ضياع الدُّنيا والدِّين في إهانة العالمِ والأمير
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه:
أما بعد:
فلا شكَّ ولا ريبَ بأنَّ السَّعادةَ الحقيقيَّةَ والحياةَ الطيِّبةَ الهنيَّة لا تتحقَّق ولا تحصُل إلَّا لأهل الإيمان والطَّاعة الذين التزمُوا شرعَ الله وهدْيَه، يقول الله سبحانه: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[النحل: 97] .
قال ابنُ كثير-رحمه الله-: (هذا وعدٌ من الله تعالى لمن عمل صالحًا -وهو العمل المتابِع لكتاب الله تعالى وسنَّة نبيِّه من ذكر أو أنثى من بني آدم، وقلبه مؤمنٌ بالله ورسولِه، وإنَّ هذا العملَ المأمورَ به مشروعٌ من عند الله -بأن يحييَه الله حياة طيِّبة في الدُّنيا، وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدَّار الآخرة؛ والحياة الطَّيبة تشمل وجوه الرَّاحة من أي جهة كانت)[تفسير ابن كثير (4/601)].
ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾[طه: 124].
قال ابنُ القيِّم-رحمه الله-: (فالمعيشة الضَّنك لازمةٌ لمن أعرضَ عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم- في دنياه وفي البرزخ ويوم معاده، ولا تقرُّ العين، ولا يهدأُ القلب، ولا تطمئنُّ النَّفس إلا بإِلَهِهَا ومعبودِها الذي هو حقّ، وكلُّ معبود سواه باطل، فمن قرَّت عينه بالله قرَّت به كلُّ عين، ومن لم تقرَّ عينه بالله تقطَّعت نفسه على الدُّنيا حسرات، والله تعالى إنَّما جعل الحياة الطِّيبةَ لمن آمن به وعمل صالحا، كما قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[النحل: 97].
فضمن لأهل الإيمان والعمل الصَّالح الجزاء في الدُّنيا بالحياة الطَّيبة، والحسنى يوم القيامة، فلهم أطيب الحياتين، فهم أحياء في الدَّارين.
ونظير هذا قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾ [النحل: 30] .
ونظيرها قوله تعالى: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ [هود: 3].
ففاز المتَّقون المحسنون بنعيم الدُّنيا والآخرة وحصلوا على الحياة الطَّيبة في الدَّارين، فإنَّ طيبَ النَّفس، وسرورَ القلب، وفرحَه ولذَّته وابتهاجَه وطمأنينَته وانشراحَه ونورَه وسعتَه وعافيتَه من تركِ الشَّهوات المحرَّمة، والشُّبهات الباطلة - هو النَّعيم على الحقيقة، ولا نسبة لنعيم البدن إليه)[الداء والدواء (120-121)].
ومن الأحكام التي أُلزِمْنَا شرعًا بطاعتِها وامتثالِها، ونهينا عن مخالفتها وتركها، بل جُعِل في التَّفريط فيها الضياعُ الحقيقي لدين العبد ولدنياه، هو لزوم طاعة أولي الأمر وهم العلماء والأمراء، ما لم يكن في طاعتهم معصية لله، فإنَّ طاعتهم من طاعة الله ورسوله، قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾[النساء: 59].
قال شيخ الإسلام-رحمه الله-: (فطاعتُهم داخلةٌ في طاعة الرَّسول... فلم يقل: (وأطيعوا الرَّسول وأطيعوا أولي الأمر منكم)؛ بل جعل طاعةَ أولي الأمر داخلةً في طاعة الرَّسول؛ وطاعةَ الرَّسول طاعةً لله، وأعادَ الفعل في طاعة الرَّسول دون طاعة أولي الأمر)[مجموع الفتاوى (10/266)].
فإذا علمنا أنَّ طاعة أولي الأمر لا تكون إلَّا في طاعة تنبَّهْنَا إلى أمر مهمٍّ وهو أنَّ الأمراء في الأصل تبع للعلماء، لأنَّهم هم المبلِّغون عن الله وعن رسوله-صلَّى الله عليه وسلَّم-.
قال ابنُ القيِّم-رحمه الله– في إعلام الموقعين(1/: (والتَّحقيق أنَّ الأمراءَ إنَّما يُطاعون إذا أمَرُوا بمُقتضى العلم؛ فطاعتُهم تبعٌ لطاعة العلماء؛ فإنَّ الطَّاعة إنَّما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أنَّ طاعة العلماء تبع لطاعة الرَّسول فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء، ولمَّا كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء، وكان النَّاس كلُّهم لهم تبعا، كان صلاح العالَم بصلاح هاتين الطَّائفتين، وفسادُه بفسادِهما، كما قال عبد الله بن المبارك وغيره من السلف: صنفان من النَّاس إذا صلحا صلح النَّاس، وإذا فسدا فسد النَّاس، قيل: من هم؟ قال: الملوك، والعلماء كما قال عبد الله بن المبارك:
رأيتُ الذُّنوب تميتُ القلوبَ ... وقد يورث الذُّل إدمانُها
وتركُ الذُّنوب حياة القلوب ... وخيرٌ لنفسِك عصيانُها
وهل أفسدَ الدِّينَ إلا الملوكُ ... وأحبارُ سوءٍ ورهبانُها).
