الحَمدُ لله والصَّلاَةُ والسَّلاَمُ عَلى رَسُول الله وعَلَى آله وصَحبه ومن اتَّبعَ هُدَاه ، أمَّا بعـــدُ؛
فإنَّ المُسلمَ العاقلَ المُخلصَ لدِينه ووَطَنه وشَعبه ، لَيَتقَطَّعُ قَلبُهُ حَسرَةً وهُوَ يَعِيشُ فِي وَاقعٍ أليمٍ يعِيثُ فِيه فساداً كُلُّ شَيطَانٍ رَجِيمٍ، من شَياطِين الجنِّ والإنسِ، فَيَرَى المُسلِمُ إخوانَهُ الغَافِلِين كَيفَ يَلهَثُونَ وَراءَ كلِّ خَوّاَنٍ أثِيمٍ، مُستَجِيبِين لنَزَغَاتِ الشَّياطِين ، يَطلُبُونَ بنِعَمَ الله نِقَماً ، وبأمنَهِم فِي الأوطَانِ خَوفاً ونَدماً، و بوَحدَةَ المُسلِمِينَ تَفرِيقاً وتَشَرذُماً ، فلاَ قَبائلِهِم نَصَرُوا ولا الأعدَاء كَسَرُوا !
اليَومَ أتَحدَّثُ عَن تلكَ الآفَة التِي شَغَلت مُجتَمَعنَا، وقلَّلَت كَثرَتَنَا، وشَتَّتَت شَملَنَا، وشقَّت صَفَّنَا، وأعمَت شِيبَنَا، وأطغَت شَبَابَنا ، وقد قال فيها رَسُولُنَا - ﷺ - : »دعوها فإنها منتنة«، إنَّهَا العَصبيَّةُ القَبَـــليَّة المُنتِنَة النَّتنَة ، التِي كَانَت من أسوَء سمَات الجَاهليَّة ، فَنَراَهَا اليَوم مَاثلَةً بينَ أعيننَا كمَا كَانتَ فِي ذَلكَ المُجتَمَع الذِي لاَ يَحكُمُه شَرعٌ ولا تَجمَعُهُ عَقِيدَة، بعدَ أكثَرَ من ثَلاَثينَ وأربع مئَةٍ وألفِ سَنةٍ من بَعثَةِ الرَّسُول الأمِين الصَّادق المَصدُوق بهَذَا الدِّين العظِيم رَحمةً للعالمِين !
ذَاكَ المُجتَمَعُ الجَاهليُّ الذِي كانت العَصَبيَّةُ فِيه سائدَةً بجَمِيع أشكَالهَا فِي اللونِ والنَّسَبَ الوَطَن واللغَة والقَبليَّة و غَيرهَا ، وكَانَ العَربُ يَومَهَا قَبَائلَ مُتَفرِّقَة لاَ يَجمَعهَا نظَامٌ ولا يَحكُمُهَا إمَام، فكَانَت العَصبيَّةُ وخَاصَّةً منها القبليَّة هيَ أساسَ النِّظَام الإجتمَاعيٍّ ، فعَاشَ النَّاسُ فِي عَصبيَّة عَميَّة ظَلاَميَّة ، لاَ تَعرفُ الفَردَ إلاَّ بنَسبهِ وبجَمَاعَته، فإن أبطَأ به نَسَبُهُ لم يَبلُغ به عِلمُهُ ولا عَمَــلُه !
فكَانَ شعارُهَم الذِي وَضعُوه : »انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا «
قال الحَافظُ بن حَجر -رحمه الله- : « ذَكَرَ الْمُفَضَّلُ الضَّبِّيُّ فِي كِتَابِهِ "الفَـاخِـرِ" أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» جُنــدُبُ بنُ الْعَنـبَـرِ بنِ عَمْرِو بنِ تَمِيمٍ ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ ظَاهَرَهُ وَهُوَ مَا اعْتَادُوهُ مِنْ حَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ ، لَا عَلَى مَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ ﷺ ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ شَاعِرُهُمْ:
إِذَا أَنَا لَمْ أَنْصُرْ أَخِي وَهْوَ ظَالِمٌ *** عَلَى الْقَوْمِ لَمْ أَنْصُرْ أَخِي حِينَ يُظلَم .» إهـ[1]
ويقُول شاعرُهُم الآخَرُ في تَأصيل هَذَا المَعنَى:
لا يَسْألونَ أخاهُمْ حينَ يَنْدُبُهُـمْ *** في النائِباتِ على ما قالَ بُرْهاناً
ويقُـــولُ آخر :
وهلْ أَنَا إِلا من غَزيَّةَ إِنْ غَوَتْ *** غَوَيْتُ، وإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشدِ!
