وعن أبي عبد الله النعمان بن البشير -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن الحلال بَيِّن وإن الحرام بَيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب رواه البخاري ومسلم.
-----------------------
هذا الحديث -حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه- عَدَّه العلماء ثلث الدين أو ربع الدين؛ فإن الإمام أحمد قال: أحاديث الإسلام تدور على ثلاثة أحاديث: حديث عمر: إنما الأعمال بالنيات وحديث عائشة السابق: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وحديث النعمان بن بشير.
وذلك أن حديث النعمان دَلَّ على أن الأشياء منقسمة إلى حلال بَيِّن، وإلى حرام بَيِّن، وإلى مشتبه.
فالحلال البَيِّن والحرام البَيِّن واضح الحكم، والمشتبه جاء حكمه في هذا الحديث، والحلال يحتاج إلى نية، وإلى متابعة، وعدم إحداث فيه من أمور العبادات والمعاملات، وكذلك الحرام يحتاج إلى نية في تركه حتى يؤجر عليه، إلى آخر ذلك.
فصار هذا الحديث ثلث الإسلام.
وأبو داود صاحب السنن جعل الأحاديث أربعة، وزاد عليها حديث: الدين النصيحة الحديث الذي سيأتي بعد هذا -إن شاء الله تعالى.
هذا يدل على أن هذا الحديث موضعه عظيم في الشريعة؛ فهو ثلث الدين لمن فهمه، ففيه أن الأحكام ثلاثة: حلال بَيِّن واضح لا اشتباه فيه، وحرام بَيِّن واضح لا اشتباه فيه، وثالث مشتبه لا يعلمه كثير من الناس، ولكن يعلمه بعضهم.
فالحلال البَيِّن الواضح من أتاه فهذا على بينة، بين للناس، والحرام البين الواضح أيضا بَيِّن للناس، لا اشتباه فيه، فمن انتهى عنه فهو مأجور، ومن وقع فيه فهو مأزور.
وهناك ما هو مشتبه، ومن أجل هذا المشتبه جاء هذا الحديث من الرءوف الرحيم -عليه الصلاة والسلام-، فقال: الحلال بَيِّنٌ، والحرام بَيِّنٌ، وبينهما أمور مشتبهات .
الحلال البين مثاله أنواع المأكولات المباحة، تأكل اللحم والخبز، وتشرب الماء إلى آخره، أنواع العلاقات المالية المباحة، البيع الواضح، الصرف الواضح إلى آخره، أنواع الإجارة الواضحة، الزواج الواضح، وأشباه ذلك مما اكتملت فيه الشروط ولا شبهة فيه، فهذا بين يعلمه الناس، وأيضا هو درجات.
والحرام بين -أيضا- واضح مثل حرمة الخمر، وحرمة السرقة، وحرمة الزنا، وحرمة قذف الغافلات المؤمنات، وحرمة الرشوة، وأشباه ذلك مما الكلام فيها واضح لا اشتباه فيه.
القسم الثالث: قال: وبينهما أمور مشتبهات قال -عليه الصلاة والسلام-: "وبينهما" فجعل هذا القسم بين الحلال والحرام؛ وذلك لأنه يجتذبه الحلال تارة، ويجتذبه الحرام تارة عند من اشتبه عليه، فالذي اشتبه عليه هذا الأمر يكون عنده بين الحلال والحرام، لا يدري هل هو حرام أو هو حلال، إن نظر فيه من جهة قال هو حلال، وإن نظر فيه من جهة جعله حراما، وهذا عند كثير من الناس، وأما الراسخون في العلم فيعلمونه، يعلمون حكمه، هل هو حلال أو حرام؟.
فقال -عليه الصلاة والسلام-: وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فدل قوله: لا يعلمهن كثير على أن هناك كثيرا من الناس يعلمون الحكم.
هذه المشتبهات اختلف العلماء في تفسيرها، ما هي المشبهات؟ في أقوال كثيرة جدا، وصُنِّفَتْ فيها مصنفات، وشروح هذا الحديث في الكتب المطولة طويل أيضا في تفسير المشتبهات، ووضوحها ينبني على فهم معنى المشتبه في اللغة وفي القرآن أيضا.
أما في اللغة، فاشتبه الشيء: بمعنى اختلط، يعني: صار يتنازعه أشياء متعددة جعلته مختلطا على الناظر أو على السامع، اشتبهت الأشياء عند عينه، بمعنى اختلطت، ما يميز هذا من هذا، اشتبهت الأصوات عليه، يعني: تداخلت، فلم يميز هذا من هذا.
فالمشتبهات في اللغة لا يتضح منها الأمر عند كثير من الناس لضعف قوته، كما أن الناظر -لضعف بصره- اشتبه عليه، والسامع -لضعف سمعه- اشتبه عليه، فكذلك المسائل التي تُدْرَك بالقلب تدرك بالبصيرة، تشتبه من جهة ضعف البصيرة ضعف العلم.
أما في القرآن فجعل الله -جل وعلا- المشتبهات أو المتشابهات فيما يقابل المحكمات، في آية سورة "آل عمران" وهي قوله -جل وعلا-: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا .
فدلت الآية على أن المحكم ما كان واضحا بَيّنًا، والمشتبه ما يشتبه علمه على الناظر فيه.
وما في الحديث غير ما في الآية، من جهة أن ما في الآية من جهة المعاني -معاني الآيات- لأنه قال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ .
فمعنى الآية يشتبه، والحديث من جهة العمل، من جهة الحكم، هل هذه من الحلال، أو هي من الحرام ؟
فإذن من جهة الاشتباه الأمر واحد، أن المشتبه فيما دلت عليه آية "آل عمران" هو غير الواضح، وهذا نستمسك به في تفسير المشتبه في هذا الحديث؛ لأن الكلمة إذا اشتبه معناها، أو اختلف العلماء في معناها، فإرجاعها إلى عُرْفِ الشارع، في كلامه، يعني إلى ما كان عليه استعمال الشارع في القرآن، فهذا يريحنا من إشكال تفسير الكلمة، فإذا نظرنا في هذه الكلمة مشتبهات، فجعلها بعض العلماء اختلاط المال المباح مع المال الحرام، جعلها بعضهم فيما اختلف فيه العلماء في أقوال ربما يأتي بعضها.
فتفسيرها الصحيح أن نجعلها مثل آية "آل عمران" يعني: ما اتضح ما لم يتضح للمرء، ما لم يتضح حكمه فهو مشتبه، وما اتضح حكمه من الحلال فهو حلال، وما اتضح حكمه من الحرام فهو حرام، وهذه محكمات، وما اشتبه حكمه فهو من غير الواضح، من المتشابهات، أو المشتبهات، أو المشبهات كما هي روايات في هذا الحديث.
الإمام أحمد -رحمه الله- وإسحاق وجماعة من أهل العلم فسروا المشتبهات بما اختلف الصحابة في حله وحرمته، أو اختلف العلماء في حله وحرمته، فقالوا -مثلا- أكل الضب اختلفوا فيه، فيكون من قبيل المشتبه، وقالوا: إن أكل ذي الناب من السباع اختلف فيه العلماء، فيكون من قبيل المشتبه، أو لبس بعض الملابس اختلفوا فيها، فيكون من قبيل المشتبه، وجعلوا اختلاف المال حلال وحرام، هذا من قبيل المشتبه في أشياء، وشرب ما يسكر كثيره من قبيل المشتبه، من جهة الناظر فيه، وهذا -في الحقيقة- ليس واضحا، وهذه إذا جُعِلَتْ من المشتبهات فهذا من جهة التأويل، لا من جهة كونها مشتبهات بينة.
فالإمام أحمد وإسحاق وجماعة إذا قالوا عن هذه الأشياء: إنها مشتبهات، فيعنون أنه ينبغي لمن ذهب إلى القول المبيح أن يستبرئ، من ذهب إلى القول المبيح في المُسْكِر لا بد له أن يستبرئ لدينه ويذهب إلى القول الآخر، في أكل الضب السنة فيه واضحة، فينبغي أن يترك رأيه إلى السنة للأمر الواضح، يعني: قالوا إنها من المشتبهات باعتبار الخلاف، وهذا ليس هو المقصود بالحديث؛ وإنما هم نظروا في اختلاف العلماء في ذلك.
والذي ينبغي حمل الأحاديث عليه ما ذكرت لك من أن المشبهات، أو المشتبهات، أو المتشابهات هي ما اشتبه علمه، ما اشتبه حكمه على من يحتاج إليه، فإذا اشتبه عليه حكم هذا البيع فاستبراؤه له حماية لعلمه، حماية لدينه، إذا اشتبه عليه حكم هذه المرأة، هل هي مباحة له أم غير مباحة؟ فالاستبراء أن يتوقف حتى يأتيه إما أن تكون حلالا بينا أو حراما بينا.
إذا تقرر ذلك فإنه، إن المشتبهات هذه لها حالان:
الحال الأولى: ما يتوقف فيه العلماء، فيتوقف العالم في حكم المسألة، يقول: أنا متوقف فيها. والعلماء توقفوا في شيء مثل بعض المسائل الحادثة الآن، تأتي مسألة -مثلا- من مسائل البيوعات أو مسائل المال الجديدة التي يحدثها الناس، والعلماء حتى ينظروا فيها لا بد أن يتوقفوا.
في بعض المسائل الطبية -مثلا- توقف العلماء، والعلماء توقفهم ليس عن عجز، ولكن حماية لدينهم هم؛ لأنهم سيفتون الأمة، وإذا أفتوا الأمة فالحلال الذي صار في الأمة حلالا منسوب إليهم، وهم وقعوا عن رب العالمين -جل وعلا- يعني: أفتوا عن الله -سبحانه-، فينبغي أن يتوقفوا حتى تتبين لهم، فإذا توقف العلماء في مسألة فإذن هي من المشتبهات حتى يتبين حكمها للعالم، هذا النوع الأول.
والنوع الثاني من المشتبهات: ما تشتبه على غير العالم، فينبغي أن لا يواقعها حتى يردها إلى العالم، ينبغي: يعني وجوبا؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "وبينهما" يعني: بين الحلال والحرام. أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس .
في قوله: لا يعلمهن كثير من الناس إرشاد إلى أن هناك من يعلم، فتسأل من يعلم عن حكم هذه المسألة.
قال: فمن اتقى الشبهات يعني: قبل أن يصل إليه العلم، أو في المسألة التي توقف فيها أهل العلم.
فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه أما استبراء الدين فهو من جهة الله -جل وعلا-؛ حيث إنه إذا استبرأ فقد أتى ما يجب عليه، متوقف فيها فأنا لا أقدم عليها؛ لأنها ربما كانت حراما، والمؤمن مُكَلَّف، فينبغي عليه وجوبا ألا يأتي شيئا وهو يعلم أنه حلال، وإذا أراد أن يُقْدِم على شيء، يقدم على شيء يعلم أنه غير حرام.
فمن توقف عن الحلال المشتبه أو عن الحرام المشتبه فقد استبرأ للدين؛ لأنه ربما واقع، فصار حراما، وهو لا يدري.
