بسم الله رحمن الرحيم
الحلقة الثالثة
أما قولهم : محدث و ليس بفقيه :
فقد قيلت هذه الكلمة في إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله . وهي مما يشنع به أهل الرأي على أهل الحديث ، وقد كذّب الله هذه المقولة ، حيث أجمعت الأمة بعد أنه إمام من أئمة الهدى و الفقه ، بل نسب إليه مذهب من المذاهب الفقهية المتبوعة ، وذهبت تلك المقولة أدراج الرياح .
وكان ممن تصدى لرد هذه المقولة ، والذب عن الإمام أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله : أبوالوفاء علي بن عقيل رحمه الله حيث قال : ( ومن عجيب ما تسمعه عن هؤلاء الأحداث الجهال ، أنهم يقولون : أحمد ليس بفقيه ، لكنه محدث ! وهذا غاية الجهل ؛ لأنه قد خرج عنه اختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرهم ، وقد خرج عنه من دقيق الفقه ما ليس نراه لأحد منهم ، وانفرد بما سلموه له من الحفظ ، وشاركهم و ربما زاد على كبارهم) اهـ .
قلت : و هذه العبارة ( محدث و ليس بفقيه ) إن أريد بها مجرد الوصف بأنه من أهل الحديث ، النابغين النابهين فيه ، و لم يرتب على ذلك شيء من سلب نعت الفقه ، فهذا لا اعتراض عليه ، إذ الإمام رحمه الله من أئمة الحديث ، المشهود له بالدراية و طول الباع فيه ، شهد له بذلك ، وهذا – والحمد لله – مما لايختلف فيه اثنان و لا ينتطح فيه عنزان ، على ما أحسب .
أما إذا أريد بهذه العبارة : إسقاط كلام الإمام – و غيره من أهل الحديث الذين قيلت فيهم هذه العبارة ونحوها – في فقه الحديث ، و بيان معانيه و اختياراته و ترجيحاته في مسائل العلم ، فهذا معنى منكر باطل ، يرد عليه بما يلي :
يقال لهم : ما الفقه عندكم ؟ إن أردتم بالفقه حفظ المسائل و المتون و الخوض في الإفتراضات ، دون تأصيل ذلك على الدليل الصحيح ، فهذا الفقه أهل الحديث من أبعد الناس عنه ، بله الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله .
و إن أردتم بالفقه : الفهم و التفقه لنصوص الكتاب العزيز و السنة المطهرة على ضوء فهم الصحابة – رضوان الله عليهم – وتابعيهم ، دون تعصب لأحد ، إلا للدليل ، فنحن نطالب بدليل واحد على أن الإمام أحمد أو أحدا من أهل الحديث لم يكن كذلك !
ثم هل القول عن إنسان ما : إنه فقيه ! يعني : أن كل ما جاء به حق ؟ و القول على إنسان ما أنه محدث ! يعني أن كل ما جاء به باطل ؟ أو أن العبرة بالدليل ، فمن كان معه الدليل الصحيح السالم من المعارضة فهو على حق ، ومن لا فلا ؟!
و إذا كان الحق يعرف بالدليل الصحيح السالم عن المعارضة ، فما فائدة القول : فلان ليس بفقيه ؟ هل تغني عن الحق شيئا ؟
إن هذه الكلمة : محدث ليس بفقيه ، بتلك المعاني الباطلة كلمة شيطانية ، تجري على ألسنة بعض الناس فتقذف في القلوب الإستهانة بالحديث و أهله ، و أن الفقيه يمكنه أن يستغني عن الحديث ، و تصور الأمر وكأن هناك مشكلة بين الحديث و الفقه ، وقديما نعى الخطابي ( ت-388هـ ) رحمه الله : على من ذهب هذا المذهب ، و سلك هذا السبيل ، فقال رحمه الله : ( و رأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين ، و انقسموا إلى فرقتين ، أصحاب حديث و أثر ، وأهل فقه ونظر ، وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة ، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية و الإرادة ، لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل ، و الفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع ، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار ، وكل أساس خلا من بناء و عمارة فهو قفر وخراب .