فَترَى فِي مُجتَمَعٍ هَذَا شعَارُهُ، العصبيَّة بأفظَع أشكَالهَا فيُعَامَلُ النَّاسُ حَسَبَ مَنَازلِهِم ودَرجَاتهِم وانتمَاءَاتهِم العرقيَّة التِي لَيسَ لهُم فِيها كَسب، فلاَ مَكَانَ لمَن كان دُونهُم إلا بالمَحسُوبيَّة ، بأن يأتَــيَ بوَسِيطٍ أو شفِيـعٍ .
وتَرَى الفخرَ بالأحساب والطَّعنَ فِي الأنساب مُتفشِّيّاً ، فَيَقُول عمرو بن كُلثُوم مُفاخراً بحَسبه :
وَرثنَا المَجدَ قد عَلمَت مَعدٌّ *** نُـطَاعنُ دُونهُ حَتَّى يبِينَا.
يعنِي : ورثنَا شرفَ آبائنَا وقد عَلمَت ذَلك "معد"، ونَحنُ نُحارب دُون المَسَاس بهذَا الشَّرف الذِي ورثنَاهُ، ومُعلَّقَةُ عمرو بن كُلثُوم التَّغلبيِّ كلها فَخرٌ بالأحسَاب !
وتَرَى فِيهم الحُرُوب الطَّاحنَة التِي تَنشُبُ عَن أتفه الأسباب، حميّة للأنسَاب والأحساب!
وتَرَى أشرَافَهُم لا يُجَالسُون من هُم دُونهُم نَسباً، ولا يُؤاكلُونهُم ولاَ يُزوِّجُونهم نساءَهُم.
بل ولاَ يُخَالطُونهُم فِي عبادَاتهِم وشعَائرهم، ولو كَانُوا عَلى نفس الملَّة.
وتَرَى التَّكبُّرَ والتَّجبُّرَ، واستعبَاد الأحرار والاعتدَاءَ عَلى الضُّعَفَاء ونَهبَ أموالهِم.
وتَرَى انتهَاكَ الحرمَات، والتَّنكُّرَ للآباء والإنتساب لغَيرهِم طَلباً للنَّسب والحسب!
فتَأمَّل أيهَا القارئُ هَذا وانُظر إلَى مُجتَمَعكَ المُعاصر واعلَم يقيناً أنَنِي لَم أحدِّثكَ فيما قرأتَ ، عَن أخبَار هَذِه القَبَائلِ المُنتَشرَة اليومَ في مُختلَفِ بُلدَان المُسلمِين؛
وإنَّما أحدُّثكَ عن تَغلب وبَكر وعبسٍ وذُبيَانَ وتَميمٍ وكِنانَة ، وغَيرهَا من القََائل العَربيَّة التِي سَكَنت جَزِيرَة العَرب قَبل أكثر من أربعَةَ عَشَرَ قَرناً!
إنَّ مظاهرَ العَصبيَّةِ القبليَّة صارت مُستَفحلَةً فِي وَاقعنا المعاصر بينَ قبائلنا فِي مُجتمعَاتنَا المُسلمَة، إلى دَرَجَة التَّقاتُلُ ورفعِ السلاح عَلى المُسلمِين غَيرَ مُبالين بحُرمَة دَم المُسلم ، بل ويُقحمُونَ من لا نَاقَةَ لهُ ولاَ جَمَل فِي صراعهِم ، ومَا ذَنبه إلاَّ أنهُ ينتمِي إلى القبيلَة الفُلانيَّة، فيغِيرُون علَيه ظُلماً وعُدواناً تأجيجاً للفتنَة وإذكاءاً لنارهَا !