هل يقال هنا: هو لا يدري معذور؟ لا، غير معذور؛ لأنه يجب عليه أن يتوقف حتى يتبين له حكم هذه المسألة، يأتيها على أي أساس؟ هو مكلف، لا يعمل عمل إلا بأمر من الشرع، فلهذا قال: فقد استبرأ لدينه .
قال: "وعرضه" وعرضه لأنه -في أهل الإيمان- من أقدم على الأمور المشتبهات فإنه قد يُوقَع فيه، قد يُتَكَلَّم فيه بأنه قليل الديانة؛ لأنه لم يستبرئ لدينه، فإنه إذا ترك مواقعة المشتبهات استبرأ لعرضه، وفي هذا حث على أن المرء لا يأتي ما يُعاب عليه في عرضه، فالمؤمن يرعى حال إخوانه المؤمنين، ونظرة إخوانه المؤمنين إليه، ولا يأتي بشيء يقول: أنا لا أهتم بقول أهل الإيمان، لا أهتم بقول أهل العلم، لا أهتم بقول طلبة العلم؛ فإن استبراء العرض حتى لا يوقع فيه هذا أمر مطلوب.
وقد جاء في الأثر: "إياك وما يشار إليه بالأصابع". يعني: من أهل الإيمان، حيث ينتقدون على العامل عمله فيما لم يوافق فيه الشريعة.
قال: ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام هنا "وقع في الحرام" فُسِّرَتْ بتفسيرين: الحرام الذي هو أحد الجانبين الذي الشبهات فيما بينهما؛ لأن جانب حلال، وجانب حرام، فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام الذي هو أحد الجهتين، وفُسِّرَ الحرام بأنه وقع في أمر مُحَرَّم؛ حيث لم يستبرئ لدينه، حيث وقع في شيء لم يعلم حكمه، شيء مسألة واقعتها بلا علم منك أنه جائز، فلا شك أن هذا إقدام على أمر دون حجة.
فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام وهذا في المسائل التي تتنازعها الأمور بوضوح، هناك مسائل من الورع يستحب تركها، ليست هي المقصودة بهذه الكلمة؛ لأنه قال: ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام .
ثم مَثَّلَ ذلك -عليه الصلاة والسلام- بقوله: كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه الراعي يكون معه شيء من الماشية، الماشية من طبيعتها أنها -في بعض الأحيان- تخرج عن مجموع الماشية وتذهب بعيدا، فإذا قارب حمى محمية، مثلا: أرض محمية للصدقة، أو محمية في ملك فلان، أو ما أشبه ذلك، فإن مقاربته بماشيته للحمى لا بد أن يحصل منها بعضها منهم، ويأخذ من حق غيره.
وهذا تمثيل عظيم في أن حِمَى الله محارمه وما هو داخل هذا الحمى هو الدين، وهذه المحارم حمى، فمن قارب فلا بد أن يحصل منه مرة أن يتوسع، فيدخل في الحرام، حتى في الأمور التي يكون عنده فيها بعض التردد، لا كل التردد.
فلهذا مَثَّلَ -عليه الصلاة والسلام- بهذا المثال العظيم، فقال: كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه لأنه قَارَب.
قال: ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه فحمى الله محارمه، بها يقوَى دين المرء.
فهذا الحديث واضح الدلالة في أن من قارب الحمى، من قارب المحارم، من قارب الحرمات فإنه يوشك أن يقع في المحرم من جرّاء تساهله.
نفهم من هذا الحديث أن الحلال البَيِّن واضح، والحرام البين واضح، والمشبهات المشتبهات عرفنا تعريفها، وحكمها، وتقسيمات الكلام عليها، وأنه يجب على صاحب الدين، يجب على المسلم ألا يأتي شيئا إلا وهو يعلم حكمه، إذا لم يعلم فليسأل، فتكون إذن المسألة مشتبهة عليه، ويزول الاشتباه بسؤال أهل العلم، فإن بقيت مشتبهة على أهل العلم، فإنه -يعني حتى يحكموا فيها- فإنه يتوقف معهم حتى يعمل ذلك.
هناك مسائل ليست مشتبهة -يعني في الأحكام- لكونها تبع الأصل جريان القواعد عليها، دخولها ضمن الدليل، فإذن المسائل التي اختلف العلماء فيها لا تدخل ضمن هذا الحديث من جهة كونها مشتبهة؛ بل نقول: هذه مسألة اختلف فيها العلماء، فإذن يخرج منها بتاتا على جهة أن من وقع فيها وقع في الحرام، لا؛ ولكن هذا على وجه الاستحباب.
وهذا هو الذي فهمه العلماء من الحديث: أن الخروج من خلاف العلماء مستحب، يعني: أن العلماء إذا اختلفوا في مسألة، فالخروج من خلافهم إلى متيقن، هذا مستحب، وهذا صحيح باعتبارات، وفي بعض تطبيقاته قد لا يكون صحيحا في تفاصيل معلومة.
مثاله -مثلا-: قصر الصلاة في السفر، جمهور العلماء -يعني جمهور الأئمة الأربعة- مالك والشافعي وأحمد حَدّوا المدة بنية إقامة أربعة أيام فصاعدا، في أنه إذا نوَى إقامة أربعة أيام فصاعدا لم يترخص برخصة السفر، وهناك قول ثانٍ للحنفية بأن له أن يترخص ما لم يُزْمِع إقامة أكثر من خمسة عشر يوما، وهناك قول ثالث لشيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم: بأن له أن يترخص حتى يرجع إلى بلده.