ووجدت هذين الفريقين – على ما بينهم من التداني في المحلين ن والتقارب في المنزلتين ، وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض ، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم لصاحبه - : إخوانا متهاجرين ، وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر و التعاون غير متظاهرين .
فأما هذه الطبقة ، الذين هم أهل الأثر و الحديث ، فإن الأكثرين منهم إنما وكدهم الروايات وجمع الطرق ، وطلب الغريب و الشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مقلوب ، لا يراعون المتون ، ولا يتفهمون المعاني ، ولا يستنبطون سيرها ، ولا يستخرجون ركازها و فقهها ، وبما عابوا الفقهاء ، و تناولوهم بالطعن ، وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أتوه من العلم قاصرون ، وبسوء القول فيهم آثمون .
و أما الطبقة الأخرى – وهم أهل الفقه و النظر – فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقله ، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه ، ولا يعرفون جيده من رديئه ، ولا يعبئون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها ، ووافق آراءهم التي يعتقدونها ، وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف و الحديث المنقطع ؛ إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم وتعاورته الألسن فيما بينهم ، من غير ثبت أو يقين علم به ، فكان ذلك ضلة في الرأي و غبنا فيه .
وهؤلاء – وفقنا الله و إياهم – لو حكي لهم عن واحد من رؤساء مذاهبهم و زعماء نحلهم قول يقول باجتهاد من قبل نفسه : طلبوا فيه الثقة ، و اسبرءوا له العهدة ، فتجد أصحاب مالك لا يعتمدون من مذهبه إلا ما كان من رواية ابن القاسم ، والأشهب ، و ضربائهم ، من تلاد أصحابه ، فإذا جاءت رواية عبدالله بن عبدالحكم و أضرابه لم تكن عندهم طائلا !
وترى أصحاب أبي حنيفة لا يقبلون من الرواية عنه إلا ما حكاه أبو يوسف و محمد بن الحسن و العلية من أصحابه و الأجلة من تلامذته ، فإن جاءهم عن الحسن بن زياد اللؤلؤي و ذويه رواية قول بخلافه لم يقبلوه و لم يعتمدوه .
وكذلك تجد أصحاب الشافعي إنما يعولون في مذهبه على رواية المزني و الربيع و سليمان المرادي ، فإذا جاءت رواية حرملة و الجيزي و أمثالهما لم يلتفتوا إليها ، ولم يعتدوا بها في أقاويله .
وعلى هذا عادة كل فرقة من العلماء في أحكام مذاهب أئمتهم و أساتذتهم ،فإذا كان هذا دأبهم وكانوا لا يقنعون في أمر هذه الفروع و رواياتها عن هؤلاء إلا بالوثيقة و الثبت ، فكيف يجوز لهم أن يتساهلوا في الأمر الأهم و الخطب الأعظم ؟ و أن يتواكلوا الرواية و النقل عن إمام الأئمة و رسول رب العزة : الواجب حكمه اللازمة طاعته ، الذي يجب علينا التسليم لحكمه ، و الانقياد لأمره ، من حيث لا نجد في أنفسنا حرجا مما قضاه ، و لا في صدورنا غلا من شيء مما أبرمه و أمضاه ، أرأيتم إذا كان للرجل أن يتساهل في أمر نفسه ، ويتسامح عن غرمائه في حقه ، فيأخذ منهم الزيف ، و يغضي لهم عن العيب ، هل يجوز له أن يفعل ذلك في حق غيره إن كان تائبا عنه ، كولي الضعيف ووصي اليتيم ، ووكيل الغائب ؟ وهل يكون ذلك منه إذا فعله إلا خيانة للعهد ، و إخفارا للذمة ؟ فهذا هو ذاك ، إما عيان حس و إما عيان مثل ، ولكن أقوانا عساهم أستوعروا طريق الحق ، و استطالوا المدة في درك الحظ ، و أحبوا عجالة النيل فاختصروا طريق العلم ، و اقتصروا على نتف و حروف منتزعة عن معاني أصول الفقه ، سموها عللا ، وجعلوها شعارا لأنفسهم في الترسم برسم العلم ، اتخذوها جنة عند لقاء خصومهم ، و نصبوها دريئة للخوض و الجدال ، يتناظرون بها و يتلاطمون عليها . وعند التصادر عنها حكم للغالب بالحذق و التبريز ، فهو الفقيه المذكور في عصره ، و الرئيس المعظم في بلده و مصره .
