كتاب للحاكم النيسابوري لم يطلع عليه الذهبي أو ابن حجر !
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله و حده و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده أما بعد :
فقد حقق فضيلة الشيخ د.علي رضا بن عبد الله كتاباً نادراً للحاكم أبي عبد الله النيسابوري صاحب " المستدرك " لم يطلع عليه الذهبي ؛ ولا ابن حجر ! -حسب علمي-
إنه كتاب : " فضائل فاطمة الزهراء " !
وقد حصل الشيخ علي رضا على نسخة فريدة للكتاب من تركيا ؛ وقام بتحقيقها تحقيقاً علمياً مع مقدمة مهمة قال فيها - بعد خطبة الحاجة - :
" هذا هو الجزء الحديثيُّ المؤلَّفُ في فضائل فاطمة الزهراء رضي الله عنها ، الذي ذكرَه الذهبيُّ من جمع الحافظ أبي عبد الله الحاكم ، وذكره في موضعين من " تاريخ الإسلام "عند ترجمتي فاطمة الزهراء ، وأبي عبد الله الحاكم . ويظهر للمتأمل أن الذهبي لم يقع علي الجزء نفسه ؛ بل قرأ خبره في المصادر التي كانت بين يديه ، وكذلك معاصروه - بما فيهم التاج السبكي - يدلك على هذا أن الذهبي الذي تعب من التعقيب على زلات الحاكم في كتابه الذي زعمَه استدراكاً على الصحيحين لم ينقل من هذا الجزء شيئاً ، وفيه فوائد تلحق بترجمة الحاكم ، وبه يتأكد أن الحاكم لم يكن رافضياً.
وقد ذكرالحافظ سراج الدين القزويني في " مشيخته " - ورقة 164 - أنه قرأ " فضائل فاطمة " للحاكم على بعض شيوخه بإسنادهم إلى الحاكم .
كما ذكر صاحب " كشف الظنون " ج 2 / ص 1277 هذا الكتاب .
ثم ذكر شيخنا نقولاً عن الأئمة بشأن تصحيح الحاكم ؛ منها نقول عن شيخ الإسلام ابن تيمية , وتلميذه ابن القيم , والمعلمي اليماني ...
ثم تكلم عن تشيعه فقال :
" تكلم التاجُ السبكي على ذلك في ترجمته للحاكم حين ترجم له في طبقاته وجعل لذلك فصلاً عنون له بقوله : " ذِكرُ البحثِ عما رُمي به الحاكم من التشيع ، وما زادتْ أعداؤه ونقصت أوداؤه رحمه الله تعالى والنصفة بين الفئتين " .
قلت : والحقُّ أنَّ فيما ذكره - أعني السبكي َّ - ما يُقبل ؛ وما يبقى رأياً لمنظوره "الأشعري" الذي لا يكاد يفارقه !
قال السبكي : " أول ما ينبغي لك أيها المنصف إذا سمعتَ الطعن في رجل أن تبحث عن خُلطائه والذين عنهم أخذ ما ينتحل ، وعن مرباه وسبيله ، ثُمَّ تنظر كلام أهل بلده وعشيرته من معاصريه العارفين به بعدَ البحث عن الصديق منهم له والعدوّ الخالي عن الميل إلى إحدى الجهتين وذلك قليل في المتعاصرين المجتمعين في بلد .
وقد رُمي هذا الإمام الجليل بالتشيع وقيل : إنَّه يذهب إلى تقديم عَلِيٍّ من غير أن يطعن في واحد من الصحابة رضي الله عنهم ؛ فنظرنا فإذا الرجل : محدثٌ لا يُختلفُ في ذلك . وهذه العقيدة تَبْعُدُ على محدِّث ؛ فإن التشيع فيهم نادر ، وإن وجد في أفراد قليلين .
ثم نظرنا مشايخه الذين أخذ عنهم العلم ؛ وكانت له بهم خصوصية فوجدناهم من كبار أهل السنة ومن المتصلبة في عقيدة أبي الحسن الأشعري كالشيخ أبي بكر بن إسحاق الصبغي ، والأستاذ أبي بكر بن فورك ، والأستاذ أبي سهل الصعلوكي ، وأمثالهم . وهؤلاء هم الذين كان يجالسهم في البحث ، ويتكلم معهم في أصول الديانات ، وما يجري مجراها .
