مشروعيـة صـوم رمضـان
ونـزول القـرآن فيـه
لفضيلة الشيخ:
الطيِّب العقبي -رحمه الله-
["البصائر": السنة الأولى، العدد 45، الجمعة: 12 رمضان 1355 الموافق لـ 27 نوفمبر 1936]
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
أنزل الإله القرآن في الليلة المباركة وهي ليلة القدر من ليالي رمضان، وأخبر ءعز وجلء في معرض التنويه بهذا الشهر وبيان مشروعية الصوم فيه ووجوبه على المؤمنين أنه أنزل فيه القرآن هدًى للناس، فكان الشهر كله مباركا ببركة القرآن، وكتب على الذين آمنوا صومه كما كتبه على الذين من قبلهم ليتفرغوا مزيد تفرغ إلى العناية بالقرآن ويطبقوا على أنفسهم ومن اليهم أحكام القرآن وتعليمه ولعلهم يتقون.
لا يكفي المؤمن أن يعتقد أو يقول أنه مؤمنٌ فحسب، ولا يجديه نفعًا أن يتلقَّب بلقب المؤمنين، أو يلبس شعار المسلمين دون أن يكون في زمرة المتقين، وعداد الخاشعين المنيبين، لذلك كانت التقوى والأعمال الصالحة جزءًا لا يتجزأ من الإيمان ومأخوذة لدى العالمين العارفين في مفهوم الإيمان، إذ هي مظاهر التّحقّق به كما هي سقاؤه وغذاؤه الذي لا حياة ولا نمو له بدونها. وبها لا بغيرها تتزكى النفوس المؤمنة وتنال الفوز والفلاح.
وإنَّ من أجلِّ مظاهر التقوى وأعظمها دلالةً على قوة الإيمان وتمكِّنه من قرارة النفس وسويداء القلب عملا صالحا يغالب به المؤمن الموقن حظوظ النفس وشهواتها الخاصة فيغلبها ويحمله في أثناء هذه المغالبة على مراقبة الله والخوف منه، وذلك بتذكيره آلاءه المطموع فيها والمرجو دوامها واستحضار عظمة جلاله المرعوب من سطوتها.
وفي عبادة الصوم ما يجلِّي هذا الموقف ويحمل المؤمن على مراقبة الله فيخافه ويرجوه، يتذكره كلما غفل عنه الغافلون أو نسوه، كيف لا وحاجته عما صام عنه {إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا} من طعامٍ وشرابٍ وملامسةِ نساءٍ ء ضرورية ومتجددة في كل وقت وعارضة له بعروضِ أسبابها والدواعي إليها، وهو كلما ذكرها ذكر أمر الله بالصوم عنها ونهيه له عن نيل وطره وقضاء شهوته منها، وفي هذا التذكر بحكم الضرورة والطبع وذكر الله عند أمره ونهيه بهذه المناسبةء ما يغذي شجرة الإيمان ويسقي فروعها العالية. والوقوف عند ما أمر الله ونَهَى المرة بعد المرة كلما حفّزت النفس حوافز الشهوة وكلما كفها المؤمن عما تريده وصدّها عمّا تشتهيه من معتادها وتهواه مما يربِّي ملَكة المراقبة والخوف من الله؛ ويحمل على الرغبة والطمع فيما عنده. وبهذا يزداد المؤمنون إيمانا مع إيمانهم وتقوى عزيمتهم على ملابسة الأعمال الصالحة ويُقبلون على الطاعات فيكون لهم الغلب ويتم لهم النصر والظفر على النفس الأمارة بالسوء، وإذ ذاك يحرزون على فوز الاستقلال بالإرادة وحرية التصرف المشروع الذي لا خضوع فيه ولا خنوع لغير الحق الذي أرشد إليه العقل، وهدى إليه الدليل. وذلك سبيل المؤمنين الكاملين، وطريق الواصلين العارفين.
وإنَّ القرآن في مجموع دعوته ليهدي للتي هي أقوم ويدعو إلى هذا السبيل.
