كيف نحارب الغزو الثقافي الغربي والشرقي
الشيخ الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.
وبعد فمما لا شك فيه أن أخطر ما تواجهه المجتمعات الإسلامية في الوقت الحاضر هو ما يسمى بالغزو الثقافي بأسلحته المتنوعة من كتب وإذاعات وصحف ومجلات وغير ذلك من الأسلحة الأخرى، ذلك أن الاستعمار في العصر الحديث قد غيّر من أساليبه القديمة لما أدركه من فشلها وعدم فعاليتها ومحاربة الشعوب واستماتتها في الدفاع عن دينها وأوطانها ومقدراتها وتراثها حيث أن الأخذ بالقوة وعن طريق العنف والإرهاب مما تأباه الطباع وتنفر منه النفوس لاسيما في الأوقات الحاضرة بعد أن انتشر الوعي بين الناس، واتصل بعضهم ببعض وأصبح هناك منظمات وهيئات كثيرة تدافع عن حقوق الشعوب وترفض الاستعمار عن طريق القوة وتطالب بحق تقرير المصير لكل شعب، وأنّ لأهل كل قطر حقهم الطبيعي في سيادتهم على أرضهم واستثمار مواردهم وتسيير دفة الحكم في أوطانهم حسب ميولهم ورغباتهم وطريقتهم في الحياة وحسب ما تدين به تلك الشعوب من معتقدات ومذاهب وأساليب مختلفة للحكم مما اضطر معه إلى الخروج عن هذه الأقطار بعد قتال عنيف وصدامات مسلحة وحروب كثيرة دامية.
ولكنه قبل أن يخرج من هذه الأقطار فكّر في عدة وسائل, واتخذ كثيرا من المخططات بعد دراسة واعية وتفكير طويل وتصور كامل لأبعاد هذه المخططات ومدى فعاليتها وتأثيرها، والطرق التي ينبغي أن تتخذ للوصول إلى الغاية التي يريد، وأهدافه تتلخص في إيجاد مناهج دراسية على صلة ضعيفة بالدين مبالغة في الدهاء والمكر والتلبيس، ركّز فيها على خدمة أهدافه ونشر ثقافته وترسيخ الإعجاب بما حقّقه في مجال الصناعات المختلفة والمكاسب المادية في نفوس أغلب الناس، حتى إذا ما تشربت بها قلوبهم وأعجبوا بمظاهر بريقها ولمعانها وعظيم ما حققته وأنجزته من المكاسب الدنيوية والاختراعات العجيبة لاسيما في صفوف الطلاب والمتعلّمين الذين لا يزالون في سن المراهقة والشباب اختار جماعة منهم ممن انطلى عليهم سحر هذه الحضارة لإكمال تعليمهم في الخارج في الجامعات الأوروبية والأمريكية وغيرها حيث يواجهون هناك بسلسلة طويلة من الشبهات والشهوات على أيدي المستشرقين والملحدين بشكل منظم وخطط مدروسة وأساليب ملتوية في غاية المكر والدهاء وحيث يواجهون الحياة الغربية بما فيها من تفسح وتبذل وخلاعة وتفكّك ومجون وإباحية.
وهذه الأسلحة وما يصاحبها من إغراء وتشجيع وعدم وازع من دين أو سلطة قلّ من ينجو من شباكها ويسلم من شرورها إلا من عصم الله وهم القليل، وهؤلاء بعد إكمال دراستهم وعودتهم إلى بلادهم وتسلّمهم المناصب الكبيرة في الدولة خير من يطمئن إليهم المستعمر بعد رحيله،
ويضع الأمانة الخسيسة في أيديهم لينفذوها بكل دقة بل بوسائل وأساليب أشدّ عنفا وقسوة من تلك التي سلكها المستعمر كما وقع ذلك فعلا في كثير من البلاد الذي ابتليت بالاستعمار أو كانت على صلة وثيقة به.
أمّا الطريق إلى السلامة من هذا الخطر والبعد عن مساوئه وأضراره فيتلخص فيما أقدمت عليه حكومتنا السنية بعد إدراك كامل للمصلحة العامة وتقدير للمسئولية من إنشاء الجامعات والكليات والمعاهد المختلفة بكافة اختصاصاتها للحدّ من الابتعاث إلى الخارج وتدريس العلوم بكافة أنواعها في المملكة حرصا على سلامة عقيدة هؤلاء الشباب وصيانة أخلاقهم وخوفا على مستقبلهم، وحتى يساهموا في بناء مجتمعهم على ضوء من تعاليم الشريعة الإسلامية وحسب حاجات ومتطلبات هذه الأمة المسلمة، وضيّقت من نطاق الابتعاث إلى الخارج وحصرته في علوم معيّنة لا يتوفر في الوقت الحاضر تدريسها في الداخل.
وإنا لنشكر لحكومتنا السّنية هذا الصنيع وحرصها الشديد على مستقبل الأمة والوطن، وعلى ما حقّقته وأنجزته من المشاريع النافعة والمكاسب الضخمة، ونسأل الله لها مزيدا من التوفيق للأعمال الصالحة والخدمات النافعة للمسلمين، ولكن هذا المقام مع ما ذكرنا يحتاج إلى مزيد من العناية في إصلاح المناهج وصبغها بالصبغة الإسلامية على وجه أكمل، والاستكثار من المؤسسات العلمية التي يستغني بها أبناء البلاد عن السفر إلى الخارج، واختيار المدرسين والمدرسات والمديرين والمديرات، وأن يكون الجميع من المعروفين بالأخلاق الفاضلة والعقيدة الطيّبة والسيرة الحسنة والغيرة الإسلامية والقوة والأمانة؛ لأن من كان بهذه الصفات أمن شره ورجي خيره وبذل وسعه من كل ما من شأنه إيصال المعلومات إلى الطلبة والطالبات سليمة نقية.