ثم نظرنا تراجم أهل السنة في "تاريخه" ؛ فوجدناه يعطيهم حقهم من الإعظام والثناء مع ما ينتحلون ؛ وإذا شئت فانظر ترجمة أبي سهل الصعلوكي ، وأبي بكر بن إسحاق ، وغيرهما من "كتابه" ولا يظهر عليه شيء من الغمز على عقائدهم . وقد استقريتُ فلم أجد مؤرخاً ينتحل عقيدة ، ويخلو كتابه عن الغمز ممن يحيد عنها : سُنّةُ الله في المؤرخين ، وعادته في النقلة ، ولا حول ولا قوة إلا بحبله المتين .
ثم رأينا الحافظ الثبت : أبا القاسم بن عساكر أثبته في عداد الأشعريين الذين يُبَدّعون أهل التشيع ، ويبرءون إلى الله منهم ؛ فحصل لنا الريب فيما رُمِيَ به هذا الرجل على الجملة .
ثم نظرنا تفاصيله : فوجدنا الطاعنين يذكرون أن محمد بن طاهر المقدسي ذكر أنَّه سأل أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري عن الحاكم أبي عبد الله ؛ فقال : "ثقة في الحديث رافضي خبيث" (!) , وأن ابن طاهر هذا قال : " إنَّه كان شديد التعصب للشيعة في الباطن ، وكان يظهر التسنُّنَ في التقديم والخلافة ، وكان منحرفاً غالياً عن معاوية , وأهل بيته يتظاهر به , ولا يعتذر منه" (!) .
فسمعت أبا الفتح ابن سمكويه بهراة يقول : سمعت عبد الواحد المليحي يقول : سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول : دخلت على أبي عبد الله الحاكم - وهو في داره لا يمكنه الخروج إلى المسجد من أصحاب أبي عبد الله بن كرام - وذلك أنهم كسروا منبره ومنعوه من الخروج فقلت له : " لو خرجت وأمليت في فضائل هذا الرجل حديثاً لاسترحت من هذه الفتنة " " .
فقال : " لا يجيء من قلبي - يعني معاوية - " .
وإنَّه قال أيضاً : سمعت أبا محمد بن السمرقندي يقول : بلغني أن "مستدرك الحاكم" ذكر بين يدي الدارقطني ؛ فقال : نعم يُستدرك عليهما "حديث الطير" .
فبلغ ذلك الحاكم ؛ فأخرج الحديث من الكتاب .
هذا ما يذكره الطاعنون وقد استخرتُ الله كثيراً ، واستهديته التوفيقَ وقطعتُ القول : بأنّ كلام أبي إسماعيل , وابن الطاهر لا يجوز قبولُه في حق هذا الإمام ؛ لما بينهم من مخالفة العقيدة ؛ وما يرميان به من التجسيم أشهرُ مما يُرمَى به الحاكم من الرفض ! ولا يغرنَّك قولُ أبي إسماعيل - قبل الطعن فيه - أنَّه : ثقةٌ في الحديث ؛ فمثل هذا الثناء يُقدِّمه من يريدُ الإزراءَ بالكبار قبل الإزراء عليهم ؛ ليوهم البراءةَ من الغرضِ ؛ وليس الأمرُ كذلك .
والغالب على ظني أن ما عُزِيَ إلى أبي عبد الرحمن السُّلمي كذبٌ عليه ؛ ولم يبلغنا أن الحاكم ينالُ من معاوية ؛ ولا يُظن ذلك فيه . وغاية ما قيل فيه : الإفراط في وَلاءِ عَلِيّ رضي الله عنه ، ومقامُ الحاكم - عندنا - أَجَلُّ من ذلك .
وأمَّا ابنُ كَرَّام : فكان داعيةً إلى التجسيم ؛لا يُنكر أحدٌ ذلك . ثُمَّ إن هذه حكاية لا يحكيها إلا هذا الذي يُخالف الحاكمَ في المعتقد ؛ فكيف يَسَعُ المرءَ - بين يدي الله تعالى - أن يقبل قوله فيها ، أو يعتمد على نقله !؟ ثُمَّ أنّى له اطلاعٌ على باطن الحاكم ؛ حَتَّى يقضي بأنه كان يتعصب للشيعة باطناً .