فهذه أقوال ثلاثة: القول الأول -وهو كونها أربعة أيام- رُجِّحَ على غيرها من جهة أن المسألة من حيث الدليل مشتبهة، وإذا كان كذلك فالأخذ فيها باليقين استبراء للدين؛ لأن الصلاة ركن الإسلام الثاني، فأَخْذُ اليقين في أمر الصلاة هذا مما دَلَّ عليه هذا الحديث، لأنه استبراء للدين؛ لأن الأربعة أيام هذه بالاتفاق أنه يترخص فيها، وأما ما عداها فهو مختلف فيه، فإذا كان كذلك فالخروج من الخلاف هنا مستحب، فنأخذ بالأحوط.
ولهذا رجح كثير من المحققين هذا القول باعتبار الاستبراء، وأن في الأخذ به اليقين في أمر الصلاة، التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وأعظم الأركان العملية.
من المسائل التي -أيضا- يتعرض لها العلماء في هذا الحديث الأكل من مال من اختلط في ماله الحلال الحرام، أعني رجلا مثلا في ماله حرام، نعلم أنه يكتسب من مكاسب محرمة؛ إما أنه يرتشي، أو عنده مكاسب من الربا، أو ما أشبه ذلك، وعنده مكاسب حلال، فما الحكم في شأنه؟
جعله بعض العلماء داخلا في هذا الحديث، وأن الورع الترك على سبيل الاستحباب؛ لأنه استبراء.
وطائفة من أهل العلم قالوا: بحسب ما يغلب، فإن كان الغالب عليه الحرام فإنه يُسْتَبْرَأ، وإن كان الغالب عليه الحلال فإنه يجوز أن تأكل منه، ما لم تعلم أن عَيْن ما قُدِّمَ لك من الحرام.
وقال آخرون -منهم ابن مسعود -رضي الله عنه-: لك أن تأكل، والحرام عليه، لتَغَيُّر الجهة، فهو اكتسبه من حرام، وحين قدم لك قدمه على أنه هدية، أو على أنه إضافة أو هبة، أو ما أشبه ذلك، وتَغَيُّر الجهة يغير الحكم كما في حديث بريرة: قالوا: يا رسول الله، في اللحم إنه تصدق به على بريرة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يأكل الصدقة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: هو عليها صدقة، ولنا هدية .
لاختلاف الجهة، مع أنه عين المُهْدَى وهو اللحم، فقال جماعة من الصحابة ومن أهل العلم: إنه يأكل والحرام على صاحبه، على من قدمه، وأما هذا فقدمه على أنه هدية، فلا بأس بذلك.
وقال آخرون في هذه المسألة: إنه يأكل منه ما لم يعلم أن هذا المال بعينه حرام، يعني: أن عين ما قَدَّم حرام، فإذا علم أن عين ما قدم حرام فلا يجوز له أكل هذا المعين، ويجوز أكل ما سواه، واستدلوا على ذلك بأن اليهود كانوا يقدمون الطعام للنبي -عليه الصلاة والسلام-، وكانوا يأكلون الربا، وكان -عليه الصلاة والسلام- ربما أكل من طعامهم.
فيه تفاصيل، المقصود من هذا -كمثال- لاختلاف العلماء في تنازعٍ في هذه المسألة، هل تدخل في هذا الحديث أم لا؟ وجملتهم على دخوله من جهة الورع، وليس على دخوله من جهة أنه من أكل فقد أكل حراما، مع أن عددا من المحققين رَجَّحوا قول ابن مسعود، وهو ترجيح ظاهر من حيث الدليل، كابن عبد البر في "التمهيد" وكغيره من أهل العلم في تفاصيل يطول الكلام عليها.
قال -عليه الصلاة والسلام-: ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب .
فهذا فيه أن صلاح القلب -الذي هو معدن الإيمان- به يكون التورع، به يكون التوقف عن الشبهات، به يكون الإقدام على المحرمات، هذا راجع إلى القلب، والقلب إذا صلح، صلح الجسد كله في تصرفاته، وإذا فسد فسد، الجسد كله.
تعليق هذا بالقلب، قال: ألا وإن في الجسد مضغة والقلب -من حيث إدراك المعلومات- هو الذي يدرك، فعند المحققين من أهل العلم، والذي تدل عليه نصوص الكتاب والسنة أن هذا معلق بالقلب، يعني: حصول الإدراكات، وحصول العلوم، والصلاح والفساد والنيات. .إلى آخره، هذا معلق بالقلب.
إذا كان كذلك، فما وظيفة الدماغ أو المخ ؟
وظيفته الإمداد، هذا على قول المحققين من أهل العلم، فاختلفوا في العقل؛ هل هو في القلب أم في الرأس؟ والصحيح أنه في القلب، والعقل ليس جرما؛ وإنما المقصود به إدراك المعقولات، والدماغ وما في الرأس هذه وسيلة تمد القلب بالإدراكات.
القلب هل يدرك من جهة كونه مضغة ؟
لا، يدرك من جهة كونه بيت الروح، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد. . سبق في الكلام على حديث النعمان بن بشير في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ونزيد المسألة بيانا بأن قوله -عليه الصلاة والسلام-: من وقع في الشبهات وقع في الحرام أنه لشدة مقاربته للحرام، فإنه صُوِّرَ كأنه واقع فيه، فإن الذي يقع في الشبهات يؤدي به ذلك إلى مواقعة الحرام، كما مَثَّلَ له -عليه الصلاة والسلام- بقوله: كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه .
والقول الثاني: أن الوقوع في الحرام، أنه لاشتباه الأمر عليه، وعدم دخوله فيه بحجة أنه ربما وقع في الحرام، يعني: في أن هذا الأمر حكمه الحرمة، فوقع فيه من غير علم، وكان وقوعه فيه نتيجة لعدم استبرائه وبعده عن المشتبهات.
وهذان توجيهان وَجَّه بهما جماعة من الشُّرَّاح، وقد ذكرت لكم -أيضا- بالأمس توجيهان لأهل العلم تدخل في هذين.