فمنَ العَجِيب أن تتأصَّل فينَا هَذه الحميَّةُ الجاهليَّة، وتستحكمَ قُلُوبنا وتُسيطرَ عَلى شِيبنَا وشَبابنَا، وقد أنعَمَ الله عَلَينَا بالإسلاَم، ويُرفَع فِينَا كلُّ يومٍ الآذَانُ ، ونَحنُ تفخَرُ فيِ كلِّ حِين بالإنتساب للعَرَب، قومِ رَسُول الله خَاتم الأنبيَاء سيدنَا مُحمّد ﷺ!
فافتَخَرنَا بنَسَبه ، مع عِلمِنَا ألاَّ عزَّ لَنَا إلاَّ باتِّبَاع سُنَّته واقتفاء أثَره!
وحين ننظُرُ في تَارِيخِ تلكَ الأقوامِ الجَاهليَّة البائدَة فإذَا بنا نجدُ التَّشابه بل التَطَابُقَ أحياناً في الأخلاَق والمَبادِئ ، فيَخجَلُ الواحدُ منّا والله من نفسه ويُسرع إلى إنذَار بنِي جنسه ، فكفَى في التَّنفير من هذه العصبيَّة نسبتهَا إلى الجاهليَّة، وقد قال الحَبيب ﷺ فِي حَجَّة الوَدَاع :( ألا إن كُلَّ شَيءٍ من أمرِ الجَاهليَّة تحت قدَمي مَوضُوع)![2]
فَكَيفَ نَرجعُ إلى تلكَ الحمأة المُنتنَة التِي أنقد الله أسلافَنَا مِنهَا، وهَذَا كتابُ الله وهَذِهِ سُنَّةُ رسوله ﷺ بينَ أيدِينَا تُحَذِّرُنَا من الانتكَاسة إلى تلك الأخلاق القبيحَة !؟
فمَا بال قَومي لا يَعلَمُون ولا يفهَمُون ، مَا بالُ هَذه القَبَائل العربيَّة -وغَيرِ العربيَّة- المُسلمَة بشِيبهَا وشَبَابهَا ، إذَا نَادَى فيهَا مُنادِي القبليَّة :"يــالبني فُلان!"، اشتَعَلت قُلُوبهُم حميَّة وطَارُوا إلى الشَّر والفتنَة زُرافات ووُحداناً عَصبيَّةً بغَير رَويَّة ، فلا يطلُبُون إلاَّ نَصرَ إخوانهم وأبناء عُمُومتهم ومن انتَسَب إلى قبيلتهِم، بحقِّ أو بباطلٍ، بحَرامٍ أو بحَلاَل، لا يرُومُون إحقاقَ حقٍّ ولا إقامَة عَدلٍ !
وقد قال الصَّادقُ المَصدُوق ﷺ : «أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالْاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ» [3]
فســـبحَانَ الذِي أوحَى إليه!
واعلَم أخِي القارئ أنَّ الإسلاَمَ كَانَ لهُ مَوقفٌ حاسمٌ حازم صَارم، من هَذه الآفة الفتَّاكَة التِي تُفتِّتُ الشُّعُوب، وتُبعثِرُ الجُهُود، وتُفسدُ القُلُوب، وَصفَهَا رسول الله ﷺ بالمُنتنَة ، فَهَدَمَ أصلَهَا : وقال ﷺ يوم فَتح مَكَّة : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ » [4]
وكان مَوقفُه من مظاهرهَا واضحاً صريحاً:
فعن العَدَاوة العرقيّة : قال سبحانه: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]
وعن القتال للعصبيَّة : قَالَ - ﷺ -: «مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُـمِّيَّةٍ، يَدْعُو إِلَى عَصَبِيَّةٍ، أَوْ يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ، فَقِتْلَتُهُ جَاهِلِيَّــةٌ» [5]
وعَن المَحسُوبيَّة والشَّفَاعَة بالباطلِ : قال ﷺ : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا.» [6]
وعَن التَّفاخُر والطَّعن في الأنساب : قال ﷺ : «أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالْاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ».
