بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ محمد بن عمر بازمول حفظه الله تعالى :
أما قولهم : لا يحترم العلماء ولا يعرف قدرهم
فهو دعوى عرية عن الدليل ، بل الواقع خلافها ِ، وكل ما في الأمر أن بعض الناس توهم أن الشيخ الألباني لما يعمل بالحديث الصحيح الذي لم يعلم له مخالفا معتبرا ، أهدر بتصرفه هذا العلماء الذين لم يعملوا بهذا الحديث ، و لم يحترم قدرهم ! وهذا الوهم لا وجه له ، لما يلي :
أن هناك فرقا بين تجريد متابعة المعصوم صلى الله عليه وسلم ، و بين إهدار أقوال العلماء .
قال ابن القيم رحمه الله : ( الفرق بين تجريد متابعة المعصوم صلى الله عليه و سلم ، وإهدار أقوال العلماء و إلغائها :
أن تجريد المتابعة : ألا تقدم على ما جاء به قول أحد ، و برأيه كائنا من كان ، بل تنظر في صحة الحديث أولا ، فإذا صح لك نظرت في معناه ثانيا ، فإذا تبين لك لم تعدل عنه ، ولو خالفك من بين المشرق و المغر ب .
و معاذ الله أن تتفق الأمة على مخالفة ما جاء به نبيها ، بل لابد أن يكون في الأمة من قال به ، و لو لم تعلمه ؛ فلا تجعل جهلك بالقائل به حجة على الله و رسوله ، بل اذهب إلى النص ، و لا تضعف ، واعلم أنه قد قال به قائل قطعا ، و لكن لم يصل إليك .
هذا مع حفظ مراتب العلماء وموالاتهم واعتقاد حرمتهم و أمانتهم و اجتهادهم في حفظ الدين و ضبطه ، فهم دائرون بين الأجر و الأجرين ، و المغفرة ، لكن لا يوجب هذا إهدار النصوص و تقديم قول الواحد منهم عليها بشبهة : إنه أعلم بها منك ؛ فإن كان كذلك فمن ذهب إلى النص اعلم به منك ، فهلا وافقته إن كنت صادقا !
فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها ، وخالف منه ما خالف النص لم يهدر أقوالهم ، ولم يهضم جانبهم ، بل اقتدى بها ، فإنهم كلهم أمروا بذلك ، فمتبعهم حقا من امتثل ما أوصوا به لا من خالفهم .
فخلافهم في القول الذي جاء النص بخلافه أسهل من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا و دعوا إليها : من تقديم النص على أقوالهم .
ومن هنا يتبين الفرق بين تقليد العالم في كل ما قال ، وبين الإستعانة بفهمه ، و الاستضاءة بنور علمه ؛ فالأول يأخذ قوله من غير نظر ، ولا طلب لدليله من الكتاب و السنة ، بل يجعل ذلك كالحبل الذي يلقيه في عنقه يقلده به ، و لذلك سمي تقليدا ، بخلاف من استعان بفهمه ، و استضاء بنور علمه في الوصول إلى الرسول – صلوات الله و سلامه عليه – فإنه يجعلهم بمنزلة الدليل إلى الدليل الأول ، فإذا وصل إليه استغنى بدلالته عن الإستدلال بغيره ؛ فمن استدل بالنجم على القبلة فإنه إذا شاهدها لم يبق لاستدلاله بالنجم معنى .
قال الشافعي : إذ أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد ) اهـ .
قلت : ينبني على هذا التقرير أمور أهمها ما يلي :
أن المحل الذي يطلب فيه وجود سلف للمستدل للعالم فيما ذهب إليه إنما هو في غير المسالة التي جاء فيها نص محكم سالم من النسخ و المعارضة .
و ذلك أن الذي ينبغي للعالم إذا اجتهد في مسالة أن ينظر هل سبقه أحد من السلف إلى هذا الإجتهاد ، أو لا ، فإن لم يجد من سبقه إلى هذا الإجتهاد فليتوقف و ليتراجع .
وفي هذا قال ابن تيمية رحمه الله : ( كل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين ، ولم يسبقه إليه أحد منهم ، فإنه يكون خطأ ، كما قال الإمام أحمد : إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام ) اهـ .
