بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة الثامنة
قال الشيخ محمد بن عمر بازمول حفظه الله تعالى :
قولهم : متساهل في التصحيح :
فهذا أمر نسبي يختلف بحسب الناس ، فمن كان متشددا يرى غيره متساهلا ، ومن كان متساهلا يرى غيره متشددا ، و المرجع في معرفة الحقيقة إلى الاستقراء و السبر للحال ، ومقارنته بغيره .
و جملة المسائل التي ينسب فيها الألباني إلى التسهل هي التالية :
1. تحسين الحديث الضعيف بتعدد الطرق .
2. قبول خبر الراوي مجهول الحال ، و اعتماده توثيق ابن حبان رحمه الله .
3. تعديله لبعض الرواة الضعفاء .
و سأعرض هذه المسائل مبينا الصواب فيها – إن شاء الله تعالى – ثم أذكر موقف الألباني ، مقارنا مع كلام أهل العلم لتقف على الحق الحقيق بالقبول ، إن شاء الله تعالى .
المسألة الأولى : تحسين الحديث الضعيف بتعدد الطرق .
الكلام فيها من خلال النقاط التالية :
- الحديث الضعيف الذي اشتد ضعفه لا يترقى إلى درجة الحسن لغيره بتعدد الطرق .
- شروط ترقي الحديث الضعيف إلى مرتبة الحسن .
- الحديث الحسن لغيره محلا للاجتهاد.
- تعدد طرق الحديث يفيد في بيان مرتبة الحديث قبولا و رداً .
- لكل حديث نظر خاص .
و إليك البيان :
الحديث الضعيف الذي اشتد ضعفه لا يترقى إلى درجة الحسن لغيره بتعدد الطرق .
كل أنواع الحديث الضعيف تقبل الاعتبار و الانجبار ، و تترقى بتعدد الطرق ، إلا الحديث الذي في سنده راوٍ كذّاب وضّاع ، و حديث المتهم بالكذب ، و حديث الراوي الذي في مرتبة الترك ( كمن ساء حفظه جدا ) و الحديث الشاذ ، و الحديث المنكر .
قال ابن الصلاح -رحمه الله - في تعريفه للقسم الأول من الحديث الحسن ، وهو الحسن لغيره قال رحمه الله : ((الحديث الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور الحال لم تتحقق أهليته ، غير أنه ليس مغفلا كثير الخطأ فيما يرويه ، و لا هو متهم بالكذب في الحديث ، أي لم يظهر منه تعمد الكذب في الحديث ، و لا سبب آخر مفسق ، و يكون متن الحديث مع ذلك قد عُرف بأنه روي مثله أو نحوه من وجه آخر أو أكثر حتى اعتضد بمتابعة من تابع راويه على مثله ، أو بما له من شاهد ، وهو ورود حديث آخر بنحوه ، فيخرج بذلك من أن يكون شاذا أو منكرا ، وكلام الترمذي على هذا القسم يتنزل )) اهـ.
قلت : يعني كلام الترمذي في بيان مراده من الحسن عنده : (( ألا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ، و لا يكون شاذا ، و يروى من غير وجه )) اهـ .
و قد دل هذا الكلام على إخراج الأنواع التالية ، عن قبولها للترقي بتعدد الطرق وهي :
- الحديث الذي فيه راوٍ كذاب .
- الحديث الذي في إسناده راوٍ متهم بالكذب .
- الحديث الذي فيه راوٍ مغفل كثير الخطأ ، و في حكمه سيء الحفظ جداً .
- الحديث الشاذ .
- الحديث المنكر .
و هذه الأنواع هي التي استثنيتها في صدر القاعدة عن قبول الترقي بتعدد الطرق .
قال ابن الصلاح رحمه الله : (( ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه ، بل ذلك يتفاوت ، فمنه ضعف يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئا من حفظ راويه ، مع كونه من أهل الصدق و الديانة ، فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر عرفنا أنه مما قد حفظه ، و لم يختل فيه ضبطه له ، و كذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك ، كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ ؛ إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر .
و من ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف ، و تقاعد هذا الجابر عن جبره ، و مقاومته ، و ذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهما بالكذب أو كون الحديث شاذا .
و هذه جملة تفاصيلها تدرك بالمباشرة و البحث ، فاعلم ذلك فإنه من النفائس )) اهـ .
شروط ترقي الحديث الضعيف إلى مرتبة الحسن لغيره :
و الكلام السابق عن الترمذي و ابن الصلاح – رحمهما الله – يفيد أن تعدد طرق الحديث الضعيف لا يرقيه إلى مرتبة الحسن لغيره إلا بشرطين :
الأول : ألا يشتد ضعف الطرق .
الثاني : أن يكون تعدد الطرق تعددا حقيقيا بحيث لا يغلب على الظن أن هذه الطرق هي في الحقيقة طريق واحد ، تصرف فيه الرواة ، و هذا معنى قولهم : (( يروى من غير وجه )) أو (( اختلف مخرج الحديث )) .
الحديث الحسن لغيره محل للاجتهاد :
و لمّا كان الحديث الحسن لغيره ، مما يتفاوت الناس في إدراكه حيث ِأن تفاصيله تدرك بالمباشرة و البحث ، و الناس يتفاوتون في ذلك قال الإمام الذهبي رحمة الله عليه : لا تطمع بأن للحسن قاعدة تندرج كل الأحاديث الحسان فيها ، فأنا على إياس من ذلك فكم من حديث تردد الحافظ الواحد هل هو حسن أو ضعيف أو صحيح ، بل الحافظ الواحد يتغير اجتهاده في الحديث الواحد ، فيوم يصفه بالصحة و يوم يصفه بالحسن و لربما استضعفه . و هذا حق فإن الحديث الحسن يستضعفه الحافظ عن أن يرقيه إلى رتبة الصحيح ، فبهذا الاعتبار فيه ضعف ما ، إذ الحسن لا ينفك عن ضعف ما ، و لو انفك عن ذلك لصح باتفاق )) اهـ .
