بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ محمد بن عمر بازمول حفظه الله تعالى:
أما قولهم : ظاهري المذهب :
فهذه دعوى كذلك نطالب فيها بالدليل { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } !
و الواقع أن وصف أهل الحديث بأنهم من أهل الظاهر من الكلمات التي تسمع بين الفينة و الأخرى ، و لذلك فإن وصف الألباني بها ليس بمستغرب ، إذ هو من أهل الحديث ! و هذا الأمر - أعني : الفرق بين أهل الحديث و الظاهرية ، في الأخذ بالظاهر من النصوص – يحتاج إلى تحرير لإزالة لبس قد يكون علق بأذهان بعض الناس ، و تحرير ذلك من خلال التساؤلات الآتية :
هل صرح الشيخ في شيء من كتبه أنه ظاهري المذهب ؟
هل مجرد إحالة الشيخ إلى كتب ابن حزم تعني أنه ظاهري المذهب ؟
هل مجرد وقوف الشيخ عند ظاهر النص يحشره في زمرة أهل الظاهر ؟
و قبل الإجابة على هذه الأسئلة أقول :
اعلم أن الظاهرية مذهب فقهي عتيد ، من المذاهب التي لها أتباع إلى عصرنا هذا – و إن كانوا قلة – و كتاب ((المحلى)) لأبي محمد علي بن حزم ، يعد من كتب الفقه التي تغني عن غيرها ، و لا يغني غيرها عنها ، حتى قال الشيخ عزالدين بن عبدالسلام – وكان أحد المجتهدين – (( مارأيت في كتب الإسلام في العلم مثل ((المحلى)) لابن حزم ، وكتاب ((المغني)) للشيخ موفق الدين )) .
قال الذهبي رحمه الله معقبا على هذه الكلمة : (( لقد صدق الشيخ عزالدين ، وثالثهما : (( السنن الكبير)) للبيهقي ، ورابعها : (( التمهيد لابن عبد البر )) فمن حصل هذه الدواوين وكان من أذكيا المفتين ، و أدمن المطالعة فيها فهو العالم حقا )) اهـ.
و إمام هذا المذهب هو داود بن علي الظاهري (ت270هـ) عاصر رحمه الله إسحاق بن راهويه (ت238هـ) ، و أحمد بن حنبل (ت241هـ) ، و غيرهما من الأئمة ، و عدّه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في فقهاء الحديث .
قال ابن تيمية رحمه الله : (( و الشافعي و أحمد بن حنبل و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور و محمد بن نصر المروزي و داود بن علي ، ونحو هؤلاء كلهم فقهاء حديث –رضي الله عنهم أجمعين )) اهـ .
و أهم معالم هذا المذهب : الجمود على ظاهر لفظ النص دون مراعاة المعنى المقصود منه ، و إبطال دليل القياس ، و المبالغة في دليل الإستصحاب ، و اعتقاد أن الأصل في عقود المسلمين البطلان ، و بسبب هذه الأمور شنع عليهم .
و بعد هذا التعريف الموجز بـ(( الظاهرية )) أعود إلى الإجابة إلى تلك الأسئلة فأقول :
لم أجد الشيخ الألباني في كتاب من كتبه قد صرح أنه ينتمي إلى مذهب الظاهرية ، بل وجدت الشيخ – رحمه الله – يصرح في أكثر من موضع بمنهجه في الفقه أنه يعتمد فيه اتباع الأحاديث و الآثار ولا يخرج عنها ، مع احترام الأئمة جميعا و الإستفادة من فقههم ، بل و جدت الألباني في مواضع يشنع على ابن حزم –رحمه الله – في جموده ، فمرة قال في مسألة : (( خلافا لما قعقع حوله بن حزم )) ، و مرة قال : (( و أغرب ابن حزم كعادته بالتمسك بظاهريته)) ، و من مؤلفات الشيخ الألباني كتابه في الرد على ابن حزم في مسالة المعازف ، و اسمه (( تحريم ألات الطرب ، أو الرد بالوحيين و أقوال أئمتنا على ابن حزم و مقلديه المبيحين للمعازف و الغناء و على الصوفيين الذين اتخذوه قربة و دينا )).
وهذا الواقع يدفع بشدة أن ينسب الشيخ إلى المذهب الظاهري ، نسبة مذهب بله نسبة تقليد و تعصب ! .
