... عنوان غريب.. أليس كذالك؟
لا تظنّ أنّي قد وضعت هذا العنوان لأستجلب به ـ مخادعًا ـ نفوس القرّاء لقراءة هذا المقال، وإن فعلتُ فحقّ لي ذلك، وإن خدعتُ فنعم الخداع هو، ولكنْ؛ هي الحقيقة أنّ للمدخّنين واجبات، ليس الكلام عن واجب الصلاة ولا عن واجب الصيام ولا عن واجب الزكاة ولا عن واجب برّ الوالدين ولا... ولا... ولا... وإنّما الكلام عن واجبات أُخَر...
وإنّما قلت (واجبات المدخنين)وأعني ما أقول، لأنّ ما سأتلوه عليك أيّها المدخّن، هي واجبات خاصّة بك، تميّزت بها عن غيرك لا يشاركك فيها عامّة النّاس، إلاّ من ابتلي بمثل ما ابتليت به، إذْ (الإضافة تقتضي التخصيص)كما يقولون...
الواجب الأول: يجب عليك ستر نفسك، وعدم المجاهرة بالتدخّين، ليس خوفًا من النّاس ولا حشمة منهم ولا حفاظا على سمعتك بينهم ولا.. ولا.. ولا.. ولو سترت نفسك عنهم لبعض ذلك لكان حسنا؛ ولكن لشيئٍ أعظم من ذلك.. أتدري ما هو؟
لئلا تحرم نفسك العافية من الله تبارك وتعالى؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم -: (( كلّ أمتي معافى إلاّ المجاهرون وإنّ من المجاهرة أن يعمل الرّجل عملا بالليل ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه)). متفق عليه؛ هذا في شأن من عمل المعصية مستخفيًا، ثمّ أعلن بلسانه أنّه فعل كذا وكذا! فكيف بمن يفعل المعصية أمام الناس جهارا نهارا! لا هو من الله خاف ولا من النّاس استحيى... وإن من أعظم العافية التي يُحرَمُها المجاهر بالمعصية: (التوبة)؛ فلا يوفّق إليها، ذلك أنّ أكثر المسلمين إذا فعل أحدهم معصية في الخفاء تاب منها أو حدّث نفسه بالتوبة، أمّا المجاهر فقد سدّ على نفسه باب التوبة بإعلانه معصيته ومجاهرته بها، قال ابن القيم - رحمه الله - في الجواب الكافي وهو يعدّد الآثار السيئة للذنوب والمعاصي: " ومنها أنّه ينسلخ من القلب استقباحها فتصير له عادة، فلا يستقبح من نفسه رؤيةَ النّاس له، ولا كلامهم فيه، وهو عند أرباب الفسوق هو غاية التفكّه وتمام اللّذة، حتى يفتخر أحدهم بالمعصية، ويحدّث بها من لم يعلم أنّه عملها فيقول يا فلان عملت كذا وكذا وهذا الضرب من النّاس لا يعافَوْن وتسدّ عليهم طريق التوبة وتغلق عنهم أبوابها في الغالب" ا. هـ
فعليك يا من ابتليت بالتّدخين أن تستر على نفسك فإنّ في للمجاهرة بالتدخين عواقب وخيمة:
• حرمان للعافية من الله تبارك وتعالى.
• سدّ لباب التّوبة على النفس.
• مضاعفة للإثم: فإثم المستخفي بالذّنب أهون من إثم المعلن المجاهر في الغالب.
• إيقاع النّاس في إثم عدم إنكار المنكر الذي أنت عليه.
• تحريكٌ لغيرك على هذا الإثم باقتداء من يقتدي بك أو تشجيع من جبن عنه.
• تعريض نفسك لغيبة النّاس لك والقدح في عرضك.
الواجب الثاني: عدم رمي السّجائر في قارعة الطريق لأنّ في ذلك جملة من المفاسد منها:
• أنّ هذا يشبه المجاهرة بالمعصية وإعلانها والتّكلم بها، حيث يفتح الباب للتشبّه بالمدخّنين، ويُحرّك النّفوس لفعل هذا المنكر، لأنّ هناك من يفعله؛ فيقول القائل منهم: (لست وحيدًا)! فهناك من يدخّن غيري؛ فيستأنسُ بما يرى في الشّارع من آثار هذا الدّخان اللّعين.
