى فرق القائف بين الأثر والأثر وبين الأنثى والذكر هو الذي خالف بين آرائهم والذي خالف بين الآراء هو الذي أراد الاختلاف لهم ولن تكمل الحكمة والقدرة إلا بخلق الشيء وضده ليعرف كل واحد منهما بصاحبه فالنور يعرف بالظلمة والعلم يعرف بالجهل والخير يعرف بالشر والنفع يعرف بالضر والحلو يعرف بالمر لقول الله تبارك وتعالى ((سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون)).
والأزواج: الأضداد والأصناف كالذكر والأنثى واليابس والرطب.
وقال تعالى: ((وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى)).
ولو أردنا رحمك الله أن ننتقل عن أصحاب الحديث ونرغب عنهم إلى أصحاب الكلام ونرغب فيهم لخرجنا من اجتماع إلى تشتت وعن نظام إلى تفرق وعن أنس إلى وحشة وعن اتفاق إلى اختلاف لأن أصحاب الحديث كلهم مجمعون على أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون وعلى أنه خالق الخير والشر وعلى أن القرآن كلام مخلوق وعلى أن الله تعالى يُرى يوم القيامة وعلى تقديم الشيخين وعلى الإيمان بعذاب القبر لا يختلفون في هذه الأصول ومن فارقهم في شيء منها نابذوه وباغضوه وبدعوه وهجروه وإنما اختلفوا في اللفظ بالقرآن لغموض وقع في ذلك وكلهم مجمعون على أن القرآن بكل حال مقروءا ومكتوبا ومسموعا غير مخلوق فهذا الإجماع وأما اللإيتساء فبالعلماء المبرزين والفقهاء المتقدمين والعباد المجتهدين الذين لا يجارون ولا يبلغ شأوهم)). انتهى كلامه رحمه الله وقد نقلته بطوله لنفاسته فرحمه الله من إمام وجزاه الله خيرا من ناصح. (تأويل مختلف الحديث ص20-23 دار الكتب العلمية) وراجع هذا الكتاب النّافع ففيه والله الخير الكثير.
تعليق