وأما ما رواه الرواة عن الدارقطني - إن صح - فليس فيه ما يُرمي به الحاكمُ ؛ بل غايته أنَّه استقبح منه ذكر "حديث الطير" في "المستدرك" وليس هو بصحيح فهو يكثر من الأحاديث التي أخرجها في "المستدرك" واستُدرِكت عليه .
ثم قول ابن طاهر: إن الحاكم أخرج "حديث الطير" من "المستدرك" فيه وقفة ؛ فإن "حديث الطير" موجود في "المستدرك" إلى الآن ؛ وليته أخرجه منه ؛ فإن إدخاله فيه من الأوهام التي تُستقبح ثم لو دلّت كلمة الدارقطني على وضعٍ من الحاكم ؛ لم يُعتدَّ بها ؛ لما ذكر الخطيب في "تاريخه"(1) من أن الأزهري حدثه أن الحاكم ورد بغداد قديماً فقال : ذُكِرَ لي أن حافظكم - يعني الدارقطني - خرّج لشيخ واحد خمسمائة جزء ؛ فأروني بعضها ! فحُمل إليه منها ؛ وذلك مما خرّجه لأبي إسحاق الطبري , فنظر في أول "الجزء الأول" حديثاًً لعطية العوفي ؛ فقال : استفتح بشيخ ضعيف ؛ ثُمَّ رمى الجزء من يده ، ولم ينظر في الباقي !
فهذه كلمةٌ من الحاكم في الدارقطني تقابلُ كلمةَ الدارقطني فيه , وليس على واحد منها فضاحةٌ ؛ غير أنَّه يؤخذ منهما : أنَّه قد يكون بينهما ما قد يكون بين الأقران .
وقد قدمنا في الطبقة الأولى في ترجمة أحمد بن صالح أن كلام النظير في النظير - عند ذلك - غير مقبول ولا يوجب طعناً على القائل , ولا المقول فيه ، وحققنا في ذلك جملة صالحة ، وذلك كله بتقدير ثبوت الحكاية ، وأن فيها تعريضاً من الدارقطني بغمز الحاكم بسوء العقيدة ، ولا يُسلََّمُ واحدٌ من الأمرين؛ وإنما فيها عندنا الغمز من كتاب "المستدرك" ؛ لما فيه مما يُستدرك ! وهو غمزٌ صحيحٌ .
ثم قال ابن طاهر: وسمعت المظفر بن حمزة بجرجان يقول : سمعت أبا سعد الماليني يقول : طالعت "المستدرك" فلم أجد فيه حديثاً على شرط الشيخين .
قلت : ليس في هذا تعرض للتشيع بنفي ولا إثبات ؛ ثُمَّ هو غير مسلم !
قال شيخنا الذهبي : بل هو غلوٌ , وإسرافٌ من الماليني ؛ ففي "المستدرك" جملة وافرة على شرطهما ، وجملة كبيرة على شرط أحدهما .
قال شيخنا الذهبي : لعل مجموع ذلك نحو نصف الكتاب قال : وفيه نحو الربع : صح سنده ؛ وإن كان فيه علةٌ . قال : وما بقي - وهو نحو الربع - فهو : مناكيرُ وواهياتُ لا تصح , وفي بعض ذلك موضوعاتٌ . ثُمَّ ذكر ابنُ طاهر أنَّه رأى بخط الحاكم "حديث الطير" في جزء ضخم جمعه ، وقال : وقد كتبته للتعجب !
قلنا : وغاية جمع هذا الحديث , أن يدل على أن الحاكم يحكم بصحته ؛ ولولا ذلك لما أودعه "المستدرك" , ولا يدل ذلك منه على تقديم عَلِيّ رضي الله عنه على شيخ المهاجرين والأنصار : أبي بكر الصديق رضي الله عنه ؛ إذ له معارض أقوى لا يُقدر على دفعه . وكيف يُظن بالحاكم - مع سعة حفظه - تقديم عَلِيّ ؟! ومن قدمه على أبي بكر فقد طعن على المهاجرين والأنصار ؛ فمعاذ الله أن يُظن ذلك بالحاكم .
