الذب عن الخليفة الراشد عثمان –رضي الله عنه-
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد:
فقد وقفتُ على مقال للمدعو علي بن رشيد العفري، بعنوان: " الإمتاع بأن أذان عثمان ليس في سنيته إجماع رداً على البرمكي عرفات".
يتضمّن هذا المقال رداً على أكثر من ستة عشر عالماً ينقلون الإجماع على سنية أذان الخليفة الراشد عثمان، ويدفعون عنه دعوى أنه بدعة، ويقولون إنه أمر أجمع عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان؛ ومن هؤلاء العلماء العلامة ابن باز والعلامة بابطين واللجنة الدائمة للإفتاء.
ولقد سرد هذا العفري أسماء عدد من أهل الفضل والعلم، يدّعي أنهم ممن أنكر هذا الأذان ورأى أنه بدعة.
على رأسهم الصحابيان الجليلان عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير –رضي الله عنهم-، ونافع مولى ابن عمر وعطاء بن أبي رباح التابعيان الجليلان، وهؤلاء لم يثبت عنهم ما نسبه إليهم هذا الكاتب.
ثم ذكر من العلماء الأفاضل الشافعي وابن حبيب وابن الأمير الصنعاني والشيخ المبارك فوري والشيخ أحمد شاكر والشيخ الألباني والماوردي والشيخ مقبل الوادعي.
وكل من ذكرهم من العلماء ليس في كلامهم تبديع للأذان العثماني كما سيرى ذلك القارئ من كلامهم وتعليقاتي على كلامهم.
إلا في كلام ثلاثة فقط، وهم ابن الأمير الصنعاني والمبارك فوري والشيخ مقبل –رحمهم الله-، وهم من أهل السنة والحديث وممن نحبهم في الله، وذلك لا يمنعنا من نقد كلامهم وبيان ما فيه من خطأ، فالحق أحب إلينا منهم، والصحابة الكرام ومنهم عثمان –رضي الله عنه- أحب إلينا منهم.
هذا وقبل مناقشة كلام العفري والتعليقات على كلام العلماء الذين احتج بهم.
أحب أن ألفت القراء الكرام إلى منهج أهل السنة في معاملة الصحابة الكرام، وأنهم لا يذكرون إلا فضائلهم ومحاسنهم، وأنهم ينكرون على من يذكر ما ينسب إليهم من المثالب.
وقد اعتنى أهل السنة بتأليف المؤلفات في فضائلهم، مثل: "فضائل الصحابة" للإمام أحمد –رحمه الله-، و "فضائل الخلفاء الأربعة" لأبي نعيم الأصبهاني، و"فضائل الصحابة" لأبي بكر ابن أبي عاصم، و"فضائل الصحابة" لخيثمة بن سليمان، و"فضائل الصحابة" لابن صصرى، و"فضائل الصحابة" لابن فطيس، و"فضائل الصحابة" لأبي المطرف بن فطيس الأندلسي، و"فضائل الصحابة" لأبي نعيم الأصبهاني.
ومن أهل السنة من يعقدون في مؤلفاتهم أبواباً خاصة بفضائل الصحابة ومناقبهم، مثل الإمام مالك في "الموطأ" والإمامين البخاري ومسلم في صحيحيهما، والترمذي في "الجامع" وابن ماجه في "المقدمة".
ولقد افتتح البخاري –رحمه الله- "كتاب فضائل الصحابة" من "صحيحه" بالحديث (3649) الذي رواه عن عَلِي بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيَقُولُونَ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ ثُمَّ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيُقَالُ هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ ثُمَّ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيُقَالُ هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ".
فهذا الحديث العظيم فيه بيان فضل الصحابة الكرام –رضوان الله عليهم-، وأن الله ينصر الجيش الإسلامي الذي يوجد فيه مَنْ صاحب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، لمكانة صُحبة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أفضل الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، بل هذا الفضل يتعدى إلى مَنْ صاحب أحداً من أصحاب محمد –صلى الله عليه وسلم-، وإلى مَنْ رأى مَنْ صاحب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ومن هنا عرف أهل السنة قدر الصحابة الكرام ومن صاحبهم واتبعهم بإحسان.
تنبيه: قد يقول قائل كان الأولى أن لا تناقشوا هذا العفري؛ لأنه غير مشهور عند أهل العلم.
فأقول: إن الرجل رغم أنه ليس بالمشهور فإنه قد خاض في أمر عظيم فوق مستواه، ونسب إلى الصحابيين الجليلين ابن عمر وابن الزبير ما لا يثبت عنهما.
ونسب إلى عدد من العلماء الأفاضل ما لا يعتقدونه، وما يخالف إجماع الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام.
لأجل كل هذا رأيت أن أنصر الحق وأرد الباطل رجاء المثوبة من الله -عزَّ وجل-.
وأن يرتدع كل من يخوض في هذه الأمور العظيمة التي تمس الصحابة الكرام ولا سيما عثمان –رضي الله عنهم جميعاً-، وتمس علماء السنة الكرام.
قال علي العفري في (ص1) من مقاله: " الإمتاع بأن أذان عثمان ليس في سنيته إجماع رداً على البرمكي عرفات":
" وإليك كلام من ادعى الحقود بأنه نقلوا الإجماع :
ادعاؤه أن أبا بطين نقل الإجماع في سنية الأذان الأول للجمعة.
ونص كلامه كما نقله المعتوه : جاء في الدرر السنية في الأجوبة النجدية (8/103):ـ (وما يطلق عليه اسم البدعة مما فعله الصحابة، والأئمة والتابعون، فهو بدعة لغوية، كقول عمر: "نعمت البدعة هذه"، يعني التراويح، وكزيادة عثمان والصحابة، الأذان الأول يوم الجمعة، فهو لا يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة"، لأن له أصلاً في الشرع. وأيضاً، فهو مما سنه الخلفاء الراشدون، ولهم سنة يجب اتباعها، لقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي").
فهل في كلام هذا الإمام نقل الإجماع على سنية هذا الأذان أم أن غاية ما فيه تفسير حديثه عليه الصلاة والسلام (.. وسنة الخلفاء الراشدين ..) وتوجيه قول ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ فهل سينتهي كذب هذا الرويبض عند هذا الحد أم سيزيد لننظر!".
التعليق:
يقال:
1- سبحان الله، الذي يذب عن الخليفة الراشد عثمان –رضي الله عنه- ويحتج بموقف الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام في هذا المجال، الذي يقوم بهذا يعتبر عند هذا الرجل كذاباً وحقوداً ومعتوهاً.
2- هذه مكابرة.
فكلام بابطين([1]) ظاهر في دعوى الإجماع على الأذان العثماني، بل نسبه بابطين([2]) إلى الصحابة الكرام.
لقد قال الإمام بابطين([3]): " وما يطلق عليه اسم البدعة مما فعله الصحابة، والأئمة والتابعون، فهو بدعة لغوية".
وقال: " وكزيادة عثمان والصحابة، الأذان الأول يوم الجمعة".
1- فـ (أل) في قوله: "الصحابة" للتعريف، وهي استغراقية، تستغرق الصحابة كلهم جميعاً، عند من يعقل، وقل مثل ذلك في قوله: "والأئمة والتابعون" ، (أل) فيهما استغراقية، تستغرق كل الأئمة والتابعين.
2- أنه أكد قوله بأنه بدعة لغوية بقول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب: " نعمت البدعة هذه"، يعني التراويح.
3- أنه ينفي إطلاق البدعة على هذا الأذان بقوله:
" فهو لا يدخل في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "كل بدعة ضلالة"، لأن له أصلاً في الشرع".
4- ثم يؤكد هذا بقوله: "فهو مما سنه الخلفاء الراشدون، ولهم سنة يجب اتباعها، لقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"".
5- فقول هذا المسكين: " فهل في كلام هذا الإمام نقل الإجماع على سنية هذا الأذان أم أن غاية ما فيه تفسير حديثه عليه الصلاة والسلام (.. وسنة الخلفاء الراشدين ..)" ، فيه مكابرة.
ولا يصدر هذا الكلام إلا من مسفسط، أو جهول يجهل لغة العرب وأهل العلم، بعيد كل البعد عن الرشاد والاهتداء اللذين وصف بهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلفاءه الراشدين المهديين، ومنهم عثمان الخليفة الراشد –رضي الله عنهم أجمعين-.
