تخريج لأثر ابن عباس في قوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد
فهذا تخريج لأثر ابن عباس في قوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون للعلامة المحدث الشيخ ناصر الألباني رحمه الله تعالى :
سبب نزول ( ومن لم يحكم بما أنزل الله ) الآية ، وأن الكفر العملي غير الاعتقادي :
2552- إن الله عز وجل أنزل : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) و ( أولئك هم الظالمون ) و ( أولئك هم الفاسقون ) قال ابن عباس : (أنزلها الله في الطائفتين من اليهود وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتله ( العزيزة ) من (الذليلة ) فديته خمسون وسقا ، وكل قتيل قتله ( الذليلة ) من ( العزيزة ) فديته مائة وسق ، فكانوا على ذلك ، حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويومئذ لم يظهروا ولم يوطئهما عليه وهو في الصلح ، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا ، فأرسلت ( العزيزة ) إلى ( الذليلة ) أن ابعثوا إلينا بمائة وسق ، فقالت ( الذليلة ) : وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد ، ونسبهما واحد ، وبلدهما واحد ، دية بعضهم نصف دية بعض ؟! إنا إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا ، وفرقا منكم ، فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ذلك ، فكادت الحرب تهيج بينهما ، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم . ثم ذكرت ( العزيزة ) فقالت : والله مامحمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطهم منكم ، ولقد صدقوا ، ماأعطونا هذا إلا ضيما منا ، وقهرا لهم فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه ؛ إن أعطاكم ماتريدون حكمتموه ، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه . فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله بأمرهم كله وما أرادوا ، فأنزل الله عز وجل : ( ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا ) إلى قوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل فأولئك هم الفاسقون ) ثم قال : فيهما والله نزلت ، وإياهما عنى الله عز وجل
أخرجه أحمد (1/246) والطبراني في ( المعجم الكبير ) (3/95/1) من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس قال : فذكره . وعزاه السيوطي في ( الدر المنثور ) (2/281) لأبي داود أيضا وابن جرير وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردوية عن ابن عباس ، وهو عند ابن جرير في ( التفسير ) ( 12037ج10/352) من هذا الوجه ، لكنه لم يذكر في إسناده ابن عباس . وعند أبي داود (3576) نزول الآيات الثلاث في اليهود خاصة في قريظة والنضير . فقط خلافا لما يوهمه قول ابن كثير في التفسير (6/160) بعد ما ساق رواية أحمد هذه المطولة : ( ورواه أبو داود من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه نحوه) !
وقد نقل عن صاحب ( الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم ) أنه حسن إسناده . ولم أر هذا في كتابه : ( التفسير ) فلعله في بعض كتبه الأخرى
وتحسين هذا الإسناد هو الذي تقتضيه قواعد هذا العلم الشريف ، فإن مداره على عبد الرحمن بن أبي الزناد ، وهو كما قال الحافظ ) : صدوق ، تغير حفظه لما قدم بغداد ، وكان فقيها ( .
فقول الهيثمي (7/16): ( رواه أحمد والطبراني بنحوه ، وفيه عبد الرحمن بن أبي الزناد ، وهو ضعيف ، وقد وثق ، وبقية رجال أحمد ثقات ( .