و بالنسبة للسؤال الثاني فإني أقول :
لا يحق لأحد أن ينسب أحد إلى مذهب ما لمجرد أنه نقل عنه أو أحال إليه كيف يصح هذا ؟
و لما لم يقولوا : الألبان حنفي أو مالكي أو شافعي أو حنبلي أو تيمي أو جوزي ؟ مع العلم أن إحالاته إلى المذاهب الفقهية و أصحابها و إلى ابن تيمية و ابن القيم أكثر من إحالاته إلى الظاهرية ، أو إلى ابن حزم – رحمه الله تعالى.
و بالنسبة للسؤال الثالث أقول :
و مجرد الوقوف عند ظاهر النص لا يبرر حشر الشيخ الألباني في الظاهرية ، و إلا لزم من قال بذلك أن يعد جمهور السلف و أئمة الدين ظاهرية ، لأن هذا هو الأصل عندهم ، وهي بدهية في الإستدلال لا أظنها تخفى على من يتأمل .
و ذلك لأن الأصل عند السلف :
الوقوف على ظاهر النص و ترك الخروج عنه إلا بدليل .
و المراد بالظاهر :ما ترجح أنه المقصود من الكلام أو لم يأتي قصد يخالفه .
قال الإمام الشافعي رحمه الله في كلام له : (( فلما احتمل المعنيين – يعني -الحديث – وجب على أهل العلم ألا يحملوها على خاص دون عام إلا بدلالة من سنة رسول الله أو إجماع علماء المسلمين الذين لا يمكن أن يجمعوا على خلاف سنة له .
((قال الشافعي )): و هكذا غير هذا من حديث رسول الله هو على الظاهر من العام حتى تأتي الدلالة عنه كما وصفت أو بإجماع المسلمين : أنه على باطن دون ظاهر و خاص دون عام فيجعلونه بما جاءت عليه الدلالة و يطيعونه في الأمرين جميعا))اهـ .
و قال الشافعي : (( ........... فكل كلام كان عاما ظاهرا في سنة رسول الله فهو على ظهوره و عمومه حتى يعلم حديث ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم – بأبي هو و أمي – يدل على أنه إنما أريد بالجملة العامة في الظاهر بعض الجملة دون بعض كما وصفت من هذا وما كان في مثل معناه )) اهـ.
و هذا هو ما جرى عليه أهل العلم حتى إن أئمة الحنفية إذا خالف الصحابي ظاهر مرويه فالعبرة عندهم بظاهر المروي لا بخلاف راويه .
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله : (( الواجب حمل كلام الله و رسوله و حمل كلام المكلف على ظاهره الذي هو ظاهره ، و هو الذي يقصد من اللفظ عند التخاطب و لا يتم التفهيم و الفهم إلا بذلك ، و مدعي غير ذلك على المتكلم القاصد للبيان و التفهيم كاذب عليه )) اهـ .
قال الشنقيطي رحمه الله : (( التحقيق الذي لا شك فيه ، وهو الذي عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وعامة المسلمين : أنه لا يجوز العدول عن ظاهر كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم ، في حال من الأحوال بوجه من الوجوه ، حتى يقوم دليل صحيح شرعي صارف عن الظاهر إلى المحتمل المرجوح )) اهـ.
و قال أيضا رحمه الله : (( قد أجمع جميع المسلمين على أن العمل بالظاهر واجب حتى يرد دليل شرعي صارف عنه ، إلى المحتمل المرجوح ، و على هذا كل من تكلم في الأصول )) اهـ .
و بناء على هذا أقول : الأخذ بالظاهر ليس محلا للخلاف بين الظاهرية و خصومهم ، حتى ينسب أهل الحديث – و الألباني منهم – إلى الظاهرية لمجرد الوقوف عند ظاهر النصوص .
و اعلم – بارك الله فيك- أن الظاهرية إنما ذموا لأمور أربعة ذكرها ابن قيم الجوزية ، في قوله عن الظاهرية نفاة القياس : (( أخطئوا من أربعة وجوه : أحدها : رد القياس الصحيح ، و لا سيما المنصوص على علته التي يجري النص عليها مجرى التنصيص ، على التعميم باللفظ .
الثاني : تقصيرهم في فهم النصوص ، فكم من حكم دل عليه النص و لم يفهموا دلالته عليه ، و سبب هذا الخطأ حصرهم الدلالة على مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه و تنبيهه و إشارته و عرفه عند المخاطبين .
الثالث : تحميل الإستصحاب فوق ما يستحقه ، و جزمهم بموجبه لعدم علمهم بالناقل ، و ليس عدم العلم علما بالعدم .
