إنَّ أهم ما ينبغي للناس أن يتعاهدوه تزكية نفوسهم، ولا سيما في هذه الأزمان المتأخرة التي استحكمت فيها الشهوات، وارتطمت فيها أمواج الفتن والشبهات، والتي لم يسلم منها إلا من عصمه الله جل وعلا.
والحديث عن تزكية النفوس كما لا يـخفى طويل الذيـول، ولذلك فسأقتصر في كلامي عليه على ثلاث نقاط:
معنى تزكية النفس لغة وشرعًا، ثم أهمية التزكية، وأخيرا وسائل تزكية النفس.
* معنى التزكية:
التزكية لغة: الطهارة والنماء والزيادة.
والمراد بها في الشرع: تطهير النفوس وإصلاحها بالعلم النافع والعمل الصالح، وفعل المأمورات وترك المنهيات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض حديثه عن أمراض القلوب وشفائها: «والزكاة في اللغة النماء والزيادة في الصلاح، يقال: زكا الشيء إذا نما في الصلاح، فالقلب يحتاج أن يتربى فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح، كما يحتاج البدن أن يربَّى بالأغذية المصلحة له، ولا بدّ مع ذلك من منع ما يضرّه فلا ينمو البدن إلَّا بإعطائه ما ينفعه ومنع ما يضره، كذلك القلب لا يزكو فينمو ويتم صلاحه إلا بحصول ما ينفعه ودفع ما يضره، وكذلك الزرع لا يزكو إلا بهذا» اهـ([1]).
وقد ثبت في تفسير التزكية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه الطبراني في «المعجم الصغير» وغيره عن عبد الله بن معاوية الغاضِري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلاثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ ذَاقَ طعْمَ الإِيمَانِ: مَنْ عَبَدَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ فِي كُلِّ عَامٍ... وَزَكَّى نَفْسَهُ»، فقال رجل: وما تزكية النفس؟ فقال: «أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ»([2]).
* تزكية النفوس وأهميتها:
لقد تظافرت نصوص الكتاب والسنة ببيان أهمية تزكية النفوس وما لها من مكانة عالية ومنزلة رفيعة، ولعل من أبرز تلك النصوص وأظهرها قوله تعالى في سورة الشمس: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَاوَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَاوَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَاوَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَاوَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَاوَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَاقَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 1 ـ 10].
فتأمل معي أيها القارئ الكريم في هذه الآيات البينات تجد أن الله عز وجل قد أقسم فيها أحد عشر قسما على أن صلاح العبد وفلاحه منوط بتزكية نفسه.
ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى في موضع آخر من الكتاب: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ [الأعلى: 14 ـ 15].
كما أخبر الله جل وعلا بفوز من حقق هذه التزكية بالدرجات العلى، فقال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى﴾ [طه: 75 ـ 76].
وقد جاء في القرآن الكريم ما يدل على أنَّ مهمة الرسل كانت دعوة الناس إلى تزكية نفوسهم، قال تعالى لموسى في خطابه لفرعون: ﴿فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى﴾ [النازعات:18].
وقال سبحانه عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [الجمعة: 2].
* وسائل تزكية النفس:
قبل الخوض في تفاصيل وسائل التزكية لا بدَّ من العلم أن تزكية النفوس لا سبيل إليها إلا عن طريق الشرع المطهر باتباع ما جاءت به الرسل عن رب العالمين جل وعلا.
وقد أشارت آية الجمعة السابقة إلى هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [الجمعة: 2].
قـال ابن القيم: «فإن تزكية النفوس مُسلَّم إلى الرسل، وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاَّهم إياها، وجعلها على أيديهم دعوة وتعليما وبيانا وإرشادا... فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم... وتزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان وأشد، فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة، التي لم يجئ بها الرسل فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب؟ فالرسل أطباء القلوب فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم، وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد والتسليم لهم، والله المستعان» اهـ([3]).