قلت : فقوله فيه : ( ضعيف ، وقد وثق ) ليس بجيد ، لأنه يرجح قول من ضعفه على قول من وثقه ، والحق أنه وسط ، وأنه حسن الحديث ؛ إلا أن يخالف ، وهذا مما لايستفاد من قوله المذكور فيه . والله أعلم
فائدة هامة:
إذا علمت أن الآيات الثلاث : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ، ( فأولئك هم الظالمون ) ، ( فأولئك هم الفاسقون ) نزلت في اليهود وقولهم في حكمه صلى الله عليه وسلم : ( إن أعطاكم ماتريدون حكمتموه ، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه ) وقد أشار القرآن إلى قولهم هذا قبل هذه الآيات فقال : ( يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ) ، إذا عرفت هذا ، فلا يجوز حمل هذه الآيات على بعض الحكام المسلمين وقضاتهم الذين يحكمون بغير ما أنزل الله من القوانين الأرضية ،
أقول : لايجوز تكفيرهم بذلك ، وإخراجهم من الملة ، إذا كانوا مؤمنين بالله ورسوله ، وإن كانوا مجرمين بحكمهم بغير ماأنزل الله ، لا يجوز ذلك ،
لأنهم وإن كانوا كاليهود من جهة حكمهم المذكور ، فهم مخالفون لهم من جهة أخرى ، ألا وهي إيمانهم وتصديقهم بما أنزل الله ، بخلاف اليهود الكفار ، فإنهم كانوا جاحدين له كما يدل عليه قولهم المتقدم : ( … وإن لم يعطكم حذرتموه فلم تحكموه ) ، بالإضافة إلى أنهم ليسوا مسلمين أصلا ، وسر هذا أن الكفر قسمان : اعتقادي وعملي. فالاعتقادي مقره القلب . والعملي محله الجوارح. فمن كان عمله كفرا لمخالفته للشرع ، وكان مطابقا لما وقر في قلبه من الكفر به ، فهو الكفر الاعتقادي ، وهو الكفر الذي لا يغفره الله ، ويخلد صاحبه في النار أبدا . وأما إذا كان مخالفا لما وقر في قلبه ، فهو مؤمن بحكم ربه ، ولكنه يخالفه بعمله ، فكفره كفر عملي فقط وليس كفرا اعتقاديا ، فهو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ، وعلى هذا النوع من الكفر تحمل الأحاديث التي فيها إطلاق الكفر على من فعل شيئا من المعاصي من المسلمين ، ولا بأس من ذكر بعضها:
1- اثنتان في الناس هما بهم كفر ، الطعن في الأنساب ، والنياحة على الميت . رواه مسلم .
2- الجدال في القرآن كفر .
3- سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر . رواه مسلم .
4- كفر بالله تبرؤ من نسب وإن دق .
5- التحدث بنعمة الله شكر ، وتركها كفر .
6- لا ترجعوا بعدي كفارا ، يضرب بعضكم رقاب بعض . متفق عليه .
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي لا مجال الآن لا ستقصائها . فمن قام من المسلمين بشيء من هذه المعاصي ، فكفره كفر عملي ، أي إنه يعمل عمل الكفار ، إلا أن يستحلها ، ولا يرى كونها معصية فهو حينئذ كافر حلال الدم ، لأنه شارك الكفار في عقيدتهم أيضا ، والحكم بغير ماأنزل الله ، لا يخرج عن هذه القاعدة أبدا ، وقد جاء عن السلف مايدعمها ، وهو قولهم في تفسير الآية : ( كفر دون كفر(صح ذلك عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، ثم تلقاه عنه بعض التابعين وغيرهم ، ولا بد من ذكر ماتيسر لي عنهم لعل في ذلك إنارة للسبيل أمام من ضل اليوم في هذه المسألة الخطيرة ، ونحا نحو الخوارج الذين يكفرون المسلمين بارتكابهم المعاصي ، وإن كانوا يصلون ويصومون!
1- روى ابن جرير الطبري (10/355/12053) بإسناد صحيح عن ابن عباس : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال : هي به كفر ، وليس كفرا بالله وملائكته وكتبه ورسله .
2- وفي رواية عنه في هذه الآية : إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه ، إنه ليس كفرا ينقل عن الملة ، كفر دون كفر .
أخرجه الحاكم (2/313) ، وقال : ( صحيح الإسناد ) ووافقه الذهبي ، وحقهما أن يقولا : على شرط الشيخين ، فإنإسناده كذلك .
ثم رأيت الحافظ ابن كثير نقل في تفسيره (6/163) عن الحاكم أنه قال : ( صحيح على شرط الشيخين ) فالظاهر أن في نسخة ( المستدرك ) المطبوعة سقطا ، وعزاه ابن كثير لا بن أبي حاتم أيضا ببعض اختصار .
3- وفي أخرى عنه من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : من جحد ماأنزل الله فقد كفر ، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق . أخرجه ابن جرير (12063)
قلت : وابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس ، لكنه جيد في الشواهد .
