بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله واله وصحبه ومن ولاه أما بعد ؛
ينبغي أن يعتقد المسلم أن سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، لم يكن رمضان بالنسبة لهم مجرد شهر من الشهور، بل كان له في قلوبهم مكانة خاصة ظهرت واضحة من خلال استعدادهم له واحتفائهم به ودعائهم وتضرعهم إلى الله تعالى أن يبلغهم إياه لما يعلمون من فضيلته وعظم منزلته عند الله عز وجل .
هتفت القلوب وتاقت الانفس ان نسير على دربهم ولكن ما الحيلة ؟
الحيلة يسيرة : نتعلم من سيرهم وعلى دربهم نمضي
هكذا كانوا وعلى نهجهم فلنكن.
حال الصالحين في رمضان ؟
ها هو ذا رمضان يمضي، وقد شهدت لياليه أنين المذنبين، وقصص التائبين، وعبرات الخاشعين وأخبار المنقطعين.
وشهدت أسحاره استغفار المستغفرين، وشهد نهاره صوم الصائمين وتلاوة القارئين، وكرم المنفقين .إنّهم يرجون عفو الله، علموا أنّه عفو كريم يحب العفو فسألوه أن يعفو عنهم فلولا طمع المذنبين في العفو لاحترقت قلوبهم باليأس من الرحمة.
كان أحد الصالحين يدعو قائلاً : " جرمي عظيم، وعفوك كبير، فاجمع بين جرمي وعفوك يا كريم". [اللطائف 370].
هذا دعاء الصالحين، وهكذا قضوا رمضان، فَلَهُم الحق أن يبكوا في ختامه، لما له من لذة في قلوبهم، ومع ذلك فهم وجلون من ربهم، خائفون من الرد وعدم القبول، يعلمون أنّ المُعَوّل عليه القبول لا الإجتهاد، وأن الإعتبار بصلاح القلوب لا بعمل الأبدان .
لكن العبد مأمور بالسعي في اكتساب الخيرات، والإجتهاد في الصالحات، مع سؤال الله القبول، والإشتغال بما يصلح القلوب، وهذا دأب الصالحين.
قال يحيى بن أبي كثير:" كان من دعائهم} : اللهم سَلّمني إلى رمضان، وسلّم لي رمضان، وتسلّمه منّي متقبلاً{ ]الحلية 3 / 69. [
*وقال ابن دينار: " الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل".
] الحلية 2 / 387 [.
*وقال عبد العزيز بن أبي رواد " : أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه، وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا] "اللطائف 375 [
ففى ثنايا شحذ الهمم لنصل إلى أعلى القمم نروي معا قصص سلفنا مع رمضان الحبيب والقلب يهتف : اللّهمّ بلّغنا رمضان، اللّهمّ اجعلنا فيه وبعده وإلى أن نلقاك كما تحب وترضى.
حال السلف مع القرآن
*عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:" اقرأ علي "
فقلت:أَقْرأ عليك وعليك أُنزِل؟ فقال": إني أحب أن أسمعه من غيري "
قال فقرأت النساء حتى إذا بلغت: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً ﴾] النساء:41[
قال :«حسبك }، فالتفت فإذا عيناه تذرفان.
*وأخرج البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت:﴿ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ﴾ [النجم:60،59[
فبكى أهل الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم حِسَّهُم بكى معهم فبكينا ببكائه.
قال رسول الله : صلى الله عليه وسلّم « لا يلج النار من بكى من خشية الله »
لذلك حرص السلف رحمهم الله على الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان بُيِّنَ ذَلِكَ في كتاب سير أعلام النبلاء فمن ذلك :
* كان الأسود بن يزيد يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين، وكان ينام بين المغرب والعشاء، وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليالٍ.
* كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العباد وأقبل على قراءة القرآن.
* كان الوليد بن عبد الملك يختم في كل ثلاثٍ، وختم في رمضان سبع عشرة ختمه.
* كان قتادة يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاثٍ، فإذا جاء العشر ختم كل ليلةٍ.
* وقال الربيع بن سليمان: كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة وفي كل شهر ثلاثين ختمة.
*قال ابن رجب الحنبلي : وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان خصوصا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتنام للزمان والمكان وهذا قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة وعليه يدل عمل غيرهم .] لطائف المعارف[
حال السلف في قيام الليل
فإن قيام الليل هو دأب الصالحين وتجارة المؤمنين وعمل الفائزين، ففي اللّيل يخلو المؤمنون بربهم ويتوجهون إلى خالقهم وبارئهم فيشكون إليه أحوالهم ويسألونه من فضله فنفوسهم قائمة بين يدي خالقها عاكفة على مناجاة بارئها، تتنسم من تلك النفحات وتقتبس من أنوار تلك القربات وترغب وتتضرع إلى عظيم العطايا والهبات.
* قال الحسن البصري: لم أجد شيئاً من العبادة أشد من الصلاة في جوف الليل.
* قال سعيد بن المسيب رحمه الله : إن الرجل ليصلي بالليل ، فيجعل الله في وجه نورا يحبه عليه كل مسلم ، فيراه من لم يره قط فيقول : إني لأحبُ هذا الرجل .
* قيل للحسن البصري رحمه الله : ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوها ؟ فقال لأنهم خلو بالرحمن فألبسهم من نوره .
* أخذ الفضيل بن عياض رحمه الله بيد الحسين بن زياد رحمه الله ، فقال له : يا حسين : ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول الرب : كذب من أدعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني ؟!! أليس كل حبيب يخلو بحبيبه ؟!! ها أنا ذا مطلع على أحبائي إذا جنّهم الليل ،.....، غداً أقر عيون أحبائي في جناتي .