وتزكية النفوس تتحقق بأمور كثيرة، ومن أهمها ما يلي:
1 ـ التوحيد: وقد سماه الله تعالى زكاة في قوله: ﴿ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِين الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُون﴾ [فُصِّلَت: 6 ـ 7]، وهذا التفسير مأثور عن البحر ابن عباس رضي الله عنه حيث قال في قوله تعالى: ﴿لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾: لا يشهدون أن لا إله إلا الله([4]).
قال ابن القيم رحمه الله: «قال أكثر المفسرين من السلف ومن بعدهم: هي التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان الذي به يزكو القلب فإنه يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب وذلك طهارته وإثبات إلهيته سبحانه، وهو أصل كل زكاة ونماء»... إلى أن قال: «فأصل ما تزكو به القلوب والأرواح هو التوحيد» اهـ([5]).
كما سمى الله تعالى الشرك رجسا ووسمه بالنجاسة، قال تعالى: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ﴾ [الحج: 30]، وقال: ﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة: 28].
فدل مفهوم الآيتين على أن الطهارة والتزكية في التوحيد الخالص لله جل وعلا.
ولذلك قال موسى لفرعون وهو يدعوه إلى التوحيد: ﴿هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾ [النازعات: 18 ـ 19].
2 ـ الصلاة: وهي من أعظم ما تزكو به النفوس ولذلك قرن الله تعالى بينها وبين التزكية في قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ [الأعلى: 14 ـ 15].
وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم تطهير الصلاة للنفوس بتطهير الماء للأبدان فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْس مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ([6])شَيْءٌ؟» قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: «فَذَلِكَ مَثل الصَّلَوَات الخَمْس يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الخَطَايَا»([7]).
وعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْس كَمَثَلِ نَهرٍ جَارٍ غَمْرٍ([8])عَلَى بَابِ أَحَدِكُمْ، يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْس مَرَّاتٍ»([9]).
3 ـ الصدقة: قال تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [التوبة: 103].
قال الشيخ السعدي: «وفيها أن العبد لا يمكنه أن يتطهر ويتزكى حتى يخرج زكاة ماله، وأنه لا يكفرها شيء سوى أدائها؛ لأن الزكاة والتطهير متوقف على إخراجها» اهـ([10]).
4 ـ ترك المعاصي والمحرمات: قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ أي: زكى نفسه بفعل الطاعات، ثم قال: ﴿وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ أي: خسر من دساها بالفجور والمعاصي.
قال شيخ الإسلام: «فكذلك النفس والأعمال لا تزكو حتى يزال عنها ما يناقضها، ولا يكون الرجل متزكيا إلا مع ترك الشر، فإنه يدنس النفس ويدسيها»([11]).
وقال تلميذه ابن القيم: «والمقصود أن زكاة القلب موقوفة على طهارته، كما أن زكاة البدن موقوفةعلى استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة، قال تعالى:وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم﴾ [النور:21]، ذكر ذلك سبحانه عقيب تحريم الزنا والقذف ونكاح الزانية، فدل على أن التزكي هو باجتناب ذلك» اهـ([12]).
5 ـ محاسبة النفس: قال ابن القيم: «فإن زكاة (النفس) وطهارتها موقوف على محاسبتها، فلا تزكو ولا تطهر ولا تصلح ألبتة إلا بمحاسبتها...» إلى أن قال: فبمحاسبتها يطلع على عيوبها ونقائصها فيمكنه السعي في إصلاحها» اهـ([13]).
6 ـ الدعاء: على العبد أن يلجأ إلى الله تعالى بالدعاء والتضرع ليصلح له نفسه ويزكيها ولذلك كان من دعاء نبينا صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا»([14]).
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
---------------------------------
([1]) «المجموع» (10/96).
([2]) «الصحيحة» (1046).
([3]) «مدارج السالكين» (2/356).
([4]) انظر: «المجموع» لشيخ الإسلام (10/633).
([5]) «إغاثة اللهفان» (1/49).
([6]) أي: وسخه.
([7]) رواه البخاري (52 ومسلم (283) واللفظ له.
([8]) الغَمر: هو الكثير.
([9]) رواه مسلم (284).
([10]) «تفسير السعدي» (3/293).
([11]) «المجموع» (10/629).
([12]) «إغاثة اللهفان» (1/49).
([13]) «مدارج السالكين» (2/576).