4- ثم روى (12047-12051)عن عطاء بن أبي رباح قوله : ( وذكر الآيات الثلاث ) : كفر دون كفر ، وفسق دون فسق ، وظلم دون ظلم . وإسناده صحيح .
5- ثم روى (12052)عن سعيد المكي عن طاووس ( وذكر الآية ) ، قال : ليس بكفر ينقل عن الملة . وإسناده صحيح ، وسعيد هذا هو ابن زياد الشيباني المكي ، وثقه ابن معين والعجلي وابن حبان وغيرهم ، وروى عنه جمع .
6- وروى (12025،12026) من طريقين عن عمران بن حدير قال : أتى أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس ( وفي الطريق الأخرى : نفر من الإباضية ) فقالوا : أرأيت قول الله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) أحق هو ؟ قال : نعم . قالوا : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) أحق هو ؟ قال : نعم . قالوا : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) أحق هو ؟ قال نعم . قال : فقالوا : ياأبا مجلز فيحكم هؤلاء بما أنزل الله ؟ قال : هو دينهم الذي يدينون به ، وبه يقولون وإليه يدعون ـ [ يعني الأمراء ] ـ فإن هم تركوا شيئا منه عرفوا أنهم أصابوا ذنبا . فقالوا : لا والله ، ولكنك تفرق . قال : أنتم أولى بهذا مني ! لا أرى ، وإنكم أنتم ترون هذا ولا تَحَرّجون ، ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك . أو نحوا من هذا ، وإسناده صحيح .
وقد اختلف العلماء في تفسير الكفر في الآية الأولى على خمسة أقوال ساقها ابن جرير (10/346-357) بأسانيده إلى قائليها ، ثم ختم ذلك بقوله (10/358 :( (وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال : نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب ، لأن ماقبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت ، وهم المعنيون بها ، وهذه الآيات سياق الخبر عنهم ، فكونها خبرا عنهم أولى . فإن قال قائل : فإن الله تعالى ذكره قد عم بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله ، فكيف جعلته خاصا ؟ قيل إن الله تعالى عم بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين ، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم ـ على سبيل ماتركوه ـ كافرون . وكذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به هو بالله كافر ، كما قال ابن عباس ، لأنه بجحوده حكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه ؛ نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي(.
وجملة القول ؛ أن الآية نزلت في اليهود الجاحدين لما أنزل الله فمن شاركهم في الجحد ، فهو كافر كفرا اعتقاديا ، ومن لم يشاركهم في الجحد فكفره عملي لأنه عمل عملهم ، فهو بذلك مجرم آثم ، ولكن لا يخرج بذلك عن الملة كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه . وقد شرح هذا وزاده بيانا الإمام الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلام في ( كتاب الإيمان ) ( باب الخروج من الإيمان بالمعاصي ) ( ص 84-97 بتحقيقي )
، فليراجعه من شاء المزيد من التحقيق.
وبعد كتابة ماسبق ، رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول في تفسير آية الحكم المتقدمة في مجموع الفتاوى ) ( 3/26 : ( أي هو المستحل للحكم بغير ماأنزل الله(
ثم ذكر (7/254) أن الإمام أحمد سئل عن الكفر المذكور فيها ؟ فقال : كفر لا ينقل عن الإيمان ، مثل الإيمان بعضه دون بعض ، فكذلك الكفر ، حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه . وقال (7/312) : ( وإن كان من قول السلف أن الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق ، فكذلك في قولهم أنه يكون فيه إيمان وكفر ؛ ليس هو الكفر الذي ينقل عن الملة ، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قالوا : كفر لا ينقل عن الملة . وقد اتبعهم على ذلك أحمد وغيره من أئمة السنة .اهـ
المرجع : السلسلة الصحيحة المجلد السادس القسم الأول ص109-116
وقال الشيخ الألباني رحمه الله أيضا في نفس المرجع أعلاه ص 457 :
تفسير آيات ( ومن لم يحكم بما أنزل الله … ) وأنها في الكفار
2704- قوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ، ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) ، ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) ، قال : وهي في الكفار كلها.
أخرجه أحمد (4/286) : ثنا أبو معاوية : ثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : …
قلت : وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين .
والحديث دليل صريح في أن المقصود بهذه الآيات الثلاث الكفار من اليهود والنصارى ؛ وأمثالهم الذين ينكرون الشريعة الإسلامية وأحكامها ، ويلحق بهم كل من شاركهم في ذلك ؛ ولو كان يتظاهر بالإسلام ، حتى ولو أنكر حكما واحدا منها . ولكن مما ينبغي التنبه له ، أنه ليس كذلك من لا يحكم بشيء منها مع عدم إنكاره ذلك ، فلا يجوز الحكم على مثله بالكفر وخروجه عن الملة لأنه مؤمن ، غاية مافي الأمر أن يكون كفره كفرا عمليا . وهذه نقطة هامة في هذه المسألة يغفل عنها كثير من الشباب المتحمس لتحكيم الإسلام ، ولذلك فهم في كثير من الأحيان يقومون بالخروج على الحكام الذين لا يحكمون بالإسلام ، فتقع فتن كثيرة ، وسفك دماء بريئة لمجرد الحماس الذي لم تعد له عدته ،
الواجب عندي تصفية الإسلام مما ليس منه كالعقائد الباطلة ، والأحكام العاطلة ، والآراء الكاسدة المخالفة للسنة ، وتربية الجيل على هذا الإسلام المصفى . والله المستعان .
وبهذا ينتهي النقل عن محدث العصر الإمام العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله
وبه نعرف أن من قال أن علماء السوء هم الذين يقولون الحكم بغير ما أنزل الله كفر دون كفر)
لأنه بهذا يجعل أئمة العصر ابن باز وابن عثيمين والألباني ، وقبلهما ابن إبراهيم وغيرهم من علماء أهل السنة والجماعة من علماء السوء ، بل يجعل ابن عباس من علماء السوء عياذا بالله ، وهذا بسبب الاستعجال وعدم التروي وعدم أخذ العلم من أهله مما أوقعه في أمور كثيرة عاقبتها الخسر ـ إن لم يتداركه الله برحمته ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله .
منقول من تفريغ الأخ أبو عبد الرحمن الجهني .
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد
فهذا تخريج لأثر ابن عباس في قوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون للعلامة المحدث الشيخ ناصر الألباني رحمه الله تعالى :
سبب نزول ( ومن لم يحكم بما أنزل الله ) الآية ، وأن الكفر العملي غير الاعتقادي :
2552- إن الله عز وجل أنزل : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) و ( أولئك هم الظالمون ) و ( أولئك هم الفاسقون ) قال ابن عباس : (أنزلها الله في الطائفتين من اليهود وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتله ( العزيزة ) من (الذليلة ) فديته خمسون وسقا ، وكل قتيل قتله ( الذليلة ) من ( العزيزة ) فديته مائة وسق ، فكانوا على ذلك ، حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويومئذ لم يظهروا ولم يوطئهما عليه وهو في الصلح ، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا ، فأرسلت ( العزيزة ) إلى ( الذليلة ) أن ابعثوا إلينا بمائة وسق ، فقالت ( الذليلة ) : وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد ، ونسبهما واحد ، وبلدهما واحد ، دية بعضهم نصف دية بعض ؟! إنا إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا ، وفرقا منكم ، فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ذلك ، فكادت الحرب تهيج بينهما ، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم . ثم ذكرت ( العزيزة ) فقالت : والله مامحمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطهم منكم ، ولقد صدقوا ، ماأعطونا هذا إلا ضيما منا ، وقهرا لهم فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه ؛ إن أعطاكم ماتريدون حكمتموه ، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه . فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله بأمرهم كله وما أرادوا ، فأنزل الله عز وجل : ( ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا ) إلى قوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل فأولئك هم الفاسقون ) ثم قال : فيهما والله نزلت ، وإياهما عنى الله عز وجل
أخرجه أحمد (1/246) والطبراني في ( المعجم الكبير ) (3/95/1) من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس قال : فذكره . وعزاه السيوطي في ( الدر المنثور ) (2/281) لأبي داود أيضا وابن جرير وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردوية عن ابن عباس ، وهو عند ابن جرير في ( التفسير ) ( 12037ج10/352) من هذا الوجه ، لكنه لم يذكر في إسناده ابن عباس . وعند أبي داود (3576) نزول الآيات الثلاث في اليهود خاصة في قريظة والنضير . فقط خلافا لما يوهمه قول ابن كثير في التفسير (6/160) بعد ما ساق رواية أحمد هذه المطولة : ( ورواه أبو داود من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه نحوه) !