الرابط
-----------------------
هذا الحديث -حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه- عَدَّه العلماء ثلث الدين أو ربع الدين؛ فإن الإمام أحمد قال: أحاديث الإسلام تدور على ثلاثة أحاديث: حديث عمر: إنما الأعمال بالنيات وحديث عائشة السابق: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وحديث النعمان بن بشير.
وذلك أن حديث النعمان دَلَّ على أن الأشياء منقسمة إلى حلال بَيِّن، وإلى حرام بَيِّن، وإلى مشتبه.
فالحلال البَيِّن والحرام البَيِّن واضح الحكم، والمشتبه جاء حكمه في هذا الحديث، والحلال يحتاج إلى نية، وإلى متابعة، وعدم إحداث فيه من أمور العبادات والمعاملات، وكذلك الحرام يحتاج إلى نية في تركه حتى يؤجر عليه، إلى آخر ذلك.
فصار هذا الحديث ثلث الإسلام.
وأبو داود صاحب السنن جعل الأحاديث أربعة، وزاد عليها حديث: الدين النصيحة الحديث الذي سيأتي بعد هذا -إن شاء الله تعالى.
هذا يدل على أن هذا الحديث موضعه عظيم في الشريعة؛ فهو ثلث الدين لمن فهمه، ففيه أن الأحكام ثلاثة: حلال بَيِّن واضح لا اشتباه فيه، وحرام بَيِّن واضح لا اشتباه فيه، وثالث مشتبه لا يعلمه كثير من الناس، ولكن يعلمه بعضهم.
فالحلال البَيِّن الواضح من أتاه فهذا على بينة، بين للناس، والحرام البين الواضح أيضا بَيِّن للناس، لا اشتباه فيه، فمن انتهى عنه فهو مأجور، ومن وقع فيه فهو مأزور.
وهناك ما هو مشتبه، ومن أجل هذا المشتبه جاء هذا الحديث من الرءوف الرحيم -عليه الصلاة والسلام-، فقال: الحلال بَيِّنٌ، والحرام بَيِّنٌ، وبينهما أمور مشتبهات .
الحلال البين مثاله أنواع المأكولات المباحة، تأكل اللحم والخبز، وتشرب الماء إلى آخره، أنواع العلاقات المالية المباحة، البيع الواضح، الصرف الواضح إلى آخره، أنواع الإجارة الواضحة، الزواج الواضح، وأشباه ذلك مما اكتملت فيه الشروط ولا شبهة فيه، فهذا بين يعلمه الناس، وأيضا هو درجات.
والحرام بين -أيضا- واضح مثل حرمة الخمر، وحرمة السرقة، وحرمة الزنا، وحرمة قذف الغافلات المؤمنات، وحرمة الرشوة، وأشباه ذلك مما الكلام فيها واضح لا اشتباه فيه.
القسم الثالث: قال: وبينهما أمور مشتبهات قال -عليه الصلاة والسلام-: "وبينهما" فجعل هذا القسم بين الحلال والحرام؛ وذلك لأنه يجتذبه الحلال تارة، ويجتذبه الحرام تارة عند من اشتبه عليه، فالذي اشتبه عليه هذا الأمر يكون عنده بين الحلال والحرام، لا يدري هل هو حرام أو هو حلال، إن نظر فيه من جهة قال هو حلال، وإن نظر فيه من جهة جعله حراما، وهذا عند كثير من الناس، وأما الراسخون في العلم فيعلمونه، يعلمون حكمه، هل هو حلال أو حرام؟.
فقال -عليه الصلاة والسلام-: وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فدل قوله: لا يعلمهن كثير على أن هناك كثيرا من الناس يعلمون الحكم.
هذه المشتبهات اختلف العلماء في تفسيرها، ما هي المشبهات؟ في أقوال كثيرة جدا، وصُنِّفَتْ فيها مصنفات، وشروح هذا الحديث في الكتب المطولة طويل أيضا في تفسير المشتبهات، ووضوحها ينبني على فهم معنى المشتبه في اللغة وفي القرآن أيضا.
أما في اللغة، فاشتبه الشيء: بمعنى اختلط، يعني: صار يتنازعه أشياء متعددة جعلته مختلطا على الناظر أو على السامع، اشتبهت الأشياء عند عينه، بمعنى اختلطت، ما يميز هذا من هذا، اشتبهت الأصوات عليه، يعني: تداخلت، فلم يميز هذا من هذا.
فالمشتبهات في اللغة لا يتضح منها الأمر عند كثير من الناس لضعف قوته، كما أن الناظر -لضعف بصره- اشتبه عليه، والسامع -لضعف سمعه- اشتبه عليه، فكذلك المسائل التي تُدْرَك بالقلب تدرك بالبصيرة، تشتبه من جهة ضعف البصيرة ضعف العلم.
أما في القرآن فجعل الله -جل وعلا- المشتبهات أو المتشابهات فيما يقابل المحكمات، في آية سورة "آل عمران" وهي قوله -جل وعلا-: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا .
فدلت الآية على أن المحكم ما كان واضحا بَيّنًا، والمشتبه ما يشتبه علمه على الناظر فيه.
وما في الحديث غير ما في الآية، من جهة أن ما في الآية من جهة المعاني -معاني الآيات- لأنه قال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ .
فمعنى الآية يشتبه، والحديث من جهة العمل، من جهة الحكم، هل هذه من الحلال، أو هي من الحرام ؟
فإذن من جهة الاشتباه الأمر واحد، أن المشتبه فيما دلت عليه آية "آل عمران" هو غير الواضح، وهذا نستمسك به في تفسير المشتبه في هذا الحديث؛ لأن الكلمة إذا اشتبه معناها، أو اختلف العلماء في معناها، فإرجاعها إلى عُرْفِ الشارع، في كلامه، يعني إلى ما كان عليه استعمال الشارع في القرآن، فهذا يريحنا من إشكال تفسير الكلمة، فإذا نظرنا في هذه الكلمة مشتبهات، فجعلها بعض العلماء اختلاط المال المباح مع المال الحرام، جعلها بعضهم فيما اختلف فيه العلماء في أقوال ربما يأتي بعضها.
فتفسيرها الصحيح أن نجعلها مثل آية "آل عمران" يعني: ما اتضح ما لم يتضح للمرء، ما لم يتضح حكمه فهو مشتبه، وما اتضح حكمه من الحلال فهو حلال، وما اتضح حكمه من الحرام فهو حرام، وهذه محكمات، وما اشتبه حكمه فهو من غير الواضح، من المتشابهات، أو المشتبهات، أو المشبهات كما هي روايات في هذا الحديث.
الإمام أحمد -رحمه الله- وإسحاق وجماعة من أهل العلم فسروا المشتبهات بما اختلف الصحابة في حله وحرمته، أو اختلف العلماء في حله وحرمته، فقالوا -مثلا- أكل الضب اختلفوا فيه، فيكون من قبيل المشتبه، وقالوا: إن أكل ذي الناب من السباع اختلف فيه العلماء، فيكون من قبيل المشتبه، أو لبس بعض الملابس اختلفوا فيها، فيكون من قبيل المشتبه، وجعلوا اختلاف المال حلال وحرام، هذا من قبيل المشتبه في أشياء، وشرب ما يسكر كثيره من قبيل المشتبه، من جهة الناظر فيه، وهذا -في الحقيقة- ليس واضحا، وهذه إذا جُعِلَتْ من المشتبهات فهذا من جهة التأويل، لا من جهة كونها مشتبهات بينة.
فالإمام أحمد وإسحاق وجماعة إذا قالوا عن هذه الأشياء: إنها مشتبهات، فيعنون أنه ينبغي لمن ذهب إلى القول المبيح أن يستبرئ، من ذهب إلى القول المبيح في المُسْكِر لا بد له أن يستبرئ لدينه ويذهب إلى القول الآخر، في أكل الضب السنة فيه واضحة، فينبغي أن يترك رأيه إلى السنة للأمر الواضح، يعني: قالوا إنها من المشتبهات باعتبار الخلاف، وهذا ليس هو المقصود بالحديث؛ وإنما هم نظروا في اختلاف العلماء في ذلك.
والذي ينبغي حمل الأحاديث عليه ما ذكرت لك من أن المشبهات، أو المشتبهات، أو المتشابهات هي ما اشتبه علمه، ما اشتبه حكمه على من يحتاج إليه، فإذا اشتبه عليه حكم هذا البيع فاستبراؤه له حماية لعلمه، حماية لدينه، إذا اشتبه عليه حكم هذه المرأة، هل هي مباحة له أم غير مباحة؟ فالاستبراء أن يتوقف حتى يأتيه إما أن تكون حلالا بينا أو حراما بينا.
إذا تقرر ذلك فإنه، إن المشتبهات هذه لها حالان:
الحال الأولى: ما يتوقف فيه العلماء، فيتوقف العالم في حكم المسألة، يقول: أنا متوقف فيها. والعلماء توقفوا في شيء مثل بعض المسائل الحادثة الآن، تأتي مسألة -مثلا- من مسائل البيوعات أو مسائل المال الجديدة التي يحدثها الناس، والعلماء حتى ينظروا فيها لا بد أن يتوقفوا.
في بعض المسائل الطبية -مثلا- توقف العلماء، والعلماء توقفهم ليس عن عجز، ولكن حماية لدينهم هم؛ لأنهم سيفتون الأمة، وإذا أفتوا الأمة فالحلال الذي صار في الأمة حلالا منسوب إليهم، وهم وقعوا عن رب العالمين -جل وعلا- يعني: أفتوا عن الله -سبحانه-، فينبغي أن يتوقفوا حتى تتبين لهم، فإذا توقف العلماء في مسألة فإذن هي من المشتبهات حتى يتبين حكمها للعالم، هذا النوع الأول.
والنوع الثاني من المشتبهات: ما تشتبه على غير العالم، فينبغي أن لا يواقعها حتى يردها إلى العالم، ينبغي: يعني وجوبا؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "وبينهما" يعني: بين الحلال والحرام. أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس .
في قوله: لا يعلمهن كثير من الناس إرشاد إلى أن هناك من يعلم، فتسأل من يعلم عن حكم هذه المسألة.
قال: فمن اتقى الشبهات يعني: قبل أن يصل إليه العلم، أو في المسألة التي توقف فيها أهل العلم.
فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه أما استبراء الدين فهو من جهة الله -جل وعلا-؛ حيث إنه إذا استبرأ فقد أتى ما يجب عليه، متوقف فيها فأنا لا أقدم عليها؛ لأنها ربما كانت حراما، والمؤمن مُكَلَّف، فينبغي عليه وجوبا ألا يأتي شيئا وهو يعلم أنه حلال، وإذا أراد أن يُقْدِم على شيء، يقدم على شيء يعلم أنه غير حرام.
فمن توقف عن الحلال المشتبه أو عن الحرام المشتبه فقد استبرأ للدين؛ لأنه ربما واقع، فصار حراما، وهو لا يدري.
هل يقال هنا: هو لا يدري معذور؟ لا، غير معذور؛ لأنه يجب عليه أن يتوقف حتى يتبين له حكم هذه المسألة، يأتيها على أي أساس؟ هو مكلف، لا يعمل عمل إلا بأمر من الشرع، فلهذا قال: فقد استبرأ لدينه .