([14]) رواه مسلم (2722) من حديث زيد بن أرقم.
الرابط: http://www.al-sunna.net/articles.php?ID=502&do=view
والحديث عن تزكية النفوس كما لا يـخفى طويل الذيـول، ولذلك فسأقتصر في كلامي عليه على ثلاث نقاط:
معنى تزكية النفس لغة وشرعًا، ثم أهمية التزكية، وأخيرا وسائل تزكية النفس.
* معنى التزكية:
التزكية لغة: الطهارة والنماء والزيادة.
والمراد بها في الشرع: تطهير النفوس وإصلاحها بالعلم النافع والعمل الصالح، وفعل المأمورات وترك المنهيات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض حديثه عن أمراض القلوب وشفائها: «والزكاة في اللغة النماء والزيادة في الصلاح، يقال: زكا الشيء إذا نما في الصلاح، فالقلب يحتاج أن يتربى فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح، كما يحتاج البدن أن يربَّى بالأغذية المصلحة له، ولا بدّ مع ذلك من منع ما يضرّه فلا ينمو البدن إلَّا بإعطائه ما ينفعه ومنع ما يضره، كذلك القلب لا يزكو فينمو ويتم صلاحه إلا بحصول ما ينفعه ودفع ما يضره، وكذلك الزرع لا يزكو إلا بهذا» اهـ([1]).
وقد ثبت في تفسير التزكية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه الطبراني في «المعجم الصغير» وغيره عن عبد الله بن معاوية الغاضِري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلاثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ ذَاقَ طعْمَ الإِيمَانِ: مَنْ عَبَدَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ فِي كُلِّ عَامٍ... وَزَكَّى نَفْسَهُ»، فقال رجل: وما تزكية النفس؟ فقال: «أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ»([2]).
* تزكية النفوس وأهميتها:
لقد تظافرت نصوص الكتاب والسنة ببيان أهمية تزكية النفوس وما لها من مكانة عالية ومنزلة رفيعة، ولعل من أبرز تلك النصوص وأظهرها قوله تعالى في سورة الشمس: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَاوَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَاوَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَاوَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَاوَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَاوَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَاقَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 1 ـ 10].
فتأمل معي أيها القارئ الكريم في هذه الآيات البينات تجد أن الله عز وجل قد أقسم فيها أحد عشر قسما على أن صلاح العبد وفلاحه منوط بتزكية نفسه.
ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى في موضع آخر من الكتاب: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ [الأعلى: 14 ـ 15].
كما أخبر الله جل وعلا بفوز من حقق هذه التزكية بالدرجات العلى، فقال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى﴾ [طه: 75 ـ 76].
وقد جاء في القرآن الكريم ما يدل على أنَّ مهمة الرسل كانت دعوة الناس إلى تزكية نفوسهم، قال تعالى لموسى في خطابه لفرعون: ﴿فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى﴾ [النازعات:18].
وقال سبحانه عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [الجمعة: 2].
* وسائل تزكية النفس:
قبل الخوض في تفاصيل وسائل التزكية لا بدَّ من العلم أن تزكية النفوس لا سبيل إليها إلا عن طريق الشرع المطهر باتباع ما جاءت به الرسل عن رب العالمين جل وعلا.
وقد أشارت آية الجمعة السابقة إلى هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [الجمعة: 2].
قـال ابن القيم: «فإن تزكية النفوس مُسلَّم إلى الرسل، وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاَّهم إياها، وجعلها على أيديهم دعوة وتعليما وبيانا وإرشادا... فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم... وتزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان وأشد، فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة، التي لم يجئ بها الرسل فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب؟ فالرسل أطباء القلوب فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم، وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد والتسليم لهم، والله المستعان» اهـ([3]).
وتزكية النفوس تتحقق بأمور كثيرة، ومن أهمها ما يلي:
1 ـ التوحيد: وقد سماه الله تعالى زكاة في قوله: ﴿ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِين الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُون﴾ [فُصِّلَت: 6 ـ 7]، وهذا التفسير مأثور عن البحر ابن عباس رضي الله عنه حيث قال في قوله تعالى: ﴿لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾: لا يشهدون أن لا إله إلا الله([4]).
