@الأُسُس التي ينبني عليها المنهج السلف رضي الله عنهم @
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ وَسَلَمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصَحَابِهِ أَجْمَعِين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أّصْدّقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهَدْىِ هَدْىُ مُحَمَّدٍ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وّكُلَّ مُحْدّثّةٍ بِدْعَة، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
إخوتي وأحبتي في الله سنذكر بعضَ هذه الأسُس على سبيل المثال لا على سبيل الحصر:السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ وَسَلَمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصَحَابِهِ أَجْمَعِين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أّصْدّقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهَدْىِ هَدْىُ مُحَمَّدٍ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وّكُلَّ مُحْدّثّةٍ بِدْعَة، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
الأساس الأول الذي يقوم عليه هذا المنهج، وكما تعلمون أنَّ أيَّ بناءٍ لا يقوم على أساس متينٍ؛ فإنَّ مصيرَه إلى الانهيار؛ قال الله -عز وجل-: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: ١٠٩] الآيةَ.
وَالبَيْتُ لاَ يُبْتَنَى إِلاّ لَهُ عُمُدٌ وَلا عِمَادَ إِذَا لَمْ تُرْسَ أَوْتَـادُ
فَالأَسَاسُ الأَوَّلُ: هُوَ الْعِلْمُ وَالتَّعَلُّمُ وَالتَّفَقُّهُ فِي دِينِ اللهِ؛ لِذا نَرى الإمامَ البخاريَّ -رحمه الله تعالى- يَعْقِدُ باباً في هذا المعنى بعُنْوان: "العلم قبل القول والعمل"، ثم يُصَدِّرُه بقول الله -عَزَّ وَجَلّ-: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: ١٩].
فأساسُ هذا المنهجِ هو العِلم والتعلُّم والتَّفَقُّه في دين الله؛ قال الله -تعالى-: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: ٩]، وقال الله -تعالى-: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: ١١]
وقال –تعالى؛ مُبَيِّنًا منزلةَ أهل العلم وأنهم أَشَدُّ الناسِ خشيةً لله-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: ٢٨]، وقال -تعالى-: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: ١٨]، وقال -تعالى-: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: ١٢٢] .
وقال رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ يُرِدِ الله بهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ))[9].
فالفِقهُ في الدين هو أساس كل خيرٍ، وهو أساس صلاح العمل. وعمل لا يبنى على علم؛ فإنه عرضة أن يكون عملاً غير متقبل؛ لأن صحاحبة يتخبط في دياجير الظُّلَمْ؛ يَفعلُ القبيحَ يَظُنُّهُ حسنًا، ويترك الحَسَنَ يظنه قبيحًا:
يُقْضَى عَلَى الـْمَرْءِ فِي أَيَّامِ مِحْنَتِهِ حَتَّى يَرَى حَسَنًا مَا لَيْسَ بِالْحَسَنِ
وقد كان السلفُ الصالحُ لا يُقْدِمون على عَمَلٍ حتى يَعْرِفُوا أَنًّ هذا العملَ مشروعٌ، بأَنْ يَدُلَّ عليه دليلٌ من الكتاب أو السنة. ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بالتَّحَلُّمِ))[10].
والعلم لا يأتيك وأنت قابعٌ في بيتك؛ وإنما يأتي بالسَّير الحثيث في طَلَبه، وبَذْلِ الغالي والنفيس في ذلك؛ حتى يتحققَ لَكَ طلبُ العلم النافع والعملُ الصالِحُ.
فهذا هو الأساس الأول؛ العلم: أعني العلمَ الشرعيَّ المستمَدَّ من كتاب الله -تعالى-، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: أن يكون مصدرُ هذا العلمِ: الْمَنْهَلانِ العظيمانِ: كتابُ الله -تعالى- وسُنَّةُ رسول الله -عليه الصلاة والسلام-؛ هما المرجع عند الاختلاف، والْمَلجأُ عند التَّرَدُّدِ، والموئِلُ عند ظهورِ الفِتَنِ؛ قال الله -تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: ٥٩] .
وقال -تعالى-: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: ١٠].
وقال -تعالى-: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: ٧]، فالعِلم- الذي هو إِدْرَاكُ المعلوم على حقيقتِهِ التي هو عليها- لا يتحقق إلا إذا أُخِذ من هَذَيْن المصدرَيْن: الكتاب والسنة.
ثالِثـًا: أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّعَلُّمُ عَلَى مَنْهَجِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وذلك بأنْ نأخَذَ العلم وِفْقَ مفاهيمِ السلفِ، الذين خدموا هذا الدِّين، وقدَّموا لنا هذه الكنوزَ العظيمة: من قواعِدَ وَمُتُونٍ وشروحٍ وحواشي، بذلوا فيها أوقاتهم الثمينة، وقدموها لنا طَريَّةً عظيمةً.