وقد نقل عن صاحب ( الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم ) أنه حسن إسناده . ولم أر هذا في كتابه : ( التفسير ) فلعله في بعض كتبه الأخرى
وتحسين هذا الإسناد هو الذي تقتضيه قواعد هذا العلم الشريف ، فإن مداره على عبد الرحمن بن أبي الزناد ، وهو كما قال الحافظ ) : صدوق ، تغير حفظه لما قدم بغداد ، وكان فقيها ( .
فقول الهيثمي (7/16): ( رواه أحمد والطبراني بنحوه ، وفيه عبد الرحمن بن أبي الزناد ، وهو ضعيف ، وقد وثق ، وبقية رجال أحمد ثقات ( .
قلت : فقوله فيه : ( ضعيف ، وقد وثق ) ليس بجيد ، لأنه يرجح قول من ضعفه على قول من وثقه ، والحق أنه وسط ، وأنه حسن الحديث ؛ إلا أن يخالف ، وهذا مما لايستفاد من قوله المذكور فيه . والله أعلم
فائدة هامة:
إذا علمت أن الآيات الثلاث : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ، ( فأولئك هم الظالمون ) ، ( فأولئك هم الفاسقون ) نزلت في اليهود وقولهم في حكمه صلى الله عليه وسلم : ( إن أعطاكم ماتريدون حكمتموه ، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه ) وقد أشار القرآن إلى قولهم هذا قبل هذه الآيات فقال : ( يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ) ، إذا عرفت هذا ، فلا يجوز حمل هذه الآيات على بعض الحكام المسلمين وقضاتهم الذين يحكمون بغير ما أنزل الله من القوانين الأرضية ،
أقول : لايجوز تكفيرهم بذلك ، وإخراجهم من الملة ، إذا كانوا مؤمنين بالله ورسوله ، وإن كانوا مجرمين بحكمهم بغير ماأنزل الله ، لا يجوز ذلك ،
لأنهم وإن كانوا كاليهود من جهة حكمهم المذكور ، فهم مخالفون لهم من جهة أخرى ، ألا وهي إيمانهم وتصديقهم بما أنزل الله ، بخلاف اليهود الكفار ، فإنهم كانوا جاحدين له كما يدل عليه قولهم المتقدم : ( … وإن لم يعطكم حذرتموه فلم تحكموه ) ، بالإضافة إلى أنهم ليسوا مسلمين أصلا ، وسر هذا أن الكفر قسمان : اعتقادي وعملي. فالاعتقادي مقره القلب . والعملي محله الجوارح. فمن كان عمله كفرا لمخالفته للشرع ، وكان مطابقا لما وقر في قلبه من الكفر به ، فهو الكفر الاعتقادي ، وهو الكفر الذي لا يغفره الله ، ويخلد صاحبه في النار أبدا . وأما إذا كان مخالفا لما وقر في قلبه ، فهو مؤمن بحكم ربه ، ولكنه يخالفه بعمله ، فكفره كفر عملي فقط وليس كفرا اعتقاديا ، فهو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ، وعلى هذا النوع من الكفر تحمل الأحاديث التي فيها إطلاق الكفر على من فعل شيئا من المعاصي من المسلمين ، ولا بأس من ذكر بعضها:
1- اثنتان في الناس هما بهم كفر ، الطعن في الأنساب ، والنياحة على الميت . رواه مسلم .
2- الجدال في القرآن كفر .
3- سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر . رواه مسلم .
4- كفر بالله تبرؤ من نسب وإن دق .
5- التحدث بنعمة الله شكر ، وتركها كفر .
6- لا ترجعوا بعدي كفارا ، يضرب بعضكم رقاب بعض . متفق عليه .
