مسئولية طالب العلم 2
.............. تابع
.............. تابع
ويكفي في هذا قول الله سبحانه : "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" سورة النحل الآية 125 وقول الله تبارك وتعالى : "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" سورة آل عمران الآية 159 وفي قصة موسى وهارون عندما بعثهما الله إلى فرعون يقول الله سبحانه لهما : "فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى" سورة طه الآية 44.
وأسأل الله بأسمائه الحسنى , وصفاته العلى , أن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين إلى ما يرضيه , وأن يسلك بنا جميعا صراطه المستقيم , وأن يرزقنا جميعا العلم النافع , والعمل به , والتأدب بالآداب الشرعية , والخلق العظيم , الذي أثنى الله به على نبيه عليه الصلاة والسلام , ولنذكر قوله عليه الصلاة والسلام : "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة" . . فالأمر في طلب العلم عظيم , والخطب في التفقه في الدين كبير . . ولنذكر أيضا قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" ، رواه الشيخان من حديث معاوية رضي الله عنه , وهذا الحديث العظيم يدلنا على أن التفقه في الدين من الدلائل على أن الله أراد بالعبد خيرا , ومفهومه أن من لم يتفقه في الدين فذلك مخذول لم يرد الله به خيرا . ولا حول ولا قوة إلا بالله , ونسأله سبحانه أن يوفق الجميع لما يرضيه , وأن يتوفانا مسلمين , وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان , وأن يولي عليهم خيارهم , ويصلح قادتهم , وأن يكثر بينهم دعاة الهدى , وأن يرزقهم جميعا وفي كل مكان الفقه في دينه , والعمل بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .. والله أعلم وصلى الله وسلم على محمد .
الأسئلة
مما يشاع بين طلاب العلم وخاصة في الكليات والمؤسسات العلمية قولهم : العلم ذهب مع أهله , وأنه لا يوجد أحد يتعلم في المؤسسات العلمية إلا من أجل الشهادات والدنيا , فبماذا يرد عليهم , وما الحكم إذا اجتمع قصد الدنيا والشهادة مع نية طلب العلم لنفع نفسه ومجتمعه ؟
الجواب : هذا الكلام ليس بصحيح , ولا ينبغي أن يقال هذا الكلام وأمثاله , ومن قال : هلك الناس فهو أهلكهم .
ولكن ينبغي التشجيع والتحريض على طلب العلم , والتفرغ لذلك , والصبر والمصابرة على ذلك , وحسن الظن بطلبة العلم , إلا من علم منه خلاف ذلك . ولما حضرت المنية معاذا - فيما يذكر - أوصى من حوله بطلب العلم , وقال : ( إن العلم والإيمان مكانهما من أرادهما وجدهما ) يعني : مكانها في كتاب الله العظيم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الأمين . . وإنما العالم يقبض بعلمه . . فالعلم يقبض بموت العلماء , لكن لا تزال بحمد الله طائفة على الحق منصورة . ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال ولكن يقبض العلم بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" ، رواه البخاري في صحيحه . وهذا هو الذي يخاف منه , يخاف أن يتقدم للإفتاء والتعليم الجهلة , فيضلون ويضلون , وهذا الكلام الذي يقال : ذهب العلم , ولم يبق إلا كذا وكذا , يخشى منه التثبيط لبعض الناس , وإن كان الحازم والبصير لا يثبطه ذلك , بل يدفعه إلى طلب العلم , حتى يسد الثغرة . والفاهم المخلص , والصادق البصير بمثل هذا الكلام لا يثبطه ذلك , بل يتقدم ويجتهد , ويثابر ويتعلم ويسارع لشدة الحاجة للعلم , وليسد الثغرة التي زعمها هؤلاء القائلون : إنه لم يبق أحد , والحاصل أنه وإن نقص العلم وذهب أكثر أهله .