فظهر للفطن أن قول هذا الرجل عن كلام الإمام بابطين: (...أم أن غاية ما فيه تفسير حديثه عليه الصلاة والسلام (.. وسنة الخلفاء الراشدين ..)" ، سفسطة وجهل واضح، كما تبين للقارئ.
قال علي العفري في (ص2-3): " وهكذا نقل كلام الإمام ابن باز وأنه نقل الإجماع في سنية هذا الأذان.
فلننظر كلام الإمام ابن باز لنعلم مدى كذب وبهت هذا المدبر قال ـ رحمه الله ـ : ((وتابعه بهذا الصحابة الموجودون في عهده، وكان في عهده علي -رضي الله عنه- وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله -رضي الله عنهم- وغيرهم من أعيان الصحابة وكبارهم، وهكذا سار المسلمون على هذا في غالب الأمصار والبلدان تبعا لما فعله الخليفة الراشد -رضي الله عنه- وتابعه عليه الخليفة الراشد الرابع علي -رضي الله عنه- وهكذا بقية الصحابة).
فهذا الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ يقول : وهكذا سار المسلمون على هذا في غالب الأمصار والبلدان ) فقوله غالب الأمصار كفيل بأن المسألة ليس فيها إجماع وإنما في غالب الأمصار فهل يفهم البرمكي كلام الأئمة أم أصيب بسوء مقصده ـ نسأل الله العافية-".
التعليق:
1- ما أجرأ هذا الرجل على رمي خصمه الصادق البار بالكذب والبهت، وهذا من الفجور في الخصومة، المذموم صاحبه، ويصدق عليه الحديث : " من قال في مؤمن ما ليس فيه ؛ أسكنه الله ردغة الخبال ، حتى يخرج مما قال".
2- كلام الإمام ابن باز يدل على أنه يرى أن الصحابة في عهد عثمان –رضي الله عنه- قد أجمعوا على هذا الأذان، دلّ على هذا الإجماع بقوله: " وتابعه بهذا الصحابة الموجودون في عهده" ، ولم يقل: بعض الصحابة.
فلماذا تجاهلت هذا المقطع الذي يدل على إجماع الصحابة، وأنه لم يخالفه أحد منهم؟
3- وقوله –رحمه الله-: " وهكذا سار المسلمون على هذا في غالب الأمصار والبلدان ".
ولم يقل: "في كل الأمصار" ؛ لأنه يعلم أن هناك روافض وشيعة لم يأخذوا بأذان عثمان –رضي الله عنه-، وهؤلاء لا تخدش مخالفتهم في الإجماع الذي حكاه أولاً عن الصحابة الكرام.
قال العفري في (ص2): " أما قول العلامة ابن باز (وتابعه عليه الخليفة الراشد الرابع علي -رضي الله عنه- وهكذا بقية الصحابة) فهذا حسب علمه وإلا خالفه في ذلك ابن عمر وأطلق عليه أنه بدعة وكذلك عبد الله بن الزبير لم يكن يؤذن بين يديه إلا ما كان على عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ" .
التعليق: ما أسهل تجهيل فحول العلماء عليك.
أنا أعتقد أنه لم يخفَ على العلامة ابن باز ما نسب إلى ابن عمر وابن الزبير، ولكنه لم يعتد به؛ لأنه لم يثبت عنده.
وأنا أعتقد أنَّ ما نسب إلى ابن عمر -رضي الله عنهما- من إطلاق البدعة على الأذان الأول لا يثبت عنه، وسيأتي توضيح ذلك، وابن الزبير-رضي الله عنه- لم يقل بأنه بدعة، ثم أين الإسناد إلى ابن الزبير؟
فما نسب إلى ابن عمر لم يثبت عنه، وما نسب إلى ابن الزبير لم يثبت، ولو فرضنا ثبوته فليس فيه تبديع لأذان عثمان، لذا لم يعتد الإمام ابن باز بما نسب إليهما، لا أنه يجهل ما نسب إليهما، كما يدّعي هذا المسكين.
قال علي العفري في (ص2): "ثم نقل قول اللجنة الدائمة ـ وفقها الله ـ ((والأذان الأول يوم الجمعة أمر به عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو ثالث الخلفاء الراشدين، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضي الله عنهم، وتبعه جماهير المسلمين على ذلك. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم-".
قال العفري عن نفسه: "قال أبو عيسى _ وفقه الله _ : هذا يدل على أنهم لم يطلعوا على إنكار ابن عمر ولا فعل ابن الزبير . وليس فيما قالوه أدنى ادعاء للإجماع وإنما يدل دلالة واضحة على وجود الخلاف في ذلك وإن كان في قولهم ولم ينكره أحد من الصحابة متمسك لأمثالك ؛ فهذا حسب علمهم ومن علم حجة على من لم يعلم ـ فهل يعي الأذناب هذا ـ" .
التعليق:
1- الذي يدافع عن الخليفة الراشد وعن أمر أجمع عليه على الأقل الصحابة، يكون ذَنَبَاً عند هذا الرجل، نعوذ بالله من قلب الحقائق.
2- قول اللجنة: " ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضي الله عنهم".
يدل على أنهم يعتقدون اتفاق الصحابة على ذلك، بدليل قولهم: " ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضي الله عنهم".
وابن عمر وابن الزبير –رضي الله عنهم- لم ينكرا على عثمان –رضي الله عنه-.
إن تكذيبك لمن ترد عليه يتضمن تكذيب جميع من نقل عنهم الإجماع على أحقية أذان عثمان.
وتجهيلك للإمام ابن باز واللجنة الدائمة يدل على جهلك وسوء أخلاقك.
أليس من الجائز أنهم اطلعوا على ما نُسب إلى ابن عمر –رضي الله عنهما-.فلم يعتدوا به لضعفه ونكارته عندهم، وأنهم اطلعوا على ما نسب إلى ابن الزبير فلم يروا فيه معارضة لعمل عثمان –رضي الله عنه-.
فهذه النظرة هي اللائقة بأهل العلم من أهل الأدب والأخلاق.
قال العفري في (ص3):
" قال ابن أبي شيبة ـ رحمه الله ـ: حدثنا شبابة قال حدثنا هشيم بن الغاز([4]) عن نافع عن ابن عمر قال : الأذان الأول يوم الجمعة بدعة . قال شيخنا ـ حفظه الله ـ : وهذا إسناد صحيح إلى ابن عمر ؛ فشبابة هو ابن سوار : ثقة حافظ وهشام بن الغز([5]) : ثقة ونافع مولى ابن عمر إمام مشهور اهـ وقال ابن أبي شيبة ـ رحمه الله ـ أيضاً : حدثنا وكيع قال حدثنا هشام بن الغاز قال سألت مولى ابن عمر الأذان الأول يوم الجمعة بدعة فقال : قال ابن عمر : بدعة . وهذا إسناد صحيح وهو أصرح من الأول في الدلالة . فإن قلت : قد تقدم أن ابن رجب وأبا بطين يوجهان قول ابن عمر بأن المقصود بالبدعة بدعة لغوية فما الجواب عن هذا ؟
قيل : هذا نافع مولى ابن عمر فهم من كلام شيخه أن المقصود بها البدعة المعنوية التي تضاهي الشرع ومما يؤكد ذلك ما أخرجه وكيع في كتابه فيما نقله الحافظ ابن رجب في الفتح : عن هشام بن الغاز ، قال : سألت نافعاً عن الأذان يوم الجمعة ؟ فقالَ : قالَ ابن عمر : بدعةٌ ، وكل بدعة ضلالة ، وإن رآه الناس حسناً .اهـ
فعلم من هذا أن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أراد بالبدعة ما فهمه مولاه نافع وكذلك العلامة الوادعي والعلامة الإتيوبي والعلامة الحجوري ـ وغيرهم ـ من أنها البدعة المذمومة . وأما ما ذكره ابن رجب وأبا بطين ـ رحمهما الله ـ اجتهاد منهما .
الإمام نافع مولى ابن عمر التابعي الجليل
تقدم قوله بأن كل بدعة ضلالة ـ فهل سيقول البرامكة أنه حكم على عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ بالضلالة والبدعة ؟!! ـ".
التعليق:
أولاً- إن الأقوال في الأذان الأول إنه بدعة إنما مدارها على هشام بن الغاز.
وهو: 1- لم يوصف بالحفظ والإتقان.
