الحم لله والصلا والسلام على رسول الله اما بعد فهذه فائدة ماخوذ من كتاب قطف الجنى الداني شرح مقدِّمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني للشيخ عبد المحسن العباد قال حفظه الله
الفائدة السابعة: متكلِّمون يَذمُّون علمَ الكلام ويُظهرون الحَيرة والنَّدم
عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة مبنيَّةٌ على الدليل من كتاب الله عزَّ وجلَّ وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه صحابتُه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، فهي صافيةٌ نقيَّةٌ، واضحةٌ جليَّة، ليس فيها غموض ولا تعقيد، بخلاف غيرهم الذين عوَّلوا على العقول، وتأوَّلوا النقول، وبنَوا معتقداتهم على علم الكلام المذموم، الذي بيَّن أهلُه الذين ابتُلوا به ما فيه من أضرار، وندموا على ما حَصَلَ منهم من شغل الأوقات فيه من غير أن يظفروا بطائل، ولا أن يصلوا إلى حقٍّ، وفي نهاية أمرهم صاروا إلى الحيرة والنَّدَم، فمنهم من وُفِّق لتركه واتِّباع طريقة السَّلف، وجاء عنهم عيبُ علم الكلام وذمُّه.
فأبو حامد الغزالي – رحمه الله – من المتمكِّنين في علم الكلام، ومع ذلك
فقد جاء عنه ذمُّه، بل والمبالغة في ذمِّه، ولا يُنبئك مثلُ خبير، جاء ذلك عنه في كتابه إحياء علوم الدِّين، حيث بيَّن ضررَه وخطرَه، فقال (ص: 91 92): "أمَّا مضرَّته، فإثارةُ الشبهات وتحريك العقائد، وإزالتها عن الجزم والتصميم، فذلك مِمَّا يحصل في الابتداء، ورجوعُها بالدليل مشكوك فيه، ويختلف فيه الأشخاص، فهذا ضررُه في الاعتقاد الحقِّ، وله ضررٌ آخر في تأكيد اعتقاد المبتدعة للبدعة، وتثبيته في صدورهم، بحيث تنبعث دواعيهم، ويشتدُّ حرصُهم على الإصرار عليه، ولكن هذا الضرر بواسطة التعصُّب الذي يثور من الجدل".
إلى أن قال: "وأمَّا منفعتُه، فقد يُظنُّ أنَّ فائدَتَه كشفُ الحقائق ومعرفتُها على ما هي عليه، وهيهات؛ فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعلَّ التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف، وهذا إذا سمعته من محدِّث أو حشوي ربَّما خطر ببالك أنَّ الناسَ أعداءُ ما جهلوا، فاسمع هذا مِمَّن خَبَر الكلامَ ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلِّمين، وجاوز ذلك إلى التعمُّق في علوم أخر تناسبُ نوع الكلام، وتحقق أنَّ الطريقَ إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود، ولعمري لا ينفكُّ الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور، ولكن على الندور في أمور جليَّة تكاد تفهم قبل التعمُّق في صنعة الكلام".
وقد نقل شارحُ الطحاوية عنه هذا الكلام وغيرَه في ذمِّ علم الكلام (ص: 236)، وقال (ص: 23: "وكلامُ مثلِه في ذلك حجَّة بالغة".
ثمَّ بيَّن شارح الطحاوية أنَّ السَّلفَ كرهوا علمَ الكلام وذمُّوه:
والسُّنَّة، وما فيه من علوم صحيحة، فقد وعَّروا الطريقَ إلى تحصيلها، وأطالوا الكلامَ في إثباتها مع قلَّة نفعها، فهي لحمُ جَمل غثٍّ على رأس جبل وَعْر، لا سهلٌ فيُرتقى، ولا سمين فيُنتقل، وأحسنُ ما عندهم فهو في القرآن أصحُّ تقريراً وأحسن تفسيراً، فليس عندهم إلاَّ التكلُّف والتطويل والتعقيد".
إلى أن قال: "ومن المحال أن لا يحصلَ الشِّفاءُ والهدى والعلمُ واليقين من كتاب الله وكلام رسوله، ويحصلُ من كلام هؤلاء المتحيِّرين، بل الواجب أنَّ يجعل ما قاله اللهُ ورسولُه هو الأصل، ويتدبَّر معناه ويعقله، ويعرف برهانَه ودليلَه، إمَّا العقلي، وإمَّا الخبري السَّمعي، ويعرف دلالته على هذا وهذا، ويجعل أقوال الناس التي توافقه وتخالفه متشابهة مجملة، فيُقال لأصحابها: هذه الألفاظ تحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يُوافق خبر الرسول قُبل، وإن أرادوا بها ما يُخالفه رُدَّ".