فينبغي أن نَسِيرَ على نهْجِهِم، وأن لا ندعِيَ لأنفسنا الاستقلالَ عن مفاهيمهم؛ لأنهُم هُمُ الَّذين نقلوا إلينا هذا الوحي، وَهُمُ الَّذين استنبطوا منه الأحكام، وهُم الذين أفنَوا أعمارهم في خدمته، وهم الذين قدموه إلينا جاهزًا؛ فما علينا إلا أن نَنْهَلَ مِنه {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: ٩٠].
وَيُخْطِئُ من يَظُنُّ أَنَّه يستطيع أن يفهم الدِّين فَهْمًا صحيحًا إذَا لم يرجعْ إلى قواعد السلف ومنهجهم في العلم والعمل؛ لأنه مَنْ فَعَلَ ذلك أو من فعل خلاف ذلك؛ فَقَدِ اتَّبَعَ غَيْرَ سبيلِ المؤمنين، وحَادَ عن الطريق السويّ، واتبع السُّبُل التي حذرنا الله -تبارك وتعالى- مِنِ اتِّباعها. فلابد مِنْ أَخْذِ هذا الأمر على مفاهيم السلف الصالح.
وهذا ينقلنا إلى الأساس الرابع: وَهُوَ التَّلَقِّي وَالتَّعَلُّمُ عَلَى أَيْدِي العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيَّينَ الْمُتَخَصِّصِينَ الَّذِينَ سَارُوا عَلَى الْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ، والذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ))[11]. لأن هذه الأمورَ الثلاثَةَ هِيَ مداخلُ الشيطان؛ مَدَاخِلُ الشيطان إما عن طريق الغُلُوِّ، وإِمَّا عَنْ طريق الْجَهْلِ، وإما عن طريق الْهَوَى.
فقوله صلى الله عليه وسلم: ((يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ)): بيانٌ لخطورة الغلو على الدين.
وقوله: ((وانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ)): بيانٌ لِخُطُورَة الهوَى؛ الذين ليس لهم إلا ما أُشربوا من أهوائهم.
وقوله: ((وتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ)): يَدُلّ على خطورة الجهل، وأنه قد يصل بصاحبه إلى مَهَاوِي الرَّدَى، ويُضِلُّه عن طريق الهُدى. ولذلك تَقَدَّمَ لنا ذِكْرُ الحديث الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: ((إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم)).
وَمَنْ زعم أنه يستطيع أن يفهم الكتاب والسنة بدون التلقي عن العلماء والدراسةِ عليهِم؛ فإنه على خَطَرٍ عظيم.
ومِمَّا يَنْدَى له الجبين، ومما يُؤسَفُ له، أننا نرى بعضَ أُناسٍ قَرَأُوا لهم، وقرأوا بعض الكتب، وقرأوا بعضَ الأحاديث؛ دون أن يتتلمذوا على العلماء، فنَصبُوا أنفسهم للفتوى، وزعموا أنهم ليسوا بحاجةٍ إلى التَّلَقِّي على هؤلاء العلماء، وَمَنْ كَانَ عِلْمُهُ مِنْ كِتَابهِ فَخَطَؤُهُ أَكْثَرُ مِنْ صَوَابهِ. ولذلك نجد عندهم جُرْأَة خطيرة على الفتوى، وعلى مخالفة أهل العلم، والجُرأة على دين الله، حيث يُفتون بغير عِلْمٍ فَيَضِلُّونَ ويُضِلُّون. وهؤلاء قد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم خصوصًا عند قِلّة العلماء، أو عند بُعْدِ الناس عن العلماء عندما قال: ((إِنَّ الله لا يَنْتَزِعُ العِلمَ انتزاعًا وإنما يقبضُه بقَبْضِ العلماء، فإذا لم يبق عَالِم اتخذَ الناس رؤوسًا جُهَّالا فسُئِلوا فأَفْتَوْا بغير علمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا))[12].
وهذا ما نشاهده في كثير من المجتمعات، حيث ساد الجُّهال، وأدعياء العلم، وتجرءوا على التَّحَكُّم في مصير الأمة والفتوى بغير علم، حتى في تلك القضايا الْمَصِيرية التي لا يمكنُ أن يفقهوها، وإنما يَفْقَهُهَا أهلُ العلم؛ العلماءُ الربانيون الذين يقولون بالحق وبه يعدلون.