إنَّ في القرآن لهدًى للناس لو اهتدوا بهديه وأخذوا أنفسهم بتعاليمه السامية، وإنّ في القرآن لرحمةً للعالمين، وإنًّ في القرآن لموعظةً وشفاءً لِما في الصدور؛ وإنّ فيه بواعث الخير كله والصوارف عن الشر كله، وإنَّ فيه لسعادةُ الدنيا وسعادةُ الآخرة ولكنّ أكثر الناس عن الاهتداء به والاستفادة من أحكامه والاستضاءة بنور حكمه غافلون.
ذلك لمّا ران على قلوبهم فأغفلها عن ذكر الله من أوضار الذنوب، ولما غشى على أبصارهم من حب العاجلة والانهماك في ملاذها وملابسة شهواتها والاغترار بزخارفها الفانية، فكان من نعمة الله التي أتمها على عباده المؤمنين أن يصقل أرواحهم بصقال من تعاليم دين الرحمة إتمامًا للنِّعمة وتعميمًا لهذه الرحمة، وما هذا الصقال للأرواح سوى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (البقرة:185) مغذّي النفوس بغذاء الإيمان ومزكّيها، ومرقِّي الأرواح إلى درجات الكمال ومُعلِّيها؛ ففيه ذكر الله والمراقبة والخشية، وفيه الرُّجعى إلى الله والإنابة إلى سبيله السوي وصراطه المستقيم، وفي صومه ما يوقظ النائم وينبه الغافل ليعمل صالحا، ويتلافى بالتوبة ما فرَّط في جنب الله، وبه يذكر العبد واجب ما خُلق لأجله ويجد من صومه وإمساكه ومراقبته لربه واستقلاله في إرادته ما يعينه على كل هذا ويغسل عن قلبه تلك الأوضار، ويمحو بذكر الله وتذكر نعمه التي لا تحصى وآلائه التي لا تحد ولا تستقصى، ران الذنوب والأوزار، وفي كل ذلك ما يذكِّره بالقرآن ويستفزه إلى التمسك بهديه بحبله، فياله من ذكرى تذكِّر المؤمن بالقرآن ونزول القرآن! وياله من رحمة تشمل من سنة إلى أخرى أمة القرآن فتجدد عليها صلتها بخالق الأكوان ومفيض النعم على الإنسان. ويا لفضل هداية القرآن على الناس وعموم بني الإنسان لو كانوا يعلمون..!
أما فوائد الصوم المشروع ونتائجه التي يظفر بها من يكون صومه لله وكما أمر الله فهي على سبيل الإجمال: تقوى الله كما أشار إلى ذلك قول الله عز وجل: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونْ} والتَّقوى هي كل شيء في الدين، وهي جماعه، وإليها ترجع كل الفضائل؛ وهي الغايات منه ومنتهى ما يصل إليه الواصل، بل قصارى ما يتطلبه السالك وتسمو إليه همم العارفين بطرق السلوك وما هنالك {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} (الطلاق:5)، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق: 2).
وآيات القرآن في شرح معنى التقوى وجزاء المتقين وفلاحهم وتحقيق فوزهم بحسن العاقبة أكثر من أن يستوفى الكلام عليها في مثل هذه العجالة.
فما أجلَّ العبادة التي توصل إلى هذه المرتبة، وتُدْني من نيل هذه الكرامة! و ما أعظم فضل الله ومنَّته على المؤمنين بمشروعيتها لهم: مطهرة للنفوس، ومزكية؛ وصاقلة للأرواح ومرقية!
وما أكثر بركة هذا الشهر الذي جعله الله ظرفا لها كما أنزل فيه القرآن {هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}!
فحمـدًا لله وشكـرًا لآلائـه، وإكبــارًا لسموِّ تعاليـه وجلالـه، وتمجيـدًا وتقديسًـا لعظمته وكماله، علـى مـا شرعـه لنـا من عبـادةٍ تعـد نفوسنـا لتقـواه وتهيـؤها إلى نيـل مـا أعـده من جـزاء عبـاده المتَّقيـن.
والله أكبـــر.