الإذاية النكراء
أعضاء التحرير لمجلة الإصلاح الجزائرية
إن مما ينغص أسباب الحياة وصفوها، أن يطرق سمع العبد ما يحزنه ويسيئه ويغيظ قلبه ويكسر خاطره، وإن أعظم ما يؤذي المسلم ويسيئه أن يسمع إذاية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وإنه كلما امتلأ قلبه إيمانا وحبا لله ورسوله وعملا بما يجب عليهما من الحقوق كان تألمه أشد وتوجعه أعظم، وإن الله تعالى قد نبئنا في كتابه أننا سنسمع من أهل الكفر الإشراك أذى كثيرا قال الله تعالى:( لتبلون في أموالكم وف أنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا )[آل عمران 161]،أي " من الطعن فيكم وفي دينكم وفي كتابكم ورسولكم " كما قال السعدي رحمه الله .
والأذى كثيرا ما يطلق في القرآن ويراد به الأذى باللسان، كقوله تعالى:( لن يضروكم إلا أذى )[آل عمران 111]، أي أن غاية ما يصل ن إليه من الأذى إذا لم يقدروا على الأذية باليد فإنهم يؤذونكم بالقول والكلام، وكقوله تعالى:( ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن )[التوبة 61]، وقوله:( يا أيها الذين أمنوا لا تكونوا كالذين ءاذوا موسى فبرأه الله مما قالوا)[الأحزاب 69] وقال:( ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي)[الأحزاب 53]،فمعنى الأذى في كل هذه الآيات الإساءة في القول، وقد حرم الله على المؤمنين إذاية رسوله صلى الله عليه وسلم مطلقا، فقال سبحانه ( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله )[الأحزاب 53]، قال البغوي: " ليس لكم أذاه في شيء من الأشياء ".
وإن الله عز وجل قد توعد من يؤذي رسوله الكريم بأن أنواع في الدنيا والآخرة، قال تعالى:( ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين ءامنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم )[سورة التوبة 61] وهذه نزلت في المنافقين -قبحهم الله- ( الذين يؤذون النبي) بالأقوال الردية والكلمات الجارحة القبيحة، ثم لا يبالون به ( ويقولون هو أذن ) أي إذا بلغه عنا بعض ما نقول جئنا نعتذر إليه فسيقبل منا لأنه أذن أي: يقبل كل ما يقال له خيرا وصدقا، فإنه صلى الله عليه وسلم أكمل الناس عقلا وأتمهم إدراكا وأثقبهم رأيا وبصيرة، وأما إعراضه عن المنافقين الذين يعتذرون بين يديه بأذار باطلة كاذبة إنما هو إمتثال لقوله تعالى:( سيحلبون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأرضوا عنهم إنهم رجس)[التوبة 95]وفي موضع آخر من القرآن العزيز قال الله تعالى:( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والأخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً)[الأحزاب 57].
قال البغوي:" ومعنى الأذى هو مخالفة أمر الله تعالى وارتكاب معاصيه ذكره على ما يتعارفه الناس بينهم والله عزوجل منزه أن يلحقه أذىً من أحد وإيذاء الرسول قال ابن عباس:" هو أنه شج في وجهه وكسرت رباعيته وقيل: شاعر ساحر مُعٓلَّمٌ مجنون"
ففي البخاري (4974) من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( قال الله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعذبني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوًا أحد" .
قال ابن كثير:( والظاهر أن الآية عامة في كل من آذاه بشيء ومن آذاه فقد آذى الله ومن أطاعه فقد أطاع الله)
فقرن الله تعالى بين اسمه واسم نبيه صلى الله عليه وسلم في الأذى، كما قرن بينهما في المحبة، فقال:( أحب إليكم من الله ورسوله )[التوبة 24] وفي الطاعة والمعصية، فقال:(ومن يطع الله ورسوله )[النساء 13] فقال: ( ومن يعص الله ورسوله )[النساء 14] وفي الرضا، فقال:( والله ورسوله أحق أن يرضوه )[التوبة 62] ثم إن الله تعالى قد جعل طاعته من طاعته، فقال:( من يطع الرسول فقد أطاع الله)[النساء 80] ومبايعته مبايعته، فقال:( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ) الفتح 10 فهذا كله لعلو منزلته صلى الله عليه وسلم ورفعة مكانته، وقد أوجب الله على عباده طاعته ومحبته وتعزيره وتوقيره ونصره وتحكيمه والرضى بحكمه والتسليم له واتباعه والصلاة عليه ورد ما يتنازع فيه إليه وتقديمه على الأنفس والأهل والمال ونحو ذلك مما يستحقه صلى الله عليه وسلم من الحقوق بأبي هو وأمي.