وهل أفسدَ الدِّينَ إلا الملوكُ ... وأحبارُ سوءٍ ورهبانُها).
ومن الكلام المتين في بيان منزلة أولي الأمر من الدّين، كلام ذكره العلَّامة ابن عثيمين-رحمه الله- أثناء شرحه لكتاب رياض الصَّالحين، فأتى بكلام بديع تنشرح بسماعه وقراءته قلوب أهل السنَّة، وتضيق لأجله قلوب المبتدعة والخارجين، ولا يحتاج كلام الشَّيخ إلى شرح ولا إلى تعليق كسائر كلامه رحمة الله عليه.
قال العلامة-رحمه الله-: (بتوقير العلماء توقَّر الشَّريعة؛ لأنَّهم حاملوها، وبإهانة العلماء تهان الشَّريعة؛ لأنَّ العلماء إذا ذلُّوا وسقطُوا أمامَ أعين النَّاس؛ ذلَّت الشَّريعة الَّتي يحملُونَها، ولم يبقَ لها قيمة عند النَّاس، وصار كلُّ إنسان يحتقرُهم ويزدرِيهم فتضيعُ الشَّريعة.
كما أنَّ ولاة الأمر من الأمراء والسلاطين يجب احترامُهم وتوقيرُهم تعظيمُهم وطاعتُهم، حسب ما جاءت به الشَّريعة؛ لأنَّهم إذا احتقِروا أمامَ النَّاس، وأذِلُّوا، وهوِّنَ أمرُهم؛ ضاعَ الأمنُ وصارت البلاد فوضى، ولم يكن للسُّلطان قوَّة ولا نفُوذ.
فهذان الصِّنفان من النَّاس: العلماء والأمراء، إذا احتقِروا أمامَ أعين النَّاس فسدت الشَّريعة، وفسد الأمن، وضاعت الأمور، وصار كلُّ إنسان يرى أنَّه هو العالم، وكلُّ إنسان يرى أنَّه هو الأمير، فضاعت الشَّريعة وضاعت البلاد، ولهذا أمر الله تعالى بطاعة وُلاة الأمور من العلماء والأمراء فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾[النساء: 59].
ونضرب لكم مثلاً: إذا لم يعظَّم العلماءُ والأمراءُ، فإنَّ النَّاس إذا سمعوا من العالم شيئاً قالوا: هذا هيِّن، قال فلان خلاف ذلك.
أو قالوا: هذا هيِّن هو يعرف ونحن نعرف، كما سمعنا عن بعض السُّفهاء الجُهَّال أنَّهم إذا جودلوا في مسألة من مسائل العلم، وقيل لهم: هذا قولُ الإمام أحمدَ بنِ حنبل، أو هذا قولُ الشَّافعي، أو قول مالك، أو قول أبي حنيفة، أو قول سفيان، أو ما أشبه ذلك قال: نعم، هم رجال ونحن رجال، لكن فرق بين رجولة هؤلاء ورجولة هؤلاء، من أنت حتَّى تصادم بقولِك وسوءِ فهمِك وقصورِ علمِك وتقصيرِك في الاجتهاد وحتَّى تجعل نفسك نداً لهؤلاء الأئمة -رحمهم الله-؟
فإذا استهان النَّاس بالعلماء كلُّ واحد يقول: أنا العالم، أنا النَّحرير، أنا الفهَّامة، أنا العلَّامة، أنا البحر الذي لا ساحل له، وصار كلٌّ يتكلَّم بما شاء، ويفتي بما شاء، ولتمزَّقت الشَّريعة بسبب هذا الذي يحصل من بعض السُّفهاء.
وكذلك الأمراء، إذا قيل لواحد مثلاً: أمر الوليّ بكذا وكذا، قال: لا طاعة له؛ لأنَّه مخلٌّ بكذا ومخلٌّ بكذا، وأقول: إنَّه إذا أخل بكذا وكذا، فذنبه عليه، وأنت مأمور بالسَّمع والطَّاعة، حتَّى وإن شربوا الخمور وغير ذلك ما لم نر كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان، وإلَّا فطاعتهم واجبة؛ ولو فسقوا، ولو عتَوا، ولو ظلموا.
وقد قال النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك))[مسلم (1847)]،...
أمَّا أن نريد أن تكون أمراؤُنا كأبي بكر وعمر، وعثمان وعلي، فهذا لا يمكن، لنكن نحن صحابةً أو مثل الصَّحابة حتَّى يكون ولاتُنا مثل خلفاء الصَّحابة.
أما والشَّعب كما نعلم الآن؛ أكثرُهم مفرِّط في الواجبات، وكثير منتهِك للحرمات، ثمَّ يريدون أن يولِّيَ الله عليهم خلفاءَ راشدين، فهذا بعيد، لكن نحن علينا أن نسمع ونطيع، وإن كانوا هم أنفسهم مقصِّرين فتقصيرُهم هذا عليهم، عليهم ما حمِّلوا، وعلينا ما حمِّلنا.
فإذا لم يوقَّر العلماء ولم يوقَّر الأمراء؛ ضاع الدِّين والدُّنيا. نسأل الله العافية)[شرح رياض الصَّالحين (3/231-233)].
تعليق