* قال محمد بن المنكدر رحمه الله : كابدت نفسي أربعين عاماً ( أي جاهدتها وأكرهتها على الطاعات ) حتى استقامت لي.
* كان ثابت البناني يقول :كابدت نفسي على القيام عشرين سنة !! وتلذذت به عشرين سنة .
* قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى : إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم مكبل ، كبلتك خطيئتك .
* قالت امرأة مسروق بن الأجدع : والله ما كان مسروق يصبح من ليلة من الليالي إلا وساقاه منتفختان من طول القيام !!
وكان رحمه الله إذا طال عليه الليل وتعب صلى جالساً ولا يترك الصلاة وكان إذا فرغ من صلاته يزحف )أي إلى فراشه) كما يزحف البعير.
* قال رجل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله : إني لا أقدر على قيام الليل فصف لي دواء؟ فقال : لا تعصه بالنهار وهو يقيمك بين يديه في الليل ، فإن وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف، والعاصي لا يستحق ذلك الشرف .
* قال سفيان الثوري رحمه الله : حرمت قيام الليل خمسة أشهر بسبب ذنب أذنبته .
* قال رجل للحسن البصري رحمه الله : يا أبا سعيد : إني أبيت معافى وأحب قيام الليل ، وأعد طهوري فما بالي لا أقوم ؟!! فقال الحسن : ذنوبــك قيــدتك !!
* وقال رجل للحسن البصري : أعياني قيام الليل ؟ فقال : قيدتك خطاياك .
* قال ابن عمر رضي الله عنهما : أول ما ينقص من العبادة : التهجد بالليل ، ورفع الصوت فيها بالقراءة .
* وقال أبو عثمان النهدي: تضيّفت أبا هريرة سبعاً فكان هو وامرأته وخادمه يقسمون الليل ثلاثاً يصلي هذا ثم يوقظ هذا.
* وكان شداد بن أوس إذا أوى إلى فراشه كأنه حبة على مقلى ثم يقول: اللهم إنّ جهنم لا تدعني أنام فيقوم إلى مصلاه.
* وكان طاوس يثب من على فراشه ثم يتطهر ويستقبل القبلة حتى الصباح ويقول : طيَّر ذكر جهنم نوم العابدين.
* عن السائب بن يزيد قال: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنهأبَي بن كعب وتميما الداري رضي الله عنهما أن يقوما للناس في رمضان، فكان القاريء يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلاَّ في فروع الفجر . ]أخرجه البيهقي[
كنوز الحسنات
*كان السلف الصالح يحرصون على إطعام الطعام ويقدمونه على كثير من العبادات. سواء كان ذلك بإشباع جائع أو إطعام أخ صالح، فلا يشترط في المطعم الفقر.
*قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: « يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام »
[رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني[
*قال أبو السوار العدوي: كان رجال من بني عدي يصلون في هذا المسجد، ما أفطر أحد منهم على طعام قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد فأكله مع الناس و أكل الناس معه .
*قال ابن رجب: " قال الشافعي رضي الله عنه : أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولحاجة النّاس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثيرٍ منهم بالصَّوم والصلاة عن مكاسبهم".
*يقول يونس بن يزيد: " كان ابن شهاب إذا دخل رمضان فإنّما هو تلاوة القرآن و إطعام الطعام".
*كان حماد بن أبي سليمان يفطِّر في شهر رمضان خمس مائة إنسان، وإنّه كان يعطيهم بعد العيد لكل واحد مائة درهم.
التقليل من الطعام كان من سمات السلف الصالح في شهر رمضان
*قال إبراهيم بن أبي أيوب: " كان محمد بن عمرو الغزي يأكل في شهر رمضان أكلتين ".
*وقال أبو العباس هاشم بن القاسم: " كنت عند المهتدي عشيَّةً في رمضان فقمت لأنصرف فقال: اجلس، فجلست، فصلى بنا، ودعا بالطعام فأحضر طبقَ خِلافٍ عليه أرغفةٌ وآنية فيها ملحٌ وزيتٌ وخلٌّ، فدعاني إلى الأكل فأكلت أكل من ينتظر الطبيخ
فقال: ألم تكن صائماً؟ قلت: بلى،
قال: فكل واستوفِ فليس هنا غير ما ترى!
"حفظ اللسان وقلة الكلام وتوقي الكذب"
*عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه» [أخرجه البخاري[.
*قال المهلب: " وفيه دليل أن حُكم الصيام الإمساك عن الرفث وقول الزور كما يمسك عن الطعام والشراب وإن لم يمسك عن ذلك فقد تنقَّص صيامه وتعرض لسخط ربه وترك قبوله منه".
*قال الرسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا أصبح أحدكم يوماً صائماً فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤٌ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائمٌ إنّي صائمٌ» [أخرجه مسلم[.
*قال المازري في قوله:« إنّي صائمٌ» " يحتمل أن يكون المراد بذلك أن يخاطب نفسه على جهة الزجر لها عن السباب والمشاتمة".
*قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " ليس الصيام من الطعام والشراب وحده ولكنه من الكذب والباطل واللغو والحلف". [أخرجه ابن أبي شيبة[.
*وعن طلق بن قيس قال: " قال أبو ذر رضي الله عنه : إذا صمت فتحفظ ما استطعت ".
*وكان طلق إذا كان يوم صومه دخل فلم يخرج إلّا لصلاة . [أخرجه ابن أبي شيبة[.
*وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: " إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم ودع أذى الخادم وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء ". [أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الصيام 2/422[.
*وعن أبي العالية قال: " الصائم في عبادة ما لم يغتب ". [أخرجه ابن أبي شيبة[.
تعليق