وإن أطلق عليه بعض أهل الحديث أنه ثقة، وهم يحيى بن معين ودحيم ومحمد بن عبد الله ابن عمار، فالصواب أنه صالح كما قال الإمام أحمد، ولابن معين قول آخر فيه.
حيث قال فيه : لا بأس به ، ومن هنا قال الذهبي فيه: إنه صدوق.
وقول الحافظ ابن حجر فيه: إنه ثقة ، فيه نظر.
ومثل هذا إذا انفرد لا يقال في حديثه : إنه صحيح ولا حسن.
2- الذي يظهر لي أن روايته هذه عن نافع تعتبر منكرة.
لأنه تفرد بها من بين أصحاب نافع الكثر ، وفيهم فحول أهل بلده المدينة النبوية، فمن الرواة عنه:
" أولاده أبو عمر وعمر وعبد الله وعبد الله بن دينار وصالح بن كيسان وعبد ربه ويحيى ابنا سعيد الأنصاري ويونس ين عبيد ويزيد بن أبي حبيب وأبو إسحاق السبيعي والزهري وموسى بن عقبة وميمون بن مهران وابن عجلان وأيوب السختياني وجرير بن حازم والحكم بن عتيبة وسعد بن إبراهيم وعبد الله بن سعيد بن أبي هند وعبيد الله بن عمر العمري وأخوه عبدالله وابن جريج والأوزاعي وابن إسحاق وعبد الكريم الجزري وعطاء الخراساني وليث بن أبي سليم ومحمد بن سوقة وهشام بن سعد ومطر الوراق ومالك بن أنس وإسماعيل بن أمية وأسامة بن زيد الليثي وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة وأيوب بن موسى القرشي وبكير بن عبدالله بن الأشج ويعلى بن حكيم وجويرية بن أسماء وأبو صخر حميد بن زياد وحنظلة بن أبي سفيان ورقبة بن مصقلة وسعيد بن هلال وصخر بن جويرية والضحاك بن عثمان وعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وعبيد الله بن أبي جعفر وعمر بن زيد بن عبدالله بن عمر وعيسى بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب ويونس بن يزيد وفليح بن سليمان وكثير بن فرقد والوليد بن كثير وشعيب بن أبي حمزة والليث بن سعد وخلق كثير"."تهذيب التهذيب" (10/413).
فتفرّد هشام بن الغاز عن نافع من بين هذا العدد الكبير ومنهم أبناؤه، وفيهم الفحول من أهل المدينة، ولم ينقل عنهم هذا النص العجيب .
هذا مع أن الناقل عنه هشام بن الغاز ، وهو ليس من أهل المدينة.
وإنما هو غريب أصله من دمشق ، ثم صار نزيل بغداد، وكان على بيت المال لأبي جعفر المنصور.
ومثل حديثه هذا - وهذا حاله- يعتبر منكراً.
وقد قال مسلم في "مقدمة كتابه" (ص7):
"لأن حكم أهل العلم، والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا. وأمعن في ذلك على الموافقة لهم. فإذا وجد كذلك، ثم زاد بعد ذلك شيئاً ليس عند أصحابه، قبلت زيادته.
فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك. قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره. فيروِى عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث، مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس. والله أعلم".
تأمل قول الإمام مسلم: " أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا وأمعن في ذلك على الموافقة لهم ... فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس والله أعلم".
وهذا مفقود في ابن الغاز فهو قليل الرواية، ولم يشارك أصحاب نافع في بعض ما رووا من الأحاديث الصحيحة، ولم يمعن في موافقتهم، ولذا لم يرو له الإمامان البخاري ومسلم أي حديث متصل عن نافع، غير أن البخاري علّق عنه حديثاً واحداً في المتابعات، انظر حديث (1742).
ولم يرو من الأئمة كلهم هذا الأثر إلا ابن أبي شيبة، وهو لم يلتزم الصحة فيما يرويه، مما يؤكد نكارة هذا الأثر المنسوب إلى ابن عمر.
وقال الحافظ ابن رجب ، معلقاً على كلام الإمام مسلم هذا:
" فصرّح بأن الثقة إذا أمعن في موافقة الثقات في حديثهم ، ثم تفرد عنهم بحديث قُبل ما تفرد به ، وحكاه عن أهل العلم".
انظر "شرح علل الترمذي" (1/456- 457).
وهشام بن الغاز من النوع الذين لا يجوز أن يقبل حديثهم إذا تفردوا عن أمثال نافع والزهري بما لا يشاركه فيه أحد من ثقات أصحابهما .
3- ثم على فرض ثبوت هذا عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- فإنه يحمل على أن مراده بالبدعة البدعة اللغوية لا الشرعية، كما يقوله بعض أهل العلم، وكما أطلق عمر لفظ البدعة على صلاة التراويح.
4- إن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- لمن المبجلين للخليفة الراشد عثمان –رضي الله عنه- ومن المنافحين عنه، فيستبعد منه جداً ما نسبه إليه هشام بن الغاز، مما يعود بالطعن على عثمان الخليفة الراشد –رضي الله عنه-.
قال الإمام البخاري في "باب مناقب عثمان" حديث (3698 و 3699):
"حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ بَزِيعٍ حَدَّثَنَا شَاذَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كُنَّا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا نَعْدِلُ بِأَبِي بَكْرٍ أَحَدًا، ثُمَّ عُمَرَ، ثُمَّ عُثْمَانَ، ثُمَّ نَتْرُكُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا نُفَاضِلُ بَيْنَهُمْ. تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ".
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، هُوَ ابْنُ مَوْهَبٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ حَجَّ الْبَيْتَ، فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ؟ فَقَالُوا: هَؤُلَاءِ قُرَيْشٌ، قَالَ: فَمَنْ الشَّيْخُ فِيهِمْ؟ قَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ فَحَدِّثْنِي هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: تَعَالَ أُبَيِّنْ لَكَ.
أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ.
وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَتْ مَرِيضَةً فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ.
وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عُثْمَانَ وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِهِ الْيُمْنَى هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ فَقَالَ: هَذِهِ لِعُثْمَانَ .
فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ اذْهَبْ بِهَا الْآنَ مَعَكَ".
أقول: انظر إلى هذا الصحابي الجليل كيف يدافع عن عثمان –رضي الله عنه-، ثم يذكر محاسنه.
وانظر إلى هذا الرجل الحاقد على عثمان –رضي الله عنه-، فإنه مع حقده لم يسأل ابن عمر عن أذان عثمان، وهو أظهر وأشهر من المسائل التي سأل عنها، فهذا يدل على أن هذا الأذان من المسلمات عنده وعند الأمة.
وقال الإمام البخاري –رحمه الله- في "صحيحه" حديث(3704):
"حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَسَأَلَهُ عَنْ عُثْمَانَ فَذَكَرَ عَنْ مَحَاسِنِ عَمَلِهِ، قَالَ: لَعَلَّ ذَاكَ يَسُوءُكَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَأَرْغَمَ اللَّهُ بِأَنْفِكَ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ عَلِيٍّ فَذَكَرَ مَحَاسِنَ عَمَلِهِ قَالَ هُوَ ذَاكَ بَيْتُهُ أَوْسَطُ بُيُوتِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّ ذَاكَ يَسُوءُكَ قَالَ أَجَلْ قَالَ فَأَرْغَمَ اللَّهُ بِأَنْفِكَ انْطَلِقْ فَاجْهَدْ عَلَيَّ جَهْدَكَ".
فيبدو أنك وأمثالك من المتتبعين لعثمان وأمثاله من الصحابة الكرام من طراز هذين الرجلين، وعلى منهجهما الرديء في البحث عن ما يغض من مكانتهم ونشره، لا عن محاسنهم ومزاياهم الرفيعة التي أثنى بها عليهم رب العالمين ورسوله الصادق الأمين.
انظروا إلى ابن عمر كيف يشيد بمحاسن عثمان وعلي –رضي الله عنهما- ويصفع بها وجوه شانئيهم ، وهذا هو المنهج الصحيح الذي سار عليه السلف الصالح –رضوان الله عليهم- ذلكم المنهج الذي يطعنون فيمن يخالفه.
قال العفري في (ص3): " ومنهم عطاء بإسناد صحيح".
التعليق:
1- لماذا لم تذكر هذا الإسناد الذي تدَّعي أنه صحيح.