و قال ابن كثير رحمه الله – عن الحديث الحسن : (( و هذا النوع لمّا كان وسطا بين الصحيح و الضعيف في نظر الناظر ، لا في نفس الأمر ، عسُر التعبير عنه و ضبطه على كثير من أهل هذه الصناعة ، وذلك بأنه أمر نسبي ، شيء ينقدح عند الحافظ ربما تقصر عبارته عنه )) اهـ .
تعدد طرق الحديث يفيد في بيان مرتبة الحديث قبولا و ردا :
قد يكون الحديث ضعيفا فتتعدد طرقه فيرتقي إلى درجة الحسن لغيره لتوفر شروط ترقي الحديث فيه ، و قد تتعدد طرق الحديث الذي ظاهره الصحة فيكشف هذا التعدد علة في الحديث لم تكن ظاهرة .
قال ابن تيمية –رحمة الله عليه : (( و المقصود هنا أن تعدد الطرق مع عدم التشاور او الاتفاق في العادة ، يوجب العلم بمضمون المنقول ، لكن هذا ينتفع به كثيرا من علم أحوال الناقلين و في مثل هذا ينتفع برواية المجهول ، و السيء الحفظ ، و بالحديث المرسل و نحو ذلك ، و لهذا كان أهل العلم يكتبون مثل هذه الأحاديث ، و يقولون إنه يصلح للشواهد والاعتبار ما لا يصلح لغيره .
كما أنهم يستشهدون و يعتبرون بحديث الذي فيه سوء حفظ ، فإنهم أيضا يضعفون من حديث الثقة الصدوق الضابط أشياء تبين لهم غلطه فيها ، بأمور يستدلون بها – و يسمون هذا علم علل الحديث ، و هو من أشرف علومهم – بحيث يكون الحديث قد رواه ثقة ضابط ، و غلط فيه ، و غلطه فيه عرف إما بسبب ظاهر ، ( و إما بسبب غير ظاهر ) )) اهـ .
و قال ابن حجر –رحمه الله - : (( المقبول ما اتصل سنده و عدلت رجاله ، أو اعتضد بعض طرقه ببعض حتى تحصل القوة بالصورة المجموعة ، و لو كان كل طريق منها لو انفردت لم تكن القوة فيها مشروعة .
و بهذا يظهر عذر أهل الحديث من تكثيرهم طرق الحديث الواحد ؛ ليعتمد عليه ؛ إذ الإعراض عن ذلك يستلزم ترك الفقيه العمل بكثير من الأحاديث اعتمادا على ضعف الطريق التي اتصلت إليه )) اهـ .
لكل حديث نظر خاص :
و أهل الحديث مع هذا جميعه يصرحون بأن لكل حديث نظر خاص من المحدث ، خاصة في باب زيادات الثقات .
قال ابن تيمية – رحمه الله – (( لكل حديث ذوق . و يختص بنظر ليس للآخر )) اهـ.
قال ابن رجب رحمه الله في معرض كلام له على التفرد و التعليل به : (( و أما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا انفرد به واحد ، و إن لم يروا الثقات خلافه : إنه لا يتابع عليه ن و يجعلون ذلك علة فيه ، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه و اشتهرت عدالته و حديثه ، كالزهري و نحوه ، و ربما يستنكرون تفردات الثقات الكبار أيضا ، و لهم في كل حديث نقض خاص ، و ليس عندهم لذلك ضابط يضبطه )) اهـ
وقال ابن عبد الهادي رحمه الله في كلام حول زيادات الثقات : (( بل كل زيادة لها حكم يخصها ، ففي موضع يجزم بصحتها .... و في موضع يغلب على الظن صحتها .... و في موضع يجزم بخطأ الزيادة .... و في موضع يغلب على الظن خطؤها .... و في موضع يتوقف في الزيادة )) اهـ .
وبعد : فأنت إذا تقرر لديك هذا البيان لمسألة تحسين الحديث الضعيف الذي لم يشتد ضعفه بتعدد الطرق ؛ فاعلم أن الألباني رحمه الله لم يخرج عن سنن القوم ، بل كان مطبقا لقواعدهم ، مراعيا لنهجهم ، سالكا فيه سبيلهم .
و أنت إذا لا حظت أن المرجع في هذه القضية إلى البحث و طول الممارسة و الدربة في تخريج الحديث ؛ فإنك تسلم – إن شاء الله تعالى – للألباني في حكمه في تحسين الحديث الضعيف الذي لم يشتد ضعفه بتعدد الطرق ، إذ أمضى رحمه الله قرابة نصف قرن مشتغلا بالحديث تخريجا و دراسة و دعوة و تصنيفا ، مما يجعل كفته ترجح في هذا الجانب على غيره ممن يعترض عليه ، و لمّا يبلي بلاءه في ذلك !
و أزيد إيضاحا مسألة تقوي الحديث بتعدد الطرق ، فأقول :
تعدد طرق الحديث الضعيف الذي لا يخرج عن أن يقال فيه أحد الأقوال التالية :
إنه لا يفيد في قوة الحديث شيئا ، بل كل طريق للحديث يعل الطريق الآخر .
و على هذا لا يكون هناك حديث حسن لغيره أصلا ، وهذا كاف في طرح النظر في تأمل هذا القول !
القول الثاني : إنه يقوي الحديث الضعيف سواء كان شديد الضعف ، أم يسير الضعف ، ما دام يغلب مع تعدد هذه الطرق عدم وجود تواطؤ بين رجال هذه الطرق على رواية الحديث ، و لم يكن المتن منكرا ، و أن يكون المتن قصة طويلة تتكرر مع ذلك في كل مخرج .