وقد نبه الله على هذا كله، لما قدم على هذه الآية في التحذير من إذايته بثنائه عليه هو سبحانه وتعالى وملائكته وأمر عباده بالصلاة عليه كل وقت وكل حين، فقال:( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما )[سورة الأحزاب 56]، لكن لما انتكست فطر الناس في هذه الأزمنة، تحرفت عندهم المفاهيم فصار الاستهزاء والافتراء والسب والشتم والاهانة لسيد العالمين وخير خلق الله أجمعين صلى الله عليه وسلم هو من قبيل حرية التعبير التي لا يمكن التضييق عليها ولا الحجر عليها، وقررت مواقع مشهورة عدم سحب الفيلم السيء المسيء من مواقعهم،ضاربين عُرض الحائط بمشاعر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، الذين تقززت نفوسهم وثارت حفائظهم، وامتلكتهم سورة غضبية فانتفضوا غضبا ونصرة لنبيهم الكريم صلوات الله وسلامه عليه، فجاء تصرف كثير منهم كتصرف أي ثائر غاضب إذا مس في أشرف شيء عنده، غير ملتفت لكلام أهل العلم ولا مبال به ولا حكم الشرع، حتى إننا قرأنا وسمعنا من يزعم نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفع الإذاية عنه بالغناء والطرب !
وإننا ندعوا كل مسلم غيور على عرض نبيه صلى الله عليه وسلم أن يفتش في قلبه، ويطرح سؤلا على نفسه، هل رسول الله صلى الله عليه وسلم أَحب إلي من ولدي ووالدي والناس أجمعين؟ ثم لينظر بعد ذلك إلى أفعاله وأقواله وعباداته، هل هي موافقة لسنته صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فلا يزعم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يتبع سنته ويقتف أثره وهديه، وليس ناصرا له من لم يصدقه في كل ما أخبر ولم يطعه في ما أمر ولم ينته عما نهى عنه وزجر.
فالنصرة الحقيقية لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما تكون بمثل هذا الحب وهذه المتابعة، وأما القيام بالمظاهرات، وحرق الأعلام والسفارات، وحمل اللافتات ورفع الأصوات بالتنديد والشعارات، فهذه كلها أساليب دخيلة وعن السنة بعيدة، بل إن من الإذاية لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ترك السنة والانشغال عنها بالبدعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- " وأهل البدع والجهل يفعلون ما هو من جنس الأذى لله ورسوله ويدعون ما أمر الله به من حقوقه وهم يظنون أنهم يعظمونه كما يفعله النصارى بالمسيح فيضلهم الشيطان كما أضل النصارى وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا "[1]
وأما من آذى الله ورسوله وآذانا بإذايتهما، فإننا نبشره باللعنة في الدنيا والآخرة، والعذاب الأليم يوم القيامة والحرب من الله عزوجل، ففي الحديث القدسي يقول الله تعالى:( من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب )[2] وإن سيد الأولياء رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ولا ريب أن من حارب الله خاب وخسر، وشقي وتعس، وإن مما يخفف ألم قلوبنا من هذه الإساءات المتعددة المتكررة الآثمة، علمنا الجازم أن سنة الله تعالى قد مضت فيمن لم يتمكن المؤمنون منه -أي ممن يؤذي الله ورسوله- أن الله تعالى ينتقم منه لرسوله ويكفيه إياه، كما قال تعالى:( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين 94 إنا كفيناك المستهزئين 95 )[سورة الحجر] وقال تعالى : ( إن شانئك هو الأبتر )[سورة الكوثر 3] ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "فكل من شنأه أو أبغضه وعاداه فإن الله يقطع دابره ويمحق عينه وأثره "[3] ومن أراد التأكد من هذه الحقيقة، فما عليهإلا الرجوع إلى كتب التاريخ والسير ويطالع فيها عواقب المؤذين لمحمد صلى الله عليه وسلم بأي نوع من أنواع الإذاية القولية أو الفعلية واحداً واحداً، مثل صناديد الكفر من قريش وكسرى الذي مزق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم فأهلكه الله بعد ذلك بزمن يسير ومزق ملكه كل ممزق ولم يبق للأكاسرة ملك بعده، قال العلامة السعدي :" فإنه ما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شر قتلة "[4] ومن تتبع قصص الأنبياء المذكورة في القرآن يجد أممهم أهلكوا حين آذوا الأنبياء وقابلوهم بقبيح القول أو العمل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية :"ولعلك لا تجد أحدا آذى نبيا من الأنبياء ثم لم يتب إلا ولا بد أن تصيبه قارعة "[5] فالحمد لله المنتقم من مثل هؤلاء الأنجاس الأنذال .
لتحميل المقال منسقا بشكل وورد من هنا :
[1]- "الأخنائية" (ص 1)
[2]- "صحيح البخاري" (6502).
[3]- "الصارم المسلول على شاتم الرسول" (ص 165).
[4]- "تيسير الكريم" (ص 453).
[5]- "الصارم المسلول على شاتم الرسول" (ص 165).