ثُمَّ ينبغي أن يُتعجب من ابن طاهر في كتابته هذا الجزء - مع اعتقاده بطلان الحديث - ومع أن كتابته سبب شياع هذا الخبر الباطل ، واغترار الجهال به : أكثرُ مما يُتعجب من الحاكم ممن يخرجه , وهو يعتقد صحته !
وحكا شيخنا الذهبي كلام ابن طاهر وذيَّل عليه أن للحاكم "جزءاً في فضائل فاطمة" ؛ وهذا لا يلزم منه رفضٌ ولا تشيعٌ ، ومن ذا الذي ينكر فضائلها رضي الله عنها ؟!
فإن قلت : فهل ينكر أن يكون عند الحاكم شيء من التشيع ؟
قلت : الآن حصحص الحق ؛ والحق أحق أن يُتبع .
وسلوك طريق الإنصاف أجدر بذوي العقل من ركوب طريق الاعتساف .
فأقول :
لو انفرد ما حكيته عن أبي إسماعيل ، وعن ابن طاهر؛ لقطعت بأن نسبة التشيع إليه كذب عليه ؛ ولكني رأيت الخطيب أبا بكر رحمه الله تعالى قال فيما أخبرني به محمد بن إسماعيل المسند إذناً خاصاً والحافظ أبو الحجاج المزي إجازة قالا : أخبرنا مسلم بن محمد بن علان قال الأول : إجازة ، وقال الثاني : سماعاً :
أخبرنا أبو اليمن الكندي ، أخبرنا أبو منصور القزاز ، أخبرنا أبو بكر الخطيب ، قال : أبو عبد الله بن البيع الحاكم كان ثقة أول سماعه في سنة ثلاثين وثلاثمائة ، وكان يميل إلى التشيع ؛ فحدثني إبراهيم بن محمد الأرموي بنيسابور وكان صالحاً عالماً قال : جمع أبو عبد الله الحاكم أحاديث وزعم أنَّها صحاح على شرط البخاري ومسلم منها " حديث الطير" ، و" من كنت مولاه فعلي مولاه" فأنكر عليه أصحاب الحديث ذلك ، ولم يلتفتوا إلى قوله انتهى .
قلت : والخطيب ثقة ضابط ؛ فتأملت - مع ما في النفس من الحاكم - من تخريجه " حديث الطير" في "المستدرك" - وإن كان خرَّج أشياء غير موضوعة لا تعلق لها بتشيع ولا غيره - فأوقع الله في نفسي أن الرجل كان عنده ميلٌ إلى عَلِيّ رضي الله عنه : يزيد على الميل الذي يُطلب شرعاً ؛ ولا أقول : إنَّه ينتهي به إلى أن يضع من أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، ولا أنَّه يفضل علياً على الشيخين ؛ بل أستبعد أن يفضله على عثمان رضي الله عنهما ؛ فإني رأيته في كتابه الأربعين عقد باباً لتفضيل أبي بكر وعمر وعثمان , واختصهم من بين الصحابة ، وقدم في "المستدرك" ذكر عثمان على عَلِيّ : رضي الله عنهما ، وروى فيه من حديث :
أحمد بن أخي ابن وهب ، حدثنا عمي ، حدثنا يحيى بن أيوب ، حدثنا هشام ابن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت :
( أول حجر حمله النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لبناء المسجد ، ثُمَّ حمل أبو بكر ، ثُمَّ حمل عمر حجراً ، ثُمَّ حمل عثمان حجراً .
فقلت يا رسول الله ! ألا ترى إلى هؤلاء كيف يسعدونك فقال :
( يا عائشة هؤلاء الخلفاء من بعدي ) .
قال الحاكم : ( على شرطهما ، وإنما اشتهر من رِوَايَة محمد بن الفضل بن عطية فلذلك هُجِرَ ) .