• أنّ فيه قتلٌ لروح الإنكار بالقلب في قلوب النّاس حين يعتادون رؤية مخلّفات الدّخان في كلّ مكان، فضلاً عن رِؤية المدخّنين أنفسهم، والقاعدة معروفة: (كثرة المساس تذهب الإحساس).
• أنّ فيه فتحُ بابٍ للصّغار الذين لا يتمكّنون من شراء الدّخان أن يقتنوا مخلّفات تدخينك، فيدخنون بها خُفيةً عن أوليائهم، وتكونُ أنت السّبب في ابتلاء أعدادٍ من النّاس بهذا البلاء؛ ألا فكن مفتاح خيرٍ مغلاق شرٍّ، ولا تكن مفتاح شرٍّ مغلاق خير.
... وإنّي لأعجب من بعض المدخّنين الذين لا يستهلكون من سجارتهم إلاّ مصّة أو مصّتين ثمّ هو بعد ذلك يرمي بها في الطريق؛ فجمع بين السّوأتين، سوءة (التدخين) وسوءة (فتح باب الشّرّ على الأولاد).
الواجب الثالث: تحذير من عافاه الله من هذا الدّخان من أن تسوّل له نفسه تجريبه، وتحذير من لاح خطواته الأولى في هذا البلاء ـ عافني الله وإياك منه ـ خاصة من الأولاد الصغار والشباب المراهق، بإظهار النّدم والحسرة على تعاطيه، لما فيه من أضرار على الدّين والنّفس والمال؛ وإظهار صعوبة تركه بعد إلفه والإدمان عليه؛ وإنّما قلت أنّ هذا التحذير واجب لأمرين:
(1) لأنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( لا يؤمن أحدكم حتّى يحبَ لأخيه ما يحب لنفسه))، ومقتضى هذا الحديث أنّه لا يؤمن أحدنا الإيمان الواجب حتّى يكره لأخيه من الشّر ما يكره لنفسه، وسكوتك عمن رأيته ينزلق في مهاوي التّدخين؛ نقص في الإيمان وضعف فيه.
(2) ولأنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))أخرجه مسلم وغيره...
أخي المدخّن، إنّك وإن كنت قد ابتليت بهذه المعصية، فإنّ واجب إنكار منكر التدخين باقٍ وجوبه عليك، فإن لم تنكر هذا المنكر فقد وقعت في مصيبتين:
(1) المصيبة الأولى: معصية التدخين.
(2) المصيبة الثانية: عدم إنكار المنكر.
فلتعلم أنّ الواقع في المنكر لا يسقط عليه إنكاره بل وجوبه باق في حقّه لعموم النّصوص الآمرة بذلك، والذي من جملتها حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - السابق الذكر: (( من رأى منكم منكرا...))الحديث. ولم يستثن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدًا.. أمّا قوله - تعالى -: (أتأمرو ن الناس بالبر وتنسون أنفسكم)، فقد قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: " والغرض أنّ الله - تعالى -ذمّهم ـ أي أهل الكتاب ـ على هذا الصّنيع ونبّههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمّهم على أمرهم بالبرّ مع تركهم له، بل على تركهم له، فإنّ الأمر بالمعروف: معروف، وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأَوْلى بالعالم: أن يفعله مع أمرهم به، ولا يتخلّف عنهم، كما قال شعيب - عليه السلام -: ( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود: 88]. فَكُلٌّ منَ الأمرِ بالمعروفِ وفعلِه واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف" ا. هـ
وهذا يجرّني للكلام عن واجب آخر، يتعلّق بما سبق ألا وهو:
الواجب الرابع: إنكار التدخين بالقلب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في اقتضاء الصراط المستقيم، في بيان حقيقة هذا الواجب: " وإنكار القلب هو الإيمان بأنّ هذا منكر، وكراهته لذلك. فإذا حصل هذا؛ كان في القلب إيمان وإذا فقد معرفة هذا المعروف وإنكار هذا المنكر ارتفع هذا الإيمان من القلب" ا. هـ... وهذا الواجب وإن كان أسهل الواجبات إلاّ أنّه أصعبُها لمن حرم التوفيق من الله - تعالى -... قد روى أبو داود في سننه عن العُرسِ بنِ عميرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها ـ وقال مرّة: أنكرها كان كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها)) والذي يهمّنا من هذا الحديث تعليقٌ للإمام ابن رجب - رحمه الله - عليه في جامع العلوم والحكم حيث قال: " ... لأنّ الرضا بالخطايا من أقبح المحرّمات، ويفوّت به إنكار الخطيئة بالقلب وهو فرض عين على كل مسلم، لا يسقط عن أحد في حال من الأحوال"؛ ولتعلم أنّ للإنكار القلبي للمنكر فوائدُ عدةّ من أهمّها تحصيل قوةٍ قلبيةٍ وقناعةٍ تامّةٍ نحو هذا المنكر فيكون عاملا قويًّا على تركه والتوبة منه وفي الحديث: (( ألا إن في الجسد مضغة إدا صلحت صلح الجسد كلّه)).
