الإذايــــة النَّـــــكراء
﴿والَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
بقلم :
أسرة التَّحرير لمجلَّة الإصلاح
أسرة التَّحرير لمجلَّة الإصلاح
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ ممَّا ينغَّص الحياةَ ويُذهب صفَوها أن يطرقَ سمعَ العبد ما يحزنهُ ويُسيئُه ، ويغيظُ قلبَه ، ويكسِرُ خاطرَه ، وإنَّ أعظم ما يؤذي المسلمَ ويسيئُه أن يسمع إذايةَ الله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم ، وإنَّه كلَّما امتلأ قلبُه إيمانًا وحبًّا لله ورسوله ، وعلمًا بما يجب لهما منَ الحقوق كانَ تألــُّمه أشدَّ وتوجُّعه أعظَم ، وإنَّ الله تعَالى قَد نبَّأنا في كتابه أنَّنا سنسمع من أهل الكفر والإشراك أذَّى كثيرًا ، قال الله تعالى : {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً} [ آل عمران:16] الآية ، أي : " منَ الطَّعْن فيكُم ، وفي دينِكم وكتابِكم ورسُولكم " كما قال السَّعدي رحمه الله .
والأذي كثيرًا ما يُطلَق في القرآن ويُراد به الأذي باللِّسان ، كقوله تعالى:{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [ آل عمران:111] ، أي : أنَّ غايةَ ما يصلونَ إليه منَ الأذي إذا لم يقدروا على الأذيَّة باليدِ ، فإنَّهم يؤذونكم بالقَول والكَلام ، وكقوله تعالى : {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة:61] ، وقوله :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} الآية [الأحزاب:69] ، وقال :{وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب:53] .
فمعنى الأذى في كلِّ الآيات الإساءة في القَول ، وقد حرَّم الله على المؤمنين إذايةَ رسوله صلَّى الله وعليه وسلَّم مطلقًا ، فقال سُبحانَه :{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ}الآية [الأحزاب:53] ، قال البَغوي : " ليسَ لكُم أذَاهُ في شيءٍ منَ الأشيَاء " .
وإنَّ الله عزَّوجلَّ قَد توعَّد مَن يؤذي رسولَه الكَريم بأنواع منَ الوعيد في الدُّنيا والآخرة ، قال تعالى :{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۚ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ۚ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[سورة التوبة] وهذه نزلت في المنافقين – قبَّحُهم الله – {الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} بالأقوال الرَّديَّة والكلمات الجارحة القَبيحة ، ثمَّ لا يُبالون منه : {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} أي : إذا بَلَغَه عنَّا بعض ما نقُول ، جئنا نعتَذر إليه ، فسيَقبَلُ منَّا ، لأنَّه اٌذُنٌ ، أي : يقبَلُ كلَّ ما يُقالُ له ، لا يميِّزُ بينَ صادق وكاذب ، فكذَّبهم الله تعالى وقبَّح مقولتَهم ، وقال : {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} أي : أنَّه يقبَلُ مَن لهُ خيرًا وصدقًا ، فإنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أكملُ النَّاس عقلاً ، وأتمُّهُم إدراكًا ، وأثقبُهم رأيًا وبصيرةً ، وأمَّا إعراضُه عن الـمنُافقين الَّذين يعتَذرون بينَ يدَيْه بأعذَار باطلة كاذَبة ، إنَّما هُو امتثالٌ لقَوله تعالى :{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ} [التوبة:95] .
وفي موضع آخَر منَ القُرآن العَزيز قال الله تعالى :{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً} [الأحزاب:57]
قال البغوي : " ومَعْنَى الأذَى : هُوَ مُخَالَفَةُ أمْر الله تَعَالَى وَارْتكَابُ مَعَاصِيهِ ، ذَكَرَهُ عَلَى مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ ، وَالله عزَّوَجلَّ مُنَزَّهٌ عَنْ أنْ يَلْحَقَهُ اذَىْ منْ أحَدٍ ، وَإيذَاءُ الرَّسُولِ ، قَالَ ابنُ عَبَّاس : هُوَ أنَّهُ شُجَّ في وَجْهِهِ وكُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ ، وقِيلَ : شَاعِرٌ سَاحِرٌ ، مُعَلَّمٌّ ، مَجْنُونٌ " .
