فصل الكلام على التشبه بالكفار في أعيادهم ولغتهم مع إيراد النصوص والإجماع
‘‘المنهج القويم في اختصار الصراطالمستقيم’’
إذا تقرر هذا الأصل، فنقول: موافقتهم في أعيادهم محرمةلا تجوز من طريقين:
الطريق الأول:
العام وهو ما تقدم من أن هذا موافقة لأهل الكتاب فيما ليس من ديننا ولا عادة سلفنا، فيكون فيه مفسدة موافقتهم وفي تركه مصلحة مخالفتهم -كما تقدمت الإشارة إليه-، ومن جهة أنه من البدع المحدثة، ولا ريب أن هذه الطريق تدل على كراهة الموافقة لهم والتشبه بهم في ذلك، فإن أقل أحوال التشبه بهم: الكراهة، وكذلك أقل أحوال البدع.
ويدل كثير منها على تحريم التشبه بهم في العيد، مثل قوله صلى الله عليه وسلم ‘من تشبه بقوم فهو منهم ‘وقوله: ‘خالفوا المشركين ‘ومثل ما ذكرنا من دلائل الكتاب والسنة على تحريم سبيل المغضوب عليهم والضالين، وأعيادهم من سبيلهم إلى غير ذلك من الأدلة.
فمن نظر فيما تقدم تبين له دخول هذه المسألة في كثير مما تقدم من الدلائل، وتبين له أن هذا من جنس أعمالهم التي هي دينهم أو شعار دينهم الباطل، وأنه محرم بخلاف ما لم يكن من خصائص دينهم، مثل نزع النعلين في الصلاة، فإنه جائز كما أن لبسهما جائز.
الطريق الثاني:
الخاص في نفس أعيادهم، فالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار.
ويدل كثير منها على تحريم التشبه بهم في العيد، مثل قوله صلى الله عليه وسلم ‘من تشبه بقوم فهو منهم ‘وقوله: ‘خالفوا المشركين ‘ومثل ما ذكرنا من دلائل الكتاب والسنة على تحريم سبيل المغضوب عليهم والضالين، وأعيادهم من سبيلهم إلى غير ذلك من الأدلة.
فمن نظر فيما تقدم تبين له دخول هذه المسألة في كثير مما تقدم من الدلائل، وتبين له أن هذا من جنس أعمالهم التي هي دينهم أو شعار دينهم الباطل، وأنه محرم بخلاف ما لم يكن من خصائص دينهم، مثل نزع النعلين في الصلاة، فإنه جائز كما أن لبسهما جائز.
الطريق الثاني:
الخاص في نفس أعيادهم، فالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار.
أما الكتاب،فمما تأوله غير واحد من التابعين وغيرهم في قوله
-تعالى-’’: أعيادالمشركين".
وعنه: "عيد المشركين" .
وعن عمر قال’:إياكم ورطانة الأعاجم! وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم! ‘.
وقول هؤلاء التابعين: إنه أعيادالكفار ليس مخالفا لقول بعضهم: إنه الشرك، أو صنم كان في الجاهلية، ولقول بعضهم: إنه مجالس الخنا، وقولبعضهم: إنه الغناء؛ لأن عادة السلف في تفسيرهم هكذا، يذكر الرجل نوعا من أنواع المسمى لحاجة المستمع إليه، أو لينبه على الجنس، كما لو قال العجمي: ما الخبز؟ فيعطى رغيفا ويقال له: هذا بالإشارة إلى جنس لا إلى العين، وقال قوم: إنه شهادة الزور التي هي الكذب، وهذا فيه نظر، فإنه قال ’ :وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ‘ ففعل الزور كذلك، بل الفعل أشد، فيكون حراما؛ لأنه خلاف الأمر، وبكل حال يدخل في الآية أنه مكروه، وهو من مطلوبنا، إذ قد يظن بعض الناس أن بعض ما يفعلونه يكون مستحبا،مثل التوسعة على العيال ونحوه، فهذه تدل على كراهة ذلك مطلقا، سواء دلت الآية على التحريم أو الكراهة أو استحباب تركه حصل المقصود.
وأما السنة فمن وجوه:
أحدها:
روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: ‘قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ فقالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال: إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر‘رواه أبو داود ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد عن حميد عن أنس، ورواه أحمد والنسائي وهذا إسناد على شرط مسلم، فلم يقرهما على العيدين الجاهليين، ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة، بل قال: إن الله أبدلكم بهما يومين آخرين، والإبدال يقتضي ترك المبدل منه؛ إذ لا يجمع بين البدل والمبدل.