الرابع : اعتقادهم أن عقود المسلمين و شروطهم و معاملاتهم كلها على البطلان ، حتى يقوم دليل على الصحة ، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه ، فأفسدوا بذلك كثيرا من معاملات الناس ، وعقودهم و شروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل )) اهـ.
و أهل الحديث – و الألباني منهم – من أبعد الناس عن هذه الأخطاء التي سجلها العلماء على الظاهرية ،.
و المقصود هنا : أن الأخذ بالظاهر ليس محلا للخلاف بين الظاهرية و غيرهم ، إذ الجميع يأخذ بظاهر النصوص ، ولا يتركه مالم تأت قرينة صارفة ، و إنما محل الخلاف بين الظاهرية و غيرهم ، هو : هل الإعتبار بظواهر الألفاظ و العقود ، و إن ظهرت المقاصد و النيات بخلافها ، أم للقصود و النيات تأثير يوجب الإلتفات إليها و مراعاة جانبها ؟
وبعبارة أخرى : هل الأخذ بالظاهر يحتم الإكتفاء به أم لا ؟
و قد تظاهرت أدلة الشرع و قواعده ، على : أن القصود معتبرة في العقود ، و الأفعال ، والألفاظ و العبادات .
و الألباني مع أهل الحديث يأخذ بالقياس ، و يتفهم مقاصد الشرع ، و ينظر في كل ما له تأثير على ظاهر اللفظ ، و يراعيه في فقهه ونظره ، - ولا أزكي على الله أحدا – فإن ظهر له ، و إلا وقف عند ظاهر اللفظ ، و على هذا المنهج كان الصحابة و التابعون ، بل هذا الأمر و مراعاته من الأمور التي ينبغي للمفتي مراعاتها .
قال ابن القيم رحمه الله : (( ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه ، فإنه يتضمن الحكم و الدليل مع البيان التام ، فهو حكم مضمون له الصواب ، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان ، و قول الفقيه المعين ليس كذلك ، و قد كان الصحابة و التابعون و الأئمة الذين سلكوا على مناهجهم يتحرون ذلك غاية التحري حتى خلفت من بعدهم خلوف رغبوا عن النصوص ، واشتقوا لهم ألفاظا غير ألفاظ النصوص ، فأوجب ذلك هجر النصوص .
ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي به النصوص من الحكم و الدليل و حسن البيان ، فتولد منها هجران ألفاظ النصوص و الإقبال على الألفاظ الحادثة و تعليق الأحكام بها على الأمة من الفساد ما لا يعلمه إلا الله ، فألفاظ النصوص عصمة وحجة ، بريئة من الخطأ و التناقض ، و التعقيد و الإضطراب ، ولما كانت هي عصمة عهد الصحابة ، و أصولهم التي إليها يرجعون كانت علومهم أصح من علوم من بعدهم ، و خطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم ، ثم التابعون بالنسبة إلى من بعدهم كذلك ، و هلما جرا .
و لما استحكم هجران النصوص عند أكثر أهل الأهواء و البدع ، كانت علومهم في مسائلهم و أدلتهم في غاية الفساد و الإضطراب و التناقض .
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئلوا عن مسألة يقولون : قال الله كذا ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كذا ، أو فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم كذا ، و لا يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلا قط ، فمن تأمل أجوبتهم و جدها شفاء لما في الصدور ، فلما طال العهد و بعد الناس من نور النبوة صار هذا عيبا عند المتأخرين ؛ أن يذكروا في أصول دينهم و فروعه : قال الله ، وقال رسول الله ......)) إلخ كلامه رحمه الله .
قلت : و لذا تجد كتابا كـ(( المواقف)) للإجي لا آية و لا حديث فيه من أوله إلى آخره إلا بما لا يتجاوز أصابع اليد ، وكذا غالب المتون الفقهية ، و لابن خلدون كلام في مقدمته حول أثر هذه المختصرات الفقهية (( المتون )) على طلبة العلم الشرعي .
و المقصود بيان أن جريان أهل الحديث –و الألباني منهم في مصنفاتهم و فتاواهم على النص ، و التزام ظاهره ، مالم يأتي صارف صحيح معتبر ، لا يحشرهم في المذهب الظاهري ، بل الواقع أن هذا هو منهج السلف الصالح –رضوان الله عليهم – من الصحابة و التابعين لهم بإحسان .