ففي البخاري (4974) من حديث أبي هُريرة عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال : " قَالَ الله : كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي ، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ أَلِدْ ، وَلَمْ أُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ "
قال ابن كثير : " وَالظَّاهر أنَّ الآيةَ عامَّةٌ في كلِّ مَنِ آذاهُ بشيءٍ ، ومَن آذَاه فقَد آذَى الله ، ومَن أطاعَه فقَد أطاعَ الله " .
فقرن اللهُ تعالى بين اسمه واسم نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم في الأذى ، كمَا قَرَن بينَهُما في المحبَّة فقال : {أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:24] ، وفي الطَّاعة والمعصية فقال : {وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}[النساء:13] ، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء:14] ، وفي الرِّضا فقال :{وَالله وَرَسُوله أَحَقُّ أَنْ تُرْضُوهُ} [التوبة:62] ، ثمَّ إنَّ الله تعالى قد جعلَ طاعتَه من طاعتِه فقال : {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء:80] ، ومبايعته فقال :{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح:10] ، فهذا كلُّه لعلوِّ منزلته صلَّى الله عليه وسلَّم ورفعة مكانته ، وقد أوجبَ الله على عباده طاعتَه ومحبَّته وتعزيزَه وتوقيرَه ونصرَه وتحكيمَه والرِّضى بحكمه والتَّسليم له واتِّباعه والصَّلاة والتَّسليم عليه ، وردِّ ما يتنَازع فيه إليه ، وتقدِيمه على النَّفس والأهل والمال ونحو ذلك ممَّا يستحقُّه صلَّى الله عليه وسلَّم بأبي هُو وأميِّ .
وقد نبَّه الله على هذا كلِّه لـمَّا قدَّم على هذه الآية في التَّحذير من إذايته ، بثنائه عليه هو سبحانه وتعالى وملائكته ، وامر عباده بالصَّلاة عليه كلَّ وقت وكلَّ حين ، فقال :{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة الأحزاب]
لكن لـمَّا انتكست فطر النَّاس في هذه الأزمنة تحرَّفت عندهم المفاهيم ، فصار الاستهزاء والافتراء والسَّبُ والشَّتم والإهانة لسيِّد العالمين وخير الخلق أجمعين صلَّى الله عليه وسلَّم هُو من قَبيل حريَّة التَّعبير ، الَّتي لا يمكنُ تضيقُها ولا الحَجْر عليها ، وقرَّرت مواقع مشهورة عدَم سَحب الفيلم السَّـيِّء الـمُسيء من مواقعهم ، ضاربينَ عُرض الحائط بمَشاعر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها الَّذين تقزَّزت نفوسهم وثارت حفائظُهم ، وامتلكتهم سورةٌ غضبيَّة فانتفضُوا غضبًا ونصرةً لنبيِّهم الكَريم صلواتُ الله وسلامهُ عليه ، فجاء تصرَّفُ كثير منهُم كتصرُّف أيِّ ثائر غاضب إذا مُسَّ في أشرف شيء عندَه ، غير ملتفتٍ لكلام أهل العلم ولا مبالٍ به ، ولا حكم الشَّرع ، حتَّى إنَّنا قرأنا وسمعنا مَن يزعُمُ نصرَةَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، ودفْع الإذاية عنه بالغناء والطَّرب !
وإنَّنا ندعو كلَّ مسلم غيُور على عرض نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم ، أن يفَتِّش في قلبه ويطرحَ سؤالا على نفسه ، هل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أحبُّ إليَّ من وَلَدي ووَالدي والنَّاس أجمعين ؟ ثمَّ لينظر بعد ذلك إلى أفعاله وأقواله وعباداته هل هي موافقة لسنَّته صلَّى الله عليه وسلَّم أم لا ؟ فلا يزعُم حبَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مَن لم يتَّبع سنَّته، ويقتف أثَره وهديَه، وليس ناصرا له مَن يصدِّقه في كلِّ ما أخبر، ولم يُطعه فيما أمَر، ولم ينته عمَّا نهى عنه وزجر .
