وقفات على ابواب كتاب التوحيد(الوقفة الرابعة)
إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد...
فإن من نعمة الله على عبادة أن جعل لهم التوحيد كفارة للذنوب فلقد بوب المصنف في كتاب التوحيد باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب ثم اتبع المصنف الباب بقول الله تعالى: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ).
هذه الآية جاءت بعد مناظرة أمام الحنفاء ابراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه كما ذكر ذلك الشيخ صالح الفوزان يحفظه الله فكانوا يعبدون الكواكب وهم الصابئة في أرض العراق ولا يوجد أهل توحيد في ذلك الزمان فبدء الله عز وجل يؤهله لحمل هذه الرسالة والدعوة إلى الله فقال الله تعالى {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} أي موقناً بالله عز وجل وتوحيده ويزول عنه أي شك أو أي أرتياب {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} أي غشاه الليل بظلامه {رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} وكان هذا من باب المناظرة هذا ربي بزعمكم لأنه يعرف ربه من قبل قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} {فَلَمَّا أَفَلَ} فلما غاب هذا الكوكب {قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} فلو كان رباً ما غاب ولا اختفى فهذا مما يبطل ربوبية الكواكب التي يزعمونها {فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي} بدأ يتدرج معهم في المناظرة إلى ماهو أكبر من الكوكب وهو القمر {فَلَمَّا أَفَلَ} أي غاب وأختفى وصار هذا القمر يتصرف به من المطلع إلى المغيب {قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ( ) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} إنتقل إلى أكبر الكواكب وهي الشمس (فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) فلما غابت أبطل بهذه الحجة عبادة الكواكب وتقرر بهذه الحجة أنها ليست آله وتبرأ منهم وصرح بها وبدعوة التوحيد (إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) توجه ابراهيم عليه الصلاة والسلام بعبادته إلى عبادة الرب سبحانه وتعالى حنيفاً مائلاً عن الشرك مقبلاً على الله معرضاً عما سواه فالرب سبحانه وتعالى هو الذي فطر السماوات والأرض وهو الذي أبدعهن على غير مثال سابق سبحانه وتعالى فهو المستحق للعبادة {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} ناظروه على أن يترك هذه الدعوة ويسلك مسلكهم حتى أبوه وقف في وجهه وهدده كما قال الله تبارك وتعالى {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} لما أبطل حججهم (قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ} لأنهم هددوه بأصنامهم ولكنه ترك الأمر بيد الله وتوكل عليه فقال {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ( ) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} فكيف تتوعدون وتهددون بآلهتكم وأصنامكم وأنتم لا تخافون الله الذي خلق السماوات والأرض وجعلتم معه شريكاً {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ} من العذاب لأنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به سلطاناً فكان من الله عز وجل الفصل والحكم في هذه المسأله فقال (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) وهذه الآية عامة في قوم أبراهيم وغيرهم من الخلق فالذين وحدوا الله وأخلصوا له العبادة {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} لهم الأمن التام والإهتداء قال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ: (فدلت على فضل التوحيد وتكفيره للذنوب، لأن من أتى به تامًا فله الأمن التام والاهتداء التام، ودخل الجنة بلا عذاب، ومَن أتى به ناقصًا بالذنوب التي لم يتب منها، فإن كانت صغائر كفرت باجتناب الكبائر وإن كانت كبائر فهو في حكم المشيئة، إن شاء اللّه غفر له، وإن شاء عذبه، ومآله إلى الجنة، واللّه أعلم).
الظلم في هذه الآية معناه الشرك فعن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لما نزلت (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس ذاك إنما هو الشرك ألم تسمعوا قول لقمان لابنه (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ؟) في رواية ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه) متفق عليه.
ومعنا الظلم في الأصل: هو وضع الشيء في غير موضعه وقد قسم العلماء الظلم إلى ثلاثة أقسام: فمن الظلم الشرك وهو أعظمها قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فالشرك هو صرف العبادة إلى غير مستحقها والعبادة لا تصرف إلا لله فإذا صرفت إلى غير الله صارت شركاً كما يفعل بعض المسلمين من هذه الأمة يذبحون للقبور وللأولياء ويطوفون بها ويعكفون عندها ويشدون الرحل لزيارتها وغير ذلك مما يفعله بعض الجهلة بالتوحيد سووا المخلوق بالخالق، سوو الضعيف بالقوي الذي لا يعجزه شيء، فأي ظلم أعظم من هذا؟ وهذا النوع من الظلم لا يغفره الله إلا بالتوبة قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
ومن الظلم أيضاً ظلم العبد نفسه بالمعاصي لأنه معرض للعقوبة فكان الواجب عليه أن ينقذ نفسه بالطاعة ولا يعرضها للعقوبة يوم القيامة وهذا تحت المشيئة إن شاء عذبه الله وإن شاء غفر له.
ومن الظلم أيضاً ظلم العبد للناس بأخذ أموالهم أو الظرب أو الغيبة أو النميمة أو بالقتل وسفك الدماء وغير ذلك من أنواع التعدي وهذا النوع لابد فيه من القصاص يوم القيامة إلا أن يسمح المظلومون حتى أن الله تبارك وتعالى يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء.
فهذه انواع الظلم الثلاثة إذن من كان موحداً لله سالماً من انواع الظلم الثلاثة كان له الأمن والإهتداء التام ومن كان موحداً ولم يسلم من ظلمه لنفسه كان له من الأمن والإهتداء مطلقا بمعنا أنه لا يخلد في النار ويدخل الجنة بعد أن يطهر من الذنوب ودل ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم فعن ابي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يقول الله تعالى من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه فيخرجون قد امتحشوا وعادوا حمما فيلقون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ألم تروا أنها تخرج صفراء ملتوية). متفق عليه. هذا ما تيسر في هذه الوقفة نسأل الله أن ينفع بها...