يتبع إن شاء الله تعالى في الحلقة الثامنة
من قول المؤلف حفظه الله تعالى :
أما قولهم متساهل في التصحيح
قال الشيخ محمد بن عمر بازمول حفظه الله تعالى:
أما قولهم : ظاهري المذهب :
فهذه دعوى كذلك نطالب فيها بالدليل { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } !
و الواقع أن وصف أهل الحديث بأنهم من أهل الظاهر من الكلمات التي تسمع بين الفينة و الأخرى ، و لذلك فإن وصف الألباني بها ليس بمستغرب ، إذ هو من أهل الحديث ! و هذا الأمر - أعني : الفرق بين أهل الحديث و الظاهرية ، في الأخذ بالظاهر من النصوص – يحتاج إلى تحرير لإزالة لبس قد يكون علق بأذهان بعض الناس ، و تحرير ذلك من خلال التساؤلات الآتية :
هل صرح الشيخ في شيء من كتبه أنه ظاهري المذهب ؟
هل مجرد إحالة الشيخ إلى كتب ابن حزم تعني أنه ظاهري المذهب ؟
هل مجرد وقوف الشيخ عند ظاهر النص يحشره في زمرة أهل الظاهر ؟
و قبل الإجابة على هذه الأسئلة أقول :
اعلم أن الظاهرية مذهب فقهي عتيد ، من المذاهب التي لها أتباع إلى عصرنا هذا – و إن كانوا قلة – و كتاب ((المحلى)) لأبي محمد علي بن حزم ، يعد من كتب الفقه التي تغني عن غيرها ، و لا يغني غيرها عنها ، حتى قال الشيخ عزالدين بن عبدالسلام – وكان أحد المجتهدين – (( مارأيت في كتب الإسلام في العلم مثل ((المحلى)) لابن حزم ، وكتاب ((المغني)) للشيخ موفق الدين )) .
قال الذهبي رحمه الله معقبا على هذه الكلمة : (( لقد صدق الشيخ عزالدين ، وثالثهما : (( السنن الكبير)) للبيهقي ، ورابعها : (( التمهيد لابن عبد البر )) فمن حصل هذه الدواوين وكان من أذكيا المفتين ، و أدمن المطالعة فيها فهو العالم حقا )) اهـ.
و إمام هذا المذهب هو داود بن علي الظاهري (ت270هـ) عاصر رحمه الله إسحاق بن راهويه (ت238هـ) ، و أحمد بن حنبل (ت241هـ) ، و غيرهما من الأئمة ، و عدّه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في فقهاء الحديث .
قال ابن تيمية رحمه الله : (( و الشافعي و أحمد بن حنبل و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور و محمد بن نصر المروزي و داود بن علي ، ونحو هؤلاء كلهم فقهاء حديث –رضي الله عنهم أجمعين )) اهـ .
و أهم معالم هذا المذهب : الجمود على ظاهر لفظ النص دون مراعاة المعنى المقصود منه ، و إبطال دليل القياس ، و المبالغة في دليل الإستصحاب ، و اعتقاد أن الأصل في عقود المسلمين البطلان ، و بسبب هذه الأمور شنع عليهم .
و بعد هذا التعريف الموجز بـ(( الظاهرية )) أعود إلى الإجابة إلى تلك الأسئلة فأقول :
لم أجد الشيخ الألباني في كتاب من كتبه قد صرح أنه ينتمي إلى مذهب الظاهرية ، بل وجدت الشيخ – رحمه الله – يصرح في أكثر من موضع بمنهجه في الفقه أنه يعتمد فيه اتباع الأحاديث و الآثار ولا يخرج عنها ، مع احترام الأئمة جميعا و الإستفادة من فقههم ، بل و جدت الألباني في مواضع يشنع على ابن حزم –رحمه الله – في جموده ، فمرة قال في مسألة : (( خلافا لما قعقع حوله بن حزم )) ، و مرة قال : (( و أغرب ابن حزم كعادته بالتمسك بظاهريته)) ، و من مؤلفات الشيخ الألباني كتابه في الرد على ابن حزم في مسالة المعازف ، و اسمه (( تحريم ألات الطرب ، أو الرد بالوحيين و أقوال أئمتنا على ابن حزم و مقلديه المبيحين للمعازف و الغناء و على الصوفيين الذين اتخذوه قربة و دينا )).
وهذا الواقع يدفع بشدة أن ينسب الشيخ إلى المذهب الظاهري ، نسبة مذهب بله نسبة تقليد و تعصب ! .