2- أنا أنقل لك كلام عطاء بإسنادين عنه.
قال إسحاق بن إبراهيم الدبري الراوي عن عبد الرزاق في "المصنف" (3/205):
" 5339 - عبد الرزاق لعله عن ابن جريج - ابن الأعرابي([6]) شك- قال: أخبرنا عطاء قال: إنما كان الأذان يوم الجمعة فيما مضى واحداً قط، ثم الإقامة، فكان ذلك الأذان يؤذن به حين يطلع الإمام، فلا يستوي الإمام قائماً حيث يخطب حتى يفرغ المؤذن، أو مع ذلك، وذلك حين يحرم البيع، وذلك حين يؤذن الأول، فأما الأذان الذي يؤذن به الآن قبل خروج الإمام وجلوسه على المنبر فهو باطل وأول من أحدثه الحجاج بن يوسف".
أ- فهذا الإسناد إلى عطاء ضعيف للشك في رواية ابن جريج عن عطاء.
سواء أكان هذا الشك صادراً من عبد الرزاق، أو من غيره.
ب- أن عطاء إنما نسب هذا الأذان إلى الحجاج، ولذا حكم عليه بأنه باطل، ومع ذلك فالإسناد إلى عطاء ضعيف كما أسلفنا.
وقال إسحاق بن إبراهيم الدبري الراوي عن عبد الرزاق في "المصنف" (3/206):
"5340 - عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قال سليمان بن موسى أول من زاد الأذان بالمدينة عثمان، قال عطاء: كلا، إنما كان يدعو الناس دعاء ولا يؤذن غير أذان واحد".
التعليق:
هذا الإسناد فيه ابن جريج، وهو مدلس، وصيغة تحديثه هنا "قال"، وهي ليست من الصيغ الصريحة في السماع، بل هي من الصيغ التي يستخدمها المدلسون.
وعلى فرض صحة هذا الإسناد فإن موقف عطاء إنما هو الإنكار على سليمان بن موسى في قوله: " أول من زاد الأذان بالمدينة عثمان"، وأن عثمان " إنما كان يدعو الناس دعاء ولا يؤذن غير أذان واحد".
فقولك: " ومنهم عطاء بإسناد صحيح" ، تريد أن إنكاره لأذان عثمان ثابت بإسناد صحيح، وهذا باطل، وتشبع منك بما لم تعط.
قال العفري في (ص3): " وجاء عن عبد الله بن الزبير أنه كان لا يؤذن له إلا الأذان الذي كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم-".
التعليق:
1- ليس في فعل عبد الله بن الزبير –رضي الله عنهما- حكم على فعل عثمان –رضي الله عنه- بأنه بدعة.
2- في الإسناد إلى ابن الزبير ابن جريج، وهو مدلس، وقد عنعن في الإسناد، فهو إسناد ضعيف، وليس له متابع، "مصنف عبد الرزاق" (3/206) رقم (5344).
فبطل تعلقك بعمل ابن الزبير –رضي الله عنهما-.
قال العفري في (ص3): "الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ
قال ـ رحمه الله ـ كما في الاستذكار (2/27) : أحب إلي أن يكون الأذان يوم الجمعة حين يجلس الإمام على المنبر بين يديه فإذا قعد أخذ المؤذن في الأذان فإذا فرغ قام الإمام يخطب فذكر المؤذن بلفظ الواحد على نحو رواية بن عبد الحكم . قال وكان عطاء ينكر أن يكون عثمان أحدث الأذان الثاني ويقول أحدثه معاوية قال الشافعي وأيهما كان فالأذان الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي وهو الذي ينهى عنده عن البيع اهـ".
التعليق: ليس في قول الإمام الشافعي وصف لأذان عثمان بأنه بدعة، بل قوله "أحب إليَّ" يفيد أن عمل عثمان محبوب عنده، ولا يراه بدعة، كما يوهم ذلك هذا الكاتب.
قال العفري في (ص3):
" قول ابن حبيب فيما نقله أبو الوليد
وهو قول له ثم أَمَرَ عُثْمَانُ لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ أَنْ يُؤَذَّنَ عِنْدَ الزَّوَالِ بِالزَّوْرَاءِ وَهُوَ مَوْضِعُ السُّوقِ لِيَرْتَفِعَ مِنْهَا النَّاسُ فَإِذَا خَرَجَ وَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ عَلَى الْمَنَارِ ثُمَّ إِنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي إمَارَتِهِ نَقَلَ الْأَذَانَ الَّذِي فِي الزَّوْرَاءِ فَجَعَلَهُ مُؤَذِّنًا وَاحِدًا يُؤَذِّنُ عِنْدَ الزَّوَالِ عَلَى الْمَنَارِ فَإِذَا خَرَجَ هِشَامٌ وَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِذَا فَرَغُوا خَطَبَ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَفِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ اهـ (المنتقى 1/134)".
التعليق: قول ابن حبيب ليس فيه أي استنكار لعمل عثمان، واستنكاره إنما هو لفعل هشام، الذي فيه نَقْلُ أذان عثمان من الزوراء.
فبطل احتجاجك به وبكلام الشافعي.
قال علي العفري في (ص3): " قول ابن الأمير الصنعاني
قال ـ رحمه الله ـ بعد كلام : ... وأما النداء الذي أراده المصنف هنا وفي البحر ؛ فإنه مخالف للشرع المعلوم والبدعي الذي أحدثه عثمان اهـ المراد حاشية ضوء النهار للجلال (3/103)".
التعليق: كلام الصنعاني هذا لا يقبل منه، ثم إن عمدته رواية هشام بن الغاز، أو اعتمد على نقول الشيعة الزيدية الذين يرون أن صلاة التراويح بدعة، وقد يغمزون في الصحابة.
قال العفري: " قول المبارك فوري ـ رحمه الله ـ صاحب تحفة الأحوذي.
قال بعد أن قرر المراد بسنة الخلفاء الراشدين : ( .. فإذا عرفت أنه ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته صلى الله عليه و سلم لاح لك أن الاستدلال على كون الأذان الثالث الذي هو من مجتهدات عثمان رضي الله عنه أمرا مسنونا ليس بتام ألا ترى أن بن عمر رضي الله عنه قال الأذان الأول يوم الجمعة بدعة فلو كان هذا الاستدلال تاما وكان الأذان الثالث أمرا مسنونا لم يطلق عليه لفظ البدعة لا على سبيل الإنكار ولا على سبيل غير الإنكار فإن الأمر المسنون لا يجوز أن يطلق عليه لفظ البدعة بأي معنى كان فتفكر اهـ (3/69)".
التعليق: 1- كلام المبارك فوري هذا لا يقبل، فماذا يقول هو وغيره في تصرفات أبي بكر وعمر –رضي الله عنهما-؟ تلك التصرفات التي تلقّاها الصحابة والأمة بالقبول في ضوء قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي".
2- ثم إن كلامه مبني على رواية هشام بن الغاز المنكرة.
3- ثم إن موافقة الصحابة –رضي الله عنهم- والتابعين ومن بعدهم لعثمان يتبين بها بطلان كلام الصنعاني والمبارك فوري ومن نحى نحوهما.
قال العفري في (ص4) : " قول العلامة أحمد شاكر ـ رحمه الله ـ
قال ـ رحمه الله ـ في تعليقه على الترمذي (ج2 ص393): "فائدة" في رواية عند أبي داود في هذا الحديث: كان يؤذن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر يوم الجمعة على باب المسجد، فظن العوام بل كثير من أهل العلم أن هذا الأذان يكون أمام الخطيب مواجهة، فجعلوا مقام المؤذن في مواجهة الخطيب. (قريباً من المنبر) على كرسي أو غيره، وصار هذا الأذان تقليداً صرفاً لا فائدة له في دعوة الناس إلى الصلاة وإعلامهم حضورها، كما هو الأصل في الأذان والشأن فيه، وحرصوا على ذلك، حتى لينكرون على من يفعل غيره، وإتباع السنة أن يكون على المنارة عند باب المسجد ليكون إعلاماً لمن لم يحضر، وحرصوا على إبقاء الأذان قبل خروج الإمام، وقد زالت الحاجة إليه؛ لأن المدينة لم يكن بها (مسجد جامع) إلا المسجد النبوي وكان الناس كلهم يجمعون فيه، وكثروا عن أن يسمعوا الأذان عند باب المسجد، فزاد عثمان الأذان الأول ليعلم من بالسوق ومن حوله حضور الصلاة، أما الآن وقد كثرت المساجد، وبنيت فيها المنارات، وصار الناس يعرفون وقت الصلاة بأذان المؤذن على المنارة فإنا نرى أن يكتفي بهذا الأذان، وأن يكون عند خروج الإمام إتباعاً للسنة" اهـ".