وعن التَّفاضُل بالأصُول والألوان والألسُن: قال ﷺ : «يا أيهَا الناسُ! إن ربَّكُم واحدٌ وإنَّ أباكُم وَاحدٌ، ألا لاَ فضلَ لعَرَبي عَلَى عَجَميٍّ، ولَا عَجَميٍّ عَلَى عَربي، ولَا أحمَرَ علَى أسود، ولَا أسودَ على أحمرَ؛ إلا بالتقوى.» [7]
وعَن التَكبُّر واحتقار المسلمِين : قال ﷺ: «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ». [8]
بل إنَّ هَذِه العَصَبيَّة للأنسَاب لهَا أصلٌ أقدَمُ بكثيرٍ من الجاهليَّة، فأصلُهَا فِي الحُجَّة الإبليسيَّة : {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الْأَعْرَافِ: 12]
قال شَيخُ الإسلاَم ابن تَيميَّة –رحمهُ الله- مبيِّناً بطلان هَذه الحُجَّة : «وَيَظْهَرُ فَسَادُهَا بِالْعَقْلِ مِنْ وُجُوهٍ خَمْسَةٍ: ... " الثَّانِي " : أَنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ النَّارُ خَيْرًا مِنَ الطِّينِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ مِن الْأَفضَلِ أَفضَلَ فَإِنَّ الْفَرعَ قَد يُخـتَصُّ بِمَا لَا يَكُونُ فِي أَصـلِهِ، وَهَذَا التُّرَابُ يُخْلَقُ مِنْهُ مِن الْحَيَوَانِ وَالْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَالِاحتجَاجُ عَلَى فَضلِ الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ، بِفَضْلِ أَصْلِهِ عَلَى أَصلِهِ، حَجَّةٌ فَاسِدَةٌ احْتَجَّ بِهَا إبْلِيسُ وَهِيَ حُجَّةُ الَّذِينَ يَفْخَرُونَ بِأَنْسَابِهِمْ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :{مَنْ قَصَّـرَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يَبْلُــغْ بِهِ نَسَبُهُ}» إهــ [9]
فإبلِيـــسُ أوَّلُ من فَاخَرَ بنَسَبه !!
ولمَ يَكتَفِ الاسلاَمُ بالنَّهي اللفظيِّ النَّظريِّ المُطلقِ عَن هَذِهِ العصبيَّة القَبليَّة الجَاهليَّة، بل قَد رَبَّى النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم النَّاس عَلى نَبذهَا فِي مَوَاقفَ عَمليَّـة ، والأمثلَةُ على ذَلك كَثيرة، ففِي أعظَمِ حَدَثٍ تَاريخيٍّ تَعرفُهُ الأمَّة المُسلمَةُ وهُو فَتحُ مَكَّة ، يأمُرُ النَّبيُّ بلالاً - الحَبشيَّ الأسوَدَ !- رضيَ اللهُ عَنهُ، ويُقدِّمُهُ على أصحَابه جَميعاً ليصعَدَ فوقَ الكَعبَة ، ويحُوزَ شَرَفَ أوَّل مُؤذِّنٍ فِي الحَرَم المكيٍّ فِي تَاريخ الإسلاَم؛ في مَوقفٍ مَا كَانَ يتَصوَّرُهُ جُلُّ من شَهدَهُ بل رُبَّما كُلُّهُم، قَبلَ سَنوَات قليلَة من هَذَا الحَدث!
بل إنَّكَ تُدركُ عَظَمَة ذَكَ الحَدَث، الذِي حَصَلَ قبل أربعَةَ عَشَرَ قَرنَا، حِين تَرجعُ في الزَّمَن قليلاً فقط، عُقُوداً قلِيلَةً قبل الآن وقُرُونا طَويلَةً بعد ذَاك الحَدَث، لتَجدَ أكثَرَ المُجتَمَعَات تحضُّراً في هَذَا العصر –المُجتمع الامريكي!- يتساءل بساسته وعلمائه وعوَامِّه ، هل السُّود بشرٌ اصلاً؟!
ولم يَعتَرفُوا بآدميَّتهم إلا قبل عُقُود!
واعلَم أنَّ الإسلاَمَ لم يبدأ مُعَالجَةَ العصبيَّة القَبليَّة وغَيرهَا من آفات الجاهليَّة، المُتغلغلَة في تلك المُجتَمَعات، بالنَّهي المُباشر الزَّاجر، ولا بالمواقف العمليَّة، بل بدأ أوَّلاً بتَصحِيحِ العقِيدَة في الله، وبتَوضِيحِ مَفاهِيم الإيمَان، و تَرسيخِ مبادِئ التَّوحِيد الفطريَّة والتحريضِ عَليها ، والإنذَار ممّا يُضَادُّها من شرك، تأصيلاً لمَعنَى "لاَ إلَه إلاَّ الله" في القُلُوب بمَعنَاهَا الصَّحِيح الشَّامل الذِي يَنهَى عن صَرفِ العبَادَة (من دُعَاءٍ وذَبح ونَذر ودعَاء وحلف وغَيرهَا) لغَير الله جَلَّ وعلا، فلا معبُودَ حقٌّ إلا هُو.