وقال أيضاً في (ص: 243): "قال ابن رُشد الحفيد – وهو من أعلم الناس بمذهب الفلاسفة ومقالاتهم – في كتابه تهافت التهافت: (ومَن الذي قال في الإلَهيات شيئاً يعتدُّ به؟)، وكذلك الآمدي – أفضل أهل زمانه – واقفٌ في المسائل الكبار حائر، وكذلك الغزالي – رحمه الله – انتهى آخرُ أمره إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية، ثمَّ أعرض عن تلك الطرق، وأقبلَ على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فمات والبخاري على صدره، وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، قال في كتابه الذي صنَّفه في أقسام اللذات:
- نِهايةُ إقدام العقول عِقالُ وغايةُ سعي العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصلُ دنيانا أذَى ووبالُ
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه: قيل وقالوا
فكم قد رأينا من رجال ودولةٍ فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد عَلَت شُرُفاتِها رجالٌ فزالوا والجبالُ جبالُ
لقد تأمَّلتُ تلك الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتُها تشفي عليلاً، ولا تُروي غليلاً، ورأيتُ أقربَ الطرق طريق القرآن، اقرأ في الإثبات {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}، واقرأ في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}، ثم قال: "ومَن جرَّب مثلَ تجربَتِي، عرف مثل معرفتِي".
وكذلك قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، إنَّه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلاَّ الحيرة والندم، حيث قال:
لعمري لقد طُفت المعاهد كلها وسَيَّرتُ طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلاَّ واضعاً كفَّ حائر على ذقن أو قارعاً سنَّ نادم
وكذلك قال أبو المعالي الجويني رحمه الله: "يا أصحابنا! لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفتُ أنَّ الكلامَ يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلتُ به"، وقال عند موته: "لقد خضتُ البحرَ الخِضَمَّ، وخلَّيتُ أهل الإسلام وعلومَهم، ودخلتُ في الذي نَهونِي عنه، والآن فإن لم يتداركنِي ربِّي برحمته، فالويل لابن الجوينِي، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمِّي، أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور"، وكذلك قال شمس الدين الخسروشاهي – وكان من أجلِّ تلامذة فخر الدِّين الرازي – لبعض الفضلاء، وقد دخل عليه يوماً فقال
ص -34- (ما تعتقد؟ قال: ما يعتقده المسلمون، فقال: وأنتَ مُنشرح الصَّدر لذلك مستيقن به؟ أو كما قال، فقال: نعم، فقال: اشكر الله على هذه النِّعمة، لكنِّي – والله! – ما أدري ما أعتقد، – والله! – ما أدري ما أعتقد! – والله! – ما أدري ما أعتقد!) وبكى حتى أخضَل لحيته.
ولابن أبي الحديد الفاضل المشهور بالعراق:
فيكَ يا أُغلوطة الفِكَر حارَ أمري وانقضى عمري
سافرتْ فيك العقولُ فما ربحت إلاَّ أذى السفر
فلحى الله الأُلَى زعموا أنَّك المعروف بالنَّظر
كذبوا إنَّ الذي ذكروا خارجٌ عن قوة البشر
وقال الخونجي عند موته: "ما عرفتُ مِمَِّا حصَّلته شيئاً سوى أنَّ الممكن يفتقر إلى المرجِّح، ثم قال: الافتقار وصفٌ سلبِيٌّ، أموت وما عرفتُ شيئاً".
وقال آخر: "أضطجع على فراشي، وأضع الملحفةَ على وجهي، وأقابل بين حُجَج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجَّح عندي منها شيء".
إلى أن قال شارح الطحاوية: "وتجد أحد هؤلاء عند الموت يرجع إلى مذهب العجائز، فيُقرُّ بما أقرُّوا به، ويُعرض عن تلك الدقائق المخالفة لذلك، التي كان يقطع بها ثمَّ تبيَّن له فسادُها، أو لم يتبيَّن له صحتُها، فيكونون في نهاياتهم – إذا سلموا من العذاب – بِمنْزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب".
وكان أبو محمد الجوينِي والد إمام الحرمين في حيرة واضطراب في صفات الله عزَّ وجلَّ، ثمَّ صار إلى مذهب السَّلف، وألَّف رسالة نُصح لبعض مشايخه من الأشاعرة، وهي مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية (1/174 – 187).