وكذلك مات ذلك اليومان في الإسلام فلم يبق لهما أثر، فإنه قد يعجز كثير من الملوك عن نقل الناس عن عاداتهم في أعيادهم لقوة مقتضيها من نفوسهم وتوفر همم الجماهير على اتخاذها، لا سيما طباع النساء والصبيان، فلولا قوة المانع من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكانت باقية ولو على وجه ضعيف، فعلم أن المانع القوي منه كان ثابتا، وكل ما منع منه الرسول منعا قويا كان محرما، وهذا بين لا شبهة فيه، والمحذور في أعياد أهل الكتابين التي نقرهم عليها أشد من المحذور في أعياد الجاهلية التي لا نقرهم عليها؛ لأن الأمة قد حُذروا مشابهة اليهود والنصارى، وأخبروا أنه سيفعل ذلك بخلاف دين الجاهلية، فإنه لا يعود إلا في آخر الدهر عند اخترام أنفس المؤمنين عموما، ولو لم يكن أشد منه فهو مثله؛ إذ الشر الذي له فاعل موجود يخاف على الناس منه أكثر من شر لا مقتضى له قوي.
الوجه الثاني:
روى أبو داود ‘أن رجلا نذر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟". قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟. قالوا: لا. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم" ‘وأصل هذا الحديث في الصحيحين، وإسناده على شرطهما.
الوجه الثاني:
روى أبو داود ‘أن رجلا نذر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟". قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟. قالوا: لا. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم" ‘وأصل هذا الحديث في الصحيحين، وإسناده على شرطهما.
فوجه الدلالة أن هذا الناذر لما نذر الذبح سأله: هل كان بها وثن أو عيد لهم؟ ثم قال: لا وفاء لنذر في معصية الله، فدل على أن الذبح بمكان عيدهم وموضع أوثانهم معصية، فإنه عقب فأوف بالفاء، فيدل على أن الوصف هو سبب الحكم، فيكون سبب الوفاء بالنذر وجوده خاليا عن هذين الوصفين، ويكون الوصفان مانعين من الوفاء، وإذا كان الذبح بمكان عيدهم منهيا عنه، فكيف بالموافقة في نفس العيد.
وبوانة بضم الباء بواحدة من أسفل، موضع.
وهذا نهي شديد عن أن يفعل شيء من أعياد الجاهلية على أي وجه كان، وأعيادالكفار من الكتابيين والأميين في دين الإسلام من جنس واحد، كما أن كفرهم سواء في التحريم، وإن كان بعضه أشد تحريما، ولا يختلف حكمهما في حق المسلم، لكن أهل الكتاب أقروا على دينهم مع أنه شرط عليهم أن لا يظهروا أعيادهم ، بل أعياد الكتابيين أعظم كفرا؛ لأنهم يتخذونها دينا، بخلاف الذين يتخذونها لهوا ولعبا؛ لأن التعبد بما يسخط الله أعظم من اقتضاء الشهوات، ولهذا كان الشرك أعظم إثما من الزنا، وكان جهاد أهل الكتاب أفضل من غيرهم، وكان من قتله أهل الكتاب له أجر شهيدين.
وبوانة بضم الباء بواحدة من أسفل، موضع.
وهذا نهي شديد عن أن يفعل شيء من أعياد الجاهلية على أي وجه كان، وأعيادالكفار من الكتابيين والأميين في دين الإسلام من جنس واحد، كما أن كفرهم سواء في التحريم، وإن كان بعضه أشد تحريما، ولا يختلف حكمهما في حق المسلم، لكن أهل الكتاب أقروا على دينهم مع أنه شرط عليهم أن لا يظهروا أعيادهم ، بل أعياد الكتابيين أعظم كفرا؛ لأنهم يتخذونها دينا، بخلاف الذين يتخذونها لهوا ولعبا؛ لأن التعبد بما يسخط الله أعظم من اقتضاء الشهوات، ولهذا كان الشرك أعظم إثما من الزنا، وكان جهاد أهل الكتاب أفضل من غيرهم، وكان من قتله أهل الكتاب له أجر شهيدين.
الوجه الثالث:
أن هذا الحديث وغيره قد دل على أنه كان للناس أعياد يجتمعون فيها في الجاهلية، ومعلوم أنه بمبعث إمام المتقين صلى الله عليه وسلم محا الله ذلك عنه، فلم يبق شيء من ذلك، فلولا نهيه ومنعه لما ترك الناس ذلك مع قيام المقتضي لفعلها من جهة الطبيعة أن المانع قوي لما درست تلك الأعياد .