قال في الهامش (( و لا شك أن هذا يشعر أن للحديث أصلا ، ومن أجل هذا كان السيوطي رحمه الله يعترض على ابن الجوزي رحمه الله في كتابه :[الموضوعات] في بعض الأحاديث بأن لها طرقا كثيرة ، كما تراه في كتابه : [ اللآليء المصنوعة ] ثم إذا نظرت فيها وجدتها في مرتبة الضعيف الذي لا يقبل الانجبار ، ومراده بهذا : أن كثرة الطرق مع تعدد المخرج ، مع استبعاد حصول التواطؤ ، مع تكرار لفظ الحديث أو بنحوه ، يشعر بأن للحديث أصلا يمتنع معه الحكم بالوضع .
نعم يبقى النظر هل هو ضعيف فقط ، أو يترقى إلى الحسن لغيره !
وهذه المسألة تحتاج إلى بحث خاص يفرد لها ، من أجل تحريرها ، وماذكرته هنا مجرد عرض للقضية ، لتعلقها بما البحث بصدده . ثم رأيت الحافظ السلفي يشير إلى صحة حديث : (( من حفظ على أمتي أربعين ....)) و تعليق الحافظ المنذري عليه بقوله : (( لعل السلفي كان يرى أن مطلق الأحاديث الضعيفة إذا انضم بعضها إلى بعض أخذت قوة )) . فتعقبه الحافظ ابن حجر في الإمتاع بالأربعين المتباينة السماع ص 90 : (( لكن تلك القوة لا تخرج هذا الحديث عن مرتبة الضعف . فالضعيف يتفاوت فإذا كثرت طرق حديث رجح على حديث فرد ، فيكون الضعف الذي ضعفه ناشئ عن سوء حفظ رواته إذا كثرت طرقه ارتقى إلى مرتبة الحسن ،، و الذي ضعفه ناشئ عن تهمة أو جهالة إذا كثرت طرقه ارتقى عن مرتبة المردود المنكر الذي لا يجوز العمل به بحال ، إلى رتبة الضعيف الذي يجوز العمل به في فضائل الأعمال )) وقال : (( وعلى هذا يحمل قول النووي في خطبة الأربعين له : و قد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال وقال ( أي النووي ) بعد أن ذكر هذا الحديث : اتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف إن كثرت طرقه )) اهـ . قلت : فكلامه صحيح في أن تعدد طرق الحديث الضعيف تقويه مطلقا سواء كان الضعف في درجة الاعتبار أم لا . كما أفاد أن التقوية الناشئة من تعدد طرق الحديث الضعيف الذي ليس في مرتبة الاعتبار يرقيه من مرتبة المردود المنكر الذي لا يجوز العمل به بحال ، إلى درجة الضعف الذي في درجة الاعتبار ترقيه إلى درجة الحسن لغيره .
تنبيهان :
الأول : جواز العمل بالحديث الضعيف ، مشروط بشروط ذكرها الحافظ نفسه في رسالته تبيين العجب ، انظر كتاب التخريج و دراسة الأسانيد (ضمن الإضافة) ص 383-384 .
الثاني : قول ابن حجر رحمه الله : (( و الذي ضعفه ناشئ تهمة أو جهالة .....)) مراده أن الطرق الذي جاء من طريق راوٍ مجهول ، ثم جاء من طريق رواة متهمين أو دونهم لا تترقى بذلك لدرجة الحسن لغيره ، أو أن رواية المجهول التي جاءت عن طريق متهمين لا تعد في مرتبة الاعتبار ، و ليس مراده أن رواية المجهول لا تقبل الاعتبار مطلقا فتنبه . انظر تحرير المنقول في الراوي المجهول (ضمن الإضافة) ص 129-138 ، و مناهج المحدثين في تقوية الأحاديث الحسنة و الضعيفة ص 92-93 ، 305-367 .
انتهت الحاشية .
القول الثالث : أنه يتقوى بذلك ، بالشرطين السابقين :
- ألا يشتد ضعف الحديث .
- أن تتعدد طرق الحديث .
و القول الوسط بين تشدد الأول و تساهل الثاني هو القول الثالث .
فهل يقال عن هذا القول الثالث الذي جرى عليه جمهور أهل الحديث ، ومعهم الألباني ، هل يقال عنه تساهل في التحسين ؟!
المسألة الثانية: قبول حديث الراوي مجهول الحال ، واعتماده توثيق ابن حبان رحمه الله .
وهذه من المسائل التي نسب فيها الألباني إلى التساهل دون دليل صحيح عليها ! إذ الواقع أن الألباني رحمه الله ردّ في أكثر من موضع على من يعتمد توثيق ابن حبان رحمه الله للراوي ، ووصف ابن حبان بالتساهل !
لكنه رحمه الله نبه إلى أن الرجل الذي ينفرد ابن حبان بتوثيقه ، و يروي عنه أكثر من ثقة ، ولم يأت بمتن منكر أنه صدوق يحتج به ، ولم يتنبه إلى هذا بعض الفضلاء فنسب الشيخ إلى التناقض .
وقد عقد الألباني في مقدمة كتابه ((تمام المنة)) القاعدة الخامسة و عنوانها : (( عدم الاعتماد على توثيق ابن حبان )) ومما قاله فيها : (( إن المجهول بقسميه لا يقبل حديثه عند جمهور العلماء ، وقد شذ عنهم ابن حبان فقبل حديثه و احتج به و أورده في صحيحه .
ثم نقل الألباني عن الحافظ ابن حجر و ابن عبدالهادي –رحمهما الله – ما يؤكد ذلك ، مع زيادة تحقيق و تدقيق منه رحمه الله – ثم ذكر بعض الأمثلة على من ذكره ابن حبان في الثقات ، و لم يروِ عنه غير راوٍ ضعيف أو مجهول ، ثم نبه إلى أن الجهالة العينية وحدها ليست جرحا عند ابن حبان ، وقال (( وقد ازددت يقينا بذلك بعد أن درست تراجم كتابه [الضعفاء] وقد بلغ عددهم قرابة ألف و أربعمائة راوٍ ، فلم أر فيهم من طعن فيهم بالجهالة إلا أربعة منهم ، لكنه طعن فيهم بروايتهم المناكير ، و ليس بالجهالة ، وهاك أسماءهم وكلامه فيهم ......)) .