فإنه ولله الحمد لا تزال طائفة على الحق منصورة . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله" ، فعلينا أن نجتهد في طلب العلم , وأن نشجع عليه , وأن نحرص على سد الثغرة , والقيام بالواجب في مصرنا وغيره , عملا بالأدلة الشرعية المرغبة في ذلك , وحرصا على نفع المسلمين , وتعليمهم , كما ينبغي أن نشجع على الإخلاص والصدق في طلب العلم , من أراد الشهادة ليتقوى بها على تبليغ العلم , والدعوة إلى الخير , فقد أحسن في ذلك , وإن أراد المال ليتقوى به فلا بأس أن يدرس ليتعلم وينال الشهادة التي يستعين بها على نشر العلم , وأن يقبل الناس منه هذا العلم , وأن يأخذ المال الذي يعينه على ذلك , فإنه لولا الله سبحانه ثم المال لم يستطع الكثير من الناس التعلم وتبليغ الدعوة . فالمال يساعد المسلم على طلب العلم , وعلى قضاء حاجته , وعلى تبليغه للناس , ولما ولي عمر رضي الله عنه أعمالا , أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مالا , قال : أعطه من هو أفقر مني فقال النبي صلى الله عليه وسلم : خذ هذا المال فتموله أو تصدق به وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك ، خرجه مسلم في صحيحه . وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم .
ورغبهم حتى دخلوا في دين الله أفواجا , ولو كان حراما لم يعطهم , بل أعطاهم قبل الفتح وبعده . وفي يوم الفتح أعطى بعض الناس على مائة من الإبل , وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر عليه الصلاة والسلام , ترغيبا في الإسلام ودعوة إليه . وقد جعل الله سبحانه للمؤلفة قلوبهم حقا في الزكاة , وجعل في بيت المال حقا لهم ولغيرهم من المدرسين والقضاة , وغيرهم من المسلمين، والله ولي التوفيق .
السؤال الثاني :
لقد ظهر بين الشباب ظاهرة ألا وهي أنهم يقولون : لا نتبع شيئا من المذاهب الأربعة , بل نجتهد مثلهم , ونعمل مثلما عملوا ولا نرجع إلى اجتهادهم . فما رأيكم في هذا وما نصيحتك لهؤلاء ؟
الجواب : هذا الكلام قد يستنكر بالنسبة لبعض الناس . ولكن معناه في الحقيقة لمن تأهل صحيح , فلا يجب على الناس أن يقلدوا أحدا , ومن قال : إنه يجب تقليد الأئمة الأربعة فقد غلط , إذ لا يجب تقليدهم , ولكن يستعان بكلامهم وكلام غيرهم من أئمة العلم , وينظر في كتبهم رحمهم الله , وما ذكروا من أدلة , ويستفيد من ذلك طالب العلم الموفق , أما القاصر فإنه ليس أهلا لأن يجتهد , وإنما عليه أن يسأل أهل الفقه , ويتفقه في الدين , ويعمل بما يرشدونه إليه , حتى يتأهل ويفهم الطريق التي سلكها العلماء , ويعرف الأحاديث الصحيحة والضعيفة , والوسائل لذلك في مصطلح الحديث , ومعرفة أصول الفقه . وما قرره العلماء في ذلك , حتى يستفيد من هذه الأشياء , ويستطيع الترجيح فيما تنازع فيه الناس .
أما ما أجمع عليه العلماء فأمره ظاهر , وليس لأحد مخالفته , وإنما النظر لأهل العلم فيما تنازع فيه العلماء .
والواجب في ذلك رد مسائل النزاع إلى الله ورسوله , كما قال الله تعالى : " فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ" الآية .
سورة النساء الآية 59 وقال تعالى : " وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ" سورة الشورى الآية 10 أما أن يجتهد وهو لا يستطيع ذلك , فهذا من الأغلاط الكبيرة , ولكن يسعى بالهمة العالية في طلب العلم , ويجتهد ويتبصر , ويسلك مسالك أهل العلم .