فلم يَجعَل "لا إلَهَ إلاَّ الله" مُـجـرَّدَ شعَار لفظيٍّ بَـرَّاق يُكتَبُ عَلَى الأعلاَم، ويُنَادَى به فِي الأذَان، ويُهتَفُ به إذَا ما التقى الجَيشَان، فَسرعَان مَا تَطوِيه الحميَّة للأقارب والعَشَائر ، حُبّاً لمَصَالحهِم وتَعصُّباً لأهوائهم!
بل قد عَلَّمَ النَّبيُّ ذَاك الجِيلَ الأولَ معنَى هَذَا التَّوحِيد وشُرُوطهُ ولوازمَهُ ونواقضَه، لأنَّهُ الغَايَةُ التِي لأجلهَا خُلق أبوهُم آدم واستُخلفَ فِي الأرضِ، واستُخلفُوا هم من بعدِه.
فلَمَّا تأصَّل هَذَا الأصلُ العَظِيمُ فِي النُّفُوس اندَثَرت معه العصبيَّة القبليَّة وجمِيعُ أدواء الجاهليّة ، وسهُلُ بنَاءُ كل الأخلاق الحميدَة عليه، فصارت الأخوَّة الحقيقيَّة فيه (إنَّما المُؤمنُون إخوَة ) فـ(كلُّكُم لآدم وآدمُ من تراب)[10] ، والتَفاضُلُ بينهُم يُبنَى عَليه (ِإنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )، وأصبَحت تلكَ النّسبيَّة القبليَّة مؤسَّسَة اجتمَاعيَّة ، شأنها شأن الأسرَة ، تُنشِئُ وتُنَمِّي فِي أبنَائهَا الشُّعُور بالمسؤُوليَّة نَحوَ السَّعي إلى الإصلاَح والدَّعوَة إلى التَّوحِيد والتَّعاوُن عَلى الخَير ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 2].، الذِي ينطلقُ من الفردِ مَعَ نَفسه (إنَّ الله لاَ يغيِّرُ مَا بقَومٍ حَتَّى يغيِّرُوا مَا بأنفسهِم) [الرعد:11] مُرُوراً بالأسرَة إلى القبيلَة ليشمَلَ الأمَّة الإسلاَميَّة جَمعاءَ، فَتَصيرُ القبليَّة نعمَةً تُسهِّلُ مراحل إصلاحِِ وتأطِيرِ أمَّة ضخمَة كأمَّتنا –أعزَّها الله-.
فَليسَ فِي القبليَّة ما يُذَمُّ ، بل هي تَقديرٌ كونيٌّ من الله، قال جلَّ وعلا: ﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].
فقد جَعَلَكُم الله قبائلَ لتَعَارَفُوا، لا لتَباغَضُوا ولا لتَحَاسَدُو ولا لتقاتَلُوا ولا ليَفخَرَ بعضُكُم عَلَى بعضٍ!
وقال ﷺ : «تعلَّمُوا مِن أنسَابكُم مَا تَصلُونَ بِه أرحَامكم »[11]
بل الذِي يُـذَمُّ هُو جَعلُهَا أساساً للأخوَّة والتَّفاضُـل!