الواجب الخامس: ترك الإعانة على التّدخين بأي وجه من وجوه الإعانة، لا بأن تهدي لأحدهم سيجارةً، ولا بأن تسلفه إيّاها، ولا بأن تولّعها له ولا بأن تتاجر فيه ولا بغير ذلك، فإنّ الله- تبارك وتعالى -قال: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، ولْتعلم؛ كما أنّ الدّال على الخير كفعاله؛ فإنّ الدّال على الشّرّ كفاعله كذلك... أفلا يكفيك أن تعصي الله، وتتحمّل ما كَسَبته يداك من الآثام، لتزيد على ذلك بتحمّل آثام غيرك؟! كحال من قال الله - تعالى -فيهم: (لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ).
الواجب السادس: إذا أردت أن تقضي حاجتك من التّدخين فاقضها وحدك ولا تضطرّ غيرك لإعانتك في ذلك، خاصّة الأولاد أو الإخوة الصّغار حتّى لا يتربوا إلى استمراء التّدخين واعتياده، وحتّى لا توقعهم في إثم الأعانة على التّدخين؛ لا تضطرّهم لذلك لا بأن يشتروا لك الدّخان ولا بأن يأتوك به من غرفتك مثلا ولا بأن يبحثوا لك عن علبة السجائر إذا ضيّعتها ولا بغير ذلك.
الواجب السابع: يوضّحه جواب الشيخ ابن عثيمين في اللقاء (76) من لقاء الباب المفتوح: على السّؤال التالي:
• إذا وقفت في صلاة الجماعة وكان الذي بجواري تنبعث منه رائحة الدّخان فهل يمكنني أن أغيّر مكاني بعد تكبيرة الإحرام وأقف في مكان آخر إذا تضايقت من هذه الرائحة؟
• الجواب: إذا صفّ إلى جنب إنسان تنبعث من فيه رائحة كريهة؛ من دخان أو بصل أو ثوم أو عرق أو غير ذلك، وكان يشقّ عليه أن يؤدي الصلاة على الوجه الأكمل فله أن يخرج من صلاته ويذهب إلى مكان آخر، ولكن "بعد بيان هذا الحكم نقول لكل من فيه رائحة كريهة: إنّه لا يحل له أن يأتي إلى المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن ذلك، نهى من أكل بصلاً أو ثوماً أو كراثاً أو غيرها مما له رائحة كريهة أن يأتي إلى المسجد، بل قال: (( لا يقربن مساجدنا)) وأخبر أن ذلك يؤذي الملائكة، وكانوا إذا أتى أحد إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد أكل بصلاً أو ثوماً أخرجوه وطردوه إلى البقيع... وهذا يدل على أنه لا يجوز أن يأتي الإنسان إلى المسجد وفيه رائحة تؤذي المصلين أو الملائكة، وأن لأهل المسجد الحق في أن يخرجوه من المسجد" ا. هـ
... أخي المدخن؛ أظنّ أن الواجب التاسع قد اتضح... فلئن كنت ممن يزهد في الخير فلن يهمّك ترك الجماعة لأجل ألاّ تؤذي النّاس برائحة الدّخان التي تنبعث من فمك، بل ربّما ستفرح بهذه الفتوى، وفرحك يدلّ على خسّة همّتك، وحاشاك أن تكون كذلك وأعيذك بالله أن تكون من ألئك...