فإذا جاء الدليل الذي يلزم المصير إليه ولم يسع أحد مخالفته لمجرد أنه لا يعلم من قال به .[قال الشيخ حفظه الله في الحاشية : هذا الموضع بحاجة إلى بيان ن وذلك كما يلي :
اعلم أن الحديث إذا صح و كان يتضمن حكما عاما على كافة الخلق ، فلا يخلو عن الأحوال التالية :
الأولى : أن ينقل عن السلف العمل به ، بلا خلاف بينهم ، فهنا يجب عليك العمل بالحديث بلا خلاف بين العلماء .
الثانية : أن ينقل عن السلف اختلافهم في المسألة التي ورد فيها الحديث ، فهنا الحديث يقوي قول من ذهب إلى مقتضاه من السلف .
الثالثة : أن ينقل عنهم الإجماع على العمل بخلاف هذا الحديث الفرد ، فهنا لاشك في ترك العمل بالحديث ، ويكون الإجماع (المتيقن ) دليلا على النسخ ، أو التعليل ، وهذا من الأمور التي يعل بها متن الحديث .
الرابعة : أن يرد الحديث و لا تقف عن السلف لا على ما يفيد ترك العمل به ، ولا ما يفيد العمل به ؛ فهنا محل البحث ، والذي يظهر و الله أعلم ، أن يعمل بالحديث ، ولا يهجر ، حتى يوقف على مانع صحيح يمنع من العمل به ، والله الموفق .
انظر رسالة : ( تحفة الأنام في العمل بحديث النبي عليه السلام ) لمحمد حياة السندي .
و رسالة : ( الحديث حجة بنفسه ) لمحمد ناصر الدين الألباني .] انتهت الحاشية .
قال أبو محمد بن حزم رحمه الله : ( فكل من أدّاه البرهان من النص أو الإجماع المتيقن إلى قول ما ، ولم يعرف أحد قبله بذلك القول ، ففرض عليه القول بما أدى إليه البرهان ، ومن خالفه فقد خالف الحق ، ومن خالف الحق فقد عصى الله تعالى . قال تعالى : { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } و لم يشترط تعالى في ذلك أن يقول به قائل قبل القائل به ، بل أنكر على من قاله ،إذ يقول عزوجل حاكيا عن الكفار منكرا عليهم أنهم قالوا { ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق } .
قال أبو محمد : ومن خالف هذا فقد أنكر على جميع التابعين و جميع الفقهاء بعدهم ، لأن المسائل التي تكلم فيها الصحابة رضي الله عنهم من الاعتقاد أو الفتيا ، فكلها محصور مضبوط ، معروف عند أهل النقل من ثقات المحدثين و علمائهم ، فكل مسألة لم يرد فيها قول عن صاحب لكن عن تابع فمن بعده ، فإن ذلك التابع قال في تلك المسألة بقول لم يقله أحد قبله بلا شك ، و كذلك كل مسألة لم يحفظ فيها قول عن صاحب و لا تابع ، و تكلم فيها الفقهاء بعدهم فإن ذلك الفقيه قد قال في تلك المسألة بقول لم يقله أحد قبله .
ومن ثقف هذا الباب فإنه يجد لأبي حنيفة ومالك و الشافعي أزيد من عشرة آلاف مسألة لم يقل فيها أحد قبهم بما قالوه ، فكيف يسوغ هؤلاء الجهال للتابعين ، ثم لمن بعدهم أن يقولو قولا لم يقله أحدا قبلهم ، و يحرم ذلك على من بعدهم إلينا ثم إلى يوم القيامة ، فهذا من قائله دعوى بلا برهان ، و تخرص في الدين ، وخلاف الإجماع على جواز ذلك لمن ذكرنا ) اهـ .
و من نفيس كلام الألباني في هذا المعنى قوله : ( إنه لا يضر الحديث ، و لا يمنع العمل به عدم العلم بمن قال به من الفقهاء ، لأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ) اهـ .