ثم قال الألباني : (( والخلاصة أن توثيق ابن حبان يجب أن يتلقى بكثير من التحفظ و الحذر لمخالفته في توثيقه للمجهولين ، لكن ليس ذلك على اطلاقه كما بينه العلامة المعلمي في [التنكيل] (1/437-437) مع تعليقي عليه ، وراجع لهذا البحث ردي على الشيخ الحبشي فإنه كثير الاعتماد على من وثقه ابن حبان في المجهولين ص 18-21.
و إن مما يجب التنبيه عليه أيضا أنه ينبغي أن يضم إلى ما ذكره المعلمي أمر آخر هام ، عرفته بالممارسة لهذا العلم قلة من نبه عليه ، و غفل عنه جماهير الطلاب ، وهو : أن من وافقه ابن حبان ، و قد روى عنه جمع من الثقات ن و لم يأت بما ينكر عليه ، فهو صدوق يحتج به .
و بناء على ذلك قويت بعض الأحاديث التي هي من هذا القبيل، كحديث العجن في الصلاة ، فتوهم بعض الناشئين في هذا العلم أنني ناقضدت نفسي ، و جاريت ابن حبان في شذوذه ، و ضعف هو حديث العجن .......)) .
وقد عاد الألباني إلى التدليل على صحة ما جرى عليه أثناء كتابه ((تمام المنة)) في رده على بعض الفضلاء ، فهذا الذي جرى عليه الألباني ، ليس من التناقض في شيئ ، و الحمد لله ، كما أنه ليس من التساهل ، بل هو أمر جرى عليه جمهور أهل العلم !
عقد ابن أبي حاتم في كتابه الجرح و التعديل ، بابا ترجمته : (( باب في رواية الثقة عن غير المطعون عليه ، أنها تقويه ، وعن المطعون عليه أنها لا تقويه )) ثم قال : (( سألت أبي عن رواية الثقات عن رجل غير ثقة مما يقويه ؟ قال : إذا كان معروفا بالضعف لم تقوهـ روايته عنه ، و إذا كان مجهولا نفعه رواية الثقة عنه )) .
وقال ابن أبي حاتم رحمه الله : (( سألت أبا زرعة عن رواية الثقات عن رجل مما يقوي حديثه ؟ قال : إي لعمري . قلت : الكلبي روى عنه الثوري . قال : إنما ذلك إذا لم يتكلم فيه العلماء ، وكان الكلبي يتكلم فيه .......)).
قال ابن أبي حاتم رحمه الله : (( قلت لأبي : ما معنى رواية الثوري عن الكلبي وهو غير ثقة عنده ؟ قال : كان الثوري يذكر الرواية عن الكلبي على الإنكار و التعجب فتعلقوا روايته عنه و إن لم تكن روايته عن الكلبي قبوله له )) اهـ .
و قال ابن القطان رحمه الله عن سعيد بن محمد بن جبير : (( لا يعرف حاله ، و إن عرف نسبه و بيته ، و روى عنه جمع ، فالحديث لأجله حسن لا صحيح )) اهـ .
قال الذهبي رحمه الله : (( الجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ، و لم يأت بما ينكر عليه أن حديثه صحيح )) اهـ .
وهذه النصوص تفيد أن رواية الثقة عن الرجل الذي لا يعرف بجرح و تعديل مما يقويه ، و محل هذا و لا شك إذا لم يأت بمتن منكر ، فكيف إذا انضاف إلى ذلك توثيق ابن حبان .
فإذا جرى الألباني على هذا يقال عنه متساهل ؟!
المسألة الثالثة : تعديله لبعض الرواة الضعفاء .
فهذه دعوى ؛ إذ لا يستطيعون أن يأتوا براوٍ واحدٍ أجمع على ضعفه ، و جاء الألباني و عدله هكذا !
نعم تجد الألباني يعدل راوٍ اختلف في توثيقه و جرحه ، وهو حينما يرجح التعديل ، إنما يرجحه بالمرجحات المعتبرة عند أهل العلم .
و يطبق القواعد التي جرى عليها العلماء في الجرح و التعديل ، فهو يقدم الجرح على التعديل . ولا يقبل الجرح إلا مفسراً .
و إذا جرح الراوي بجرح و ظهر له أنه ليس بجارح لسبب من الأسباب اعتبر ذلك .
و يقبل الجرح المجمل في حق من لم تثبت عدالته .
و يراعي التفصيل في حال كل راوٍ ، متبعا – جهده و طاقته – كلام أئمة الجرح و التعديل .
خذ على سبيل المثال :-
- إسماعيل بن عياش ، تقرأ في ترجمته جرحا مطلقا ، وتعديلا مطلقا ، و تفصيلا في حاله ، فهو إذا روى عن الشاميين ضابطٌ ، و إ ذا روى عن غيرهم لا يضبط ؛ فالألباني اعتمد التفصيل فيه ، و لم يقبل الجرح المطلق و لا التعديل المطلق .
- عبدالله بن لهيعة ؛ تقرأ في ترجمته جرحا مطلقا ، و تعديلا مطلقا ، و تفصيلا يتبين منه ضبطه لما رواه قبل احتراق كتبه و اصوله ، وضعف ضبطه بعد ذلك ، و الألباني يعتمد هذا التفصيل في حال ابن لهيعة ، فيقبل ممن روى عنه قبل احتراق كتبه ، ولا يقبل ممن روى عنه بعد الاحتراق إلا في الشواهد و المتابعات .
و الأمثلة على هذا كثيرة لست أرى حاجة إلى التطويل بذكرها ، وحاله في ذلك لا ينسب إلى التساهل عند من تفكر ، و أنصف .
يتبع إن شاء الله تعالى
الحلقة التاسعة
من قول المؤلف حفظه الله تعالى
أما قولهم :متناقض في أحكامه على الحديث .