ولئن كنت محبًّا للخير فقد عرفت أنّ التدخين قد حرمك بابا عظيما من أبواب الجنّة ألا وهو صلاة الجماعة، ولئن عُزّي أحدٌ على مصيبة فأنت أولى النّاس بالتعزية: فعظم الله أجرك ـ أخي المدخّن... ولو كنت مكانك لعزمت على أن لا يفوتني أن ألتزم بالواجب الأخير... أتدري ما هو؟؟
الواجب الثامن والأخير: ترك التدخين طاعة لله العالمين
أخي المدخن... هل تسمح بسؤال؟
• هل تحب الله؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
• لا شكّ أن الجواب: أكيـد!
• ألا فاعلم أنّ الله - تعالى -قال: ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) فعلامة صدق محبّتك لله اتباع أمره - تعالى -وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ أي من علامة محبتك لله ترك التدخين الذي حرمه الله في القرآن حين قال الله - تعالى -واصفا نبيه محمّدا - صلى الله عليه وسلم -: ( يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ) وهل يقول عاقل: الدخان طيب؛ بل هل يشك عاقل أن الدخان خبيث؟؟
... هذه جملة من الواجبات التي غفل عنها المدخنون أردت تذكيرهم بها حتى لا يزيدوا على أنفسهم فوق إثم التدخين آثاما أخرى، وعساهم إن التزموا هذه الواجبات أن ييسر الله لهم ترك الدخان والتوبة منه فإن الحسنة تأتي بأختها... أسأل الله العظيم ربّ العرش العظيم أن يعين كل من ابتلي بهذا البلاء من المسلمين على تركه وأن يحفظنا جميعا من كل بلاء في الدنيا والآخرة وأن يكتب لنا الفردوس الأعلى في جنات النعيم
لا تظنّ أنّي قد وضعت هذا العنوان لأستجلب به ـ مخادعًا ـ نفوس القرّاء لقراءة هذا المقال، وإن فعلتُ فحقّ لي ذلك، وإن خدعتُ فنعم الخداع هو، ولكنْ؛ هي الحقيقة أنّ للمدخّنين واجبات، ليس الكلام عن واجب الصلاة ولا عن واجب الصيام ولا عن واجب الزكاة ولا عن واجب برّ الوالدين ولا... ولا... ولا... وإنّما الكلام عن واجبات أُخَر...
وإنّما قلت (واجبات المدخنين)وأعني ما أقول، لأنّ ما سأتلوه عليك أيّها المدخّن، هي واجبات خاصّة بك، تميّزت بها عن غيرك لا يشاركك فيها عامّة النّاس، إلاّ من ابتلي بمثل ما ابتليت به، إذْ (الإضافة تقتضي التخصيص)كما يقولون...