التعليق:
1- كلام أحمد شاكر ليس فيه اعتراض على أذان عثمان، وإنما فيه اعتراض على ما يقوله ويفعله العوام وبعض أهل العلم في أذان الجمعة.
ويفهم من كلام أحمد شاكر أنه يقرر أحقية أذان عثمان، لأن الحاجة كانت تستدعيه.
تأمل قوله: "فزاد عثمان الأذان الأول ليعلم من بالسوق ومن حوله حضور الصلاة، أما الآن وقد كثرت المساجد، وبنيت فيها المنارات، وصار الناس يعرفون وقت الصلاة بأذان المؤذن على المنارة فإنا نرى أن يكتفي بهذا الأذان، وأن يكون عند خروج الإمام إتباعاً للسنة".
فحاصل كلامه أنه لم يعترض على أذان عثمان؛ لأن الحاجة عنده كانت تدعو لوجود هذا الأذان، فإذا لم يكن هناك حاجة فإنه يرى أنه يكتفى بالأذان الذي كان في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قال العفري في (ص4-5):
" قول العلامة الألباني ـ رحمه الله ـ
قال : نقل القرطبي في تفسيره ( 18 / 100 ) عن الماوردي : فأما الأذان الأول فمحدث فعله عثمان ليتأهب الناس لحضور الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها وإذا كان الأمر كذلك فالأخذ حينئذ بأذان عثمان من قبيل تحصيل حاصل وهذا لا يجوز لا سيما في مثل هذا الموضع الذي فيه التزيد على شريعة رسول الله صلى الله عليه و سلم دون سبب مبرر وكأنه لذلك كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو بالكوفة يقتصر على السنة ولا يأخذ بزيادة عثمان كما في " القرطبي " وقال ابن عمر رضي الله عنهما : " إنما كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا صعد المنبر أذن بلال فإذا فرغ النبي صلى الله عليه و سلم من خطبته أقام الصلاة والأذان الأول بدعة " . رواه أبو طاهر المخلص في " فوائده " ( ورقة 229 / 1 - 2 ) والخلاصة : أننا نرى أن يكتفى بالأذان المحمدي وأن يكون عند خروج الإمام وصعوده على المنبر لزوال السبب المبرر لزيادة عثمان واتباعا لسنة النبي صلى الله عليه و سلم وهو القائل : " فمن رغب عن سنتي فليس مني " اهـ (الأجوبة النافعة 12ـ22) وانظر (قاموس البدع لمشهور حسن وصاحبه ص475ـ476)".
التعليق: في هذا النقل عن الألباني بهذه الطريقة تلبيس وغش.
فالألباني سئل عن الأذان العثماني، فأجاب على السؤال إجابة علمية مفصلة، وسأختار فقرات من الإجابة لطولها.
الأولى: قوله: متى يشرع الأذان العثماني.
ثم بيّن ذلك بقوله:
"فإذن إنما يكون الاقتداء به -رضي الله عنه- حقاً عندما يتحقق السبب الذي من أجله زاد عثمان الأذان الأول، وهو "كثرة الناس وتباعد منازلهم عن المسجد كما تقدم"، "الأجوبة النافعة" (ص10).
فهو يرى جواز الاقتداء بعثمان –رضي الله عنه- عندما يتحقق السبب...الخ.
الثانية- نقل كلام الماوردي، كما ورد في مقال الكاتب.
الثالثة- قال بعد الكلام السابق: " والخلاصة : أننا نرى أن يكتفى بالأذان المحمدي وأن يكون عند خروج الإمام وصعوده على المنبر لزوال السبب المبرر لزيادة عثمان واتباعا لسنة النبي صلى الله عليه و سلم وهو القائل : " فمن رغب عن سنتي فليس مني ""، "الأجوبة النافعة" (ص11).
فكلامه هنا يفيد أنه عند زوال السبب المبرر لزيادة عثمان يجب الأخذ بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا يمنع من الأذان العثماني عند وجود السبب.
الرابعة- قال الألباني: "لا نرى مانعا من هذا الأذان العثماني إذا جعل عند باب الثكنة الخارجي لأنه يسمع المارة على الجادة ويعلمهم أن في الثكنة مسجدا تقام فيه الصلاة فيؤمونه ويصلون فيه كما قد يسمع من يكون في البيوت القريبة من الجادة"، "الأجوبة النافعة" (ص13).
هذا وكان قد ساق حديث الزهري عن السائب بن يزيد في الأذان في عهد النبي-صلى الله عليه وسلم-، مع ذكر زيادة عثمان –رضي الله عنه-.
ساقه من صحيح البخاري مع زيادات عليه، أضافها من مصادر أخرى من مصادر السنة.
ومن تلك الزيادات قول الراوي:" فلم يعب الناس ذلك عليه وقد عابوا عليه حين أتم الصلاة بمنى".
قوله: ":" فلم يعب الناس ذلك عليه وقد عابوا عليه حين أتم الصلاة بمنى".
أنه لم ينكر عليه أحد من الصحابة هذا الأذان ولا أحد من التابعين الذين أدركوا عثمان –رضي الله عنه-.
والحاصل أن الألباني لا يرى مانعاً من استعمال الأذان العثماني عند وجود السبب الداعي لاستعماله، وليس كما يوهم الكاتب أن الألباني من المعارضين لأذان عثمان مطلقاً.
ومن المستنكر على هذا الكاتب كتمانه لهذه الفقرات التي يصرِّح فيها الألباني بموقفه العلمي الناضج من الأذان العثماني.
بل حتى فيما نقله عن الألباني ما يفيد أنه لا يمنع من استعمال هذا الأذان عند وجود السبب الداعي إليه .
وما نقله الألباني عن الماوردي بواسطة القرطبي بأن علياً – رضي الله عنه – كان بالكوفة يقتصر على السنة ولا يأخذ بزيادة عثمان" ، فنقول: هات الدليل على هذه الدعوى، ودون ذلك خرط القتاد.
ثم إنه يُرد على العفري بما يأتي:
قال الإمام البخاري: "حدثنا محمد بن مقاتل : أنا عبد الله : أنا يونس : عن الزهري ، قال: سمعت السائب ين يزيد يقول : إن الأذان يوم الجمعة كان أوله حين يجلس الإمام يوم الجمعة على المنبر ، في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر ، فلما كان في خلافة عثمان –وكثروا- أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث، فأُذِّن به على الزوراء ، فثبت الأمر على ذلك([7])" .
علّق الحافظ ابن رجب في "الفتح" (8/231) على هذا الحديث.
ومن تعليقه قوله:
"وقوله في هذه الرواية التي خرجها البخاري هنا : ( ( فثبت الأمر على ذلك ) ) ، يدل على أن هذا من حين حدده عثمان استمر ، ولم يترك بعده .
وهذا يدل على أن علياً أقرّ عليه ، ولم يبطله ، فقد اجتمع على فعله خليفتان من الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم أجمعين" .
فانتبه لهذا الكلام، واستفد منه أيها العفري.
وقال ابن رجب –رحمه الله- في "جامع العلوم والحكم" (2/128-129):
" فقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كل بدعة ضلالة" من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"، فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة.
وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر -رضي الله عنه- لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال: "نعمت البدعة هذه".
وروي عنه أنه قال: إن كانت هذه بدعة، فنعمت البدعة.
وري عن أبي بن كعب قال له: إن هذا لم يكن، فقال عمر: قد علمتُ ولكنه حسن. ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصول من الشريعة يُرجع إليها، فمنها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحث على قيام رمضان، ويرغب فيه، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحداناً، وهو -صلى الله عليه وسلم- صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة، ثم امتنع من ذلك معللا بأنه خشي أن يُكتب عليهم، فيعجزوا عن القيام به، وهذا قد أُمِن بعده -صلى الله عليه وسلم- وروي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقوم بأصحابه ليالي الإفراد في العشر الأواخر ومنها أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر باتباع سنة خلفائه الراشدين، وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين، فإن الناس اجتمعوا عليه في زمن عمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم-
ومن ذلك: أذان الجمعة الأول، زاده عثمان لحاجة الناس إليه، وأقره علي، واستمر عمل المسلمين عليه، وروي عن ابن عمر أنه قال: هو بدعة، ولعله أراد ما أراد أبوه في قيام رمضان.