الحلقة الثامنة
قال الشيخ محمد بن عمر بازمول حفظه الله تعالى :
قولهم : متساهل في التصحيح :
فهذا أمر نسبي يختلف بحسب الناس ، فمن كان متشددا يرى غيره متساهلا ، ومن كان متساهلا يرى غيره متشددا ، و المرجع في معرفة الحقيقة إلى الاستقراء و السبر للحال ، ومقارنته بغيره .
و جملة المسائل التي ينسب فيها الألباني إلى التسهل هي التالية :
1. تحسين الحديث الضعيف بتعدد الطرق .
2. قبول خبر الراوي مجهول الحال ، و اعتماده توثيق ابن حبان رحمه الله .
3. تعديله لبعض الرواة الضعفاء .
و سأعرض هذه المسائل مبينا الصواب فيها – إن شاء الله تعالى – ثم أذكر موقف الألباني ، مقارنا مع كلام أهل العلم لتقف على الحق الحقيق بالقبول ، إن شاء الله تعالى .
المسألة الأولى : تحسين الحديث الضعيف بتعدد الطرق .
الكلام فيها من خلال النقاط التالية :
- الحديث الضعيف الذي اشتد ضعفه لا يترقى إلى درجة الحسن لغيره بتعدد الطرق .
- شروط ترقي الحديث الضعيف إلى مرتبة الحسن .
- الحديث الحسن لغيره محلا للاجتهاد.
- تعدد طرق الحديث يفيد في بيان مرتبة الحديث قبولا و رداً .
- لكل حديث نظر خاص .
و إليك البيان :
الحديث الضعيف الذي اشتد ضعفه لا يترقى إلى درجة الحسن لغيره بتعدد الطرق .
كل أنواع الحديث الضعيف تقبل الاعتبار و الانجبار ، و تترقى بتعدد الطرق ، إلا الحديث الذي في سنده راوٍ كذّاب وضّاع ، و حديث المتهم بالكذب ، و حديث الراوي الذي في مرتبة الترك ( كمن ساء حفظه جدا ) و الحديث الشاذ ، و الحديث المنكر .
قال ابن الصلاح -رحمه الله - في تعريفه للقسم الأول من الحديث الحسن ، وهو الحسن لغيره قال رحمه الله : ((الحديث الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور الحال لم تتحقق أهليته ، غير أنه ليس مغفلا كثير الخطأ فيما يرويه ، و لا هو متهم بالكذب في الحديث ، أي لم يظهر منه تعمد الكذب في الحديث ، و لا سبب آخر مفسق ، و يكون متن الحديث مع ذلك قد عُرف بأنه روي مثله أو نحوه من وجه آخر أو أكثر حتى اعتضد بمتابعة من تابع راويه على مثله ، أو بما له من شاهد ، وهو ورود حديث آخر بنحوه ، فيخرج بذلك من أن يكون شاذا أو منكرا ، وكلام الترمذي على هذا القسم يتنزل )) اهـ.
قلت : يعني كلام الترمذي في بيان مراده من الحسن عنده : (( ألا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ، و لا يكون شاذا ، و يروى من غير وجه )) اهـ .
و قد دل هذا الكلام على إخراج الأنواع التالية ، عن قبولها للترقي بتعدد الطرق وهي :
- الحديث الذي فيه راوٍ كذاب .
- الحديث الذي في إسناده راوٍ متهم بالكذب .
- الحديث الذي فيه راوٍ مغفل كثير الخطأ ، و في حكمه سيء الحفظ جداً .
- الحديث الشاذ .
- الحديث المنكر .
و هذه الأنواع هي التي استثنيتها في صدر القاعدة عن قبول الترقي بتعدد الطرق .
قال ابن الصلاح رحمه الله : (( ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه ، بل ذلك يتفاوت ، فمنه ضعف يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئا من حفظ راويه ، مع كونه من أهل الصدق و الديانة ، فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر عرفنا أنه مما قد حفظه ، و لم يختل فيه ضبطه له ، و كذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك ، كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ ؛ إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر .
و من ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف ، و تقاعد هذا الجابر عن جبره ، و مقاومته ، و ذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهما بالكذب أو كون الحديث شاذا .
و هذه جملة تفاصيلها تدرك بالمباشرة و البحث ، فاعلم ذلك فإنه من النفائس )) اهـ .
شروط ترقي الحديث الضعيف إلى مرتبة الحسن لغيره :
و الكلام السابق عن الترمذي و ابن الصلاح – رحمهما الله – يفيد أن تعدد طرق الحديث الضعيف لا يرقيه إلى مرتبة الحسن لغيره إلا بشرطين :
الأول : ألا يشتد ضعف الطرق .
الثاني : أن يكون تعدد الطرق تعددا حقيقيا بحيث لا يغلب على الظن أن هذه الطرق هي في الحقيقة طريق واحد ، تصرف فيه الرواة ، و هذا معنى قولهم : (( يروى من غير وجه )) أو (( اختلف مخرج الحديث )) .
الحديث الحسن لغيره محل للاجتهاد :
و لمّا كان الحديث الحسن لغيره ، مما يتفاوت الناس في إدراكه حيث ِأن تفاصيله تدرك بالمباشرة و البحث ، و الناس يتفاوتون في ذلك قال الإمام الذهبي رحمة الله عليه : لا تطمع بأن للحسن قاعدة تندرج كل الأحاديث الحسان فيها ، فأنا على إياس من ذلك فكم من حديث تردد الحافظ الواحد هل هو حسن أو ضعيف أو صحيح ، بل الحافظ الواحد يتغير اجتهاده في الحديث الواحد ، فيوم يصفه بالصحة و يوم يصفه بالحسن و لربما استضعفه . و هذا حق فإن الحديث الحسن يستضعفه الحافظ عن أن يرقيه إلى رتبة الصحيح ، فبهذا الاعتبار فيه ضعف ما ، إذ الحسن لا ينفك عن ضعف ما ، و لو انفك عن ذلك لصح باتفاق )) اهـ .