و بالنسبة للسؤال الثاني فإني أقول :
لا يحق لأحد أن ينسب أحد إلى مذهب ما لمجرد أنه نقل عنه أو أحال إليه كيف يصح هذا ؟
و لما لم يقولوا : الألبان حنفي أو مالكي أو شافعي أو حنبلي أو تيمي أو جوزي ؟ مع العلم أن إحالاته إلى المذاهب الفقهية و أصحابها و إلى ابن تيمية و ابن القيم أكثر من إحالاته إلى الظاهرية ، أو إلى ابن حزم – رحمه الله تعالى.
و بالنسبة للسؤال الثالث أقول :
و مجرد الوقوف عند ظاهر النص لا يبرر حشر الشيخ الألباني في الظاهرية ، و إلا لزم من قال بذلك أن يعد جمهور السلف و أئمة الدين ظاهرية ، لأن هذا هو الأصل عندهم ، وهي بدهية في الإستدلال لا أظنها تخفى على من يتأمل .
و ذلك لأن الأصل عند السلف :
الوقوف على ظاهر النص و ترك الخروج عنه إلا بدليل .
و المراد بالظاهر :ما ترجح أنه المقصود من الكلام أو لم يأتي قصد يخالفه .
قال الإمام الشافعي رحمه الله في كلام له : (( فلما احتمل المعنيين – يعني -الحديث – وجب على أهل العلم ألا يحملوها على خاص دون عام إلا بدلالة من سنة رسول الله أو إجماع علماء المسلمين الذين لا يمكن أن يجمعوا على خلاف سنة له .
((قال الشافعي )): و هكذا غير هذا من حديث رسول الله هو على الظاهر من العام حتى تأتي الدلالة عنه كما وصفت أو بإجماع المسلمين : أنه على باطن دون ظاهر و خاص دون عام فيجعلونه بما جاءت عليه الدلالة و يطيعونه في الأمرين جميعا))اهـ .
و قال الشافعي : (( ........... فكل كلام كان عاما ظاهرا في سنة رسول الله فهو على ظهوره و عمومه حتى يعلم حديث ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم – بأبي هو و أمي – يدل على أنه إنما أريد بالجملة العامة في الظاهر بعض الجملة دون بعض كما وصفت من هذا وما كان في مثل معناه )) اهـ.
و هذا هو ما جرى عليه أهل العلم حتى إن أئمة الحنفية إذا خالف الصحابي ظاهر مرويه فالعبرة عندهم بظاهر المروي لا بخلاف راويه .
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله : (( الواجب حمل كلام الله و رسوله و حمل كلام المكلف على ظاهره الذي هو ظاهره ، و هو الذي يقصد من اللفظ عند التخاطب و لا يتم التفهيم و الفهم إلا بذلك ، و مدعي غير ذلك على المتكلم القاصد للبيان و التفهيم كاذب عليه )) اهـ .
قال الشنقيطي رحمه الله : (( التحقيق الذي لا شك فيه ، وهو الذي عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وعامة المسلمين : أنه لا يجوز العدول عن ظاهر كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم ، في حال من الأحوال بوجه من الوجوه ، حتى يقوم دليل صحيح شرعي صارف عن الظاهر إلى المحتمل المرجوح )) اهـ.
و قال أيضا رحمه الله : (( قد أجمع جميع المسلمين على أن العمل بالظاهر واجب حتى يرد دليل شرعي صارف عنه ، إلى المحتمل المرجوح ، و على هذا كل من تكلم في الأصول )) اهـ .
و بناء على هذا أقول : الأخذ بالظاهر ليس محلا للخلاف بين الظاهرية و خصومهم ، حتى ينسب أهل الحديث – و الألباني منهم – إلى الظاهرية لمجرد الوقوف عند ظاهر النصوص .
و اعلم – بارك الله فيك- أن الظاهرية إنما ذموا لأمور أربعة ذكرها ابن قيم الجوزية ، في قوله عن الظاهرية نفاة القياس : (( أخطئوا من أربعة وجوه : أحدها : رد القياس الصحيح ، و لا سيما المنصوص على علته التي يجري النص عليها مجرى التنصيص ، على التعميم باللفظ .
الثاني : تقصيرهم في فهم النصوص ، فكم من حكم دل عليه النص و لم يفهموا دلالته عليه ، و سبب هذا الخطأ حصرهم الدلالة على مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه و تنبيهه و إشارته و عرفه عند المخاطبين .
الثالث : تحميل الإستصحاب فوق ما يستحقه ، و جزمهم بموجبه لعدم علمهم بالناقل ، و ليس عدم العلم علما بالعدم .