الفائدة السابعة: متكلِّمون يَذمُّون علمَ الكلام ويُظهرون الحَيرة والنَّدم
عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة مبنيَّةٌ على الدليل من كتاب الله عزَّ وجلَّ وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه صحابتُه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، فهي صافيةٌ نقيَّةٌ، واضحةٌ جليَّة، ليس فيها غموض ولا تعقيد، بخلاف غيرهم الذين عوَّلوا على العقول، وتأوَّلوا النقول، وبنَوا معتقداتهم على علم الكلام المذموم، الذي بيَّن أهلُه الذين ابتُلوا به ما فيه من أضرار، وندموا على ما حَصَلَ منهم من شغل الأوقات فيه من غير أن يظفروا بطائل، ولا أن يصلوا إلى حقٍّ، وفي نهاية أمرهم صاروا إلى الحيرة والنَّدَم، فمنهم من وُفِّق لتركه واتِّباع طريقة السَّلف، وجاء عنهم عيبُ علم الكلام وذمُّه.
فأبو حامد الغزالي – رحمه الله – من المتمكِّنين في علم الكلام، ومع ذلك
فقد جاء عنه ذمُّه، بل والمبالغة في ذمِّه، ولا يُنبئك مثلُ خبير، جاء ذلك عنه في كتابه إحياء علوم الدِّين، حيث بيَّن ضررَه وخطرَه، فقال (ص: 91 92): "أمَّا مضرَّته، فإثارةُ الشبهات وتحريك العقائد، وإزالتها عن الجزم والتصميم، فذلك مِمَّا يحصل في الابتداء، ورجوعُها بالدليل مشكوك فيه، ويختلف فيه الأشخاص، فهذا ضررُه في الاعتقاد الحقِّ، وله ضررٌ آخر في تأكيد اعتقاد المبتدعة للبدعة، وتثبيته في صدورهم، بحيث تنبعث دواعيهم، ويشتدُّ حرصُهم على الإصرار عليه، ولكن هذا الضرر بواسطة التعصُّب الذي يثور من الجدل".
إلى أن قال: "وأمَّا منفعتُه، فقد يُظنُّ أنَّ فائدَتَه كشفُ الحقائق ومعرفتُها على ما هي عليه، وهيهات؛ فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعلَّ التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف، وهذا إذا سمعته من محدِّث أو حشوي ربَّما خطر ببالك أنَّ الناسَ أعداءُ ما جهلوا، فاسمع هذا مِمَّن خَبَر الكلامَ ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلِّمين، وجاوز ذلك إلى التعمُّق في علوم أخر تناسبُ نوع الكلام، وتحقق أنَّ الطريقَ إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود، ولعمري لا ينفكُّ الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور، ولكن على الندور في أمور جليَّة تكاد تفهم قبل التعمُّق في صنعة الكلام".
وقد نقل شارحُ الطحاوية عنه هذا الكلام وغيرَه في ذمِّ علم الكلام (ص: 236)، وقال (ص: 23: "وكلامُ مثلِه في ذلك حجَّة بالغة".
ثمَّ بيَّن شارح الطحاوية أنَّ السَّلفَ كرهوا علمَ الكلام وذمُّوه:
والسُّنَّة، وما فيه من علوم صحيحة، فقد وعَّروا الطريقَ إلى تحصيلها، وأطالوا الكلامَ في إثباتها مع قلَّة نفعها، فهي لحمُ جَمل غثٍّ على رأس جبل وَعْر، لا سهلٌ فيُرتقى، ولا سمين فيُنتقل، وأحسنُ ما عندهم فهو في القرآن أصحُّ تقريراً وأحسن تفسيراً، فليس عندهم إلاَّ التكلُّف والتطويل والتعقيد".
إلى أن قال: "ومن المحال أن لا يحصلَ الشِّفاءُ والهدى والعلمُ واليقين من كتاب الله وكلام رسوله، ويحصلُ من كلام هؤلاء المتحيِّرين، بل الواجب أنَّ يجعل ما قاله اللهُ ورسولُه هو الأصل، ويتدبَّر معناه ويعقله، ويعرف برهانَه ودليلَه، إمَّا العقلي، وإمَّا الخبري السَّمعي، ويعرف دلالته على هذا وهذا، ويجعل أقوال الناس التي توافقه وتخالفه متشابهة مجملة، فيُقال لأصحابها: هذه الألفاظ تحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يُوافق خبر الرسول قُبل، وإن أرادوا بها ما يُخالفه رُدَّ".