ولكلام السبكي بقية ؛ ولكني آثرت أن أنقل للقراء مقدم الحاكم في سبب تأليف
كتابه هذا لما فيها من فوائد جليلة : حمل البقية من الملف من الرابط :
الموضوع الأصل :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله و حده و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده أما بعد :
فقد حقق فضيلة الشيخ د.علي رضا بن عبد الله كتاباً نادراً للحاكم أبي عبد الله النيسابوري صاحب " المستدرك " لم يطلع عليه الذهبي ؛ ولا ابن حجر ! -حسب علمي-
إنه كتاب : " فضائل فاطمة الزهراء " !
وقد حصل الشيخ علي رضا على نسخة فريدة للكتاب من تركيا ؛ وقام بتحقيقها تحقيقاً علمياً مع مقدمة مهمة قال فيها - بعد خطبة الحاجة - :
" هذا هو الجزء الحديثيُّ المؤلَّفُ في فضائل فاطمة الزهراء رضي الله عنها ، الذي ذكرَه الذهبيُّ من جمع الحافظ أبي عبد الله الحاكم ، وذكره في موضعين من " تاريخ الإسلام "عند ترجمتي فاطمة الزهراء ، وأبي عبد الله الحاكم . ويظهر للمتأمل أن الذهبي لم يقع علي الجزء نفسه ؛ بل قرأ خبره في المصادر التي كانت بين يديه ، وكذلك معاصروه - بما فيهم التاج السبكي - يدلك على هذا أن الذهبي الذي تعب من التعقيب على زلات الحاكم في كتابه الذي زعمَه استدراكاً على الصحيحين لم ينقل من هذا الجزء شيئاً ، وفيه فوائد تلحق بترجمة الحاكم ، وبه يتأكد أن الحاكم لم يكن رافضياً.
وقد ذكرالحافظ سراج الدين القزويني في " مشيخته " - ورقة 164 - أنه قرأ " فضائل فاطمة " للحاكم على بعض شيوخه بإسنادهم إلى الحاكم .
كما ذكر صاحب " كشف الظنون " ج 2 / ص 1277 هذا الكتاب .
ثم ذكر شيخنا نقولاً عن الأئمة بشأن تصحيح الحاكم ؛ منها نقول عن شيخ الإسلام ابن تيمية , وتلميذه ابن القيم , والمعلمي اليماني ...
ثم تكلم عن تشيعه فقال :
" تكلم التاجُ السبكي على ذلك في ترجمته للحاكم حين ترجم له في طبقاته وجعل لذلك فصلاً عنون له بقوله : " ذِكرُ البحثِ عما رُمي به الحاكم من التشيع ، وما زادتْ أعداؤه ونقصت أوداؤه رحمه الله تعالى والنصفة بين الفئتين " .
قلت : والحقُّ أنَّ فيما ذكره - أعني السبكي َّ - ما يُقبل ؛ وما يبقى رأياً لمنظوره "الأشعري" الذي لا يكاد يفارقه !
قال السبكي : " أول ما ينبغي لك أيها المنصف إذا سمعتَ الطعن في رجل أن تبحث عن خُلطائه والذين عنهم أخذ ما ينتحل ، وعن مرباه وسبيله ، ثُمَّ تنظر كلام أهل بلده وعشيرته من معاصريه العارفين به بعدَ البحث عن الصديق منهم له والعدوّ الخالي عن الميل إلى إحدى الجهتين وذلك قليل في المتعاصرين المجتمعين في بلد .
وقد رُمي هذا الإمام الجليل بالتشيع وقيل : إنَّه يذهب إلى تقديم عَلِيٍّ من غير أن يطعن في واحد من الصحابة رضي الله عنهم ؛ فنظرنا فإذا الرجل : محدثٌ لا يُختلفُ في ذلك . وهذه العقيدة تَبْعُدُ على محدِّث ؛ فإن التشيع فيهم نادر ، وإن وجد في أفراد قليلين .
ثم نظرنا مشايخه الذين أخذ عنهم العلم ؛ وكانت له بهم خصوصية فوجدناهم من كبار أهل السنة ومن المتصلبة في عقيدة أبي الحسن الأشعري كالشيخ أبي بكر بن إسحاق الصبغي ، والأستاذ أبي بكر بن فورك ، والأستاذ أبي سهل الصعلوكي ، وأمثالهم . وهؤلاء هم الذين كان يجالسهم في البحث ، ويتكلم معهم في أصول الديانات ، وما يجري مجراها .