و قال ابن كثير رحمه الله – عن الحديث الحسن : (( و هذا النوع لمّا كان وسطا بين الصحيح و الضعيف في نظر الناظر ، لا في نفس الأمر ، عسُر التعبير عنه و ضبطه على كثير من أهل هذه الصناعة ، وذلك بأنه أمر نسبي ، شيء ينقدح عند الحافظ ربما تقصر عبارته عنه )) اهـ .
تعدد طرق الحديث يفيد في بيان مرتبة الحديث قبولا و ردا :
قد يكون الحديث ضعيفا فتتعدد طرقه فيرتقي إلى درجة الحسن لغيره لتوفر شروط ترقي الحديث فيه ، و قد تتعدد طرق الحديث الذي ظاهره الصحة فيكشف هذا التعدد علة في الحديث لم تكن ظاهرة .
قال ابن تيمية –رحمة الله عليه : (( و المقصود هنا أن تعدد الطرق مع عدم التشاور او الاتفاق في العادة ، يوجب العلم بمضمون المنقول ، لكن هذا ينتفع به كثيرا من علم أحوال الناقلين و في مثل هذا ينتفع برواية المجهول ، و السيء الحفظ ، و بالحديث المرسل و نحو ذلك ، و لهذا كان أهل العلم يكتبون مثل هذه الأحاديث ، و يقولون إنه يصلح للشواهد والاعتبار ما لا يصلح لغيره .
كما أنهم يستشهدون و يعتبرون بحديث الذي فيه سوء حفظ ، فإنهم أيضا يضعفون من حديث الثقة الصدوق الضابط أشياء تبين لهم غلطه فيها ، بأمور يستدلون بها – و يسمون هذا علم علل الحديث ، و هو من أشرف علومهم – بحيث يكون الحديث قد رواه ثقة ضابط ، و غلط فيه ، و غلطه فيه عرف إما بسبب ظاهر ، ( و إما بسبب غير ظاهر ) )) اهـ .
و قال ابن حجر –رحمه الله - : (( المقبول ما اتصل سنده و عدلت رجاله ، أو اعتضد بعض طرقه ببعض حتى تحصل القوة بالصورة المجموعة ، و لو كان كل طريق منها لو انفردت لم تكن القوة فيها مشروعة .
و بهذا يظهر عذر أهل الحديث من تكثيرهم طرق الحديث الواحد ؛ ليعتمد عليه ؛ إذ الإعراض عن ذلك يستلزم ترك الفقيه العمل بكثير من الأحاديث اعتمادا على ضعف الطريق التي اتصلت إليه )) اهـ .
لكل حديث نظر خاص :
و أهل الحديث مع هذا جميعه يصرحون بأن لكل حديث نظر خاص من المحدث ، خاصة في باب زيادات الثقات .
قال ابن تيمية – رحمه الله – (( لكل حديث ذوق . و يختص بنظر ليس للآخر )) اهـ.
قال ابن رجب رحمه الله في معرض كلام له على التفرد و التعليل به : (( و أما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا انفرد به واحد ، و إن لم يروا الثقات خلافه : إنه لا يتابع عليه ن و يجعلون ذلك علة فيه ، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه و اشتهرت عدالته و حديثه ، كالزهري و نحوه ، و ربما يستنكرون تفردات الثقات الكبار أيضا ، و لهم في كل حديث نقض خاص ، و ليس عندهم لذلك ضابط يضبطه )) اهـ
وقال ابن عبد الهادي رحمه الله في كلام حول زيادات الثقات : (( بل كل زيادة لها حكم يخصها ، ففي موضع يجزم بصحتها .... و في موضع يغلب على الظن صحتها .... و في موضع يجزم بخطأ الزيادة .... و في موضع يغلب على الظن خطؤها .... و في موضع يتوقف في الزيادة )) اهـ .
وبعد : فأنت إذا تقرر لديك هذا البيان لمسألة تحسين الحديث الضعيف الذي لم يشتد ضعفه بتعدد الطرق ؛ فاعلم أن الألباني رحمه الله لم يخرج عن سنن القوم ، بل كان مطبقا لقواعدهم ، مراعيا لنهجهم ، سالكا فيه سبيلهم .
و أنت إذا لا حظت أن المرجع في هذه القضية إلى البحث و طول الممارسة و الدربة في تخريج الحديث ؛ فإنك تسلم – إن شاء الله تعالى – للألباني في حكمه في تحسين الحديث الضعيف الذي لم يشتد ضعفه بتعدد الطرق ، إذ أمضى رحمه الله قرابة نصف قرن مشتغلا بالحديث تخريجا و دراسة و دعوة و تصنيفا ، مما يجعل كفته ترجح في هذا الجانب على غيره ممن يعترض عليه ، و لمّا يبلي بلاءه في ذلك !
و أزيد إيضاحا مسألة تقوي الحديث بتعدد الطرق ، فأقول :
تعدد طرق الحديث الضعيف الذي لا يخرج عن أن يقال فيه أحد الأقوال التالية :
إنه لا يفيد في قوة الحديث شيئا ، بل كل طريق للحديث يعل الطريق الآخر .
و على هذا لا يكون هناك حديث حسن لغيره أصلا ، وهذا كاف في طرح النظر في تأمل هذا القول !
القول الثاني : إنه يقوي الحديث الضعيف سواء كان شديد الضعف ، أم يسير الضعف ، ما دام يغلب مع تعدد هذه الطرق عدم وجود تواطؤ بين رجال هذه الطرق على رواية الحديث ، و لم يكن المتن منكرا ، و أن يكون المتن قصة طويلة تتكرر مع ذلك في كل مخرج .