الرابع : اعتقادهم أن عقود المسلمين و شروطهم و معاملاتهم كلها على البطلان ، حتى يقوم دليل على الصحة ، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه ، فأفسدوا بذلك كثيرا من معاملات الناس ، وعقودهم و شروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل )) اهـ.
و أهل الحديث – و الألباني منهم – من أبعد الناس عن هذه الأخطاء التي سجلها العلماء على الظاهرية ،.
و المقصود هنا : أن الأخذ بالظاهر ليس محلا للخلاف بين الظاهرية و غيرهم ، إذ الجميع يأخذ بظاهر النصوص ، ولا يتركه مالم تأت قرينة صارفة ، و إنما محل الخلاف بين الظاهرية و غيرهم ، هو : هل الإعتبار بظواهر الألفاظ و العقود ، و إن ظهرت المقاصد و النيات بخلافها ، أم للقصود و النيات تأثير يوجب الإلتفات إليها و مراعاة جانبها ؟
وبعبارة أخرى : هل الأخذ بالظاهر يحتم الإكتفاء به أم لا ؟
و قد تظاهرت أدلة الشرع و قواعده ، على : أن القصود معتبرة في العقود ، و الأفعال ، والألفاظ و العبادات .
و الألباني مع أهل الحديث يأخذ بالقياس ، و يتفهم مقاصد الشرع ، و ينظر في كل ما له تأثير على ظاهر اللفظ ، و يراعيه في فقهه ونظره ، - ولا أزكي على الله أحدا – فإن ظهر له ، و إلا وقف عند ظاهر اللفظ ، و على هذا المنهج كان الصحابة و التابعون ، بل هذا الأمر و مراعاته من الأمور التي ينبغي للمفتي مراعاتها .
قال ابن القيم رحمه الله : (( ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه ، فإنه يتضمن الحكم و الدليل مع البيان التام ، فهو حكم مضمون له الصواب ، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان ، و قول الفقيه المعين ليس كذلك ، و قد كان الصحابة و التابعون و الأئمة الذين سلكوا على مناهجهم يتحرون ذلك غاية التحري حتى خلفت من بعدهم خلوف رغبوا عن النصوص ، واشتقوا لهم ألفاظا غير ألفاظ النصوص ، فأوجب ذلك هجر النصوص .
ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي به النصوص من الحكم و الدليل و حسن البيان ، فتولد منها هجران ألفاظ النصوص و الإقبال على الألفاظ الحادثة و تعليق الأحكام بها على الأمة من الفساد ما لا يعلمه إلا الله ، فألفاظ النصوص عصمة وحجة ، بريئة من الخطأ و التناقض ، و التعقيد و الإضطراب ، ولما كانت هي عصمة عهد الصحابة ، و أصولهم التي إليها يرجعون كانت علومهم أصح من علوم من بعدهم ، و خطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم ، ثم التابعون بالنسبة إلى من بعدهم كذلك ، و هلما جرا .
و لما استحكم هجران النصوص عند أكثر أهل الأهواء و البدع ، كانت علومهم في مسائلهم و أدلتهم في غاية الفساد و الإضطراب و التناقض .
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئلوا عن مسألة يقولون : قال الله كذا ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كذا ، أو فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم كذا ، و لا يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلا قط ، فمن تأمل أجوبتهم و جدها شفاء لما في الصدور ، فلما طال العهد و بعد الناس من نور النبوة صار هذا عيبا عند المتأخرين ؛ أن يذكروا في أصول دينهم و فروعه : قال الله ، وقال رسول الله ......)) إلخ كلامه رحمه الله .
قلت : و لذا تجد كتابا كـ(( المواقف)) للإجي لا آية و لا حديث فيه من أوله إلى آخره إلا بما لا يتجاوز أصابع اليد ، وكذا غالب المتون الفقهية ، و لابن خلدون كلام في مقدمته حول أثر هذه المختصرات الفقهية (( المتون )) على طلبة العلم الشرعي .
و المقصود بيان أن جريان أهل الحديث –و الألباني منهم في مصنفاتهم و فتاواهم على النص ، و التزام ظاهره ، مالم يأتي صارف صحيح معتبر ، لا يحشرهم في المذهب الظاهري ، بل الواقع أن هذا هو منهج السلف الصالح –رضوان الله عليهم – من الصحابة و التابعين لهم بإحسان .
يتبع إن شاء الله تعالى في الحلقة الثامنة
من قول المؤلف حفظه الله تعالى :
أما قولهم متساهل في التصحيح