ومن ذلك جمع المصحف في كتاب واحد، توقف فيه زيد بن ثابت، وقال لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما :كيف تفعلان ما لم يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم علم أنه مصلحة، فوافق على جمعه وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر بكتابة الوحي، ولا فرق بين أن يكتب مفرقا أو مجموعا، بل جمعه صار أصلح.
وكذلك جمع عثمان الأمة على مصحف واحد وإعدامه لما خالفه خشية تفرق الأمة، وقد استحسنه علي وأكثر الصحابة رضي الله عنهم، وكان ذلك عين المصلحة.
وكذلك قتال من منع الزكاة، توقف فيه عمر وغيره حتى بيّن له أبو بكر أصله الذي يرجع إليه من الشريعة، فوافقه الناس على ذلك".
انظر إلى فقه هذا الإمام وإنصافه.
1- فالبدعة الحقيقية بدعة الضلال عنده هي التي لا أصل لها في الدين ترجع إليه، وأن الدين بريء من هذا النوع من البدع.
2- احترامه لأمر عمر –رضي الله عنه- بصلاة التراويح في جماعة.
ويقول عن هذا الأمر: " ولكن له أصول من الشريعة يُرجع إليها".
3- قوله: " ومن ذلك: أذان الجمعة الأول، زاده عثمان لحاجة الناس إليه، وأقره علي، واستمر عمل المسلمين عليه".
فقوله: "ومن ذلك" ، أي مما عمله الخليفة الراشد عثمان –رضي الله عنه-، فإن له أصولاً من الدين يرجع إليها.
ثم واصل قوله: "ومن ذلك (أي مما له أصول في الدين) جمع المصحف في كتاب واحد"، بأمر أبي بكر الخليفة الراشد.
"وكذلك جمع عثمان الأمة على مصحف واحد وإعدامه لما خالفه خشية تفرق الأمة، وقد استحسنه علي وأكثر الصحابة رضي الله عنهم، وكان ذلك عين المصلحة".
فماذا يقول من يطعن في الأذان العثماني، ويرى أنه بدعة؟
أيحكم على أعمال هؤلاء الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان –رضي الله عنهم- بأنه من البدع الحقيقية؟؟
قال العفري في (ص5-6):
" ذكر قول الإمام العلامة مقبل بن هادي الوادعي في المسألة:
سئل ـ رحمه الله كما في قمع المعاند (49ـ50) : هل الأذان الأول يوم الجمعة مشروع ؟
قال : الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد : فالأذان الأول لم يكن على عهد النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما رواه البخاري من حديث السائب بن يزيد قال : كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء . وقد عمل في هذا الأذان في عهد عثمان ـ رضي الله عنه ـ ولم ينقل أنه عمل في عهد علي ـ رضي الله عنه ـ فما بعده وقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن عبد الله بن عمر أنه قال : إن الأذان الأول بدعة .؛ فالجمعة لها أذان واحد . فإن قال قائل : إن الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما في حديث العرباض بن سارية الذي أخرجه أصحاب السنن والإمام أحمد في مسنده وينظر أخرجه النسائي في المجتبى أم لا ذلكم الحديث الذي فيه " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين " وقال : إن سنة عثمان من سنن الخلفاء الراشدين ؛ نعم عثمان من الخلفاء الراشدين لكن ليس الحديث كما فهمت فقد قال أبو محمد في كتابه "إحكام الأحكام" قال في سنن الخلفاء الراشدين إما أن نأخذ بها كلها وهذا لا سبيل إليه لأنهم اختلفوا وإما أن نردها كلها فهذا ضلال مبين لأن من سنتهم ما هو موافق لسنة النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وإما أن من سننهم ما وافق سنة الرسول فهذا قولنا . اهـ
التعليق:
1- كلام ابن حزم ليس فيه استنكار لأذان عثمان.
2- إذا اختلف الخلفاء الراشدون يؤخذ بالراجح من أقوالهم، ولا يجوز ترك كل أقوالهم، وهم قد شهد لهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بأنهم خلفاؤه الراشدون المهديون، فمن الضلال ترك أقوالهم كلها إذا اختلفوا؛ لأنه يخالف شهادة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لهم بأنهم راشدون مهديون.
3- وإذا كنا لا نأخذ من سنتهم إلا ما وافقوا فيه سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنا نكون قد أهدرنا شهادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهم بأنهم خلفاؤه الراشدون المهديون، وأهدرنا هذه الميزة التي ميزهم بها رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"، فلا بد لهم من ميزة يتميزون بها على غيرهم إذا اجتهدوا فيما يصلح شئون أمة محمد –صلى الله عليه وسلم-.
ومنها اجتهاد عثمان هذا الذي وافقه فيه أصحاب محمد –صلى الله عليه وسلم-، ولو كانوا يرون أن عمل عثمان –رضي الله عنه- يخالف سنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لأنكروه عليه.
وإذا كان الأمر كذلك، فلا يلتفت إلى اعتراض من اعترض على هذا الأذان، بعد أكثر من ألف سنة.
وماذا يقول هؤلاء في عمل أبي بكر وعمر –رضي الله عنهما-؟
قال البخاري –رحمه الله- في "صحيحه":
4679 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَكَانَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْوَحْيَ، قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، وَعِنْدَهُ عُمَرُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ، إِلَّا أَنْ تَجْمَعُوهُ، وَإِنِّي لَأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِيهِ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ لِذَلِكَ صَدْرِي، وَرَأَيْتُ الَّذِي رَأَى عُمَرُ.
قَالَ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ، وَعُمَرُ عِنْدَهُ جَالِسٌ لَا يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلَا نَتَّهِمُكَ، كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلَانِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الرِّقَاعِ وَالْأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } إِلَى آخِرِهِمَا، وَكَانَتْ الصُّحُفُ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ".
ما يستفاد من هذا الحديث:
1- لقد رأى عمر -رضي الله عنه- أن يجمع أبو بكر -رضي الله عنه- القرآن خشية أن يذهب كثير منه بسبب قتل كثير من القراء في حرب المرتدين وغيرهم.
2- فتردد أبو بكر –رضي الله عنه- في جمع القرآن، لأن هذا أمر لم يفعله رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فقال عمر: هو والله خير، فاقتنع أبو بكر برأي عمر السديد وشرح الله صدره لذلك.
وتردد زيد بن ثابت في هذا الأمر، وقال: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله النبي –صلى الله عليه وسلم-؟
ورأى أنه لو كلف بنقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليه مما أمره به أبو بكر.
ثم ما زال يراجع أبا بكر حتى شرح الله لذلك صدره.
فقام زيد بعد اقتناعه بجمع القرآن.
لأن في هذا العمل خيراً ودفع شر قد يقع إن لم يُجمع القرآن، وذهب زيد يجمع القرآن من صدور الرجال وغير ذلك.
فهذا عمل لم يعمله رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، لكن منهجه العظيم يقتضيه.
فماذا يقول ابن حزم في عمل صرّح أبو بكر وزيد بن ثابت أنه لم يفعله رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، هل هو مما يرد، ولا يقبل من أبي بكر وعمر والصحابة –رضي الله عنهم-، فإن رجع عن قوله وهو الحق قلنا له يلزمك قبول أمر عثمان –رضي الله عنه- بالأذان الأول وإقرار الصحابة لهذا الأمر من عثمان –رضي الله عنهم أجمعين-.
إن عمل عثمان –رضي الله عنه- لمما يقتضيه هذا المنهج النبوي، الذي قام على جلب المصالح ودفع المفاسد.
فرأى عثمان أن في عمله هذا جلب مصلحة يقتضيها المنهج النبوي، وهو أن يشارك كثير من الناس في أداء فرض صلاة الجمعة الواجب المحتم بسبب هذا الأذان، الذي أمر به في السوق ليسمع هذا الأذان من لم يسمع الأذان في المسجد النبوي البعيد عن السوق، وهذا الخير فيه واضح، والمصلحة المحتمة فيه واضحة.