فهذه هي طرق العلم في دراسة الحديث وأصوله , والفقه وأصوله , واللغة العربية وقواعدها , والسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي .
فيستعين بهذه الأمور على ترجيح الراجح في مسائل الخلاف , مع الترحم على أهل العلم , ومع السير على منهجهم الطيب , والاستعانة بكلامهم وكتبهم الطيبة , وما أوضحوه من أدلة وبراهين في تأييد ما ذهبوا إليه , وتزييف ما ردوه .
وبذلك يوفق طالب العلم لمعرفة الحق إذا أخلص لله , وبذل وسعه في طلب الحق , ولم يتكبر . . والله سبحانه ولي التوفيق .
السؤال الثالث :
ينفر كثير من طلبة العلم من المناصب الدينية فما هو السبب , وهل من نصيحة للحضور , كما يلاحظ أن كثيرا من الطلبة في كليات الشريعة , يبحث بشتى الطرق للتخلص من القضاء , فما نصيحة فضيلتكم لهم ؟
الجواب :
المناصب الدينية من القضاء والتعليم والفتوى والخطابة , مناصب شريفة ومهمة , والمسلمون في أشد الحاجة إليها . وإذا تخلى عنها العلماء تولاها الجهال , فضلوا وأضلوا .
فالواجب على من دعت الحاجة إليه من أهل العلم والفقه في الدين أن يمتثل ; لأن هذه الأمور من القضاء والتدريس والخطابة والدعوة إلى الله وأشباه ذلك من فروض الكفايات , فإذا تعينت على أحد من المؤهلين وجبت عليه , ولم يجز له الاعتذار منها والامتناع . ثم لو قدر أن هناك من يظن أنه يكفي , وأنها لا تجب عليه هذه المسألة , فينبغي له أن ينظر الأصلح , كما ذكر الله سبحانه عن يوسف عليه الصلاة والسلام , أنه قال لملك مصر : " اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ" سورة يوسف الآية 55 لما رأى المصلحة في توليه ذلك , طلب الولاية , وهو نبي ورسول كريم , والأنبياء هم أفضل الناس , طلبها للإصلاح : يصلح أهل مصر , ويدعوهم إلى الحق .
فطالب العلم إذا رأى المصلحة في ذلك طلب الوظيفة ورضي بها قضائية أو تدريسا أو وزارة أو غير ذلك . على أن يكون قصده الإصلاح والخير , وليس قصده الدنيا , وإنما يقصد وجه الله , وحسن المآب في الآخرة , وأن ينفع الناس في دينهم أولا , ثم في دنياهم , ولا يرضى أن يتولى المناصب الجهال , والفساق , فإذا دعي إلى منصب صالح يرى نفسه أهلا له , وأن فيه قوة عليه , فليجب إلى ذلك , وليحسن النية , وليبذل وسعه في ذلك ولا يقل أخشى كذا , وأخشى كذا .
ومع النية الصالحة والصدق في العمل يوفق العبد ويعان على ذلك , إذا أصلح الله نيته وبذل وسعه في الخير وفقه الله .
ومن هذا الباب حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي , أنه قال : يا رسول الله : اجعلني إمام قومي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنت إمامهم واقتد بأضعفهم واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا ، رواه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح . فطلب رضي الله عنه إمامة قومه للمصلحة الشرعية , ولتوجيههم للخير , وتعليمهم وأمرهم بالمعروف , ونهيهم عن المنكر , مثلما فعل يوسف عليه الصلاة والسلام .
قال العلماء : إنما نهي عن طلب الإمرة والولاية إذا لم تدع الحاجة إلى ذلك ؛ لأنه خطر كما جاء في الحديث النهي عن ذلك , لكن متى دعت الحاجة والمصلحة الشرعية إلى طلبها جاز ذلك , لقصة يوسف عليه الصلاة والسلام , وحديث عثمان رضي الله عنه المذكور.
**********************************
"مجموع فتاوى و مقالات ابن باز"