لإحسان
بقلم
الشيخ ربيع بن هادي عمير المدخلي
حينما كان مدرساً بالمعهد الثانوي
بالجامعة الإسلامية للمدينة النبوية
عام 1392هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد:
يستهدف الإسلام أن يطبع حياة المسلمين بالطابع الجميل أن يسود الحياة الإسلامية وأن يجللها جو من الإحسان الشامل بكل أبعاده وآفاقه.
أن يعم الإحسان كل عمل وكل تصرف وكل قول على كل المستويات الفردية والجماعية وعلى مستوى الدولة والأمة في علاقة الفرد بخالقه وأسرته والمجتمع الذي يعيش فيه وعلاقة الأمة بالفرد وعلاقة الدولة بالأفراد والجماعات في العلاقة بالله.
فالمسلم حينما يؤدي حقا من حقوق الله في أي مجال من المجالات لا سيما مجالات العبادة فليؤدها وهو يتمثل فيها رؤية الله كأنما يرى الله ويشاهده، وإذا لم يصل إلى هذا المستوى فليستشعر أن الله يراه، وهذا الشعور أو ذاك سيدفعانه إلى إجادة العمل الذي يؤديه وإحسانه وإتقانه، والأمة الإسلامية بكاملها عليها أن تستشعر هذا الشعور "أعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
وفي علاقة المرء بأسرته ومجتمعه عليه أن تقوم معاملته إياهم وترتكز على أساس الإحسان {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}.
فلو أن الأمة الإسلامية طبقت هذه التعاليم في حياتها، وكل فرد في الأمة الإسلامية عمل على تنفيذ هذا المبدأ مبدأ الإحسان وجعل أسرته نقطة انطلاق لهذا الإحسان –بعد إحسانه في عبادة الله- الإحسان بمعناه الشامل في القول والعمل وبالمال والجهد لكانت مضرب الأمثال في السعادة والرقى والسيادة.
وفي علاقة الأفراد والمجتمعات بعضهم ببعض وعلاقة الحاكمين بالمحكومين يأمر الله بالعدل والإحسان بكل أبعادهما، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ}.
إن الإحسان في نظر الإسلام بالمكانة العالية التي يأخذ الله على الأمة الإسلامية المواثيق الأكيدة في القيام به في جملة التكاليف التي يقوم عليها الإسلام وسعادة الأمة {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} إلزام بالإحسان في إطار الأسرة ومحيط المجتمع إحسان في الفعال والمقال.
والإسلام يريد أن يجعل من أخلاق الأمة الإسلامية صورة من أخلاق أهل الجنة {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً} ورب فعلة قبيحة أدت إلى عواقب وخيمة مرة النتائج، والخروج بالأقوال والأفعال عن مجال الإحسان إلى مجال الفحش والتفحش يوقع المرء تحت طائلة سخط الله وغضبه الذي لا يطاق "إن الله يبغض الفاحش المتفحش" أخرجه أحمد.
فالفاحش كما يقول القرطبي الذي يتكلم بما يكره سماعه مما يتعلق بالدين أو الذي يرسل لسانه بما لا ينبغي وهو الجفاء في الأقوال والأفعال، والمتفحش المتعاطي لذلك المستعمل له.
ليست الأماني الكاذبة والمزاعم الباطلة والانتساب إلى دين أو نحلة سبيلا إلى الجنة إنما السبيل الأوحد إلى الجنة هو الإخلاص في الإسلام والإحسان بمتابعة رسول الله وشريعته الغراء.
{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
وإن أردت أن يحبك الله فاتخذ من الإحسان وسيلة تنل تلك الغاية {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وإن كنت متطلعا إلى الخلود في جنات النعيم والنظر إلى الرب العظيم فعليك بالإحسان، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} فالحسنى هي الجنة والزيادة هي النظر إلى وجه الرب الكريم.
ثم الإسلام يريد أن يشمل الإحسان كل ذي كبد رطبة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل بطريق فاشتد به العطش فوجد بئرا فنـزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه فسقى الكلب فشكر الله فغفر له" قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجرا؟ فقال: "في كل ذات كبد رطبة أجر" ترى كيف يعلم الإسلام المؤمنين وكيف يربيهم ويدفع نوازع الخير وعواطف الرحمة إلى الإحسان والبر فتشمل كل ذي كبد رطبة ولو كان خسيسا في أحط وأدنى مراتب الحيوانات.
بينما نرى في الجانب الآخر يحرم الظلم "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا"، "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله" حتى ولو كان كافرا في ذمة المسلمين فيحرم الإسلام دمه وماله، "من قتل معاهدا لم يرح رائحته الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما" (أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم) وعن ابن عمر "من قتل عصفورا بغير حق سأله الله عنه يوم القيامة" (صحيح الترغيب والترهيب للألباني (1092)، "عذبت امرأة هرة حبستها حتى ماتت جوعا فدخلت فيها النار فلا هي أطعمتها ولا سقتها حين حبستها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض" (أخرجه البخاري ومسلم) فلا يجيز الإسلام الظلم بداية من الإنسان ونهاية بالطيور والحيوانات التي لا يؤبه لها، فهذه هي الحضارة الراقية التي يحتمى في ظلها آمنا في كنفها حتى من يعاديها، والعصفور يقتل بغير حق يعتبر صاحبه مسئولا عنه يوم القيامة، وسجن هرة حتى تموت يعذب من سجنها بالنار والإحسان يمتد من الإنسان إلى كل ذي كبد رطبة وكل ذي عرق ينبض بالحياة فأين الحضارة المادية التي قامت على أساس الكفر والإلحاد وعلى الجشع والطمع فتسحق شعوبا وأمما لتستأثر بثرواتها وتبتز خيراتها بعد أن تسلخها من مقومات حياتها الدينية والخلقية والاجتماعية ثم تتجاهل كل ما ترتكبه من جرائم فظيعة ووحشية شنيعة وترمي الإسلام بالتأخر والرجعية وبالظلم والوحشية (رمتني بدائها وانسلت).
المصدر : مجلة الجامعة الإسلامية ، العدد 15
في محرم/1392هـ
في (ص:116-133)
من موقع الشيخ