أَخِي لَنْ تَنَالَ الْعِلْمَ إِلاّ بسِتّــَةٍ سَأُنْبيكَ عَنْ تَفْصِيلِيهَا ببَيَانِ
ذَكَاءٌ وَحِرْصٌ وَاصْطِبَارٌ وَبُلْغَةٌ وَصُحْبَةُ أُسْتَاذٍ وَطُولُ زَمَانِ
العلم لا يأتي إلا بالتلقي.
سُئِلَ أَحَدُهُم –أعني: أحد الذين تَصَدَّروا العلم وليسوا من أهله-: هل تَتَلْمذْتَ على الشيخ فلان والشيخ فلان والشيخ فلان، وعَدَّدْنا بعض مشايخنا الكبار؛ وَأَوَّلُهُم شيخُنا الإمام العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز؛ قيل هل تَلَقَّيْتَ هذا العلم -عندما يعني كَثُرتْ بعض كتبه وأخطائه التي يعني ينشرها هنا وهناك- سُئِل: هل تتلمذت على الشيخ عبد العزيز؟ قال: لا.
هل تتلمذْتَ على الشيخ محمد بن صالح العُثَيمين؟ قال: لا.
هل تتلمذت على فلان وفلان؟ ( وعُدِّدَ له بعضُ المشايخ ) فأجاب بلا.
وقيل له لماذا ؟ فقال: لا أريد أن أُضيع وقتي! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: ٥]، {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} [المدثر: ٣٥] .
ما أَجْرَأَهُمْ على الله! إنهم سفهاءُ الأحلام، صِغَارُ العقولِ، نَفَخَ فيهم الشيطان أنهم علماءُ، فتركوا العلماءَ وتصدَّروا، وصار كل واحد منهم يُفتي نفسه ويفتي أتباعه! وهذا دَاءٌ قد دَبَّ في العالم الإسلامي منذ ما يربو على سِتِّينَ أو سبعينَ سنةً، وأخذ لَظَاه ولَهَبُه يصل إلينا عندما ضَعُفَتْ صلة الشباب بعلماء الأمة، وعندما اهتم بعضهم بتقديس البعض، وعندما جعلوا الصحفَ والمجلاتِ والدورياتِ هي مصادر العلم عند الكثير منهم.
{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء: ٨٣] .
ولماذا لا نَلْتَفُّ حول علمائنا، ونقتدي بهم ونأخذُ عنهم، ونقتبس منهم وهم بقية السلف؟
إنَّ هذا -أعني أخْذَ العلم عن مصادره الصحيحة عن العلماء الربانيين- هو طريقُ السلامة والنجاة، وطريقُ الوصول إلى مرضاة الله، وطريق فَهْمِ الكتاب والسنة.
الأساس الخامس: من هذه الأُسُسِ من أُسُسِ منهج السّلَف الذي هو أَسْلَمُ وأَعْلَمُ وأحكم: التَّوَاضُعُ؛ وأعني: بالتواضعَ؛ لِينِ الجانب للعلم والتعلُّم وللعلماءِ، فإنه من تواضع لله رَفَعَه، وإنَّ الشيطان لَيَنْفُخُ في رأس البعض أنه قد بلغ درجةً لم يَبلغها أحد، فإذا وَصَل إلى هذه الحال؛ فَلْيَعْلَمْ أنه أَجْهَلُ الناس؛ فلا يزال الرجل عالمًا مادام يطلب العلم، فإذا ظنَّ أنه قد علِم؛ فقد جهِل.
والأساس السادس: أَن لا نَعْتَقِدَ العِصْمَةَ لأَحَدٍ بَعْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا بعد تعظيمِنا واحترامِنا لعلمائنا وتوقيرهم، وإعطائِهِم حقوقَهُم، وتنزيلِهِم منازلَهُم، وَأْخْذِ الحق عنهم والتلقي عنهم، ومع ذلك لا نعتقد العصمةَ لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إِذِ العصمة للرسل عليهم الصلاة والسلام، والكمال لله والعصمة لِرُسل الله، وأما من دونهم فإنهم عرضةٌ للخطأ والصواب، ومع ذلك نعتقد أن العلماء الربانيين إذا اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا فأخطأوا فلهم أَجْرٌ واحِد كما هو هديُ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سابعًا: اِلْتِمَاسُ العُذْرِ لِمَنْ أَخْطَأَ مِنْ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ كما هو منهج سلفنا الصالح، بعد أن نعتقد أن العصمة ليست لأحد؛ فإننا يجب أن نعلم أنهم -رحِمهم الله ورحِمَ الله مَيِّتَهم وأجزَلَ المثوبة لِحَيِّهِم ورحم الله الجميع-؛ أقول: بعد أنْ ننزلهم منازلهم، فإننا نلتمس لهم العُذر في المسائل التي حصل فيها خطأ اجتهادي. وهذا يتطلب من طالب العلم أن يعرف قواعدَ السلف في هذا الباب، ولا بُدَّ له مِنْ قراءة كتابٍ عظيم لشيخ الإسلام ابن تيميّة -رحمه الله تعالى- وهو كتابُ: (رَفْع الْمَلامِ عَنِ الأَئِمَّةِ الأَعْلامِ). فإنه بَيَّنَ أعذارَ العلماء في بعض المسائل التي أخطأوا فيها، وذلك يرجع إلى أسباب ثلاثٍ:
v إما أن الحديث لم يَبْلُغْهم، وهذا لا يَعِيبُهُم، فَقَدْ خَفِيَتْ بعض الأحاديث على كبار الصحابة.