هذا وقد دس لهم الشيطان حيلة لطيفة ، وبلغ منهم مكيدة بليغة ، فقال لهم : هذا الذي في أيديكم علم قصير ، وبضاعة مزجاة ، لا تفي بمبلغ الحاجة و الكفاية ، فاستعينوا عليه بالكلام ، و صلوه بمقطعات منه ، واستظهروا بأصول المتكلمين ؛ يتسع لكم مذهب الخوض ومجال النظر ! فصدق عليهم ظنه ، و أطاعه كثير منهم و اتبعوه، إلا فريقا من المؤمنين .
فيا للرجال و العقول ! أنى يذهب بهم ؟ و أنى يختدعهم الشيطان عن حظهم وموضع رشدهم ؟! و الله المستعان )) اهـ
وبعد : هل يقال عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه ، أو عن أحد كبار أهل الحديث ، أنه محدث ليس بفقيه ؟ بل هل يتردد أحد في جزم بأنه لا فقه بدون حديث ، ولا حديث بدون فقه ؟ بل هل يقول أحد أن الإمام أحمد وكبار أهل الحديث لم يكونوا على منهج السلف الصالح في التفقه ؟
لست أظن من يقف على ما ذكرت يتردد في وصف الإمام أحمد بالفقه ، وأن الله جمع له بين نعت المحدث و نعت الفقيه ، بل لا أتصور محدثا لا يفقه شيئا مما يرويه .
و قوله صلى الله عليه وسلم : (( نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه )) ؛ ليس فيه أن أهل الحديث لا يفقهون ما يروونه من الأخبار ، غاية ما فيه أنه ليس من شرط التحمل والأداء الفقه ، إنما شرطه الحفظ. و لا يفهم من هذا الحديث وجود محدث لا يفقه شيئا ، فإن غايته أنه قد يوجد محدث ينقل حديثا لا يفقه ، أو لا يفقه بعض ما فيه من معان ؛ لكن ليس في الخبر أنه لا يفقه شيئا . وفي استعمال : ((رب)) التي تفيد القليل ما يشعر أن عامة أهل الحديث يفقهون حديثهم إلا القليل منهم فقد لا يفقه بعضا مما يرويه ، لا أنه لا فقه لديه .
ومن ذلك أن عبدالله بن هاشم قال: قال لنا وكيع : أي الإسنادين أحب إليكم : الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله ، أو سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله ؟
فقلنا الأول !
فقال : الأعمش شيخ ، و أبو وائل شيخ ، و سفيان فقيه ، ومنصور فقيه ؛ حديث يتداوله الفقهاء خير مما يتداوله الشيوخ .
قال الذهبي معقبا : (( بل الأعمش و شيخه لهما فقه و معرفة و جلالة ! )) اهـ
و قبل أن أضع القلم و أطوي الصفحة ، طويا –بإذن الله تعالى- معها هذه المقولة الباطلة ، اسطر هنا المهمات التالية :
أولا : هذه المقولة أولها هفوة ، وبدعة و آخرها تحلل و زندقة . أما كونها بدعة ؛ فلأننا لم نعهدها من السلف الصالح –رضوان الله عليهم أجمعين ، وأما كونها تحللا و زندقة فلأنها تجر إلى اطراح كلام أهل العلم جميعه ، و بالتالي إسقاط الشرائع و تعطيل الأحكام على المسلمين العوام ، فيقال مرة : هذا الحكم قاله فلان وهو محدث ليس بفقيه ، فلا يقبل . ويقال مرة : هذا الحكم قاله فلان وهو فقيه ليس بمحدث ، فلا يقبل . و النتيجة التحلل عن أحكام الديانة ! أعيذك و إياي بالله العظيم من ذلك .