قال ابن القيم رحمه الله: «قال أكثر المفسرين من السلف ومن بعدهم: هي التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان الذي به يزكو القلب فإنه يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب وذلك طهارته وإثبات إلهيته سبحانه، وهو أصل كل زكاة ونماء»... إلى أن قال: «فأصل ما تزكو به القلوب والأرواح هو التوحيد» اهـ([5]).
كما سمى الله تعالى الشرك رجسا ووسمه بالنجاسة، قال تعالى: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ﴾ [الحج: 30]، وقال: ﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة: 28].
فدل مفهوم الآيتين على أن الطهارة والتزكية في التوحيد الخالص لله جل وعلا.
ولذلك قال موسى لفرعون وهو يدعوه إلى التوحيد: ﴿هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾ [النازعات: 18 ـ 19].
2 ـ الصلاة: وهي من أعظم ما تزكو به النفوس ولذلك قرن الله تعالى بينها وبين التزكية في قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ [الأعلى: 14 ـ 15].
وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم تطهير الصلاة للنفوس بتطهير الماء للأبدان فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْس مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ([6])شَيْءٌ؟» قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: «فَذَلِكَ مَثل الصَّلَوَات الخَمْس يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الخَطَايَا»([7]).
وعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْس كَمَثَلِ نَهرٍ جَارٍ غَمْرٍ([8])عَلَى بَابِ أَحَدِكُمْ، يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْس مَرَّاتٍ»([9]).
3 ـ الصدقة: قال تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [التوبة: 103].
قال الشيخ السعدي: «وفيها أن العبد لا يمكنه أن يتطهر ويتزكى حتى يخرج زكاة ماله، وأنه لا يكفرها شيء سوى أدائها؛ لأن الزكاة والتطهير متوقف على إخراجها» اهـ([10]).
4 ـ ترك المعاصي والمحرمات: قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ أي: زكى نفسه بفعل الطاعات، ثم قال: ﴿وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ أي: خسر من دساها بالفجور والمعاصي.
قال شيخ الإسلام: «فكذلك النفس والأعمال لا تزكو حتى يزال عنها ما يناقضها، ولا يكون الرجل متزكيا إلا مع ترك الشر، فإنه يدنس النفس ويدسيها»([11]).
وقال تلميذه ابن القيم: «والمقصود أن زكاة القلب موقوفة على طهارته، كما أن زكاة البدن موقوفةعلى استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة، قال تعالى:وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم﴾ [النور:21]، ذكر ذلك سبحانه عقيب تحريم الزنا والقذف ونكاح الزانية، فدل على أن التزكي هو باجتناب ذلك» اهـ([12]).
5 ـ محاسبة النفس: قال ابن القيم: «فإن زكاة (النفس) وطهارتها موقوف على محاسبتها، فلا تزكو ولا تطهر ولا تصلح ألبتة إلا بمحاسبتها...» إلى أن قال: فبمحاسبتها يطلع على عيوبها ونقائصها فيمكنه السعي في إصلاحها» اهـ([13]).
6 ـ الدعاء: على العبد أن يلجأ إلى الله تعالى بالدعاء والتضرع ليصلح له نفسه ويزكيها ولذلك كان من دعاء نبينا صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا»([14]).
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
---------------------------------
([1]) «المجموع» (10/96).
([2]) «الصحيحة» (1046).
([3]) «مدارج السالكين» (2/356).
([4]) انظر: «المجموع» لشيخ الإسلام (10/633).
([5]) «إغاثة اللهفان» (1/49).
([6]) أي: وسخه.
([7]) رواه البخاري (52 ومسلم (283) واللفظ له.
([8]) الغَمر: هو الكثير.
([9]) رواه مسلم (284).
([10]) «تفسير السعدي» (3/293).
([11]) «المجموع» (10/629).
([12]) «إغاثة اللهفان» (1/49).
([13]) «مدارج السالكين» (2/576).
([14]) رواه مسلم (2722) من حديث زيد بن أرقم.
الرابط: http://www.al-sunna.net/articles.php?ID=502&do=view
تعليق