v وإما أن يبلُغَهُم ولكنهم لم يَرَوْا أَنه بلغ درجةَ الصحة الثابتة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
v وإما أنه بلغهم ولكن فهِمُوه فَهْمًا آخَرَ إِما أنه منسوخ، أو أنه مُخَصَّصٌ، أو مُقَيَّد، أو نحوُ ذلك مِنَ الأعذار. فراجعوا هذا الأمر مُفَصَّلا في كتاب رفع الملام عن أئمة الأعلام.
الأساس الثامن: أَخْذُ الإِسْلامِ كُلِّهِ، وَالاهْتِمَامُ بِأُمُورِ الدِّينِ كُلِّهَا بلا اسْتِثْنَاءٍ. فإنَّ المنهجَ الحقَّ هو أنَّ المؤمن لا يتساهل في شيء من أمور دينه، فمتى بلغه الأمرُ في كتاب الله، أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا يَسَعُهُ إلا أن يقول سمعنا وأطعنا، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: ٥١]،
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب: ٣٦].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: ٢٤].
فلا نأخذُ جانبًا على حسابِ تضييعِ جانبٍ آخَرَ؛ لأننا نعاني من طرائقَ معاصرةٍ تَهْتَمُّ بجوانِبَ من الدِّينِ، يظُنون أنهم بمنظورهم الضيق أنه يكفي للتطبيق، ويُضيعون ما سواه؛
كالَّذِينَ يُدندنون حول السياسة والسياسيين والأخبار والإخباريين، ويُضيعون أوقاتهم في هذا السبيل.
وطائفةٌ أخرى تهتم بجانب ما يتصورون أنه الزهدُ والعبادةُ، بينما هو تَصَوُّفٌ مَحْضٌ دَخِيلٌ علينا وعلى بلادنا، يتمثل ذلك في الخروج والسِّياحة في الأرض، وهذا هو كل شيء عندهم!
وطائفةٌ أخرى تتنازل عن بعض مبادئ الإسلام، من أجل إرضاء اليهود والنصارى {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: ١٢].
وطائفةٌ أخرى عندهم الغايةُ تُبَرِّرُ الوسيلة، فإذا كانت الغايةُ صحيحةً فلا يَهُمُّهُم أن يرتقوا إليها بأَيَّةِ وسيلةٍ ولو كانت مُحَرَّمَةً! فيسلكون في سبيل الدعوة -مثلاً- مسالِكَ مستوردةً؛ كاستخدام المسرحيات والتمثيليات والأناشيد، واستخدامِ بعض الطُّرُق التجميعية التي يَهُمُّها أن تَجْمَعَ من هَبَّ ودَبَّ مَهْمَا كانت عقائدُ أولئك المجتمِعين، تحت ستارِ: (نَجْتَمع فيما نجتمع عليه، ويَعذُر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه).
وطائفةٌ أخرى تَتَنَكَّرُ لِلدِّينِ كُلِّه؛ لأنها قدِ استغربَتْ وَتَفَرْنَجَتْ وَانْحَلَّتْ وَبَعُدَتْ عَنِ الدين، ورأَتْ أنه لا يَصلُح، وأنه رجْعِيّة وتَأَخُّر.
وَكُلُّ هذه الطوائف يجب أن نبتعدَ عنها، وأن نَبْرَأَ منها، وأن نسير على منهج الحق؛ بأَخْذِ الدّين كله من مصادره في العقيدة، في العبادة، في الأحكام، في الأخلاق، في الآداب، في الحدود، في كافة نواحي الحياة. مع مراعاة مُقتضَياتِ الأحوال، وملاحظةِ أنَّ لِكلِّ مقامٍ ما يناسبه، خصوصًا من يهتمون بأمر الدعوة والدعاة؛ فإنهم ينبغي أن يعرِفوا الداء فيُشخصوا الدواء. فقد يقتضي المقامُ الكلامَ على العقيدة، قد يقتضي الكلامَ عن الزهد والورع والعبادة، قد يقتضي المقامُ الكلامَ على الْخُلُق، قد يقتضي المقامُ الكلامَ عن مكافحة المعاصي والمنكرات بالطرق الشرعية المعروفة............
منبر المسائل المنهجية
وَالبَيْتُ لاَ يُبْتَنَى إِلاّ لَهُ عُمُدٌ وَلا عِمَادَ إِذَا لَمْ تُرْسَ أَوْتَـادُ
فَالأَسَاسُ الأَوَّلُ: هُوَ الْعِلْمُ وَالتَّعَلُّمُ وَالتَّفَقُّهُ فِي دِينِ اللهِ؛ لِذا نَرى الإمامَ البخاريَّ -رحمه الله تعالى- يَعْقِدُ باباً في هذا المعنى بعُنْوان: "العلم قبل القول والعمل"، ثم يُصَدِّرُه بقول الله -عَزَّ وَجَلّ-: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: ١٩].
فأساسُ هذا المنهجِ هو العِلم والتعلُّم والتَّفَقُّه في دين الله؛ قال الله -تعالى-: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: ٩]، وقال الله -تعالى-: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: ١١]
وقال –تعالى؛ مُبَيِّنًا منزلةَ أهل العلم وأنهم أَشَدُّ الناسِ خشيةً لله-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: ٢٨]، وقال -تعالى-: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: ١٨]، وقال -تعالى-: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: ١٢٢] .
وقال رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ يُرِدِ الله بهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ))[9].
فالفِقهُ في الدين هو أساس كل خيرٍ، وهو أساس صلاح العمل. وعمل لا يبنى على علم؛ فإنه عرضة أن يكون عملاً غير متقبل؛ لأن صحاحبة يتخبط في دياجير الظُّلَمْ؛ يَفعلُ القبيحَ يَظُنُّهُ حسنًا، ويترك الحَسَنَ يظنه قبيحًا:
يُقْضَى عَلَى الـْمَرْءِ فِي أَيَّامِ مِحْنَتِهِ حَتَّى يَرَى حَسَنًا مَا لَيْسَ بِالْحَسَنِ
وقد كان السلفُ الصالحُ لا يُقْدِمون على عَمَلٍ حتى يَعْرِفُوا أَنًّ هذا العملَ مشروعٌ، بأَنْ يَدُلَّ عليه دليلٌ من الكتاب أو السنة. ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بالتَّحَلُّمِ))[10].
والعلم لا يأتيك وأنت قابعٌ في بيتك؛ وإنما يأتي بالسَّير الحثيث في طَلَبه، وبَذْلِ الغالي والنفيس في ذلك؛ حتى يتحققَ لَكَ طلبُ العلم النافع والعملُ الصالِحُ.
فهذا هو الأساس الأول؛ العلم: أعني العلمَ الشرعيَّ المستمَدَّ من كتاب الله -تعالى-، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: أن يكون مصدرُ هذا العلمِ: الْمَنْهَلانِ العظيمانِ: كتابُ الله -تعالى- وسُنَّةُ رسول الله -عليه الصلاة والسلام-؛ هما المرجع عند الاختلاف، والْمَلجأُ عند التَّرَدُّدِ، والموئِلُ عند ظهورِ الفِتَنِ؛ قال الله -تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: ٥٩] .
وقال -تعالى-: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: ١٠].
وقال -تعالى-: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: ٧]، فالعِلم- الذي هو إِدْرَاكُ المعلوم على حقيقتِهِ التي هو عليها- لا يتحقق إلا إذا أُخِذ من هَذَيْن المصدرَيْن: الكتاب والسنة.
ثالِثـًا: أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّعَلُّمُ عَلَى مَنْهَجِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وذلك بأنْ نأخَذَ العلم وِفْقَ مفاهيمِ السلفِ، الذين خدموا هذا الدِّين، وقدَّموا لنا هذه الكنوزَ العظيمة: من قواعِدَ وَمُتُونٍ وشروحٍ وحواشي، بذلوا فيها أوقاتهم الثمينة، وقدموها لنا طَريَّةً عظيمةً.
فينبغي أن نَسِيرَ على نهْجِهِم، وأن لا ندعِيَ لأنفسنا الاستقلالَ عن مفاهيمهم؛ لأنهُم هُمُ الَّذين نقلوا إلينا هذا الوحي، وَهُمُ الَّذين استنبطوا منه الأحكام، وهُم الذين أفنَوا أعمارهم في خدمته، وهم الذين قدموه إلينا جاهزًا؛ فما علينا إلا أن نَنْهَلَ مِنه {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: ٩٠].
وَيُخْطِئُ من يَظُنُّ أَنَّه يستطيع أن يفهم الدِّين فَهْمًا صحيحًا إذَا لم يرجعْ إلى قواعد السلف ومنهجهم في العلم والعمل؛ لأنه مَنْ فَعَلَ ذلك أو من فعل خلاف ذلك؛ فَقَدِ اتَّبَعَ غَيْرَ سبيلِ المؤمنين، وحَادَ عن الطريق السويّ، واتبع السُّبُل التي حذرنا الله -تبارك وتعالى- مِنِ اتِّباعها. فلابد مِنْ أَخْذِ هذا الأمر على مفاهيم السلف الصالح.
وهذا ينقلنا إلى الأساس الرابع: وَهُوَ التَّلَقِّي وَالتَّعَلُّمُ عَلَى أَيْدِي العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيَّينَ الْمُتَخَصِّصِينَ الَّذِينَ سَارُوا عَلَى الْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ، والذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ))[11]. لأن هذه الأمورَ الثلاثَةَ هِيَ مداخلُ الشيطان؛ مَدَاخِلُ الشيطان إما عن طريق الغُلُوِّ، وإِمَّا عَنْ طريق الْجَهْلِ، وإما عن طريق الْهَوَى.
فقوله صلى الله عليه وسلم: ((يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ)): بيانٌ لخطورة الغلو على الدين.
وقوله: ((وانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ)): بيانٌ لِخُطُورَة الهوَى؛ الذين ليس لهم إلا ما أُشربوا من أهوائهم.
وقوله: ((وتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ)): يَدُلّ على خطورة الجهل، وأنه قد يصل بصاحبه إلى مَهَاوِي الرَّدَى، ويُضِلُّه عن طريق الهُدى. ولذلك تَقَدَّمَ لنا ذِكْرُ الحديث الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: ((إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم)).
وَمَنْ زعم أنه يستطيع أن يفهم الكتاب والسنة بدون التلقي عن العلماء والدراسةِ عليهِم؛ فإنه على خَطَرٍ عظيم.
ومِمَّا يَنْدَى له الجبين، ومما يُؤسَفُ له، أننا نرى بعضَ أُناسٍ قَرَأُوا لهم، وقرأوا بعض الكتب، وقرأوا بعضَ الأحاديث؛ دون أن يتتلمذوا على العلماء، فنَصبُوا أنفسهم للفتوى، وزعموا أنهم ليسوا بحاجةٍ إلى التَّلَقِّي على هؤلاء العلماء، وَمَنْ كَانَ عِلْمُهُ مِنْ كِتَابهِ فَخَطَؤُهُ أَكْثَرُ مِنْ صَوَابهِ. ولذلك نجد عندهم جُرْأَة خطيرة على الفتوى، وعلى مخالفة أهل العلم، والجُرأة على دين الله، حيث يُفتون بغير عِلْمٍ فَيَضِلُّونَ ويُضِلُّون. وهؤلاء قد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم خصوصًا عند قِلّة العلماء، أو عند بُعْدِ الناس عن العلماء عندما قال: ((إِنَّ الله لا يَنْتَزِعُ العِلمَ انتزاعًا وإنما يقبضُه بقَبْضِ العلماء، فإذا لم يبق عَالِم اتخذَ الناس رؤوسًا جُهَّالا فسُئِلوا فأَفْتَوْا بغير علمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا))[12].
وهذا ما نشاهده في كثير من المجتمعات، حيث ساد الجُّهال، وأدعياء العلم، وتجرءوا على التَّحَكُّم في مصير الأمة والفتوى بغير علم، حتى في تلك القضايا الْمَصِيرية التي لا يمكنُ أن يفقهوها، وإنما يَفْقَهُهَا أهلُ العلم؛ العلماءُ الربانيون الذين يقولون بالحق وبه يعدلون.
أَخِي لَنْ تَنَالَ الْعِلْمَ إِلاّ بسِتّــَةٍ سَأُنْبيكَ عَنْ تَفْصِيلِيهَا ببَيَانِ
ذَكَاءٌ وَحِرْصٌ وَاصْطِبَارٌ وَبُلْغَةٌ وَصُحْبَةُ أُسْتَاذٍ وَطُولُ زَمَانِ
العلم لا يأتي إلا بالتلقي.
سُئِلَ أَحَدُهُم –أعني: أحد الذين تَصَدَّروا العلم وليسوا من أهله-: هل تَتَلْمذْتَ على الشيخ فلان والشيخ فلان والشيخ فلان، وعَدَّدْنا بعض مشايخنا الكبار؛ وَأَوَّلُهُم شيخُنا الإمام العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز؛ قيل هل تَلَقَّيْتَ هذا العلم -عندما يعني كَثُرتْ بعض كتبه وأخطائه التي يعني ينشرها هنا وهناك- سُئِل: هل تتلمذت على الشيخ عبد العزيز؟ قال: لا.