قال في الهامش (( و لا شك أن هذا يشعر أن للحديث أصلا ، ومن أجل هذا كان السيوطي رحمه الله يعترض على ابن الجوزي رحمه الله في كتابه :[الموضوعات] في بعض الأحاديث بأن لها طرقا كثيرة ، كما تراه في كتابه : [ اللآليء المصنوعة ] ثم إذا نظرت فيها وجدتها في مرتبة الضعيف الذي لا يقبل الانجبار ، ومراده بهذا : أن كثرة الطرق مع تعدد المخرج ، مع استبعاد حصول التواطؤ ، مع تكرار لفظ الحديث أو بنحوه ، يشعر بأن للحديث أصلا يمتنع معه الحكم بالوضع .
نعم يبقى النظر هل هو ضعيف فقط ، أو يترقى إلى الحسن لغيره !
وهذه المسألة تحتاج إلى بحث خاص يفرد لها ، من أجل تحريرها ، وماذكرته هنا مجرد عرض للقضية ، لتعلقها بما البحث بصدده . ثم رأيت الحافظ السلفي يشير إلى صحة حديث : (( من حفظ على أمتي أربعين ....)) و تعليق الحافظ المنذري عليه بقوله : (( لعل السلفي كان يرى أن مطلق الأحاديث الضعيفة إذا انضم بعضها إلى بعض أخذت قوة )) . فتعقبه الحافظ ابن حجر في الإمتاع بالأربعين المتباينة السماع ص 90 : (( لكن تلك القوة لا تخرج هذا الحديث عن مرتبة الضعف . فالضعيف يتفاوت فإذا كثرت طرق حديث رجح على حديث فرد ، فيكون الضعف الذي ضعفه ناشئ عن سوء حفظ رواته إذا كثرت طرقه ارتقى إلى مرتبة الحسن ،، و الذي ضعفه ناشئ عن تهمة أو جهالة إذا كثرت طرقه ارتقى عن مرتبة المردود المنكر الذي لا يجوز العمل به بحال ، إلى رتبة الضعيف الذي يجوز العمل به في فضائل الأعمال )) وقال : (( وعلى هذا يحمل قول النووي في خطبة الأربعين له : و قد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال وقال ( أي النووي ) بعد أن ذكر هذا الحديث : اتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف إن كثرت طرقه )) اهـ . قلت : فكلامه صحيح في أن تعدد طرق الحديث الضعيف تقويه مطلقا سواء كان الضعف في درجة الاعتبار أم لا . كما أفاد أن التقوية الناشئة من تعدد طرق الحديث الضعيف الذي ليس في مرتبة الاعتبار يرقيه من مرتبة المردود المنكر الذي لا يجوز العمل به بحال ، إلى درجة الضعف الذي في درجة الاعتبار ترقيه إلى درجة الحسن لغيره .
تنبيهان :
الأول : جواز العمل بالحديث الضعيف ، مشروط بشروط ذكرها الحافظ نفسه في رسالته تبيين العجب ، انظر كتاب التخريج و دراسة الأسانيد (ضمن الإضافة) ص 383-384 .
الثاني : قول ابن حجر رحمه الله : (( و الذي ضعفه ناشئ تهمة أو جهالة .....)) مراده أن الطرق الذي جاء من طريق راوٍ مجهول ، ثم جاء من طريق رواة متهمين أو دونهم لا تترقى بذلك لدرجة الحسن لغيره ، أو أن رواية المجهول التي جاءت عن طريق متهمين لا تعد في مرتبة الاعتبار ، و ليس مراده أن رواية المجهول لا تقبل الاعتبار مطلقا فتنبه . انظر تحرير المنقول في الراوي المجهول (ضمن الإضافة) ص 129-138 ، و مناهج المحدثين في تقوية الأحاديث الحسنة و الضعيفة ص 92-93 ، 305-367 .
انتهت الحاشية .
القول الثالث : أنه يتقوى بذلك ، بالشرطين السابقين :
- ألا يشتد ضعف الحديث .
- أن تتعدد طرق الحديث .
و القول الوسط بين تشدد الأول و تساهل الثاني هو القول الثالث .
فهل يقال عن هذا القول الثالث الذي جرى عليه جمهور أهل الحديث ، ومعهم الألباني ، هل يقال عنه تساهل في التحسين ؟!
المسألة الثانية: قبول حديث الراوي مجهول الحال ، واعتماده توثيق ابن حبان رحمه الله .
وهذه من المسائل التي نسب فيها الألباني إلى التساهل دون دليل صحيح عليها ! إذ الواقع أن الألباني رحمه الله ردّ في أكثر من موضع على من يعتمد توثيق ابن حبان رحمه الله للراوي ، ووصف ابن حبان بالتساهل !
لكنه رحمه الله نبه إلى أن الرجل الذي ينفرد ابن حبان بتوثيقه ، و يروي عنه أكثر من ثقة ، ولم يأت بمتن منكر أنه صدوق يحتج به ، ولم يتنبه إلى هذا بعض الفضلاء فنسب الشيخ إلى التناقض .
وقد عقد الألباني في مقدمة كتابه ((تمام المنة)) القاعدة الخامسة و عنوانها : (( عدم الاعتماد على توثيق ابن حبان )) ومما قاله فيها : (( إن المجهول بقسميه لا يقبل حديثه عند جمهور العلماء ، وقد شذ عنهم ابن حبان فقبل حديثه و احتج به و أورده في صحيحه .
ثم نقل الألباني عن الحافظ ابن حجر و ابن عبدالهادي –رحمهما الله – ما يؤكد ذلك ، مع زيادة تحقيق و تدقيق منه رحمه الله – ثم ذكر بعض الأمثلة على من ذكره ابن حبان في الثقات ، و لم يروِ عنه غير راوٍ ضعيف أو مجهول ، ثم نبه إلى أن الجهالة العينية وحدها ليست جرحا عند ابن حبان ، وقال (( وقد ازددت يقينا بذلك بعد أن درست تراجم كتابه [الضعفاء] وقد بلغ عددهم قرابة ألف و أربعمائة راوٍ ، فلم أر فيهم من طعن فيهم بالجهالة إلا أربعة منهم ، لكنه طعن فيهم بروايتهم المناكير ، و ليس بالجهالة ، وهاك أسماءهم وكلامه فيهم ......)) .