و قوله : ( تشبث به _ يعني الحديث _ و عض عليه بالنواجذ ، ودع عنك آراء الرجال ؛ فإنه إذا ورد الأثر بطل النظر ، و إذا ورد نهر الله بطل نهر معقل ) اهـ .
و قوله : ( هذا ، ولعل فيمن ينصر السنة و يعمل بها و يدعو إليها من يتوقف عن العمل بهذه الأحاديث ، بعذر أنه لا يعلم أحدا من السلف قال بها . فليعلم هؤلاء الأحبة : أن هذا العذر قد يكون مقبولا في بعض المسائل التي يكون طريق تقريرها إنما هو الاستنباط و الإجتهاد فحسب ، لأن النفس حينئذ لا تطمئن لها خشية أن يكون الاستنباط خطأ ، ولا سيما إذا كان المستنبط من هؤلاء المتأخرين الذين يقررون أمورا لم يقل بها أحد من المسلمين بدعوى أن المصلحة تقتضي تشريعها ! دون أن ينظروا إلى موافقتها لنصوص الشرع أولا ، مثل إباحة بعضهم للربا الذي سماه بـ( الربا الإستهلاكي ) و اليانصيب الخيري – زعموا – ونحوهما ، أما و مسألتنا ليست من هذا القبيل ؛ فإن فيها نصوصا صريحة محكمة لم يأت ما ينسخها – كما سبق بيانه – فلا يجوز ترك العمل بها للعذر المذكور ) اهـ .
قلت : و لا أعلم للشيخ الألباني مسألة اختار فيها قولا لم يسبقه إليه أحد من أهل العلم ، وهو يحرص دائما أن يذكر سلفه فيما اختار العمل به من الأقوال التي ظهر له موافقتها للنصوص .
و الشيخ يرجع إلى أقوال العلماء و يعتبر كلامهم ، و يستفيد منه ، دون تعصب أو تقليد، فقد قال في مقدمة كتابه ( صفة صلاة النبي صلى الله عليه و سلم ) : ( وأما الرجوع إلى أقوالهم – يعني العلماء – و الإستفادة منها و الاستعانة بها على تفهم وجه الحق فيما اختلفوا فيه مما ليس عليه نص في الكتاب و السنة ، أو ما كان منها بحاجة إلى توضيح ، فأمر لا ننكره ، بل نأمر به ، و نحض عليه ؛ لأن الفائدة منه مرجوة ، لمن سلك سبيل الإقتداء بالكتاب و السنة ، قال العلامة ابن عبد البر رحمه الله تعالى - : ( فعليك يا أخي بحفظ الأصول و العناية بها ، و اعلم أن من عني بحفظ السنن و الأحكام المنصوصة في القرآن ، و نظر في أقاويل الفقهاء ، فجعله عونا له على اجتهاده ، ومفتاحا لطرائق النظر ، وتفسيرا لجمل السنن المحتملة للمعاني ، و لم يقلد أحدا منهم تقليد السنن التي يجب الانقياد إليها على كل حال دون نظر و لم يرح نفسه مما أخذ العلماء به أنفسهم من حفظ السنن وتدبرها ، و اقتدى بهم في البحث و التفهم و النظر ، و شكر لهم سعيهم فيما أفادوه و نبهوا عليه ، و حمدهم على صوابهم الذي هو أكثر أقوالهم ، و لم يبرئهم من الزلل كما لم يبرئوا أنفسهم منه ، فهذا هو الطالب المتمسك بما عليه السلف الصالح ، وهو المصيب لحظه ، و المعاين لرشده ، و المتابع لسنة نبيه صلى الله عليه و سلم ، و هدي صحابته رضي الله عنهم .
و من أعف نفسه من النظر ، و أضرب عما ذكرنا ، وعارض السنن برأيه ، و رام أن يردها إلى مبلغ نظره ، فهو ضال مضل ، و من جهل ذلك كله أيضا ، و تقحم في الفتوى بلا علم فهو أشد عمى ، و أضل سبيلا ) اهـ .
فهذا الحق ليس به خفاء فدعني عن بنيات الطريق
يتبع إن شاء الله تعالى
الحلقة السابعة من قول المؤلف حفظه الله تعالى :
أما قولهم : ظاهري المذهب .