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي لا مجال الآن لا ستقصائها . فمن قام من المسلمين بشيء من هذه المعاصي ، فكفره كفر عملي ، أي إنه يعمل عمل الكفار ، إلا أن يستحلها ، ولا يرى كونها معصية فهو حينئذ كافر حلال الدم ، لأنه شارك الكفار في عقيدتهم أيضا ، والحكم بغير ماأنزل الله ، لا يخرج عن هذه القاعدة أبدا ، وقد جاء عن السلف مايدعمها ، وهو قولهم في تفسير الآية : ( كفر دون كفر(صح ذلك عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، ثم تلقاه عنه بعض التابعين وغيرهم ، ولا بد من ذكر ماتيسر لي عنهم لعل في ذلك إنارة للسبيل أمام من ضل اليوم في هذه المسألة الخطيرة ، ونحا نحو الخوارج الذين يكفرون المسلمين بارتكابهم المعاصي ، وإن كانوا يصلون ويصومون!
1- روى ابن جرير الطبري (10/355/12053) بإسناد صحيح عن ابن عباس : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال : هي به كفر ، وليس كفرا بالله وملائكته وكتبه ورسله .
2- وفي رواية عنه في هذه الآية : إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه ، إنه ليس كفرا ينقل عن الملة ، كفر دون كفر .
أخرجه الحاكم (2/313) ، وقال : ( صحيح الإسناد ) ووافقه الذهبي ، وحقهما أن يقولا : على شرط الشيخين ، فإنإسناده كذلك .
ثم رأيت الحافظ ابن كثير نقل في تفسيره (6/163) عن الحاكم أنه قال : ( صحيح على شرط الشيخين ) فالظاهر أن في نسخة ( المستدرك ) المطبوعة سقطا ، وعزاه ابن كثير لا بن أبي حاتم أيضا ببعض اختصار .
3- وفي أخرى عنه من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : من جحد ماأنزل الله فقد كفر ، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق . أخرجه ابن جرير (12063)
قلت : وابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس ، لكنه جيد في الشواهد .
4- ثم روى (12047-12051)عن عطاء بن أبي رباح قوله : ( وذكر الآيات الثلاث ) : كفر دون كفر ، وفسق دون فسق ، وظلم دون ظلم . وإسناده صحيح .
5- ثم روى (12052)عن سعيد المكي عن طاووس ( وذكر الآية ) ، قال : ليس بكفر ينقل عن الملة . وإسناده صحيح ، وسعيد هذا هو ابن زياد الشيباني المكي ، وثقه ابن معين والعجلي وابن حبان وغيرهم ، وروى عنه جمع .
6- وروى (12025،12026) من طريقين عن عمران بن حدير قال : أتى أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس ( وفي الطريق الأخرى : نفر من الإباضية ) فقالوا : أرأيت قول الله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) أحق هو ؟ قال : نعم . قالوا : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) أحق هو ؟ قال : نعم . قالوا : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) أحق هو ؟ قال نعم . قال : فقالوا : ياأبا مجلز فيحكم هؤلاء بما أنزل الله ؟ قال : هو دينهم الذي يدينون به ، وبه يقولون وإليه يدعون ـ [ يعني الأمراء ] ـ فإن هم تركوا شيئا منه عرفوا أنهم أصابوا ذنبا . فقالوا : لا والله ، ولكنك تفرق . قال : أنتم أولى بهذا مني ! لا أرى ، وإنكم أنتم ترون هذا ولا تَحَرّجون ، ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك . أو نحوا من هذا ، وإسناده صحيح .
وقد اختلف العلماء في تفسير الكفر في الآية الأولى على خمسة أقوال ساقها ابن جرير (10/346-357) بأسانيده إلى قائليها ، ثم ختم ذلك بقوله (10/358 :( (وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال : نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب ، لأن ماقبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت ، وهم المعنيون بها ، وهذه الآيات سياق الخبر عنهم ، فكونها خبرا عنهم أولى . فإن قال قائل : فإن الله تعالى ذكره قد عم بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله ، فكيف جعلته خاصا ؟ قيل إن الله تعالى عم بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين ، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم ـ على سبيل ماتركوه ـ كافرون . وكذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به هو بالله كافر ، كما قال ابن عباس ، لأنه بجحوده حكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه ؛ نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي(.