أن هذا الحديث وغيره قد دل على أنه كان للناس أعياد يجتمعون فيها في الجاهلية، ومعلوم أنه بمبعث إمام المتقين صلى الله عليه وسلم محا الله ذلك عنه، فلم يبق شيء من ذلك، فلولا نهيه ومنعه لما ترك الناس ذلك مع قيام المقتضي لفعلها من جهة الطبيعة أن المانع قوي لما درست تلك الأعياد .
الوجه الرابع:
ما خرجاه في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ‘دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال [أبو بكر] أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وذلك يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا" ‘وفي رواية: ‘دعهما يا أبا بكر‘.
ما خرجاه في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ‘دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال [أبو بكر] أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وذلك يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا" ‘وفي رواية: ‘دعهما يا أبا بكر‘.
فقوله: ‘إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا‘يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم؛ كقوله -تعالى- ‘يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم" .
وعن ابن عمرو: "من بنى ببلاد الأعاجم، وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم" رواه البيهقي بالسند الصحيح.
وعن عمر -رضي الله عنه-: "اجتنبوا أعداء الله في أعيادهم " .
وعن علي -رضي الله عنه- أنه كره موافقتهم في اسم العيد الذي ينفردون به فكيف بموافقتهم في العمل؟
وقد نص أحمد على معنى ما جاء عن عمر وعلي -رضي الله عنهما- من كراهة موافقتهم في اللغة والعيد، وتقدم قول القاضي: مسألة في المنع من حضور أعيادهم .
وقال الإمام أبو الحسن الآمدي المعروف بابن البغدادي في كتابه "عمدة الحاضر": "فصل: لا تجوز شهادة أعياد النصارى واليهود، نص عليه أحمد في رواية مهنا، واحتج بقوله:
وقال الخلال في "جامعه": "باب في كراهة خروج المسلمين في أعياد المشركين" وذكر عن مهنا قال: "سألت أحمد عن شهود هذه الأعياد ، مثل طور يابور ودير أيوب وأشباهه، يشهده المسلمون. قال: إذا لم يدخلوا عليهم بيعهم، وإنما يشهدون السوق، فلا بأس".
وأما الرطانة وتسمية شهورهم بالأسماء العجمية، فقال حرب الكرماني: "باب تسمية الشهور بالفارسية، قلت لأحمد "فإن للفرس أياما وشهورا يسمونها بأسماء لا تعرف؟ فكره ذلك أشد الكراهة، وروى فيه عن مجاهد أنه كره أن يقال: آذرماه وذي ماه، قلت: فإن كان اسم رجل أسميه به؟ فكرهه، وكان ابن المبارك يكره إيزدان يُحلف به، وقال: لا آمن أن يكون أضيف إلى شيء يعبد، وكذلك الأسماء الفارسية، قال: وكذلك أسماء العرب كل شيء مضاف، قال: وسألت إسحاق، قلت: الرجل يتعلم شهور الروم والفرس؟ قال: كل اسم معروف في كلامهم فلا بأس.
فما قاله أحمد له وجهان:
أحدهما: إذا لم يعرف معنى الاسم جاز أن يكون معنى محرما، فلا ينطق المسلم بما لا يعرف معناه؛ ولهذا كرهت الرقى العجمية بالعبرانية والسريانية أو غيرها؛ خوفا من أن يكون فيها معان لا تجوز، فإذا علم أن المعنى مكروه، فلا ريب في كراهته، وإن جهل معناه فأحمد كرهه، وكلام إسحاق يحتمل أنه لم يكرهه.
والوجه الثاني: كراهة أن يتعود الرجل النطق بغير العربية، فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون؛ ولهذا كان كثير من الفقهاء أو أكثرهم يكرهون الدعاء والذكر بغير العربية، واختلف الفقهاء في أذكار الصلاة: هل تقال بغير العربية؟ وهي ثلاث درجات: أعلاها القرآن، ثم الذكر الواجب غير القرآن كالتحريمة والتسليم والتشهد عند من أوجبه، ثم الذكر غير الواجب من دعاء وتسبيح وتكبير وغير ذلك.
فالقرآن لا يقرأ بغير العربية سواء قدر عليها أو لا عند الجمهور، وهو الصواب الذي لا ريب فيه، بل قال غير واحد: يمتنع أن يترجم سورة أو ما يقوم به الإعجاز، واختلف أبو حنيفة وأصحابه في القادر على العربية.
وأما الأذكار الواجبة، فاختلف في منع ترجمة القرآن: هل تترجم للعاجز عن العربية وعن تعلمها؟ وفيه لأصحاب أحمد وجهان:
أشبههما بكلام أحمد أنه لا يترجم، وهو قول مالك وإسحاق.