قال الشيخ محمد بن عمر بازمول حفظه الله تعالى :
أما قولهم : لا يحترم العلماء ولا يعرف قدرهم
فهو دعوى عرية عن الدليل ، بل الواقع خلافها ِ، وكل ما في الأمر أن بعض الناس توهم أن الشيخ الألباني لما يعمل بالحديث الصحيح الذي لم يعلم له مخالفا معتبرا ، أهدر بتصرفه هذا العلماء الذين لم يعملوا بهذا الحديث ، و لم يحترم قدرهم ! وهذا الوهم لا وجه له ، لما يلي :
أن هناك فرقا بين تجريد متابعة المعصوم صلى الله عليه وسلم ، و بين إهدار أقوال العلماء .
قال ابن القيم رحمه الله : ( الفرق بين تجريد متابعة المعصوم صلى الله عليه و سلم ، وإهدار أقوال العلماء و إلغائها :
أن تجريد المتابعة : ألا تقدم على ما جاء به قول أحد ، و برأيه كائنا من كان ، بل تنظر في صحة الحديث أولا ، فإذا صح لك نظرت في معناه ثانيا ، فإذا تبين لك لم تعدل عنه ، ولو خالفك من بين المشرق و المغر ب .
و معاذ الله أن تتفق الأمة على مخالفة ما جاء به نبيها ، بل لابد أن يكون في الأمة من قال به ، و لو لم تعلمه ؛ فلا تجعل جهلك بالقائل به حجة على الله و رسوله ، بل اذهب إلى النص ، و لا تضعف ، واعلم أنه قد قال به قائل قطعا ، و لكن لم يصل إليك .
هذا مع حفظ مراتب العلماء وموالاتهم واعتقاد حرمتهم و أمانتهم و اجتهادهم في حفظ الدين و ضبطه ، فهم دائرون بين الأجر و الأجرين ، و المغفرة ، لكن لا يوجب هذا إهدار النصوص و تقديم قول الواحد منهم عليها بشبهة : إنه أعلم بها منك ؛ فإن كان كذلك فمن ذهب إلى النص اعلم به منك ، فهلا وافقته إن كنت صادقا !
فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها ، وخالف منه ما خالف النص لم يهدر أقوالهم ، ولم يهضم جانبهم ، بل اقتدى بها ، فإنهم كلهم أمروا بذلك ، فمتبعهم حقا من امتثل ما أوصوا به لا من خالفهم .
فخلافهم في القول الذي جاء النص بخلافه أسهل من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا و دعوا إليها : من تقديم النص على أقوالهم .
ومن هنا يتبين الفرق بين تقليد العالم في كل ما قال ، وبين الإستعانة بفهمه ، و الاستضاءة بنور علمه ؛ فالأول يأخذ قوله من غير نظر ، ولا طلب لدليله من الكتاب و السنة ، بل يجعل ذلك كالحبل الذي يلقيه في عنقه يقلده به ، و لذلك سمي تقليدا ، بخلاف من استعان بفهمه ، و استضاء بنور علمه في الوصول إلى الرسول – صلوات الله و سلامه عليه – فإنه يجعلهم بمنزلة الدليل إلى الدليل الأول ، فإذا وصل إليه استغنى بدلالته عن الإستدلال بغيره ؛ فمن استدل بالنجم على القبلة فإنه إذا شاهدها لم يبق لاستدلاله بالنجم معنى .
قال الشافعي : إذ أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد ) اهـ .
قلت : ينبني على هذا التقرير أمور أهمها ما يلي :
أن المحل الذي يطلب فيه وجود سلف للمستدل للعالم فيما ذهب إليه إنما هو في غير المسالة التي جاء فيها نص محكم سالم من النسخ و المعارضة .
و ذلك أن الذي ينبغي للعالم إذا اجتهد في مسالة أن ينظر هل سبقه أحد من السلف إلى هذا الإجتهاد ، أو لا ، فإن لم يجد من سبقه إلى هذا الإجتهاد فليتوقف و ليتراجع .
وفي هذا قال ابن تيمية رحمه الله : ( كل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين ، ولم يسبقه إليه أحد منهم ، فإنه يكون خطأ ، كما قال الإمام أحمد : إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام ) اهـ .