ثانيا : ليس مقصودي إثبات العصمة لأحد غير رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فلا أقصد أن الإمام أحمد بن حنبل و غيره من أئمة الحديث وكبارهم معصومون في كل قول يقولونه و يختارونه ، إنما مقصودي بالذب عن الإمام أحمد رحمه الله فيما رمي به ، و الذب عن أهل الحديث من خلال ذلك ، و بيان أن منهج الإمام أحمد في التفقه هو منهج أهل الحديث وهو منهج الأئمة والسلف الصالح –رضوان الله عليهم –وقد قدمت لك معالم منهج التفقه عند السلف الصالح ، فانظر هل خرج الإمام عن سبيلهم ، أو شاق في آية أو حديث ؟
ثالثا : وقوع القصور في التطبيق ، و حصول الأخذ و الرد من أهل العلم ، لا يسلب نعت الفقه عنهم ، وينبني عن هذا أن تعلم : أن وقوع بعض القصور في تطبيق هذا المنهج في التفقه عند الإمام أحمد بن حنبل أو غيره من أهل الحديث لا يسلم منه أحد من المتفقهين ، ونحن لا ندعي العصمة لأحد غير الرسل – صلوات الله و سلامه عليهم .
وكذا وقوع الأخذ و الرد في بعض مسائل العلم التي أبرز فيها الإمام اختياره و استدل له ، لا يعني سلب نعت الفقه عنه ، إذ ذلك لم يسلم منه أحد من الأئمة ، بله العلماء ، بله طلبة العلم ، وقد قال مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة : (( كل منا يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر )).
و أخيرا : لا يفوتني أن ألفت نظر الإخوة أهل الحديث إلى النهوض بجمع اختيارات أهل الحديث الفقهية ، و تصنيفها على الأبواب ، مع توثيقها و خدمتها ، إذ في ذلك إثراء للمكتبة الإسلامية ، و إبراز لفقه أهل الحديث ، وفق الله الجميع لما يحبه و يرضاه.
يتبع إن شاء الله تعالى
الحلقة الرابعة من قول المصنف:
أما قولهم : لا علم له بالأصول.
الحلقة الثالثة
أما قولهم : محدث و ليس بفقيه :
فقد قيلت هذه الكلمة في إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله . وهي مما يشنع به أهل الرأي على أهل الحديث ، وقد كذّب الله هذه المقولة ، حيث أجمعت الأمة بعد أنه إمام من أئمة الهدى و الفقه ، بل نسب إليه مذهب من المذاهب الفقهية المتبوعة ، وذهبت تلك المقولة أدراج الرياح .
وكان ممن تصدى لرد هذه المقولة ، والذب عن الإمام أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله : أبوالوفاء علي بن عقيل رحمه الله حيث قال : ( ومن عجيب ما تسمعه عن هؤلاء الأحداث الجهال ، أنهم يقولون : أحمد ليس بفقيه ، لكنه محدث ! وهذا غاية الجهل ؛ لأنه قد خرج عنه اختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرهم ، وقد خرج عنه من دقيق الفقه ما ليس نراه لأحد منهم ، وانفرد بما سلموه له من الحفظ ، وشاركهم و ربما زاد على كبارهم) اهـ .
قلت : و هذه العبارة ( محدث و ليس بفقيه ) إن أريد بها مجرد الوصف بأنه من أهل الحديث ، النابغين النابهين فيه ، و لم يرتب على ذلك شيء من سلب نعت الفقه ، فهذا لا اعتراض عليه ، إذ الإمام رحمه الله من أئمة الحديث ، المشهود له بالدراية و طول الباع فيه ، شهد له بذلك ، وهذا – والحمد لله – مما لايختلف فيه اثنان و لا ينتطح فيه عنزان ، على ما أحسب .
أما إذا أريد بهذه العبارة : إسقاط كلام الإمام – و غيره من أهل الحديث الذين قيلت فيهم هذه العبارة ونحوها – في فقه الحديث ، و بيان معانيه و اختياراته و ترجيحاته في مسائل العلم ، فهذا معنى منكر باطل ، يرد عليه بما يلي :
يقال لهم : ما الفقه عندكم ؟ إن أردتم بالفقه حفظ المسائل و المتون و الخوض في الإفتراضات ، دون تأصيل ذلك على الدليل الصحيح ، فهذا الفقه أهل الحديث من أبعد الناس عنه ، بله الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله .
و إن أردتم بالفقه : الفهم و التفقه لنصوص الكتاب العزيز و السنة المطهرة على ضوء فهم الصحابة – رضوان الله عليهم – وتابعيهم ، دون تعصب لأحد ، إلا للدليل ، فنحن نطالب بدليل واحد على أن الإمام أحمد أو أحدا من أهل الحديث لم يكن كذلك !
ثم هل القول عن إنسان ما : إنه فقيه ! يعني : أن كل ما جاء به حق ؟ و القول على إنسان ما أنه محدث ! يعني أن كل ما جاء به باطل ؟ أو أن العبرة بالدليل ، فمن كان معه الدليل الصحيح السالم من المعارضة فهو على حق ، ومن لا فلا ؟!
و إذا كان الحق يعرف بالدليل الصحيح السالم عن المعارضة ، فما فائدة القول : فلان ليس بفقيه ؟ هل تغني عن الحق شيئا ؟
إن هذه الكلمة : محدث ليس بفقيه ، بتلك المعاني الباطلة كلمة شيطانية ، تجري على ألسنة بعض الناس فتقذف في القلوب الإستهانة بالحديث و أهله ، و أن الفقيه يمكنه أن يستغني عن الحديث ، و تصور الأمر وكأن هناك مشكلة بين الحديث و الفقه ، وقديما نعى الخطابي ( ت-388هـ ) رحمه الله : على من ذهب هذا المذهب ، و سلك هذا السبيل ، فقال رحمه الله : ( و رأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين ، و انقسموا إلى فرقتين ، أصحاب حديث و أثر ، وأهل فقه ونظر ، وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة ، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية و الإرادة ، لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل ، و الفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع ، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار ، وكل أساس خلا من بناء و عمارة فهو قفر وخراب .
ووجدت هذين الفريقين – على ما بينهم من التداني في المحلين ن والتقارب في المنزلتين ، وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض ، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم لصاحبه - : إخوانا متهاجرين ، وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر و التعاون غير متظاهرين .
فأما هذه الطبقة ، الذين هم أهل الأثر و الحديث ، فإن الأكثرين منهم إنما وكدهم الروايات وجمع الطرق ، وطلب الغريب و الشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مقلوب ، لا يراعون المتون ، ولا يتفهمون المعاني ، ولا يستنبطون سيرها ، ولا يستخرجون ركازها و فقهها ، وبما عابوا الفقهاء ، و تناولوهم بالطعن ، وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أتوه من العلم قاصرون ، وبسوء القول فيهم آثمون .
و أما الطبقة الأخرى – وهم أهل الفقه و النظر – فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقله ، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه ، ولا يعرفون جيده من رديئه ، ولا يعبئون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها ، ووافق آراءهم التي يعتقدونها ، وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف و الحديث المنقطع ؛ إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم وتعاورته الألسن فيما بينهم ، من غير ثبت أو يقين علم به ، فكان ذلك ضلة في الرأي و غبنا فيه .
وهؤلاء – وفقنا الله و إياهم – لو حكي لهم عن واحد من رؤساء مذاهبهم و زعماء نحلهم قول يقول باجتهاد من قبل نفسه : طلبوا فيه الثقة ، و اسبرءوا له العهدة ، فتجد أصحاب مالك لا يعتمدون من مذهبه إلا ما كان من رواية ابن القاسم ، والأشهب ، و ضربائهم ، من تلاد أصحابه ، فإذا جاءت رواية عبدالله بن عبدالحكم و أضرابه لم تكن عندهم طائلا !
وترى أصحاب أبي حنيفة لا يقبلون من الرواية عنه إلا ما حكاه أبو يوسف و محمد بن الحسن و العلية من أصحابه و الأجلة من تلامذته ، فإن جاءهم عن الحسن بن زياد اللؤلؤي و ذويه رواية قول بخلافه لم يقبلوه و لم يعتمدوه .