قال: "وعرضه" وعرضه لأنه -في أهل الإيمان- من أقدم على الأمور المشتبهات فإنه قد يُوقَع فيه، قد يُتَكَلَّم فيه بأنه قليل الديانة؛ لأنه لم يستبرئ لدينه، فإنه إذا ترك مواقعة المشتبهات استبرأ لعرضه، وفي هذا حث على أن المرء لا يأتي ما يُعاب عليه في عرضه، فالمؤمن يرعى حال إخوانه المؤمنين، ونظرة إخوانه المؤمنين إليه، ولا يأتي بشيء يقول: أنا لا أهتم بقول أهل الإيمان، لا أهتم بقول أهل العلم، لا أهتم بقول طلبة العلم؛ فإن استبراء العرض حتى لا يوقع فيه هذا أمر مطلوب.
وقد جاء في الأثر: "إياك وما يشار إليه بالأصابع". يعني: من أهل الإيمان، حيث ينتقدون على العامل عمله فيما لم يوافق فيه الشريعة.
قال: ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام هنا "وقع في الحرام" فُسِّرَتْ بتفسيرين: الحرام الذي هو أحد الجانبين الذي الشبهات فيما بينهما؛ لأن جانب حلال، وجانب حرام، فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام الذي هو أحد الجهتين، وفُسِّرَ الحرام بأنه وقع في أمر مُحَرَّم؛ حيث لم يستبرئ لدينه، حيث وقع في شيء لم يعلم حكمه، شيء مسألة واقعتها بلا علم منك أنه جائز، فلا شك أن هذا إقدام على أمر دون حجة.
فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام وهذا في المسائل التي تتنازعها الأمور بوضوح، هناك مسائل من الورع يستحب تركها، ليست هي المقصودة بهذه الكلمة؛ لأنه قال: ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام .
ثم مَثَّلَ ذلك -عليه الصلاة والسلام- بقوله: كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه الراعي يكون معه شيء من الماشية، الماشية من طبيعتها أنها -في بعض الأحيان- تخرج عن مجموع الماشية وتذهب بعيدا، فإذا قارب حمى محمية، مثلا: أرض محمية للصدقة، أو محمية في ملك فلان، أو ما أشبه ذلك، فإن مقاربته بماشيته للحمى لا بد أن يحصل منها بعضها منهم، ويأخذ من حق غيره.
وهذا تمثيل عظيم في أن حِمَى الله محارمه وما هو داخل هذا الحمى هو الدين، وهذه المحارم حمى، فمن قارب فلا بد أن يحصل منه مرة أن يتوسع، فيدخل في الحرام، حتى في الأمور التي يكون عنده فيها بعض التردد، لا كل التردد.
فلهذا مَثَّلَ -عليه الصلاة والسلام- بهذا المثال العظيم، فقال: كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه لأنه قَارَب.
قال: ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه فحمى الله محارمه، بها يقوَى دين المرء.
فهذا الحديث واضح الدلالة في أن من قارب الحمى، من قارب المحارم، من قارب الحرمات فإنه يوشك أن يقع في المحرم من جرّاء تساهله.
نفهم من هذا الحديث أن الحلال البَيِّن واضح، والحرام البين واضح، والمشبهات المشتبهات عرفنا تعريفها، وحكمها، وتقسيمات الكلام عليها، وأنه يجب على صاحب الدين، يجب على المسلم ألا يأتي شيئا إلا وهو يعلم حكمه، إذا لم يعلم فليسأل، فتكون إذن المسألة مشتبهة عليه، ويزول الاشتباه بسؤال أهل العلم، فإن بقيت مشتبهة على أهل العلم، فإنه -يعني حتى يحكموا فيها- فإنه يتوقف معهم حتى يعمل ذلك.
هناك مسائل ليست مشتبهة -يعني في الأحكام- لكونها تبع الأصل جريان القواعد عليها، دخولها ضمن الدليل، فإذن المسائل التي اختلف العلماء فيها لا تدخل ضمن هذا الحديث من جهة كونها مشتبهة؛ بل نقول: هذه مسألة اختلف فيها العلماء، فإذن يخرج منها بتاتا على جهة أن من وقع فيها وقع في الحرام، لا؛ ولكن هذا على وجه الاستحباب.
وهذا هو الذي فهمه العلماء من الحديث: أن الخروج من خلاف العلماء مستحب، يعني: أن العلماء إذا اختلفوا في مسألة، فالخروج من خلافهم إلى متيقن، هذا مستحب، وهذا صحيح باعتبارات، وفي بعض تطبيقاته قد لا يكون صحيحا في تفاصيل معلومة.
مثاله -مثلا-: قصر الصلاة في السفر، جمهور العلماء -يعني جمهور الأئمة الأربعة- مالك والشافعي وأحمد حَدّوا المدة بنية إقامة أربعة أيام فصاعدا، في أنه إذا نوَى إقامة أربعة أيام فصاعدا لم يترخص برخصة السفر، وهناك قول ثانٍ للحنفية بأن له أن يترخص ما لم يُزْمِع إقامة أكثر من خمسة عشر يوما، وهناك قول ثالث لشيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم: بأن له أن يترخص حتى يرجع إلى بلده.
فهذه أقوال ثلاثة: القول الأول -وهو كونها أربعة أيام- رُجِّحَ على غيرها من جهة أن المسألة من حيث الدليل مشتبهة، وإذا كان كذلك فالأخذ فيها باليقين استبراء للدين؛ لأن الصلاة ركن الإسلام الثاني، فأَخْذُ اليقين في أمر الصلاة هذا مما دَلَّ عليه هذا الحديث، لأنه استبراء للدين؛ لأن الأربعة أيام هذه بالاتفاق أنه يترخص فيها، وأما ما عداها فهو مختلف فيه، فإذا كان كذلك فالخروج من الخلاف هنا مستحب، فنأخذ بالأحوط.