فإذا جاء الدليل الذي يلزم المصير إليه ولم يسع أحد مخالفته لمجرد أنه لا يعلم من قال به .[قال الشيخ حفظه الله في الحاشية : هذا الموضع بحاجة إلى بيان ن وذلك كما يلي :
اعلم أن الحديث إذا صح و كان يتضمن حكما عاما على كافة الخلق ، فلا يخلو عن الأحوال التالية :
الأولى : أن ينقل عن السلف العمل به ، بلا خلاف بينهم ، فهنا يجب عليك العمل بالحديث بلا خلاف بين العلماء .
الثانية : أن ينقل عن السلف اختلافهم في المسألة التي ورد فيها الحديث ، فهنا الحديث يقوي قول من ذهب إلى مقتضاه من السلف .
الثالثة : أن ينقل عنهم الإجماع على العمل بخلاف هذا الحديث الفرد ، فهنا لاشك في ترك العمل بالحديث ، ويكون الإجماع (المتيقن ) دليلا على النسخ ، أو التعليل ، وهذا من الأمور التي يعل بها متن الحديث .
الرابعة : أن يرد الحديث و لا تقف عن السلف لا على ما يفيد ترك العمل به ، ولا ما يفيد العمل به ؛ فهنا محل البحث ، والذي يظهر و الله أعلم ، أن يعمل بالحديث ، ولا يهجر ، حتى يوقف على مانع صحيح يمنع من العمل به ، والله الموفق .
انظر رسالة : ( تحفة الأنام في العمل بحديث النبي عليه السلام ) لمحمد حياة السندي .
و رسالة : ( الحديث حجة بنفسه ) لمحمد ناصر الدين الألباني .] انتهت الحاشية .
قال أبو محمد بن حزم رحمه الله : ( فكل من أدّاه البرهان من النص أو الإجماع المتيقن إلى قول ما ، ولم يعرف أحد قبله بذلك القول ، ففرض عليه القول بما أدى إليه البرهان ، ومن خالفه فقد خالف الحق ، ومن خالف الحق فقد عصى الله تعالى . قال تعالى : { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } و لم يشترط تعالى في ذلك أن يقول به قائل قبل القائل به ، بل أنكر على من قاله ،إذ يقول عزوجل حاكيا عن الكفار منكرا عليهم أنهم قالوا { ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق } .
قال أبو محمد : ومن خالف هذا فقد أنكر على جميع التابعين و جميع الفقهاء بعدهم ، لأن المسائل التي تكلم فيها الصحابة رضي الله عنهم من الاعتقاد أو الفتيا ، فكلها محصور مضبوط ، معروف عند أهل النقل من ثقات المحدثين و علمائهم ، فكل مسألة لم يرد فيها قول عن صاحب لكن عن تابع فمن بعده ، فإن ذلك التابع قال في تلك المسألة بقول لم يقله أحد قبله بلا شك ، و كذلك كل مسألة لم يحفظ فيها قول عن صاحب و لا تابع ، و تكلم فيها الفقهاء بعدهم فإن ذلك الفقيه قد قال في تلك المسألة بقول لم يقله أحد قبله .
ومن ثقف هذا الباب فإنه يجد لأبي حنيفة ومالك و الشافعي أزيد من عشرة آلاف مسألة لم يقل فيها أحد قبهم بما قالوه ، فكيف يسوغ هؤلاء الجهال للتابعين ، ثم لمن بعدهم أن يقولو قولا لم يقله أحدا قبلهم ، و يحرم ذلك على من بعدهم إلينا ثم إلى يوم القيامة ، فهذا من قائله دعوى بلا برهان ، و تخرص في الدين ، وخلاف الإجماع على جواز ذلك لمن ذكرنا ) اهـ .
و من نفيس كلام الألباني في هذا المعنى قوله : ( إنه لا يضر الحديث ، و لا يمنع العمل به عدم العلم بمن قال به من الفقهاء ، لأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ) اهـ .