والثاني يترجم وهو قول أبي يوسف ومحمد الشافعي.
وأما سائر الأذكار، فالمنصوص من الوجهين أنه لا يترجمها، ومتى فعل بطلت صلاته، وهو قول مالك وإسحاق وبعض أصحاب الشافعي، والمنصوص عنه أنه يكره بغير العربية ولا يبطل، ومن أصحابنا من قال له ذلك إذا لم يحسن العربية.
وحكم النطق بالعجمية في العبادات من الصلاة والقراءة والذكر والتلبية والتسمية على الذبيحة وفي العقود والفسوخ كالنكاح واللعان وغيره معروف.
وأما الخطاب بها من غير حاجة في أسماء الناس والشهور كالتواريخ وغير ذلك، فنهي عنه مع الجهل بالمعنى بلا ريب، وأما مع العلم به فكلام أحمد بين في كراهته أيضا، فإنه كره آذرماه ونحوه ومعناه ليس محرما، وأظنه سئل عن الدعاء بالفارسية فكرهه، وقال: لسان سوء، وهو قول مالك لنهي عمر عن رطانة الأعاجم وقال: "إنها خب".
وكره الشافعي لمن يعرف العربية أن يسمى بغيرها وأن يتكلم بها خالطا لها بالعجمية، وهذا الذي ذكرناه مأثور عن الصحابة.
روى ابن أبي شيبة قال: كتب عمر إلى أبي موسى: "أما بعد: فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن، فإنه عربي".
وفي حديث آخر عنه: "تعلموا العربية، فإنها من دينكم" .
وهذا الذي أمر به عمر من فقه العربية وفقه السنة يجمع ما يحتاج إليه؛ لأن الدين فيه فقه أقوال وأعمال، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه السنة هو فقه أعماله، وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ‘من يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالفارسية، فإنه يورث النفاق‘رواه السلفي بإسناد معروف، وهو يشبه كلام عمر وأما رفعه فموضع تبين، ونقل عن طائفة أنهم كانوا يتكلمون بالكلمة بعد الكلمة، وبالجملة بعد الجملة فالكلمة بعد الكلمة أمرها قريب، وأكثر ما كانوا يفعلونه إذا كان المكلم أعجميا يريدون تقريب الفهم على المخاطب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص لما كساها النبي خميصة، وقال: ‘يا أم خالد هذه سنا‘والسنا بالحبشية: الحسن.
وأما اعتياد الخطاب بغير العربية حتى يصير عادة، فلا ريب أنه مكروه، فإنه من التشبه بالأعاجم.
واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرا قويا، حتى يزيد به العقل والخلق والدين لمشابهته سلف الأمة، وأيضا فإن اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بالعربية، ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية.
وعن عمر -رضي الله عنه-: "اجتنبوا أعداء الله في أعيادهم " .
وعن علي -رضي الله عنه- أنه كره موافقتهم في اسم العيد الذي ينفردون به فكيف بموافقتهم في العمل؟
وقد نص أحمد على معنى ما جاء عن عمر وعلي -رضي الله عنهما- من كراهة موافقتهم في اللغة والعيد، وتقدم قول القاضي: مسألة في المنع من حضور أعيادهم .
وقال الإمام أبو الحسن الآمدي المعروف بابن البغدادي في كتابه "عمدة الحاضر": "فصل: لا تجوز شهادة أعياد النصارى واليهود، نص عليه أحمد في رواية مهنا، واحتج بقوله:
وقال الخلال في "جامعه": "باب في كراهة خروج المسلمين في أعياد المشركين" وذكر عن مهنا قال: "سألت أحمد عن شهود هذه الأعياد ، مثل طور يابور ودير أيوب وأشباهه، يشهده المسلمون. قال: إذا لم يدخلوا عليهم بيعهم، وإنما يشهدون السوق، فلا بأس".
وأما الرطانة وتسمية شهورهم بالأسماء العجمية، فقال حرب الكرماني: "باب تسمية الشهور بالفارسية، قلت لأحمد "فإن للفرس أياما وشهورا يسمونها بأسماء لا تعرف؟ فكره ذلك أشد الكراهة، وروى فيه عن مجاهد أنه كره أن يقال: آذرماه وذي ماه، قلت: فإن كان اسم رجل أسميه به؟ فكرهه، وكان ابن المبارك يكره إيزدان يُحلف به، وقال: لا آمن أن يكون أضيف إلى شيء يعبد، وكذلك الأسماء الفارسية، قال: وكذلك أسماء العرب كل شيء مضاف، قال: وسألت إسحاق، قلت: الرجل يتعلم شهور الروم والفرس؟ قال: كل اسم معروف في كلامهم فلا بأس.