ومن هذا الباب أمرُ النبي -صلى الله عليه وسلم- لبلال أن يؤذن الأذان الأول لصلاة الفجر ولابن أم مكتوم بالأذان الثاني ليرجع القائم ويستيقظ النائم .
قال الإمام مسلم رحمه الله- في "صحيحه":
"1092 حدثنا يحيى بن يحيى ومحمد بن رمح، قالا: أخبرنا الليث. ح وحدثنا قتيبة بن سعيد. حدثنا ليث عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إن بلالاً يؤذن بليل. فكلوا واشربوا حتى تسمعوا تأذين ابن أم مكتوم".
حدثنا ابن نمير، حدثنا أبي، حدثنا عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مؤذنان: بلال وابن أم مكتوم الأعمى. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم". قال ولم يكن بينهما إلا أن ينـزل هذا ويرقى هذا.
1093- حدثنا زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "لا يمنعن أحدا منكم أذان بلال (أو قال نداء بلال) من سحوره فإنه يؤذن (أو قال ينادي) بليل. ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم". وقال: "ليس أن يقول هكذا وهكذا (وصوب يده ورفعها) حتى يقول هكذا" (وفرج بين إصبعيه)" ، ونحوهما في "صحيح البخاري" انظر حديث (617)و (621).
وهذا من منطلقات عثمان –رضي الله عنه- في الأذان الأول ليوم الجمعة.
ولو لم يفعله لترتب عليه مفسدة، وهي تفويت صلاة الجمعة المفروضة على كثير من الناس، وسوف يتكرر هذا الأمر البغيض إلى الله كرات ومرات لو لم يفعل عثمان الخليفة الراشد هذا العمل.
ثم إن الأذان على مكانته في الإسلام إنما هو وسيلة؛ لاجتماع الناس للصلوات المكتوبة، فقد كان الصحابة يتحينون الصلاة قبل شرعية الأذان، فأهمهم هذا الأمر وتداولوا فيه الآراء الاجتهادية في الوسيلة التي تحقق لهم هذا الاجتماع للصلاة، كما روى البخاري حديث (604)، ومسلم حديث (377) بإسنادهما إلى نافع عن ابن عمر –رضي الله عنهما- كَانَ يَقُولُ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلَاةَ، لَيْسَ يُنَادَى لَهَا، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ بُوقًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا بِلَالُ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ ".
وروى البخاري حديث (606)، ومسلم (37 بإسنادهما إلى أبي قلابة عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ، قَالَ: ذَكَرُوا أَنْ يَعْلَمُوا وَقْتَ الصَّلَاةِ بِشَيْءٍ يَعْرِفُونَهُ، فَذَكَرُوا أَنْ يُورُوا نَارًا، أَوْ يَضْرِبُوا نَاقُوسًا، فَأُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ، وَأَنْ يُوتِرَ الْإِقَامَةَ".
فظهر من هذين الحديثين عن ابن عمر –رضي الله عنه- وعن أنس -رضي الله عنه- أن الأذان وسيلة لجمع الناس للصلاة المفروضة في أوقاتها المحددة في القرآن والسنة.
يؤكد هذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأذانين لصلاة الفجر، كما أسلفنا ذِكْر ذلك قبل قليل.
ولمعرفة الصحابة كلهم أن الأذان إنما هو وسيلة لجمع الناس للصلاة لم يعترضوا على عثمان في أمره بالأذان في السوق لجمع الناس للصلاة.
ومن أعرف الناس بأن الأذان وسيلة ابن عمر –رضي الله عنه- الراوي لقصة بدء الأذان، والراوي لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأذانين قبل الفجر ليستيقظ النائم، وليرجع القائم، وهو الراوي لتداول الصحابة في الوسيلة التي تجمع الناس للصلاة.
وقول عمر -رضي الله عنه-: " أَوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ" ، فهذا اقتراح من عمر نفذه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بأمره بلالاً ينادي بالصلاة.
فيستبعد جداً من ابن عمر أن يقول عن الأذان العثماني أنه بدعة.
وهو من أعلم الناس بسببه ومنشئه، وهذا مما يؤكد نكارة رواية هشام بن الغاز المنسوبة إلى ابن عمر –رضي الله عنهما-.
مثال آخر لعمل الخلفاء الراشدين الذي أقرّه الصحابة والأمة من بعدهم مما يبطل قول ابن حزم ومن وافقه:
قال الإمام البخاري –رحمه الله- في "صحيحه":
6776 - حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَلَدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ".
6779 - حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْجُعَيْدِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنَّا نُؤْتَى بِالشَّارِبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِمْرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، فَنَقُومُ إِلَيْهِ بِأَيْدِينَا وَنِعَالِنَا وَأَرْدِيَتِنَا، حَتَّى كَانَ آخِرُ إِمْرَةِ عُمَرَ، فَجَلَدَ أَرْبَعِينَ، حَتَّى إِذَا عَتَوْا وَفَسَقُوا جَلَدَ ثَمَانِينَ".
فماذا يقول ابن حزم في هذا العمل من الخليفتين الراشدين، أيرده بزعم أنه يخالف السنة؟
وقول الشيخ مقبل –رحمه الله-: " ولم ينقل أنه عمل في عهد علي ـ رضي الله عنه ـ فما بعده".
التعليق:
روى الإمام البخاري –رحمه الله- في "صحيحه" حديث (3707).
قال: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: قَالَ: "اقْضُوا كَمَا كُنْتُمْ تَقْضُونَ، فَإِنِّي أَكْرَهُ الِاخْتِلَافَ، حَتَّى يَكُونَ لِلنَّاسِ جَمَاعَةٌ، أَوْ أَمُوتَ كَمَا مَاتَ أَصْحَابِي، فَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَرَى أَنَّ عَامَّةَ مَا يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ الْكَذِبُ".
فالإمام علي -رضي الله عنه- صرّح بأنه يكره الاختلاف، حتى يكون الناس جماعة.
فهو لا يريد أن يخالف إخوانه، وأنه يحب أن يموت على ما مات عليه أصحابه، يعني الخلفاء الراشدين قبله، أبا بكر وعمر وعثمان –رضي الله عنهم-.
فيستبعد من علي أن يخالف عثمان في هذا الأذان الذي أقره جميع الصحابة –رضوان الله عليهم-، وعلى رأسهم علي نفسه –رضي الله عنه-.
مما يؤكد هذا قول السائب بن يزيد في حديثه عن الأذان العثماني: " فثبت الأمر على ذلك"، وهذا يتناول عهد علي –رضي الله عنه- وغيره، إلى أن مات السائب بن يزيد في خلافة الوليد بن عبد الملك سنة (91) أو قبلها بقليل.
قال العفري: "وسئل ـ رحمه الله ـ(أي الشيخ مقبل) : ما حكم الأذانين في المسجد يوم الجمعة مع العلم أن الفرق بينهما نصف ساعة ؟ الجواب : الأذان الأول ليس بمشروع كما في صحيح البخاري عن السائب قال : كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء . وقد قال عبد الله بن عمر كما في مصنف بن أبي شيبة : إنه بدعة أي الأذان الأول ولسنا نقول : إن عثمان ـ رضي الله عنه ـ مبتدع لكن نقول : اجتهد والدليل يخالف اجتهاده ومن علم الدليل ثم عمل بخلاف الدليل يعد مبتدعاً اهـ (غارة الأشرطة 1/164).
يقال: هذا كلام عجيب من الشيخ مقبل -غفر الله له-، فهل عثمان والصحابة والتابعون وأئمة الإسلام جهلوا هذا الدليل وعملوا بخلافه؟
إن الصحابة الكرام لأعلم الناس بأدلة الإسلام وأفقههم فيها، وأشد الناس تمسكاً بها وغيرة عليها، وليس هذا الأذان الذي أقروه بمخالف لها.
فالصحابة والتابعون يعلمون أن الأذان كان على عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إنما كان أذاناً واحداً وإقامة، وأن عثمان -رضي الله عنه- زاد الأذان الثالث للحاجة أو الضرورة إلى ذلك، ولتحقيق المصلحة العظمى بسببه، لذا لم يخالفه الصحابة ولا التابعون؛ لأن فيه دعماً لسنة رسول الله وتحقيقاً للغاية التي شرع من أجلها الأذان.