ثم نظرنا تراجم أهل السنة في "تاريخه" ؛ فوجدناه يعطيهم حقهم من الإعظام والثناء مع ما ينتحلون ؛ وإذا شئت فانظر ترجمة أبي سهل الصعلوكي ، وأبي بكر بن إسحاق ، وغيرهما من "كتابه" ولا يظهر عليه شيء من الغمز على عقائدهم . وقد استقريتُ فلم أجد مؤرخاً ينتحل عقيدة ، ويخلو كتابه عن الغمز ممن يحيد عنها : سُنّةُ الله في المؤرخين ، وعادته في النقلة ، ولا حول ولا قوة إلا بحبله المتين .
ثم رأينا الحافظ الثبت : أبا القاسم بن عساكر أثبته في عداد الأشعريين الذين يُبَدّعون أهل التشيع ، ويبرءون إلى الله منهم ؛ فحصل لنا الريب فيما رُمِيَ به هذا الرجل على الجملة .
ثم نظرنا تفاصيله : فوجدنا الطاعنين يذكرون أن محمد بن طاهر المقدسي ذكر أنَّه سأل أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري عن الحاكم أبي عبد الله ؛ فقال : "ثقة في الحديث رافضي خبيث" (!) , وأن ابن طاهر هذا قال : " إنَّه كان شديد التعصب للشيعة في الباطن ، وكان يظهر التسنُّنَ في التقديم والخلافة ، وكان منحرفاً غالياً عن معاوية , وأهل بيته يتظاهر به , ولا يعتذر منه" (!) .
فسمعت أبا الفتح ابن سمكويه بهراة يقول : سمعت عبد الواحد المليحي يقول : سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول : دخلت على أبي عبد الله الحاكم - وهو في داره لا يمكنه الخروج إلى المسجد من أصحاب أبي عبد الله بن كرام - وذلك أنهم كسروا منبره ومنعوه من الخروج فقلت له : " لو خرجت وأمليت في فضائل هذا الرجل حديثاً لاسترحت من هذه الفتنة " " .
فقال : " لا يجيء من قلبي - يعني معاوية - " .
وإنَّه قال أيضاً : سمعت أبا محمد بن السمرقندي يقول : بلغني أن "مستدرك الحاكم" ذكر بين يدي الدارقطني ؛ فقال : نعم يُستدرك عليهما "حديث الطير" .
فبلغ ذلك الحاكم ؛ فأخرج الحديث من الكتاب .
هذا ما يذكره الطاعنون وقد استخرتُ الله كثيراً ، واستهديته التوفيقَ وقطعتُ القول : بأنّ كلام أبي إسماعيل , وابن الطاهر لا يجوز قبولُه في حق هذا الإمام ؛ لما بينهم من مخالفة العقيدة ؛ وما يرميان به من التجسيم أشهرُ مما يُرمَى به الحاكم من الرفض ! ولا يغرنَّك قولُ أبي إسماعيل - قبل الطعن فيه - أنَّه : ثقةٌ في الحديث ؛ فمثل هذا الثناء يُقدِّمه من يريدُ الإزراءَ بالكبار قبل الإزراء عليهم ؛ ليوهم البراءةَ من الغرضِ ؛ وليس الأمرُ كذلك .
والغالب على ظني أن ما عُزِيَ إلى أبي عبد الرحمن السُّلمي كذبٌ عليه ؛ ولم يبلغنا أن الحاكم ينالُ من معاوية ؛ ولا يُظن ذلك فيه . وغاية ما قيل فيه : الإفراط في وَلاءِ عَلِيّ رضي الله عنه ، ومقامُ الحاكم - عندنا - أَجَلُّ من ذلك .
وأمَّا ابنُ كَرَّام : فكان داعيةً إلى التجسيم ؛لا يُنكر أحدٌ ذلك . ثُمَّ إن هذه حكاية لا يحكيها إلا هذا الذي يُخالف الحاكمَ في المعتقد ؛ فكيف يَسَعُ المرءَ - بين يدي الله تعالى - أن يقبل قوله فيها ، أو يعتمد على نقله !؟ ثُمَّ أنّى له اطلاعٌ على باطن الحاكم ؛ حَتَّى يقضي بأنه كان يتعصب للشيعة باطناً .