وهذه المتابعة ، وأمَّا القيام بالمظاهرات ، وحرق الأعلام والسَّفارات وحمل اللاَّفتات ، ورفع الأصوات بالتَّنديد والشِّعارات فهذه كلُّها أساليب دخيلة ، وعن السُّنَّة بعيدة ، بل إنَّ منَ الإذاية لله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم ترك السُّنَّة والانشغَال عنها بالبدعة ، قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله : " وأهلُ البدَع والجَهل يفعَلون ما هُو من جنس الأذَى لله ورسوله ، ويَدَعُون ما أمَرَ الله به من حقوقِه وهُم يظنُّونَ أنَّهم يعظِّمُونه ، كما يفعَله النَّصارى بالمسيح ، فيُضِلُّهم الشَّيطانُ كما أضَلَّ النَّصارى وهُم يحسبُونَ صنعًا "(1) .
وأمَّا مَن آذى الله ورسوله ، وآذانا بإذايتِهما فإنَّنا نبشِّره باللَّعنة في الدُّنيا والآخرة ، والعَذاب الأليم يوم القيامة ، والحَرب من الله عزَّوجلَّ ، ففي الحديث القُدسي يقول الله تعالى : " مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ " (2) ، وإنَّ سيِّد الأولياء رسوله الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم ، ولاريب أنَّ مَن حاربَ الله خابَ وخسر ، وشقيَ وتعِس ، وإنَّ ممَّا يخفَّف ألمَ قلوبنا من هذه الإساءات المتعدَّدة المتكرِّرة الآثمة علمَنا الجازمَ أنَّ سنَّةَ الله تعالى قَد مضَت فيمَن لم يتمكَّن المؤمنون منه – أي ممَّن يؤذي الله ورسوله ، أنَّ الله تعالى ينتقمُ منه لرسوله ويكفيه إيَّاه ، كما قال تعالى :{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ۚ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ}[سورة الحجر] ، وقال تعالى : {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ} [سورة الكوثر] ، قال شيخ الإسلام ابنُ تيميَّة : " فكلُّ مَن شَنأه أو بَغَضَه وعادَاهُ ، فإنَّ الله يقطَعُ دابرهُ ، ويمحَقُ عينَهُ وأثَرَه (3) ، ومن أراد التَّأكُّد من هذه الحقيقة فما عليه إلاَّ الرُّجوع إلى كتب التَّاريخ والسِّير ويُطالع فيها عَواقب المؤذين لمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم ، بأيِّ نوع منَ أنواع الإذايَة القَوليَّة أو الفِعليَّة واحدًا واحدًا مثل صناديد الكُفر من قُريش ، وكسرى الَّذي مزَّق كتابَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، واستَهزأ برسُول الله صلَّى الله وعليه وسلَّم فأهلكَه الله بعدَ ذلك بزمن يسير ، ومزَّق ملكَه كلَّ ممزَّق ، ولمْ يبقَ للأكاسِرة مُلْكٌ بعدَه ، قال العلاَّمة السَّعدي : " فإنَّه ما تظاهر أحدٌ بالاستهزَاء برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وبما جاءَ به إلاَّ أهلَكَه الله ، وقَتَلَه شرَّ قتلَة (4) ، ومن تتبَّع قصص الأنبياء المذكورة في القُرآن يجد أممَهُم إنَّما اُهلكوا حينَ آذوا الأنبياء ، وقابلوهم بقَبيح القَول أو العَمل ، قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة : " ولعلَّكَ لا تجدُ أحدًا آذى نبيًّا منَ الأنبياء ، ثمَّ لم يتُب ، إلاَّ ولابدَّ تُصيبَه قارعةٌ (5) ، فالحمد لله الـمُنتقم مِن مثل هؤلاء الأنجاس الأنذال .
الحواشي:
(1) : الأخنائية (ص:18
(2) : صحيح البخاري (6502)
(3) : الصَّارم المسلول على شاتم الرَّسول (ص165)
(4) : تيسير الكريم (ص435)
(5) : الصَّارم المسلول على شاتم الرَّسول (ص165)
المصدر: العدد الثَّاني والثلاثون (32) لمجلَّة الإصلاح السَّلفية – الجزائر
تعليق