الواجب الأول: يجب عليك ستر نفسك، وعدم المجاهرة بالتدخّين، ليس خوفًا من النّاس ولا حشمة منهم ولا حفاظا على سمعتك بينهم ولا.. ولا.. ولا.. ولو سترت نفسك عنهم لبعض ذلك لكان حسنا؛ ولكن لشيئٍ أعظم من ذلك.. أتدري ما هو؟
لئلا تحرم نفسك العافية من الله تبارك وتعالى؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم -: (( كلّ أمتي معافى إلاّ المجاهرون وإنّ من المجاهرة أن يعمل الرّجل عملا بالليل ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه)). متفق عليه؛ هذا في شأن من عمل المعصية مستخفيًا، ثمّ أعلن بلسانه أنّه فعل كذا وكذا! فكيف بمن يفعل المعصية أمام الناس جهارا نهارا! لا هو من الله خاف ولا من النّاس استحيى... وإن من أعظم العافية التي يُحرَمُها المجاهر بالمعصية: (التوبة)؛ فلا يوفّق إليها، ذلك أنّ أكثر المسلمين إذا فعل أحدهم معصية في الخفاء تاب منها أو حدّث نفسه بالتوبة، أمّا المجاهر فقد سدّ على نفسه باب التوبة بإعلانه معصيته ومجاهرته بها، قال ابن القيم - رحمه الله - في الجواب الكافي وهو يعدّد الآثار السيئة للذنوب والمعاصي: " ومنها أنّه ينسلخ من القلب استقباحها فتصير له عادة، فلا يستقبح من نفسه رؤيةَ النّاس له، ولا كلامهم فيه، وهو عند أرباب الفسوق هو غاية التفكّه وتمام اللّذة، حتى يفتخر أحدهم بالمعصية، ويحدّث بها من لم يعلم أنّه عملها فيقول يا فلان عملت كذا وكذا وهذا الضرب من النّاس لا يعافَوْن وتسدّ عليهم طريق التوبة وتغلق عنهم أبوابها في الغالب" ا. هـ
فعليك يا من ابتليت بالتّدخين أن تستر على نفسك فإنّ في للمجاهرة بالتدخين عواقب وخيمة:
• حرمان للعافية من الله تبارك وتعالى.
• سدّ لباب التّوبة على النفس.
• مضاعفة للإثم: فإثم المستخفي بالذّنب أهون من إثم المعلن المجاهر في الغالب.
• إيقاع النّاس في إثم عدم إنكار المنكر الذي أنت عليه.
• تحريكٌ لغيرك على هذا الإثم باقتداء من يقتدي بك أو تشجيع من جبن عنه.
• تعريض نفسك لغيبة النّاس لك والقدح في عرضك.
الواجب الثاني: عدم رمي السّجائر في قارعة الطريق لأنّ في ذلك جملة من المفاسد منها:
• أنّ هذا يشبه المجاهرة بالمعصية وإعلانها والتّكلم بها، حيث يفتح الباب للتشبّه بالمدخّنين، ويُحرّك النّفوس لفعل هذا المنكر، لأنّ هناك من يفعله؛ فيقول القائل منهم: (لست وحيدًا)! فهناك من يدخّن غيري؛ فيستأنسُ بما يرى في الشّارع من آثار هذا الدّخان اللّعين.
• أنّ فيه قتلٌ لروح الإنكار بالقلب في قلوب النّاس حين يعتادون رؤية مخلّفات الدّخان في كلّ مكان، فضلاً عن رِؤية المدخّنين أنفسهم، والقاعدة معروفة: (كثرة المساس تذهب الإحساس).
• أنّ فيه فتحُ بابٍ للصّغار الذين لا يتمكّنون من شراء الدّخان أن يقتنوا مخلّفات تدخينك، فيدخنون بها خُفيةً عن أوليائهم، وتكونُ أنت السّبب في ابتلاء أعدادٍ من النّاس بهذا البلاء؛ ألا فكن مفتاح خيرٍ مغلاق شرٍّ، ولا تكن مفتاح شرٍّ مغلاق خير.
... وإنّي لأعجب من بعض المدخّنين الذين لا يستهلكون من سجارتهم إلاّ مصّة أو مصّتين ثمّ هو بعد ذلك يرمي بها في الطريق؛ فجمع بين السّوأتين، سوءة (التدخين) وسوءة (فتح باب الشّرّ على الأولاد).
الواجب الثالث: تحذير من عافاه الله من هذا الدّخان من أن تسوّل له نفسه تجريبه، وتحذير من لاح خطواته الأولى في هذا البلاء ـ عافني الله وإياك منه ـ خاصة من الأولاد الصغار والشباب المراهق، بإظهار النّدم والحسرة على تعاطيه، لما فيه من أضرار على الدّين والنّفس والمال؛ وإظهار صعوبة تركه بعد إلفه والإدمان عليه؛ وإنّما قلت أنّ هذا التحذير واجب لأمرين:
(1) لأنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( لا يؤمن أحدكم حتّى يحبَ لأخيه ما يحب لنفسه))، ومقتضى هذا الحديث أنّه لا يؤمن أحدنا الإيمان الواجب حتّى يكره لأخيه من الشّر ما يكره لنفسه، وسكوتك عمن رأيته ينزلق في مهاوي التّدخين؛ نقص في الإيمان وضعف فيه.
(2) ولأنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))أخرجه مسلم وغيره...
أخي المدخّن، إنّك وإن كنت قد ابتليت بهذه المعصية، فإنّ واجب إنكار منكر التدخين باقٍ وجوبه عليك، فإن لم تنكر هذا المنكر فقد وقعت في مصيبتين:
(1) المصيبة الأولى: معصية التدخين.
(2) المصيبة الثانية: عدم إنكار المنكر.
فلتعلم أنّ الواقع في المنكر لا يسقط عليه إنكاره بل وجوبه باق في حقّه لعموم النّصوص الآمرة بذلك، والذي من جملتها حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - السابق الذكر: (( من رأى منكم منكرا...))الحديث. ولم يستثن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدًا.. أمّا قوله - تعالى -: (أتأمرو ن الناس بالبر وتنسون أنفسكم)، فقد قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: " والغرض أنّ الله - تعالى -ذمّهم ـ أي أهل الكتاب ـ على هذا الصّنيع ونبّههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمّهم على أمرهم بالبرّ مع تركهم له، بل على تركهم له، فإنّ الأمر بالمعروف: معروف، وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأَوْلى بالعالم: أن يفعله مع أمرهم به، ولا يتخلّف عنهم، كما قال شعيب - عليه السلام -: ( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود: 88]. فَكُلٌّ منَ الأمرِ بالمعروفِ وفعلِه واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف" ا. هـ
وهذا يجرّني للكلام عن واجب آخر، يتعلّق بما سبق ألا وهو:
الواجب الرابع: إنكار التدخين بالقلب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في اقتضاء الصراط المستقيم، في بيان حقيقة هذا الواجب: " وإنكار القلب هو الإيمان بأنّ هذا منكر، وكراهته لذلك. فإذا حصل هذا؛ كان في القلب إيمان وإذا فقد معرفة هذا المعروف وإنكار هذا المنكر ارتفع هذا الإيمان من القلب" ا. هـ... وهذا الواجب وإن كان أسهل الواجبات إلاّ أنّه أصعبُها لمن حرم التوفيق من الله - تعالى -... قد روى أبو داود في سننه عن العُرسِ بنِ عميرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها ـ وقال مرّة: أنكرها كان كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها)) والذي يهمّنا من هذا الحديث تعليقٌ للإمام ابن رجب - رحمه الله - عليه في جامع العلوم والحكم حيث قال: " ... لأنّ الرضا بالخطايا من أقبح المحرّمات، ويفوّت به إنكار الخطيئة بالقلب وهو فرض عين على كل مسلم، لا يسقط عن أحد في حال من الأحوال"؛ ولتعلم أنّ للإنكار القلبي للمنكر فوائدُ عدةّ من أهمّها تحصيل قوةٍ قلبيةٍ وقناعةٍ تامّةٍ نحو هذا المنكر فيكون عاملا قويًّا على تركه والتوبة منه وفي الحديث: (( ألا إن في الجسد مضغة إدا صلحت صلح الجسد كلّه)).
الواجب الخامس: ترك الإعانة على التّدخين بأي وجه من وجوه الإعانة، لا بأن تهدي لأحدهم سيجارةً، ولا بأن تسلفه إيّاها، ولا بأن تولّعها له ولا بأن تتاجر فيه ولا بغير ذلك، فإنّ الله- تبارك وتعالى -قال: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، ولْتعلم؛ كما أنّ الدّال على الخير كفعاله؛ فإنّ الدّال على الشّرّ كفاعله كذلك... أفلا يكفيك أن تعصي الله، وتتحمّل ما كَسَبته يداك من الآثام، لتزيد على ذلك بتحمّل آثام غيرك؟! كحال من قال الله - تعالى -فيهم: (لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ).
الواجب السادس: إذا أردت أن تقضي حاجتك من التّدخين فاقضها وحدك ولا تضطرّ غيرك لإعانتك في ذلك، خاصّة الأولاد أو الإخوة الصّغار حتّى لا يتربوا إلى استمراء التّدخين واعتياده، وحتّى لا توقعهم في إثم الأعانة على التّدخين؛ لا تضطرّهم لذلك لا بأن يشتروا لك الدّخان ولا بأن يأتوك به من غرفتك مثلا ولا بأن يبحثوا لك عن علبة السجائر إذا ضيّعتها ولا بغير ذلك.
الواجب السابع: يوضّحه جواب الشيخ ابن عثيمين في اللقاء (76) من لقاء الباب المفتوح: على السّؤال التالي:
• إذا وقفت في صلاة الجماعة وكان الذي بجواري تنبعث منه رائحة الدّخان فهل يمكنني أن أغيّر مكاني بعد تكبيرة الإحرام وأقف في مكان آخر إذا تضايقت من هذه الرائحة؟
• الجواب: إذا صفّ إلى جنب إنسان تنبعث من فيه رائحة كريهة؛ من دخان أو بصل أو ثوم أو عرق أو غير ذلك، وكان يشقّ عليه أن يؤدي الصلاة على الوجه الأكمل فله أن يخرج من صلاته ويذهب إلى مكان آخر، ولكن "بعد بيان هذا الحكم نقول لكل من فيه رائحة كريهة: إنّه لا يحل له أن يأتي إلى المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن ذلك، نهى من أكل بصلاً أو ثوماً أو كراثاً أو غيرها مما له رائحة كريهة أن يأتي إلى المسجد، بل قال: (( لا يقربن مساجدنا)) وأخبر أن ذلك يؤذي الملائكة، وكانوا إذا أتى أحد إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد أكل بصلاً أو ثوماً أخرجوه وطردوه إلى البقيع... وهذا يدل على أنه لا يجوز أن يأتي الإنسان إلى المسجد وفيه رائحة تؤذي المصلين أو الملائكة، وأن لأهل المسجد الحق في أن يخرجوه من المسجد" ا. هـ
... أخي المدخن؛ أظنّ أن الواجب التاسع قد اتضح... فلئن كنت ممن يزهد في الخير فلن يهمّك ترك الجماعة لأجل ألاّ تؤذي النّاس برائحة الدّخان التي تنبعث من فمك، بل ربّما ستفرح بهذه الفتوى، وفرحك يدلّ على خسّة همّتك، وحاشاك أن تكون كذلك وأعيذك بالله أن تكون من ألئك...
ولئن كنت محبًّا للخير فقد عرفت أنّ التدخين قد حرمك بابا عظيما من أبواب الجنّة ألا وهو صلاة الجماعة، ولئن عُزّي أحدٌ على مصيبة فأنت أولى النّاس بالتعزية: فعظم الله أجرك ـ أخي المدخّن... ولو كنت مكانك لعزمت على أن لا يفوتني أن ألتزم بالواجب الأخير... أتدري ما هو؟؟
الواجب الثامن والأخير: ترك التدخين طاعة لله العالمين
أخي المدخن... هل تسمح بسؤال؟
• هل تحب الله؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
• لا شكّ أن الجواب: أكيـد!
• ألا فاعلم أنّ الله - تعالى -قال: ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) فعلامة صدق محبّتك لله اتباع أمره - تعالى -وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ أي من علامة محبتك لله ترك التدخين الذي حرمه الله في القرآن حين قال الله - تعالى -واصفا نبيه محمّدا - صلى الله عليه وسلم -: ( يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ) وهل يقول عاقل: الدخان طيب؛ بل هل يشك عاقل أن الدخان خبيث؟؟
... هذه جملة من الواجبات التي غفل عنها المدخنون أردت تذكيرهم بها حتى لا يزيدوا على أنفسهم فوق إثم التدخين آثاما أخرى، وعساهم إن التزموا هذه الواجبات أن ييسر الله لهم ترك الدخان والتوبة منه فإن الحسنة تأتي بأختها... أسأل الله العظيم ربّ العرش العظيم أن يعين كل من ابتلي بهذا البلاء من المسلمين على تركه وأن يحفظنا جميعا من كل بلاء في الدنيا والآخرة وأن يكتب لنا الفردوس الأعلى في جنات النعيم
تعليق