ثم قال الألباني : (( والخلاصة أن توثيق ابن حبان يجب أن يتلقى بكثير من التحفظ و الحذر لمخالفته في توثيقه للمجهولين ، لكن ليس ذلك على اطلاقه كما بينه العلامة المعلمي في [التنكيل] (1/437-437) مع تعليقي عليه ، وراجع لهذا البحث ردي على الشيخ الحبشي فإنه كثير الاعتماد على من وثقه ابن حبان في المجهولين ص 18-21.
و إن مما يجب التنبيه عليه أيضا أنه ينبغي أن يضم إلى ما ذكره المعلمي أمر آخر هام ، عرفته بالممارسة لهذا العلم قلة من نبه عليه ، و غفل عنه جماهير الطلاب ، وهو : أن من وافقه ابن حبان ، و قد روى عنه جمع من الثقات ن و لم يأت بما ينكر عليه ، فهو صدوق يحتج به .
و بناء على ذلك قويت بعض الأحاديث التي هي من هذا القبيل، كحديث العجن في الصلاة ، فتوهم بعض الناشئين في هذا العلم أنني ناقضدت نفسي ، و جاريت ابن حبان في شذوذه ، و ضعف هو حديث العجن .......)) .
وقد عاد الألباني إلى التدليل على صحة ما جرى عليه أثناء كتابه ((تمام المنة)) في رده على بعض الفضلاء ، فهذا الذي جرى عليه الألباني ، ليس من التناقض في شيئ ، و الحمد لله ، كما أنه ليس من التساهل ، بل هو أمر جرى عليه جمهور أهل العلم !
عقد ابن أبي حاتم في كتابه الجرح و التعديل ، بابا ترجمته : (( باب في رواية الثقة عن غير المطعون عليه ، أنها تقويه ، وعن المطعون عليه أنها لا تقويه )) ثم قال : (( سألت أبي عن رواية الثقات عن رجل غير ثقة مما يقويه ؟ قال : إذا كان معروفا بالضعف لم تقوهـ روايته عنه ، و إذا كان مجهولا نفعه رواية الثقة عنه )) .
وقال ابن أبي حاتم رحمه الله : (( سألت أبا زرعة عن رواية الثقات عن رجل مما يقوي حديثه ؟ قال : إي لعمري . قلت : الكلبي روى عنه الثوري . قال : إنما ذلك إذا لم يتكلم فيه العلماء ، وكان الكلبي يتكلم فيه .......)).
قال ابن أبي حاتم رحمه الله : (( قلت لأبي : ما معنى رواية الثوري عن الكلبي وهو غير ثقة عنده ؟ قال : كان الثوري يذكر الرواية عن الكلبي على الإنكار و التعجب فتعلقوا روايته عنه و إن لم تكن روايته عن الكلبي قبوله له )) اهـ .
و قال ابن القطان رحمه الله عن سعيد بن محمد بن جبير : (( لا يعرف حاله ، و إن عرف نسبه و بيته ، و روى عنه جمع ، فالحديث لأجله حسن لا صحيح )) اهـ .
قال الذهبي رحمه الله : (( الجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ، و لم يأت بما ينكر عليه أن حديثه صحيح )) اهـ .
وهذه النصوص تفيد أن رواية الثقة عن الرجل الذي لا يعرف بجرح و تعديل مما يقويه ، و محل هذا و لا شك إذا لم يأت بمتن منكر ، فكيف إذا انضاف إلى ذلك توثيق ابن حبان .
فإذا جرى الألباني على هذا يقال عنه متساهل ؟!
المسألة الثالثة : تعديله لبعض الرواة الضعفاء .
فهذه دعوى ؛ إذ لا يستطيعون أن يأتوا براوٍ واحدٍ أجمع على ضعفه ، و جاء الألباني و عدله هكذا !
نعم تجد الألباني يعدل راوٍ اختلف في توثيقه و جرحه ، وهو حينما يرجح التعديل ، إنما يرجحه بالمرجحات المعتبرة عند أهل العلم .
و يطبق القواعد التي جرى عليها العلماء في الجرح و التعديل ، فهو يقدم الجرح على التعديل . ولا يقبل الجرح إلا مفسراً .
و إذا جرح الراوي بجرح و ظهر له أنه ليس بجارح لسبب من الأسباب اعتبر ذلك .
و يقبل الجرح المجمل في حق من لم تثبت عدالته .
و يراعي التفصيل في حال كل راوٍ ، متبعا – جهده و طاقته – كلام أئمة الجرح و التعديل .
خذ على سبيل المثال :-
- إسماعيل بن عياش ، تقرأ في ترجمته جرحا مطلقا ، وتعديلا مطلقا ، و تفصيلا في حاله ، فهو إذا روى عن الشاميين ضابطٌ ، و إ ذا روى عن غيرهم لا يضبط ؛ فالألباني اعتمد التفصيل فيه ، و لم يقبل الجرح المطلق و لا التعديل المطلق .
- عبدالله بن لهيعة ؛ تقرأ في ترجمته جرحا مطلقا ، و تعديلا مطلقا ، و تفصيلا يتبين منه ضبطه لما رواه قبل احتراق كتبه و اصوله ، وضعف ضبطه بعد ذلك ، و الألباني يعتمد هذا التفصيل في حال ابن لهيعة ، فيقبل ممن روى عنه قبل احتراق كتبه ، ولا يقبل ممن روى عنه بعد الاحتراق إلا في الشواهد و المتابعات .
و الأمثلة على هذا كثيرة لست أرى حاجة إلى التطويل بذكرها ، وحاله في ذلك لا ينسب إلى التساهل عند من تفكر ، و أنصف .
يتبع إن شاء الله تعالى
الحلقة التاسعة
من قول المؤلف حفظه الله تعالى
أما قولهم :متناقض في أحكامه على الحديث .