وقال أيضاً في (ص: 243): "قال ابن رُشد الحفيد – وهو من أعلم الناس بمذهب الفلاسفة ومقالاتهم – في كتابه تهافت التهافت: (ومَن الذي قال في الإلَهيات شيئاً يعتدُّ به؟)، وكذلك الآمدي – أفضل أهل زمانه – واقفٌ في المسائل الكبار حائر، وكذلك الغزالي – رحمه الله – انتهى آخرُ أمره إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية، ثمَّ أعرض عن تلك الطرق، وأقبلَ على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فمات والبخاري على صدره، وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، قال في كتابه الذي صنَّفه في أقسام اللذات:
- نِهايةُ إقدام العقول عِقالُ وغايةُ سعي العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصلُ دنيانا أذَى ووبالُ
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه: قيل وقالوا
فكم قد رأينا من رجال ودولةٍ فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد عَلَت شُرُفاتِها رجالٌ فزالوا والجبالُ جبالُ
لقد تأمَّلتُ تلك الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتُها تشفي عليلاً، ولا تُروي غليلاً، ورأيتُ أقربَ الطرق طريق القرآن، اقرأ في الإثبات {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}، واقرأ في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}، ثم قال: "ومَن جرَّب مثلَ تجربَتِي، عرف مثل معرفتِي".
وكذلك قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، إنَّه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلاَّ الحيرة والندم، حيث قال:
لعمري لقد طُفت المعاهد كلها وسَيَّرتُ طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلاَّ واضعاً كفَّ حائر على ذقن أو قارعاً سنَّ نادم
وكذلك قال أبو المعالي الجويني رحمه الله: "يا أصحابنا! لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفتُ أنَّ الكلامَ يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلتُ به"، وقال عند موته: "لقد خضتُ البحرَ الخِضَمَّ، وخلَّيتُ أهل الإسلام وعلومَهم، ودخلتُ في الذي نَهونِي عنه، والآن فإن لم يتداركنِي ربِّي برحمته، فالويل لابن الجوينِي، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمِّي، أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور"، وكذلك قال شمس الدين الخسروشاهي – وكان من أجلِّ تلامذة فخر الدِّين الرازي – لبعض الفضلاء، وقد دخل عليه يوماً فقال
ص -34- (ما تعتقد؟ قال: ما يعتقده المسلمون، فقال: وأنتَ مُنشرح الصَّدر لذلك مستيقن به؟ أو كما قال، فقال: نعم، فقال: اشكر الله على هذه النِّعمة، لكنِّي – والله! – ما أدري ما أعتقد، – والله! – ما أدري ما أعتقد! – والله! – ما أدري ما أعتقد!) وبكى حتى أخضَل لحيته.
ولابن أبي الحديد الفاضل المشهور بالعراق:
فيكَ يا أُغلوطة الفِكَر حارَ أمري وانقضى عمري
سافرتْ فيك العقولُ فما ربحت إلاَّ أذى السفر
فلحى الله الأُلَى زعموا أنَّك المعروف بالنَّظر
كذبوا إنَّ الذي ذكروا خارجٌ عن قوة البشر
وقال الخونجي عند موته: "ما عرفتُ مِمَِّا حصَّلته شيئاً سوى أنَّ الممكن يفتقر إلى المرجِّح، ثم قال: الافتقار وصفٌ سلبِيٌّ، أموت وما عرفتُ شيئاً".
وقال آخر: "أضطجع على فراشي، وأضع الملحفةَ على وجهي، وأقابل بين حُجَج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجَّح عندي منها شيء".
إلى أن قال شارح الطحاوية: "وتجد أحد هؤلاء عند الموت يرجع إلى مذهب العجائز، فيُقرُّ بما أقرُّوا به، ويُعرض عن تلك الدقائق المخالفة لذلك، التي كان يقطع بها ثمَّ تبيَّن له فسادُها، أو لم يتبيَّن له صحتُها، فيكونون في نهاياتهم – إذا سلموا من العذاب – بِمنْزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب".
وكان أبو محمد الجوينِي والد إمام الحرمين في حيرة واضطراب في صفات الله عزَّ وجلَّ، ثمَّ صار إلى مذهب السَّلف، وألَّف رسالة نُصح لبعض مشايخه من الأشاعرة، وهي مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية (1/174 – 187).