ولهذا رجح كثير من المحققين هذا القول باعتبار الاستبراء، وأن في الأخذ به اليقين في أمر الصلاة، التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وأعظم الأركان العملية.
من المسائل التي -أيضا- يتعرض لها العلماء في هذا الحديث الأكل من مال من اختلط في ماله الحلال الحرام، أعني رجلا مثلا في ماله حرام، نعلم أنه يكتسب من مكاسب محرمة؛ إما أنه يرتشي، أو عنده مكاسب من الربا، أو ما أشبه ذلك، وعنده مكاسب حلال، فما الحكم في شأنه؟
جعله بعض العلماء داخلا في هذا الحديث، وأن الورع الترك على سبيل الاستحباب؛ لأنه استبراء.
وطائفة من أهل العلم قالوا: بحسب ما يغلب، فإن كان الغالب عليه الحرام فإنه يُسْتَبْرَأ، وإن كان الغالب عليه الحلال فإنه يجوز أن تأكل منه، ما لم تعلم أن عَيْن ما قُدِّمَ لك من الحرام.
وقال آخرون -منهم ابن مسعود -رضي الله عنه-: لك أن تأكل، والحرام عليه، لتَغَيُّر الجهة، فهو اكتسبه من حرام، وحين قدم لك قدمه على أنه هدية، أو على أنه إضافة أو هبة، أو ما أشبه ذلك، وتَغَيُّر الجهة يغير الحكم كما في حديث بريرة: قالوا: يا رسول الله، في اللحم إنه تصدق به على بريرة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يأكل الصدقة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: هو عليها صدقة، ولنا هدية .
لاختلاف الجهة، مع أنه عين المُهْدَى وهو اللحم، فقال جماعة من الصحابة ومن أهل العلم: إنه يأكل والحرام على صاحبه، على من قدمه، وأما هذا فقدمه على أنه هدية، فلا بأس بذلك.
وقال آخرون في هذه المسألة: إنه يأكل منه ما لم يعلم أن هذا المال بعينه حرام، يعني: أن عين ما قَدَّم حرام، فإذا علم أن عين ما قدم حرام فلا يجوز له أكل هذا المعين، ويجوز أكل ما سواه، واستدلوا على ذلك بأن اليهود كانوا يقدمون الطعام للنبي -عليه الصلاة والسلام-، وكانوا يأكلون الربا، وكان -عليه الصلاة والسلام- ربما أكل من طعامهم.
فيه تفاصيل، المقصود من هذا -كمثال- لاختلاف العلماء في تنازعٍ في هذه المسألة، هل تدخل في هذا الحديث أم لا؟ وجملتهم على دخوله من جهة الورع، وليس على دخوله من جهة أنه من أكل فقد أكل حراما، مع أن عددا من المحققين رَجَّحوا قول ابن مسعود، وهو ترجيح ظاهر من حيث الدليل، كابن عبد البر في "التمهيد" وكغيره من أهل العلم في تفاصيل يطول الكلام عليها.
قال -عليه الصلاة والسلام-: ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب .
فهذا فيه أن صلاح القلب -الذي هو معدن الإيمان- به يكون التورع، به يكون التوقف عن الشبهات، به يكون الإقدام على المحرمات، هذا راجع إلى القلب، والقلب إذا صلح، صلح الجسد كله في تصرفاته، وإذا فسد فسد، الجسد كله.
تعليق هذا بالقلب، قال: ألا وإن في الجسد مضغة والقلب -من حيث إدراك المعلومات- هو الذي يدرك، فعند المحققين من أهل العلم، والذي تدل عليه نصوص الكتاب والسنة أن هذا معلق بالقلب، يعني: حصول الإدراكات، وحصول العلوم، والصلاح والفساد والنيات. .إلى آخره، هذا معلق بالقلب.
إذا كان كذلك، فما وظيفة الدماغ أو المخ ؟
وظيفته الإمداد، هذا على قول المحققين من أهل العلم، فاختلفوا في العقل؛ هل هو في القلب أم في الرأس؟ والصحيح أنه في القلب، والعقل ليس جرما؛ وإنما المقصود به إدراك المعقولات، والدماغ وما في الرأس هذه وسيلة تمد القلب بالإدراكات.
القلب هل يدرك من جهة كونه مضغة ؟
لا، يدرك من جهة كونه بيت الروح، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد. . سبق في الكلام على حديث النعمان بن بشير في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ونزيد المسألة بيانا بأن قوله -عليه الصلاة والسلام-: من وقع في الشبهات وقع في الحرام أنه لشدة مقاربته للحرام، فإنه صُوِّرَ كأنه واقع فيه، فإن الذي يقع في الشبهات يؤدي به ذلك إلى مواقعة الحرام، كما مَثَّلَ له -عليه الصلاة والسلام- بقوله: كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه .
والقول الثاني: أن الوقوع في الحرام، أنه لاشتباه الأمر عليه، وعدم دخوله فيه بحجة أنه ربما وقع في الحرام، يعني: في أن هذا الأمر حكمه الحرمة، فوقع فيه من غير علم، وكان وقوعه فيه نتيجة لعدم استبرائه وبعده عن المشتبهات.
وهذان توجيهان وَجَّه بهما جماعة من الشُّرَّاح، وقد ذكرت لكم -أيضا- بالأمس توجيهان لأهل العلم تدخل في هذين.
الرابط