و قوله : ( تشبث به _ يعني الحديث _ و عض عليه بالنواجذ ، ودع عنك آراء الرجال ؛ فإنه إذا ورد الأثر بطل النظر ، و إذا ورد نهر الله بطل نهر معقل ) اهـ .
و قوله : ( هذا ، ولعل فيمن ينصر السنة و يعمل بها و يدعو إليها من يتوقف عن العمل بهذه الأحاديث ، بعذر أنه لا يعلم أحدا من السلف قال بها . فليعلم هؤلاء الأحبة : أن هذا العذر قد يكون مقبولا في بعض المسائل التي يكون طريق تقريرها إنما هو الاستنباط و الإجتهاد فحسب ، لأن النفس حينئذ لا تطمئن لها خشية أن يكون الاستنباط خطأ ، ولا سيما إذا كان المستنبط من هؤلاء المتأخرين الذين يقررون أمورا لم يقل بها أحد من المسلمين بدعوى أن المصلحة تقتضي تشريعها ! دون أن ينظروا إلى موافقتها لنصوص الشرع أولا ، مثل إباحة بعضهم للربا الذي سماه بـ( الربا الإستهلاكي ) و اليانصيب الخيري – زعموا – ونحوهما ، أما و مسألتنا ليست من هذا القبيل ؛ فإن فيها نصوصا صريحة محكمة لم يأت ما ينسخها – كما سبق بيانه – فلا يجوز ترك العمل بها للعذر المذكور ) اهـ .
قلت : و لا أعلم للشيخ الألباني مسألة اختار فيها قولا لم يسبقه إليه أحد من أهل العلم ، وهو يحرص دائما أن يذكر سلفه فيما اختار العمل به من الأقوال التي ظهر له موافقتها للنصوص .
و الشيخ يرجع إلى أقوال العلماء و يعتبر كلامهم ، و يستفيد منه ، دون تعصب أو تقليد، فقد قال في مقدمة كتابه ( صفة صلاة النبي صلى الله عليه و سلم ) : ( وأما الرجوع إلى أقوالهم – يعني العلماء – و الإستفادة منها و الاستعانة بها على تفهم وجه الحق فيما اختلفوا فيه مما ليس عليه نص في الكتاب و السنة ، أو ما كان منها بحاجة إلى توضيح ، فأمر لا ننكره ، بل نأمر به ، و نحض عليه ؛ لأن الفائدة منه مرجوة ، لمن سلك سبيل الإقتداء بالكتاب و السنة ، قال العلامة ابن عبد البر رحمه الله تعالى - : ( فعليك يا أخي بحفظ الأصول و العناية بها ، و اعلم أن من عني بحفظ السنن و الأحكام المنصوصة في القرآن ، و نظر في أقاويل الفقهاء ، فجعله عونا له على اجتهاده ، ومفتاحا لطرائق النظر ، وتفسيرا لجمل السنن المحتملة للمعاني ، و لم يقلد أحدا منهم تقليد السنن التي يجب الانقياد إليها على كل حال دون نظر و لم يرح نفسه مما أخذ العلماء به أنفسهم من حفظ السنن وتدبرها ، و اقتدى بهم في البحث و التفهم و النظر ، و شكر لهم سعيهم فيما أفادوه و نبهوا عليه ، و حمدهم على صوابهم الذي هو أكثر أقوالهم ، و لم يبرئهم من الزلل كما لم يبرئوا أنفسهم منه ، فهذا هو الطالب المتمسك بما عليه السلف الصالح ، وهو المصيب لحظه ، و المعاين لرشده ، و المتابع لسنة نبيه صلى الله عليه و سلم ، و هدي صحابته رضي الله عنهم .
و من أعف نفسه من النظر ، و أضرب عما ذكرنا ، وعارض السنن برأيه ، و رام أن يردها إلى مبلغ نظره ، فهو ضال مضل ، و من جهل ذلك كله أيضا ، و تقحم في الفتوى بلا علم فهو أشد عمى ، و أضل سبيلا ) اهـ .
فهذا الحق ليس به خفاء فدعني عن بنيات الطريق
يتبع إن شاء الله تعالى
الحلقة السابعة من قول المؤلف حفظه الله تعالى :
أما قولهم : ظاهري المذهب .
تعليق