وراجع ما قدّمنا من المسوغات لعمل عثمان وإقرار الصحابة لذلك.
قال العفري: "وسئل ـ رحمه الله ـ(أي الشيخ مقبل) : يا شيخ هل الأذان الأول يوم الجمعة سنة ؟
قال ـ رحمه الله ـ : إن البخاري روى في صحيحه من حديث السائب بن يزيد ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان له مؤذن يؤذن أذاناً واحداً أو بهذا المعنى ذكره البخاري في كتاب الجمعة فلما أن كثر الناس وهو من حديث السائب بن يزيد مكان في سوق والذي فعله عثمان ـ رضي الله عنه ـ من أجل أن يحضر الناس ويتأهبوا لصلاة الجمعة فهذا اجتهاد من عثمان ـ رضي الله عنه ـ وقد قال ابن عمر كما في مصنف ابن أبي شيبة : إن الأذان الأول يوم الجمعة بدعة . وأما حديث " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ " فأحسن من تكلم عليه فيما اطلعت عليه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد([8]) ـ رحمه الله تعالى ـ الشهير بابن حزم قال : إما أن نأخذ بها كلها وهذا لا سبيل إليه لأنهم اختلفوا وإما أن نردها كلها فهذا ضلال مبين لأن من سنتهم ما هو موافق لسنة النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وإما أن من سننهم ما وافق سنة الرسول قال : فهذا قولنا اهـ ويقول شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في التوسل والوسيلة ما معناه ليس لأحد سنة مع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهكذا يذكره الحكم قبل شيخ الإسلام ابن تيمية ذكره عن يحيى بن آدم أنه قال : لا سنة لأحد مع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ . وإنما كان يقال سنة أبي بكر وعمر من أجل أن يعلم أن تلك السنن كان يعمل بها في عهد أبي بكر وعمر ورب العزة يقول في كتابه الكريم ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة/3] ويقول ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف/3] وأما حديث "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" فهذا أيضاً ليس داخلاً في الموضوع لأن عثمان هو أول من ابتدأ به ثم الذي نعتقده أن الحديث ضعيف لأنه من رواية ربعي بن خراش عن حذيفة وهو لم يسمعه من حذيفة وأيضاً مولى ربعي مبهم لا يعرف ؛ فعرف من هذا أن الأذان الأول ليس بسنة وترتب على هذا أمر آخر وهو الركوع بين الأذانين وربما استدل مستدلون بحديث "بين كل أذانين صلاة " ولكن قد عرفت أن الأذان لم يثبت . والنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كان إذا صعد المنبر ابتدأ خطبته أما التسليم فقد وردت فيه أحاديث لا يخلو حديث منها عن ضعف لكن هي بمجموع طرقها صالحة للحجة برتبة الحسن فعرف من هذا أن الأذان الأول ليس بسنة ولا ينبغي أن يفعله المسلم وإنما اجتهد عثمان والاجتهاد قد يصب وقد يخطئ والرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول بعد أن قال "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ " يقول : إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة بل يقول الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ "إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته " رواه الطبراني وابن أبي عاصم من حديث أنس وقال الحافظ المنذري : إن سنده حسن اهـ (إجابة السائل عن أهم المسائل ص416)".
التعليق:
أما كلام الشيخ مقبل ونقله عن ابن حزم فلا يسلم لهما.
لأن قولهما يخالف أمراً سلّم به وأقره أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- والتابعون لهم بإحسان، وأئمة الإسلام.
وقد تقدَّم الجواب عن كلام ابن حزم والشيخ مقبل.
وأما قول شيخ الإسلام: " ليس لأحد سنة مع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم-".
فيقال: لم يسن عثمان ما يعارض سنة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإنما سنَّ ما يخدمها ويقويها، ويحقق غاية من غاياتها، ولذا لم يعارضه الصحابة الكرام، وابن تيمية ممن يدافع عن أذان عثمان، ويرى أنه مما أجمع عليه الصحابة -رضوان الله عليهم-.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في "المنهاج" (6/293):
" ثم من العجب أن الرافضة تنكر شيئاً فعله عثمان بمشهد من الأنصار والمهاجرين ولم ينكروه عليه واتبعه المسلمون كلهم عليه في أذان الجمعة".
قال العفري في (ص6-7): " فلخلاف هؤلاء الأئمة وغيرهم كان هذا الإجماع المدعى غير صحيح أما أن يقال أنهم لم يطلعوا على الإجماع فكيف لا يقال أن من نقل الإجماع لم يطلع على هذا الخلاف ومن اطلع منهم على بعض العبارات كقول ابن عمر أنه بدعة أولها إلى البدعة اللغوية مع أن الصواب خلاف هذا التأويل الذي فهمه ابن رجب والعلامة أبو بطين وأن الصحيح فيه هو ما فهمه الإمام نافع مولى ابن عمر راويته وكذلك ما فهمه العلامة المباركفوري والعلامة الألباني([9]) والعلامة الوادعي والعلامة الحجوري وغيرهم من أنها البدعة المذمومة الموسومة بالضلالة" .
التعليق: هذا تهور من الكاتب، حيث يعتبر الأذان العثماني بدعة مذمومة موسومة بالضلالة، وما سبقه أحد إلى هذا التهور، كيف وقد أقرَّ هذا الأذان أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومن تبعهم بإحسان، الذين زكاهم الله، حيث قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [سورة التوبة: 100].
وزكاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: " خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ، ويمينه شهادته".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: " لا تسبوا أصحابي . لا تسبوا أصحابي . فوالذي نفسي بيدِه ! لو أن أحدَكم أنفق مثلَ أحدٍ ذهبًا ، ما أدرك مدَّ أحدِهم ، ولا نصيفَه".
فهل هؤلاء يقرون البدعة المذمومة الموسومة بالضلالة.
فيلزم من كلامك هذا أنك تبدعهم وتضللهم، وأنك أغير على دين الله وأعلم بالحق منهم.
وما أحقك أن توصف بالبدعة والضلالة.
وقولك: " فلخلاف هؤلاء الأئمة وغيرهم كان هذا الإجماع المدعى غير صحيح".
يرد عليه: بأنك أكثرت من عدد المخالفين، والواقع أنه لا يصفو لك منهم إلا ثلاثة جاؤوا في آخر الزمان بعد أكثر من ألف سنة.
هؤلاء الثلاثة هم الصنعاني والمبارك فوري ومقبل -غفر الله لهم-.
وخلاف هؤلاء لا يؤثر في أمر أقرّه أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- والتابعون وأئمة الهدى السابقون وإلى يومنا هذا، وعددهم لا يحصى.
والحق معهم، ومنهج محمد –صلى الله عليه وسلم- في جلب المصالح ودرء المفاسد من منطلقاتهم.
وتقدّم للقارئ الكريم من الأدلة والبراهين التي تدل على شرعية الأذان العثماني، وعلى شرعية تصرفات الخلفاء الراشدين ما يقنع العاقل الذي ينشد الحق.
[1] -2-3 – هذا على الحكاية في الموضع الأول فمحله الأول الخفض، وفي الثاني والثالث الرفع، وقل مثل هذا فيما سيأتي.
[4] - 2 – انظر إلى هذا المسكين، فتارة يقول: "هشيم بن الغاز"، وتارة يقول: "هشام بن الغز"، فهل هو يرى أنهما اثنان؟
[6] - كذا، وفيه نظر، ابن الأعرابي، واسمه أحمد بن محمد بن زياد، ليس من الرواة عن عبد الرزاق، لأنه ولد في سنة (246)، وتوفي سنة (340)، ووفاة عبد الرزاق كانت في سنة (211)، والمشهور برواية "مصنف عبد الرزاق" إنما هو إسحاق بن إبراهيم الدبري.
[7] - وقائل هذا الكلام السائب بن يزيد الصحابي الذي توفي في عام (91) أو قبلها بيسير، فإلى نهاية عمره المديد لم يسمع من أحد إنكاراً على عثمان –رضي الله عنه- في هذا الأذان.
[8] - تقدّم قبل قليل الرد على كلام ابن حزم، فتذكر.
[9] - برأ الله الألباني مما نسبته إليه، وقد عرف القارئ موقف الألباني وأنه لم يعترض على عمل عثمان-رضي الله عنه- وأنه يرى أنه لا مانع منه إذا دعت الحاجة إليه ووجد السبب الذي يستدعيه.