وأما ما رواه الرواة عن الدارقطني - إن صح - فليس فيه ما يُرمي به الحاكمُ ؛ بل غايته أنَّه استقبح منه ذكر "حديث الطير" في "المستدرك" وليس هو بصحيح فهو يكثر من الأحاديث التي أخرجها في "المستدرك" واستُدرِكت عليه .
ثم قول ابن طاهر: إن الحاكم أخرج "حديث الطير" من "المستدرك" فيه وقفة ؛ فإن "حديث الطير" موجود في "المستدرك" إلى الآن ؛ وليته أخرجه منه ؛ فإن إدخاله فيه من الأوهام التي تُستقبح ثم لو دلّت كلمة الدارقطني على وضعٍ من الحاكم ؛ لم يُعتدَّ بها ؛ لما ذكر الخطيب في "تاريخه"(1) من أن الأزهري حدثه أن الحاكم ورد بغداد قديماً فقال : ذُكِرَ لي أن حافظكم - يعني الدارقطني - خرّج لشيخ واحد خمسمائة جزء ؛ فأروني بعضها ! فحُمل إليه منها ؛ وذلك مما خرّجه لأبي إسحاق الطبري , فنظر في أول "الجزء الأول" حديثاًً لعطية العوفي ؛ فقال : استفتح بشيخ ضعيف ؛ ثُمَّ رمى الجزء من يده ، ولم ينظر في الباقي !
فهذه كلمةٌ من الحاكم في الدارقطني تقابلُ كلمةَ الدارقطني فيه , وليس على واحد منها فضاحةٌ ؛ غير أنَّه يؤخذ منهما : أنَّه قد يكون بينهما ما قد يكون بين الأقران .
وقد قدمنا في الطبقة الأولى في ترجمة أحمد بن صالح أن كلام النظير في النظير - عند ذلك - غير مقبول ولا يوجب طعناً على القائل , ولا المقول فيه ، وحققنا في ذلك جملة صالحة ، وذلك كله بتقدير ثبوت الحكاية ، وأن فيها تعريضاً من الدارقطني بغمز الحاكم بسوء العقيدة ، ولا يُسلََّمُ واحدٌ من الأمرين؛ وإنما فيها عندنا الغمز من كتاب "المستدرك" ؛ لما فيه مما يُستدرك ! وهو غمزٌ صحيحٌ .
ثم قال ابن طاهر: وسمعت المظفر بن حمزة بجرجان يقول : سمعت أبا سعد الماليني يقول : طالعت "المستدرك" فلم أجد فيه حديثاً على شرط الشيخين .
قلت : ليس في هذا تعرض للتشيع بنفي ولا إثبات ؛ ثُمَّ هو غير مسلم !
قال شيخنا الذهبي : بل هو غلوٌ , وإسرافٌ من الماليني ؛ ففي "المستدرك" جملة وافرة على شرطهما ، وجملة كبيرة على شرط أحدهما .
قال شيخنا الذهبي : لعل مجموع ذلك نحو نصف الكتاب قال : وفيه نحو الربع : صح سنده ؛ وإن كان فيه علةٌ . قال : وما بقي - وهو نحو الربع - فهو : مناكيرُ وواهياتُ لا تصح , وفي بعض ذلك موضوعاتٌ . ثُمَّ ذكر ابنُ طاهر أنَّه رأى بخط الحاكم "حديث الطير" في جزء ضخم جمعه ، وقال : وقد كتبته للتعجب !
قلنا : وغاية جمع هذا الحديث , أن يدل على أن الحاكم يحكم بصحته ؛ ولولا ذلك لما أودعه "المستدرك" , ولا يدل ذلك منه على تقديم عَلِيّ رضي الله عنه على شيخ المهاجرين والأنصار : أبي بكر الصديق رضي الله عنه ؛ إذ له معارض أقوى لا يُقدر على دفعه . وكيف يُظن بالحاكم - مع سعة حفظه - تقديم عَلِيّ ؟! ومن قدمه على أبي بكر فقد طعن على المهاجرين والأنصار ؛ فمعاذ الله أن يُظن ذلك بالحاكم .