وجملة القول ؛ أن الآية نزلت في اليهود الجاحدين لما أنزل الله فمن شاركهم في الجحد ، فهو كافر كفرا اعتقاديا ، ومن لم يشاركهم في الجحد فكفره عملي لأنه عمل عملهم ، فهو بذلك مجرم آثم ، ولكن لا يخرج بذلك عن الملة كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه . وقد شرح هذا وزاده بيانا الإمام الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلام في ( كتاب الإيمان ) ( باب الخروج من الإيمان بالمعاصي ) ( ص 84-97 بتحقيقي )
، فليراجعه من شاء المزيد من التحقيق.
وبعد كتابة ماسبق ، رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول في تفسير آية الحكم المتقدمة في مجموع الفتاوى ) ( 3/26 : ( أي هو المستحل للحكم بغير ماأنزل الله(
ثم ذكر (7/254) أن الإمام أحمد سئل عن الكفر المذكور فيها ؟ فقال : كفر لا ينقل عن الإيمان ، مثل الإيمان بعضه دون بعض ، فكذلك الكفر ، حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه . وقال (7/312) : ( وإن كان من قول السلف أن الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق ، فكذلك في قولهم أنه يكون فيه إيمان وكفر ؛ ليس هو الكفر الذي ينقل عن الملة ، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قالوا : كفر لا ينقل عن الملة . وقد اتبعهم على ذلك أحمد وغيره من أئمة السنة .اهـ
المرجع : السلسلة الصحيحة المجلد السادس القسم الأول ص109-116
وقال الشيخ الألباني رحمه الله أيضا في نفس المرجع أعلاه ص 457 :
تفسير آيات ( ومن لم يحكم بما أنزل الله … ) وأنها في الكفار
2704- قوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ، ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) ، ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) ، قال : وهي في الكفار كلها.
أخرجه أحمد (4/286) : ثنا أبو معاوية : ثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : …
قلت : وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين .
والحديث دليل صريح في أن المقصود بهذه الآيات الثلاث الكفار من اليهود والنصارى ؛ وأمثالهم الذين ينكرون الشريعة الإسلامية وأحكامها ، ويلحق بهم كل من شاركهم في ذلك ؛ ولو كان يتظاهر بالإسلام ، حتى ولو أنكر حكما واحدا منها . ولكن مما ينبغي التنبه له ، أنه ليس كذلك من لا يحكم بشيء منها مع عدم إنكاره ذلك ، فلا يجوز الحكم على مثله بالكفر وخروجه عن الملة لأنه مؤمن ، غاية مافي الأمر أن يكون كفره كفرا عمليا . وهذه نقطة هامة في هذه المسألة يغفل عنها كثير من الشباب المتحمس لتحكيم الإسلام ، ولذلك فهم في كثير من الأحيان يقومون بالخروج على الحكام الذين لا يحكمون بالإسلام ، فتقع فتن كثيرة ، وسفك دماء بريئة لمجرد الحماس الذي لم تعد له عدته ،
الواجب عندي تصفية الإسلام مما ليس منه كالعقائد الباطلة ، والأحكام العاطلة ، والآراء الكاسدة المخالفة للسنة ، وتربية الجيل على هذا الإسلام المصفى . والله المستعان .
وبهذا ينتهي النقل عن محدث العصر الإمام العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله
وبه نعرف أن من قال أن علماء السوء هم الذين يقولون الحكم بغير ما أنزل الله كفر دون كفر)
لأنه بهذا يجعل أئمة العصر ابن باز وابن عثيمين والألباني ، وقبلهما ابن إبراهيم وغيرهم من علماء أهل السنة والجماعة من علماء السوء ، بل يجعل ابن عباس من علماء السوء عياذا بالله ، وهذا بسبب الاستعجال وعدم التروي وعدم أخذ العلم من أهله مما أوقعه في أمور كثيرة عاقبتها الخسر ـ إن لم يتداركه الله برحمته ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله .
منقول من تفريغ الأخ أبو عبد الرحمن الجهني .