وكذلك تجد أصحاب الشافعي إنما يعولون في مذهبه على رواية المزني و الربيع و سليمان المرادي ، فإذا جاءت رواية حرملة و الجيزي و أمثالهما لم يلتفتوا إليها ، ولم يعتدوا بها في أقاويله .
وعلى هذا عادة كل فرقة من العلماء في أحكام مذاهب أئمتهم و أساتذتهم ،فإذا كان هذا دأبهم وكانوا لا يقنعون في أمر هذه الفروع و رواياتها عن هؤلاء إلا بالوثيقة و الثبت ، فكيف يجوز لهم أن يتساهلوا في الأمر الأهم و الخطب الأعظم ؟ و أن يتواكلوا الرواية و النقل عن إمام الأئمة و رسول رب العزة : الواجب حكمه اللازمة طاعته ، الذي يجب علينا التسليم لحكمه ، و الانقياد لأمره ، من حيث لا نجد في أنفسنا حرجا مما قضاه ، و لا في صدورنا غلا من شيء مما أبرمه و أمضاه ، أرأيتم إذا كان للرجل أن يتساهل في أمر نفسه ، ويتسامح عن غرمائه في حقه ، فيأخذ منهم الزيف ، و يغضي لهم عن العيب ، هل يجوز له أن يفعل ذلك في حق غيره إن كان تائبا عنه ، كولي الضعيف ووصي اليتيم ، ووكيل الغائب ؟ وهل يكون ذلك منه إذا فعله إلا خيانة للعهد ، و إخفارا للذمة ؟ فهذا هو ذاك ، إما عيان حس و إما عيان مثل ، ولكن أقوانا عساهم أستوعروا طريق الحق ، و استطالوا المدة في درك الحظ ، و أحبوا عجالة النيل فاختصروا طريق العلم ، و اقتصروا على نتف و حروف منتزعة عن معاني أصول الفقه ، سموها عللا ، وجعلوها شعارا لأنفسهم في الترسم برسم العلم ، اتخذوها جنة عند لقاء خصومهم ، و نصبوها دريئة للخوض و الجدال ، يتناظرون بها و يتلاطمون عليها . وعند التصادر عنها حكم للغالب بالحذق و التبريز ، فهو الفقيه المذكور في عصره ، و الرئيس المعظم في بلده و مصره .
هذا وقد دس لهم الشيطان حيلة لطيفة ، وبلغ منهم مكيدة بليغة ، فقال لهم : هذا الذي في أيديكم علم قصير ، وبضاعة مزجاة ، لا تفي بمبلغ الحاجة و الكفاية ، فاستعينوا عليه بالكلام ، و صلوه بمقطعات منه ، واستظهروا بأصول المتكلمين ؛ يتسع لكم مذهب الخوض ومجال النظر ! فصدق عليهم ظنه ، و أطاعه كثير منهم و اتبعوه، إلا فريقا من المؤمنين .
فيا للرجال و العقول ! أنى يذهب بهم ؟ و أنى يختدعهم الشيطان عن حظهم وموضع رشدهم ؟! و الله المستعان )) اهـ
وبعد : هل يقال عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه ، أو عن أحد كبار أهل الحديث ، أنه محدث ليس بفقيه ؟ بل هل يتردد أحد في جزم بأنه لا فقه بدون حديث ، ولا حديث بدون فقه ؟ بل هل يقول أحد أن الإمام أحمد وكبار أهل الحديث لم يكونوا على منهج السلف الصالح في التفقه ؟
لست أظن من يقف على ما ذكرت يتردد في وصف الإمام أحمد بالفقه ، وأن الله جمع له بين نعت المحدث و نعت الفقيه ، بل لا أتصور محدثا لا يفقه شيئا مما يرويه .