فما قاله أحمد له وجهان:
أحدهما: إذا لم يعرف معنى الاسم جاز أن يكون معنى محرما، فلا ينطق المسلم بما لا يعرف معناه؛ ولهذا كرهت الرقى العجمية بالعبرانية والسريانية أو غيرها؛ خوفا من أن يكون فيها معان لا تجوز، فإذا علم أن المعنى مكروه، فلا ريب في كراهته، وإن جهل معناه فأحمد كرهه، وكلام إسحاق يحتمل أنه لم يكرهه.
والوجه الثاني: كراهة أن يتعود الرجل النطق بغير العربية، فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون؛ ولهذا كان كثير من الفقهاء أو أكثرهم يكرهون الدعاء والذكر بغير العربية، واختلف الفقهاء في أذكار الصلاة: هل تقال بغير العربية؟ وهي ثلاث درجات: أعلاها القرآن، ثم الذكر الواجب غير القرآن كالتحريمة والتسليم والتشهد عند من أوجبه، ثم الذكر غير الواجب من دعاء وتسبيح وتكبير وغير ذلك.
فالقرآن لا يقرأ بغير العربية سواء قدر عليها أو لا عند الجمهور، وهو الصواب الذي لا ريب فيه، بل قال غير واحد: يمتنع أن يترجم سورة أو ما يقوم به الإعجاز، واختلف أبو حنيفة وأصحابه في القادر على العربية.
وأما الأذكار الواجبة، فاختلف في منع ترجمة القرآن: هل تترجم للعاجز عن العربية وعن تعلمها؟ وفيه لأصحاب أحمد وجهان:
أشبههما بكلام أحمد أنه لا يترجم، وهو قول مالك وإسحاق.
والثاني يترجم وهو قول أبي يوسف ومحمد الشافعي.
وأما سائر الأذكار، فالمنصوص من الوجهين أنه لا يترجمها، ومتى فعل بطلت صلاته، وهو قول مالك وإسحاق وبعض أصحاب الشافعي، والمنصوص عنه أنه يكره بغير العربية ولا يبطل، ومن أصحابنا من قال له ذلك إذا لم يحسن العربية.
وحكم النطق بالعجمية في العبادات من الصلاة والقراءة والذكر والتلبية والتسمية على الذبيحة وفي العقود والفسوخ كالنكاح واللعان وغيره معروف.
وأما الخطاب بها من غير حاجة في أسماء الناس والشهور كالتواريخ وغير ذلك، فنهي عنه مع الجهل بالمعنى بلا ريب، وأما مع العلم به فكلام أحمد بين في كراهته أيضا، فإنه كره آذرماه ونحوه ومعناه ليس محرما، وأظنه سئل عن الدعاء بالفارسية فكرهه، وقال: لسان سوء، وهو قول مالك لنهي عمر عن رطانة الأعاجم وقال: "إنها خب".
وكره الشافعي لمن يعرف العربية أن يسمى بغيرها وأن يتكلم بها خالطا لها بالعجمية، وهذا الذي ذكرناه مأثور عن الصحابة.
روى ابن أبي شيبة قال: كتب عمر إلى أبي موسى: "أما بعد: فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن، فإنه عربي".
وفي حديث آخر عنه: "تعلموا العربية، فإنها من دينكم" .
وهذا الذي أمر به عمر من فقه العربية وفقه السنة يجمع ما يحتاج إليه؛ لأن الدين فيه فقه أقوال وأعمال، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه السنة هو فقه أعماله، وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ‘من يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالفارسية، فإنه يورث النفاق‘رواه السلفي بإسناد معروف، وهو يشبه كلام عمر وأما رفعه فموضع تبين، ونقل عن طائفة أنهم كانوا يتكلمون بالكلمة بعد الكلمة، وبالجملة بعد الجملة فالكلمة بعد الكلمة أمرها قريب، وأكثر ما كانوا يفعلونه إذا كان المكلم أعجميا يريدون تقريب الفهم على المخاطب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص لما كساها النبي خميصة، وقال: ‘يا أم خالد هذه سنا‘والسنا بالحبشية: الحسن.
وأما اعتياد الخطاب بغير العربية حتى يصير عادة، فلا ريب أنه مكروه، فإنه من التشبه بالأعاجم.
واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرا قويا، حتى يزيد به العقل والخلق والدين لمشابهته سلف الأمة، وأيضا فإن اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بالعربية، ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية.
-------------------------------------------------------
منقول