كَما يُذَمُّ التَّنكُّرُ للقَبيلَة، و جَحدُهَا والانتسابُ زُوراً إلى غَيرهَا، مَخَافَة المَهَانَة المُتوَهَّمة عندَ بعضِ ضِعاف النُّفُوس، أو نِسبةُ الرَّجُل إلى قَوم أمِّه إن كانت أعجَميّة أومن غَير القبِيلَة ، واعتقَادُ نُقصانِ نَسبه بذَلك، قال تَعَالَى : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ) [الْأَحْزَابِ: 5]
قَالَ الإمامُ مَالِكٌ –رحمه الله- فِي «الْمُدَوَّنَةِ»: «مَنْ قَالَ لِعَرَبِيٍّ: يَا حَبَشِيُّ، أَوْ يَا فَارِسِيُّ، أَوْ يَا رُومِيُّ، فَعَلَيْهِ الْحَـدُّ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُنْسَبُ إِلَى آبَائِهَا، وَهَذَا نَفْيٌ لَهَا عَنْ آبَائِهَا.» [12]
قال العلاَّمةُ محمد الأمين الجَكنيُّ الشنقيطي –رحمه الله-: «وَنَحْنُ حِينَ نُصَرِّحُ بِمَنْعِ النِّدَاءِ بِالرَّوَابِطِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْأَوَاصِرِ النِّسْبِيَّةِ، وَنُقِيمُ الْأَدِلَّةَ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ، لَا نُنْكِرُ أَنَّ الْمُسْلِمَ رُبَّمَا انْتَفَعَ بِرَوَابِطَ نِسْبِيَّةٍ لَا تَمُتُّ إِلَى الْإِسْلَامِ بِصِلَةٍ، كَمَا نَفَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَنَّ عَطْفَ ذَلِكَ الْعَمِّ الْكَافِرِ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مِنَنِ اللَّهِ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ﴾ أَيْ آوَاكَ بِأَنْ ضَمَّكَ إِلَى عَمِّكَ أَبِي طَالِبٍ.
وَمِنْ آثَارِ هَذِهِ الْعَصَبِيَّةِ النِّسْبِيَّةِ - النافعة - قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ *** حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينًا»[13] |
فبعدَ تأصِيلِ العَقيدَة الصَّحِيحَة فِي النُّفُوس، ومَعرفَتهَا لحقِّ ربِّهَا عَلَيهَا ، وتَحدِيد الوَظِيفَة الصَّحِيحة للأنسابِ والقَبليَّة والغَايَةِ التِي أراد اللهُ منهَا، يرفَعُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم الشِّعَارَ ذاته الذِي اعتَمَدهُ أهلُ العَصبيَّة بالأمس في جَاهليَّتهم، بلفظِهِ فيقُول للمسلمِين : «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا».
فَقَالَ رَجُلٌ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟!)
قَالَ: «تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ». [14]
فهَذَا هُوَ فهمُ القُلُوب المُفعَمَة بالتَّوحِيد ، لعبارَةٍ كَانتَ القُلُوب السَّودَاءُ بظُلُمَات الشِّركِ فِي الجاهليَّة تأخُذُ بهَا عَلى ظَاهرهَا وتُؤصِّلُ بهَا للحميَّة وتدافعُ بهَا عن الظُّلم والعصبيَّة.
وأخيراً إن كُنتَ ذَا حَسَبٍ، فتمثَّل قول الشّاعر :
لَسنَا وَإنْ أَحسَابُنَا كَرُمَت * * * يَوماً عَلَى الأحسَابِ نَتَّـكِلُ
نَـبني كَما كَانت أَوائلُنا * * * تبنِي وَنَفعَل مثــل مَا فَعَلُوا
وإن كُنتَ غَيرَ ذَلك ، فتَمَثَّل قول القائل :
أبِي الإسلاَمُ لا أب لِي سوَاهُ *** إذَا افتَحَرُوا بقيسٍ أو تَمِيمِ.
والحَمدُ لله ربِّ العَالمِيـــن.
وكَتَبهُ : إبــراهِيم بن الطَّيــب دَاود –غفَر الله له-
الهَـــــــــوامــــش :
[1]: فتح الباري شرح صحيح البخَاري (98/5).
[2]: رواه أبو داود في سننه وصححه الالباني.
[3]: رواه مسلم في صحيحه (934)
[4]: رواه الترمذي في سننه وصححه الألباني.
[5]: رواه مسلم في صحيحه 1848
[6]: رواه ابن ماجة في سننه ، وصححه الألباني.
[7]: أخرجه أبو نعيم في " الحلية " (3 / 100)، وصححه الألباني.
[8]: رواه مسلم في صحيحه (2564)
[9]: مجموع الفتاوى (15/6)
[10]: رواه مسلم في صحيحه
[11]: رواه أحمد (3/ 6 ) والترمذى (1979)، وصححه الألبانى فى صحيح الجامع الصغير برقم (2965).
[12]: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (453/5)
[13]: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/ 524)
[14]: رواه البخاري في صحيحه (6952)