و قوله صلى الله عليه وسلم : (( نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه )) ؛ ليس فيه أن أهل الحديث لا يفقهون ما يروونه من الأخبار ، غاية ما فيه أنه ليس من شرط التحمل والأداء الفقه ، إنما شرطه الحفظ. و لا يفهم من هذا الحديث وجود محدث لا يفقه شيئا ، فإن غايته أنه قد يوجد محدث ينقل حديثا لا يفقه ، أو لا يفقه بعض ما فيه من معان ؛ لكن ليس في الخبر أنه لا يفقه شيئا . وفي استعمال : ((رب)) التي تفيد القليل ما يشعر أن عامة أهل الحديث يفقهون حديثهم إلا القليل منهم فقد لا يفقه بعضا مما يرويه ، لا أنه لا فقه لديه .
ومن ذلك أن عبدالله بن هاشم قال: قال لنا وكيع : أي الإسنادين أحب إليكم : الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله ، أو سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله ؟
فقلنا الأول !
فقال : الأعمش شيخ ، و أبو وائل شيخ ، و سفيان فقيه ، ومنصور فقيه ؛ حديث يتداوله الفقهاء خير مما يتداوله الشيوخ .
قال الذهبي معقبا : (( بل الأعمش و شيخه لهما فقه و معرفة و جلالة ! )) اهـ
و قبل أن أضع القلم و أطوي الصفحة ، طويا –بإذن الله تعالى- معها هذه المقولة الباطلة ، اسطر هنا المهمات التالية :
أولا : هذه المقولة أولها هفوة ، وبدعة و آخرها تحلل و زندقة . أما كونها بدعة ؛ فلأننا لم نعهدها من السلف الصالح –رضوان الله عليهم أجمعين ، وأما كونها تحللا و زندقة فلأنها تجر إلى اطراح كلام أهل العلم جميعه ، و بالتالي إسقاط الشرائع و تعطيل الأحكام على المسلمين العوام ، فيقال مرة : هذا الحكم قاله فلان وهو محدث ليس بفقيه ، فلا يقبل . ويقال مرة : هذا الحكم قاله فلان وهو فقيه ليس بمحدث ، فلا يقبل . و النتيجة التحلل عن أحكام الديانة ! أعيذك و إياي بالله العظيم من ذلك .
ثانيا : ليس مقصودي إثبات العصمة لأحد غير رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فلا أقصد أن الإمام أحمد بن حنبل و غيره من أئمة الحديث وكبارهم معصومون في كل قول يقولونه و يختارونه ، إنما مقصودي بالذب عن الإمام أحمد رحمه الله فيما رمي به ، و الذب عن أهل الحديث من خلال ذلك ، و بيان أن منهج الإمام أحمد في التفقه هو منهج أهل الحديث وهو منهج الأئمة والسلف الصالح –رضوان الله عليهم –وقد قدمت لك معالم منهج التفقه عند السلف الصالح ، فانظر هل خرج الإمام عن سبيلهم ، أو شاق في آية أو حديث ؟
ثالثا : وقوع القصور في التطبيق ، و حصول الأخذ و الرد من أهل العلم ، لا يسلب نعت الفقه عنهم ، وينبني عن هذا أن تعلم : أن وقوع بعض القصور في تطبيق هذا المنهج في التفقه عند الإمام أحمد بن حنبل أو غيره من أهل الحديث لا يسلم منه أحد من المتفقهين ، ونحن لا ندعي العصمة لأحد غير الرسل – صلوات الله و سلامه عليهم .
وكذا وقوع الأخذ و الرد في بعض مسائل العلم التي أبرز فيها الإمام اختياره و استدل له ، لا يعني سلب نعت الفقه عنه ، إذ ذلك لم يسلم منه أحد من الأئمة ، بله العلماء ، بله طلبة العلم ، وقد قال مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة : (( كل منا يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر )).
و أخيرا : لا يفوتني أن ألفت نظر الإخوة أهل الحديث إلى النهوض بجمع اختيارات أهل الحديث الفقهية ، و تصنيفها على الأبواب ، مع توثيقها و خدمتها ، إذ في ذلك إثراء للمكتبة الإسلامية ، و إبراز لفقه أهل الحديث ، وفق الله الجميع لما يحبه و يرضاه.
يتبع إن شاء الله تعالى
الحلقة الرابعة من قول المصنف:
أما قولهم : لا علم له بالأصول.