ثُمَّ ينبغي أن يُتعجب من ابن طاهر في كتابته هذا الجزء - مع اعتقاده بطلان الحديث - ومع أن كتابته سبب شياع هذا الخبر الباطل ، واغترار الجهال به : أكثرُ مما يُتعجب من الحاكم ممن يخرجه , وهو يعتقد صحته !
وحكا شيخنا الذهبي كلام ابن طاهر وذيَّل عليه أن للحاكم "جزءاً في فضائل فاطمة" ؛ وهذا لا يلزم منه رفضٌ ولا تشيعٌ ، ومن ذا الذي ينكر فضائلها رضي الله عنها ؟!
فإن قلت : فهل ينكر أن يكون عند الحاكم شيء من التشيع ؟
قلت : الآن حصحص الحق ؛ والحق أحق أن يُتبع .
وسلوك طريق الإنصاف أجدر بذوي العقل من ركوب طريق الاعتساف .
فأقول :
لو انفرد ما حكيته عن أبي إسماعيل ، وعن ابن طاهر؛ لقطعت بأن نسبة التشيع إليه كذب عليه ؛ ولكني رأيت الخطيب أبا بكر رحمه الله تعالى قال فيما أخبرني به محمد بن إسماعيل المسند إذناً خاصاً والحافظ أبو الحجاج المزي إجازة قالا : أخبرنا مسلم بن محمد بن علان قال الأول : إجازة ، وقال الثاني : سماعاً :
أخبرنا أبو اليمن الكندي ، أخبرنا أبو منصور القزاز ، أخبرنا أبو بكر الخطيب ، قال : أبو عبد الله بن البيع الحاكم كان ثقة أول سماعه في سنة ثلاثين وثلاثمائة ، وكان يميل إلى التشيع ؛ فحدثني إبراهيم بن محمد الأرموي بنيسابور وكان صالحاً عالماً قال : جمع أبو عبد الله الحاكم أحاديث وزعم أنَّها صحاح على شرط البخاري ومسلم منها " حديث الطير" ، و" من كنت مولاه فعلي مولاه" فأنكر عليه أصحاب الحديث ذلك ، ولم يلتفتوا إلى قوله انتهى .
قلت : والخطيب ثقة ضابط ؛ فتأملت - مع ما في النفس من الحاكم - من تخريجه " حديث الطير" في "المستدرك" - وإن كان خرَّج أشياء غير موضوعة لا تعلق لها بتشيع ولا غيره - فأوقع الله في نفسي أن الرجل كان عنده ميلٌ إلى عَلِيّ رضي الله عنه : يزيد على الميل الذي يُطلب شرعاً ؛ ولا أقول : إنَّه ينتهي به إلى أن يضع من أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، ولا أنَّه يفضل علياً على الشيخين ؛ بل أستبعد أن يفضله على عثمان رضي الله عنهما ؛ فإني رأيته في كتابه الأربعين عقد باباً لتفضيل أبي بكر وعمر وعثمان , واختصهم من بين الصحابة ، وقدم في "المستدرك" ذكر عثمان على عَلِيّ : رضي الله عنهما ، وروى فيه من حديث :
أحمد بن أخي ابن وهب ، حدثنا عمي ، حدثنا يحيى بن أيوب ، حدثنا هشام ابن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت :
( أول حجر حمله النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لبناء المسجد ، ثُمَّ حمل أبو بكر ، ثُمَّ حمل عمر حجراً ، ثُمَّ حمل عثمان حجراً .
فقلت يا رسول الله ! ألا ترى إلى هؤلاء كيف يسعدونك فقال :
( يا عائشة هؤلاء الخلفاء من بعدي ) .
قال الحاكم : ( على شرطهما ، وإنما اشتهر من رِوَايَة محمد بن الفضل بن عطية فلذلك هُجِرَ ) .
ولكلام السبكي بقية ؛ ولكني آثرت أن أنقل للقراء مقدم الحاكم في سبب تأليف
كتابه هذا لما فيها من فوائد جليلة : حمل البقية من الملف من الرابط :
الموضوع الأصل :
تعليق