هل تتلمذْتَ على الشيخ محمد بن صالح العُثَيمين؟ قال: لا.
هل تتلمذت على فلان وفلان؟ ( وعُدِّدَ له بعضُ المشايخ ) فأجاب بلا.
وقيل له لماذا ؟ فقال: لا أريد أن أُضيع وقتي! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: ٥]، {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} [المدثر: ٣٥] .
ما أَجْرَأَهُمْ على الله! إنهم سفهاءُ الأحلام، صِغَارُ العقولِ، نَفَخَ فيهم الشيطان أنهم علماءُ، فتركوا العلماءَ وتصدَّروا، وصار كل واحد منهم يُفتي نفسه ويفتي أتباعه! وهذا دَاءٌ قد دَبَّ في العالم الإسلامي منذ ما يربو على سِتِّينَ أو سبعينَ سنةً، وأخذ لَظَاه ولَهَبُه يصل إلينا عندما ضَعُفَتْ صلة الشباب بعلماء الأمة، وعندما اهتم بعضهم بتقديس البعض، وعندما جعلوا الصحفَ والمجلاتِ والدورياتِ هي مصادر العلم عند الكثير منهم.
{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء: ٨٣] .
ولماذا لا نَلْتَفُّ حول علمائنا، ونقتدي بهم ونأخذُ عنهم، ونقتبس منهم وهم بقية السلف؟
إنَّ هذا -أعني أخْذَ العلم عن مصادره الصحيحة عن العلماء الربانيين- هو طريقُ السلامة والنجاة، وطريقُ الوصول إلى مرضاة الله، وطريق فَهْمِ الكتاب والسنة.
الأساس الخامس: من هذه الأُسُسِ من أُسُسِ منهج السّلَف الذي هو أَسْلَمُ وأَعْلَمُ وأحكم: التَّوَاضُعُ؛ وأعني: بالتواضعَ؛ لِينِ الجانب للعلم والتعلُّم وللعلماءِ، فإنه من تواضع لله رَفَعَه، وإنَّ الشيطان لَيَنْفُخُ في رأس البعض أنه قد بلغ درجةً لم يَبلغها أحد، فإذا وَصَل إلى هذه الحال؛ فَلْيَعْلَمْ أنه أَجْهَلُ الناس؛ فلا يزال الرجل عالمًا مادام يطلب العلم، فإذا ظنَّ أنه قد علِم؛ فقد جهِل.
والأساس السادس: أَن لا نَعْتَقِدَ العِصْمَةَ لأَحَدٍ بَعْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا بعد تعظيمِنا واحترامِنا لعلمائنا وتوقيرهم، وإعطائِهِم حقوقَهُم، وتنزيلِهِم منازلَهُم، وَأْخْذِ الحق عنهم والتلقي عنهم، ومع ذلك لا نعتقد العصمةَ لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إِذِ العصمة للرسل عليهم الصلاة والسلام، والكمال لله والعصمة لِرُسل الله، وأما من دونهم فإنهم عرضةٌ للخطأ والصواب، ومع ذلك نعتقد أن العلماء الربانيين إذا اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا فأخطأوا فلهم أَجْرٌ واحِد كما هو هديُ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سابعًا: اِلْتِمَاسُ العُذْرِ لِمَنْ أَخْطَأَ مِنْ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ كما هو منهج سلفنا الصالح، بعد أن نعتقد أن العصمة ليست لأحد؛ فإننا يجب أن نعلم أنهم -رحِمهم الله ورحِمَ الله مَيِّتَهم وأجزَلَ المثوبة لِحَيِّهِم ورحم الله الجميع-؛ أقول: بعد أنْ ننزلهم منازلهم، فإننا نلتمس لهم العُذر في المسائل التي حصل فيها خطأ اجتهادي. وهذا يتطلب من طالب العلم أن يعرف قواعدَ السلف في هذا الباب، ولا بُدَّ له مِنْ قراءة كتابٍ عظيم لشيخ الإسلام ابن تيميّة -رحمه الله تعالى- وهو كتابُ: (رَفْع الْمَلامِ عَنِ الأَئِمَّةِ الأَعْلامِ). فإنه بَيَّنَ أعذارَ العلماء في بعض المسائل التي أخطأوا فيها، وذلك يرجع إلى أسباب ثلاثٍ:
v إما أن الحديث لم يَبْلُغْهم، وهذا لا يَعِيبُهُم، فَقَدْ خَفِيَتْ بعض الأحاديث على كبار الصحابة.
v وإما أن يبلُغَهُم ولكنهم لم يَرَوْا أَنه بلغ درجةَ الصحة الثابتة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
v وإما أنه بلغهم ولكن فهِمُوه فَهْمًا آخَرَ إِما أنه منسوخ، أو أنه مُخَصَّصٌ، أو مُقَيَّد، أو نحوُ ذلك مِنَ الأعذار. فراجعوا هذا الأمر مُفَصَّلا في كتاب رفع الملام عن أئمة الأعلام.
الأساس الثامن: أَخْذُ الإِسْلامِ كُلِّهِ، وَالاهْتِمَامُ بِأُمُورِ الدِّينِ كُلِّهَا بلا اسْتِثْنَاءٍ. فإنَّ المنهجَ الحقَّ هو أنَّ المؤمن لا يتساهل في شيء من أمور دينه، فمتى بلغه الأمرُ في كتاب الله، أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا يَسَعُهُ إلا أن يقول سمعنا وأطعنا، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: ٥١]،
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب: ٣٦].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: ٢٤].
فلا نأخذُ جانبًا على حسابِ تضييعِ جانبٍ آخَرَ؛ لأننا نعاني من طرائقَ معاصرةٍ تَهْتَمُّ بجوانِبَ من الدِّينِ، يظُنون أنهم بمنظورهم الضيق أنه يكفي للتطبيق، ويُضيعون ما سواه؛
كالَّذِينَ يُدندنون حول السياسة والسياسيين والأخبار والإخباريين، ويُضيعون أوقاتهم في هذا السبيل.
وطائفةٌ أخرى تهتم بجانب ما يتصورون أنه الزهدُ والعبادةُ، بينما هو تَصَوُّفٌ مَحْضٌ دَخِيلٌ علينا وعلى بلادنا، يتمثل ذلك في الخروج والسِّياحة في الأرض، وهذا هو كل شيء عندهم!
وطائفةٌ أخرى تتنازل عن بعض مبادئ الإسلام، من أجل إرضاء اليهود والنصارى {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: ١٢].
وطائفةٌ أخرى عندهم الغايةُ تُبَرِّرُ الوسيلة، فإذا كانت الغايةُ صحيحةً فلا يَهُمُّهُم أن يرتقوا إليها بأَيَّةِ وسيلةٍ ولو كانت مُحَرَّمَةً! فيسلكون في سبيل الدعوة -مثلاً- مسالِكَ مستوردةً؛ كاستخدام المسرحيات والتمثيليات والأناشيد، واستخدامِ بعض الطُّرُق التجميعية التي يَهُمُّها أن تَجْمَعَ من هَبَّ ودَبَّ مَهْمَا كانت عقائدُ أولئك المجتمِعين، تحت ستارِ: (نَجْتَمع فيما نجتمع عليه، ويَعذُر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه).
وطائفةٌ أخرى تَتَنَكَّرُ لِلدِّينِ كُلِّه؛ لأنها قدِ استغربَتْ وَتَفَرْنَجَتْ وَانْحَلَّتْ وَبَعُدَتْ عَنِ الدين، ورأَتْ أنه لا يَصلُح، وأنه رجْعِيّة وتَأَخُّر.
وَكُلُّ هذه الطوائف يجب أن نبتعدَ عنها، وأن نَبْرَأَ منها، وأن نسير على منهج الحق؛ بأَخْذِ الدّين كله من مصادره في العقيدة، في العبادة، في الأحكام، في الأخلاق، في الآداب، في الحدود، في كافة نواحي الحياة. مع مراعاة مُقتضَياتِ الأحوال، وملاحظةِ أنَّ لِكلِّ مقامٍ ما يناسبه، خصوصًا من يهتمون بأمر الدعوة والدعاة؛ فإنهم ينبغي أن يعرِفوا الداء فيُشخصوا الدواء. فقد يقتضي المقامُ الكلامَ على العقيدة، قد يقتضي الكلامَ عن الزهد والورع والعبادة، قد يقتضي المقامُ الكلامَ على الْخُلُق، قد يقتضي المقامُ الكلامَ عن مكافحة المعاصي والمنكرات بالطرق الشرعية المعروفة............
[محاضرة مفرغة]
لفضيلة الشيخ الدكتور
صَالِحِ بْنِ سَعْدٍ السُّحَيْمِىّ
- حفظه الله تعالى -
لفضيلة الشيخ الدكتور
صَالِحِ بْنِ سَعْدٍ السُّحَيْمِىّ
- حفظه الله تعالى -
منبر المسائل المنهجية