أما إذا اقتضت الضرورة ابتعاث بعض الطلاب إلى الخارج لعدم وجود بعض المعاهد الفنية المتخصصة لاسيما في مجال التصنيع وأشباهه فأرى أن يكون لذلك لجنة علمية أمينة لاختيار الشباب الصالح في دينه وأخلاقه، المتشبع بالثقافة والروح الإسلامية، واختيار مشرف على هذه البعثة معروف بعلمه وصلاحه ونشاطه في الدعوة ليرافق البعثة المذكورة ويقوم بالدعوة إلى الله هناك، وفي الوقت نفسه يشرف على البعثة ويتفقد أحوالها وتصرفات أفرادها، ويقوم بإرشادهم وتوجيههم وإجابتهم عما قد يعرض لهم من شبه وتشكيك وغير ذلك
وينبغي أن تعقد لهم دورة قبل ابتعاثهم ولو قصيرة يدرسون فيها جميع المشاكل والشبهات التي قد تواجههم في البلاد التي يبتعثون إليها ويبيّن لهم موقف الشريعة الإسلامية منها والحكمة فيها حسب ما دلّ عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم مثل أحكام الرّق، وتعدّد الزوجات بصفة عامة، وتعدّد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة، وحكم الطلاق، وحكمة الجهاد ابتداء ودفاعا, وغير ذلك من الأمور التي يوردها أعداء الله على المسلمين حتى يكونوا على استعداد تام للردّ على ما يعرض لهم من الشبه.
أما عن مجابهة الغزو المتمثل في الإذاعات والكتب والصحف والمجلاّت والأقلام التي ابتليت بها المجتمعات الإسلامية في هذا العصر وأخذت تشغل أكثر أوقات المرء المسلم والمرأة المسلمة رغم ما تشمل عليه في أكثر الأحيان من السم الزعاف والدعاية المضلّلة والأدب الرخيص والصور العارية والدعوة إلى الفساد، فأرى أن من أهمّ علاج ذلك أن تهتمّ الدولة الإسلامية لاسيما حكومتنا السنية بإيجاد هيئة من أهل العلم والبصيرة والغيرة على الإسلام والثقافة الواسعة وتفرغ لكتابة البحوث والنشرات والمقالات النافعة والدعوة إلى الإسلام والرّد على الغزو الثقافي المنظّم وكشف عواره وتبيين زيفه حيث أن الأعداء قد جنّدوا كافّة إمكاناتهم وقدراتهم، وأوجدوا المنظّمات المختلفة والوسائل المتنوعة للدسّ على المسلمين، فلابد من تفنيد هذه الشبهات وعرض الإسلام عقيدة وتشريعا وأحكاما وأخلاقا عرضا شيِّقا صافيا جذّابا بالأساليب الطيّبة العصرية المناسبة، وعن طريق الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، فهو الدين الكامل الجامع لكل خير، الكفيل بسعادة البشر وتحقيق الرقي الصالح والتقدم السليم والأمن والطمأنينة والحياة الكريمة والفوز في الدنيا والآخرة.
وما أصيب المسلمون إلا بسبب عدم تمسّكهم بدينهم كما يجب، وعدم فهم الأكثرين لحقيقته، وما ذلك إلا لإعراضهم عنه وعدم تفقههم فيه وتقصير أكثر العلماء في شرح مزاياه وإبراز محاسنه وحكمه وأسراره، والصدق والصبر في الدعوة إليه وتحمّل الأذى في ذلك بالأساليب والطرق المتبعة في هذا العصر، ومن أجل ذلك حصل ما حصل اليوم من الفرقة والاختلاف وجهل الأكثر لأحكام الإسلام والتباس الأمور عليهم، ومعلوم أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، والذي صلح به أولها هو اتباع كتاب الله الكريم وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام كما قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}, وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقال سبحانه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}, وقد وعدهم الله سبحانه على ذلك النصر المبين والعاقبة الحميدة كما قال سبحانه وهو أصدق القائلين {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}, وقال سبحانه: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} وقال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}, وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} والآيات في هذا المعنى كثيرة، ولما حقّق سلفنا الصالح هذه الآيات الكريمة قولا وعملا وعقيدة نصرهم الله على أعدائهم ومكّن لهم في الأرض ونشر بهم العدل ورحم بهم العباد وجعلهم قادة الأمة وأئمة الهدى، ولما غيّر من بعدهم غيّر عليهم كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.
فنسأل الله سبحانه أن يردّ المسلمين حكومات وشعوبا إلى دينهم ردّا حميدا، وأن يمنحهم الفقه فيه والعمل به والحكم به، وأن يجمع كلمتهم على الحق ويوفقّهم للتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه إنه سميع قريب وصلى الله وسلّم على نبينا وسيدنا محمد وآله وصحبه وأتباعه بإحسان.
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز