الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه الطاهرين.
فمن فضل الله تعالى على المسلمين أن جعل لهم مواسم للطاعات تتكرر، يذهب موسم ويجيء آخر، يجدد فيها العبد صلته بخالقه، فبعد أن ودَّع المسلمون شهر الخيرات والبركات، أطلَّ عليهم شهر الحج والمكرمات، وأهلَّ عليهم هلال ذي الحجة بالخير والتوفيق للمرضاة، إذ هو شهر يكثر فيه العمل الصالح من طواف بالبيت العتيق، ووقوف بعرفة، وتلبية، ونحر، وصيام وغير ذلك من صنوف الطاعات والقربات، فيه موسمٌ يجتمع فيه عباد الله على مرضات الله، تتوحد كلمتهم، يلهجون بذكره وإفراده بالعبادة، ذاك هو موسم الخيرات والحج والعبادات، فرضه الله تعالى على عباده مرة في العمر، ووفق فيه من أراد به خيرا لحج بيته العظيم، فيغفر للحجاج، ويعتق رقابهم من النار إذا أخلصوا له حجهم، وأطاعوه كما أمر سبحانه.
وأما من لم يحج من عباده، فلم يتركه ربه هملاً، بل شرع له من الطاعات ما يقربه إليه، من صدقات وبر وصيام، ففضَّل العمل في هذه العشر من ذي الحجة على غيرها من الأيام، بل أقسم الربُّ سبحانه وتعالى بهذه العشر في كتابه لرفعة منزلتها عنده وعلو شأنها، قال تعالى: ﴿وَالْفَجْر وَلَيَالٍ عَشْر﴾، قال غير واحد من السلف: «إنَّ الليالي العشر هي عشر ذي الحجة».
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ـ يعني أيام العشر ـ قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء» رواه البخاري.
وهذه العشر هي جزء من الأشهر الحرم، فذو الحجة من أشهر الله الحرم الذي عظمته العرب في جاهليتها واستمر تعظيمه في الإسلام، بل أوجب الله فيه ركنا من أركان الإسلام وهو الحج إلى بيت الله الحرام.
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم حرمة هذا الشهر ووجوب تعظيمه في آخر حجة حجَّها صلى الله عليه وسلم، بل ذكر تعظيمه وحرمته في مواضع شتى وأماكن متعددة في حجته صلى الله عليه وسلم، وما ذلك إلا ليبين لأمته ويحذرهم أشد الحذر من انتهاك حرمة هذا الشهر، بقتل أو تخريب أو تدمير.
فمما جاء في خطبته التي ألقاها على المسلمين ـ على مَن كان شاهدا معه أو غاب عنه إلى يوم أن نلقى الله تعالى ـ فقال: «إنَّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد! اللهم اشهد! ثلاث مرات».
فحرم دم المسلم وماله، وحرم الربا، وحرم ظلم الناس وأوصى بهذه الوصايا النافعة الجامعة.
وكانت وصاياه هذه في أعظم يوم من أيام الحج، وهو يوم عرفة، ثم أعادها صلى الله عليه وسلم في يوم النحر، وهذا ما يدل على عظم قدر هذه الوصية روى البخاري في «صحيحه» عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب النّاس يوم النّحر فقال: «يا أيّها النّاس! أيّ يومٍ هذا؟ قالوا: يوم حرام؛ قال: فأي بلدٍ هذا؟ قالوا: بلد حرام؛ قال: فأي شهرٍ هذا؟ قالوا: شهر حرام، قال: فإنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا؛ فأعادها مرارًا، ثمّ رفع رأسه فقال: اللهمّ هل بلّغت؛ اللهمّ هل بلّغت.
قال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما: فوالّذي نفسي بيده إنّها لوصيّته إلى أمّته: فليبلغ الشّاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفّارًا يضرب بعضكم رقاب بعضٍ».
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: خطبنا النّبي صلى الله عليه وسلم يوم النّحر، قال: « أتدرون أي يومٍ هذا؟. قلنا: الله ورسوله أعلم! فسكت حتّى ظننّا أنّه سيسمّيه بغير اسمه؛ قال: أليس يوم النّحر؟ قلنا: بلى؛ قال: أي شهرٍ هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! فسكت حتّى ظننّا أنّه سيسمّيه بغير اسمه؛ فقال: أليس ذو الحجّة؟ قلنا: بلى؛ قال: أي بلدٍ هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم؛ فسكت حتّى ظننّا أنّه سيسمّيه بغير اسمه؛ قال: أليست بالبلدة الحرام؟ قلنا: بلى؛ قال: فإنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربّكم؛ ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم؛ قال: اللهمّ اشهد؛ فليبلّغ الشّاهد الغائب، فربّ مبلّغٍ أوعى من سامعٍ، فلا ترجعوا بعدي كفّارًا يضرب بعضكم رقاب بعضٍ».
فهذه وصيته لأمته صلى الله عليه وسلم، والسعيد من تبع وصاياه، وأخذ بما أمر به، والشقي من خالفه وتبع هواه، فأهدر دماء المسلمين، وقتل الأبرياء منهم والعاجزين، فصار ينكل بأبناء أمته، ويسومهم سوء العذاب، والله تعالى يقول في كتابه مشددا ومحذرا من قتل امرئ مؤمن، ومبينا سوء عاقبة من أقدم على قتل المؤمنين: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾، وحرمة دم المسلم أمر معلوم في ديننا الحنيف، لا ينكره إلا معاند مكابر، قد نزع الله الرأفة والرحمة من قلبه، وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يذكرنا بهذه الوصايا، ويحرم علينا دم المسلم خاصة إذا كان في هذه الأشهر الحرم، وفي الأيام المباركة كعشر ذي الحجة.
فما بال أقوام من بني جلدتنا يتكلمون بألسنتنا لا يبالون بوصية نبيِّهم، ولا يراعون حقَّ غيرهم، يتعلقون بشبهات أوهى من بيت العنكبوت، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان.
وإنَّ ما وقع في الجزائر من تدمير وتخريب وتفجير في مطلع هذا الشهر المبارك لدليل واضح أنَّ من يقوم بمثل هذه التفجيرات لا عقل له ولا دين، فبأي عقل ودين يكون التفجير والتدمير جهاداً؟ وكيف يدعي الجهاد من يقتل الأبرياء من الناس، بل نعرف ممن أصيب في هذه التفجيرات بالصلاة وحضور الجماعات في المساجد، فأي دين يأمر بقتل هؤلاء وغيرهم من المعاهدين والمستأمنين.
روى البخاري في «صحيحه» عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإنَّ ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً»، وفي لفظ: «مَن قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً».
هذا في قتل المعاهد؛ فكيف المسلم الذي يصلي ويصوم ويعبد الله الفرد الصمد، فقد وردت أحاديث كثيرة في تعظيم قتل المسلم:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله! وما هنَّ؟ قال: الشرك بالله، والسِّحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحقِّ، وأكل الرِّبا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزَّحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يزال المؤمن في فُسحة من دينه ما لم يُصب دماً حراماً»، وقال ابن عمر: «إنَّ من وَرْطات الأمور التي لا مخرج لِمَن أوقع نفسَه فيها سفك الدم الحرام بغير حلِّه» رواهما البخاري في «صحيحه».
وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس، فقال: «تُبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفسَ التي حرَّم الله إلاَّ بالحقِّ، فمَن وفَّى منكم فأجره على الله، ومَن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به فهو كفَّارةٌ له، ومَن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه فأمرُه إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذَّبه» رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظ مسلم.
وعن ابن عمر، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَن حَمَلَ علينا السِّلاحَ فليس منَّا» رواه البخاري ومسلم.
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحلُّ دمُ امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلَّا الله وأنِّي رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيِّب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة» رواه البخاري، ومسلم.
وعنه أيضاً: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «سبابُ المسلم فسوق، وقتاله كفر» رواه البخاري، ومسلم.
وعن ابن عباس: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «أبغضُ الناس إلى الله ثلاثة: مُلحدٌ في الحرَم، ومبتغ في الإسلام سنَّة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حقٍّ ليهريق دمه» رواه البخاري.
فهذه الأحاديث وردت في «صحيحي» البخاري ومسلم، ووردت أحاديث في غير الصحيحين تحذر أشد الحذر من قتل المسلم وحرمة دمه وماله، أوردها الإمام المنذري في «الترغيب والترهيب»، وأوردها الألباني في «صحيح الترغيب والتهريب»، ومنها:
عن البراء رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لزوال الدنيا أهونُ على الله من قتل مؤمن بغير حق، ولو أنَّ أهلَ سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله النار ».
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم».
وعن بُريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا».
وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أنَّ أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبَّهم الله في النار».
وعن أبي بكرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «لو أنَّ أهل السموات والأرض اجتمعوا على قتل مسلم لكبَّهم الله جميعاً على وجوههم في النار».
وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلُّ ذنب عسى الله أن يغفره، إلا الرجل يموت كافراً، أو الرجل يقتل مؤمناً متعمِّداً».
وعن أبي موسى رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أصبح إبليسُ بثَّ جنودَه، فيقول: مَن أخذل اليوم مسلماً أُلبسُه التاج، قال: فيجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى طلَّق امرأته، فيقول: أوشك أن يتزوَّج، ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى عقَّ والديه، فيقول: يوشك أن يبرَّهما، ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى أشرك، فيقول: أنت أنت، ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى قَتَل، فيقول: أنت أنت، ويُلبسه التاج».
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل مؤمناً فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً» رواه أبو داود، ثم روى عن خالد بن دهقان: سألت يحيى بن يحيى الغسَّاني عن قوله: «فاغتبط»، فقال: «الذين يقاتلون في الفتنة، فيقتل أحدهم، فيرى أحدهم أنَّه على هدى لا يستغفر الله، يعني من ذلك».
وعن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج عُنق من النار يتكلَّم، يقول: وُكلتُ اليوم بثلاثة: بكلِّ جبَّار عنيد، ومَن جعل مع الله إلَهاً آخر، ومن قتل نفساً بغير حق، فينطوي عليهم فيقذفهم في غمرات جهنَّم». وانظر للاستزادة كتابَيْ الشيخ عبد المحسن العباد: «بأي عقل ودين يكون التفجير والتدمير جهادا؟!!»، و«بذل النصح والتذكير لبقايا المفتونين بالتكفير والتفجير».
وقد صنف العلماء قديما وحديثا في بيان عظم حرمة دم المسلم، في تعظيم القتل وتحريمه، ولم يبق لجاهل أن يجهل حرمة ذلك، ولا أن يدعي أنه يجاهد في سبيل إعلاء كلمة الله بالتفجير والتدمير، بل ذلك من وساوس الشيطان؛ الذي يلبس أولياءه تاجاً عند فشو القتل والقيام به.
نسأل الله تعالى أن يهدي ضال المسلمين، وأن يردهم إلى الدين الحق ردًّا جميلا، وأن يكف عن المسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن، ويعصم دماءهم وأموالهم، ويعامل القتلة الفجرة بعدله، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يهل علينا شهر ذي الحجة وغيره من الشهور بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما يحبه ويرضاه، والحمد لله رب العالمين.
الرابط:
http://www.rayatalislah.com/kalimah/...-el-horoum.htm
فمن فضل الله تعالى على المسلمين أن جعل لهم مواسم للطاعات تتكرر، يذهب موسم ويجيء آخر، يجدد فيها العبد صلته بخالقه، فبعد أن ودَّع المسلمون شهر الخيرات والبركات، أطلَّ عليهم شهر الحج والمكرمات، وأهلَّ عليهم هلال ذي الحجة بالخير والتوفيق للمرضاة، إذ هو شهر يكثر فيه العمل الصالح من طواف بالبيت العتيق، ووقوف بعرفة، وتلبية، ونحر، وصيام وغير ذلك من صنوف الطاعات والقربات، فيه موسمٌ يجتمع فيه عباد الله على مرضات الله، تتوحد كلمتهم، يلهجون بذكره وإفراده بالعبادة، ذاك هو موسم الخيرات والحج والعبادات، فرضه الله تعالى على عباده مرة في العمر، ووفق فيه من أراد به خيرا لحج بيته العظيم، فيغفر للحجاج، ويعتق رقابهم من النار إذا أخلصوا له حجهم، وأطاعوه كما أمر سبحانه.
وأما من لم يحج من عباده، فلم يتركه ربه هملاً، بل شرع له من الطاعات ما يقربه إليه، من صدقات وبر وصيام، ففضَّل العمل في هذه العشر من ذي الحجة على غيرها من الأيام، بل أقسم الربُّ سبحانه وتعالى بهذه العشر في كتابه لرفعة منزلتها عنده وعلو شأنها، قال تعالى: ﴿وَالْفَجْر وَلَيَالٍ عَشْر﴾، قال غير واحد من السلف: «إنَّ الليالي العشر هي عشر ذي الحجة».
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ـ يعني أيام العشر ـ قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء» رواه البخاري.
وهذه العشر هي جزء من الأشهر الحرم، فذو الحجة من أشهر الله الحرم الذي عظمته العرب في جاهليتها واستمر تعظيمه في الإسلام، بل أوجب الله فيه ركنا من أركان الإسلام وهو الحج إلى بيت الله الحرام.
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم حرمة هذا الشهر ووجوب تعظيمه في آخر حجة حجَّها صلى الله عليه وسلم، بل ذكر تعظيمه وحرمته في مواضع شتى وأماكن متعددة في حجته صلى الله عليه وسلم، وما ذلك إلا ليبين لأمته ويحذرهم أشد الحذر من انتهاك حرمة هذا الشهر، بقتل أو تخريب أو تدمير.
فمما جاء في خطبته التي ألقاها على المسلمين ـ على مَن كان شاهدا معه أو غاب عنه إلى يوم أن نلقى الله تعالى ـ فقال: «إنَّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد! اللهم اشهد! ثلاث مرات».
فحرم دم المسلم وماله، وحرم الربا، وحرم ظلم الناس وأوصى بهذه الوصايا النافعة الجامعة.
وكانت وصاياه هذه في أعظم يوم من أيام الحج، وهو يوم عرفة، ثم أعادها صلى الله عليه وسلم في يوم النحر، وهذا ما يدل على عظم قدر هذه الوصية روى البخاري في «صحيحه» عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب النّاس يوم النّحر فقال: «يا أيّها النّاس! أيّ يومٍ هذا؟ قالوا: يوم حرام؛ قال: فأي بلدٍ هذا؟ قالوا: بلد حرام؛ قال: فأي شهرٍ هذا؟ قالوا: شهر حرام، قال: فإنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا؛ فأعادها مرارًا، ثمّ رفع رأسه فقال: اللهمّ هل بلّغت؛ اللهمّ هل بلّغت.
قال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما: فوالّذي نفسي بيده إنّها لوصيّته إلى أمّته: فليبلغ الشّاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفّارًا يضرب بعضكم رقاب بعضٍ».
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: خطبنا النّبي صلى الله عليه وسلم يوم النّحر، قال: « أتدرون أي يومٍ هذا؟. قلنا: الله ورسوله أعلم! فسكت حتّى ظننّا أنّه سيسمّيه بغير اسمه؛ قال: أليس يوم النّحر؟ قلنا: بلى؛ قال: أي شهرٍ هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! فسكت حتّى ظننّا أنّه سيسمّيه بغير اسمه؛ فقال: أليس ذو الحجّة؟ قلنا: بلى؛ قال: أي بلدٍ هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم؛ فسكت حتّى ظننّا أنّه سيسمّيه بغير اسمه؛ قال: أليست بالبلدة الحرام؟ قلنا: بلى؛ قال: فإنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربّكم؛ ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم؛ قال: اللهمّ اشهد؛ فليبلّغ الشّاهد الغائب، فربّ مبلّغٍ أوعى من سامعٍ، فلا ترجعوا بعدي كفّارًا يضرب بعضكم رقاب بعضٍ».
فهذه وصيته لأمته صلى الله عليه وسلم، والسعيد من تبع وصاياه، وأخذ بما أمر به، والشقي من خالفه وتبع هواه، فأهدر دماء المسلمين، وقتل الأبرياء منهم والعاجزين، فصار ينكل بأبناء أمته، ويسومهم سوء العذاب، والله تعالى يقول في كتابه مشددا ومحذرا من قتل امرئ مؤمن، ومبينا سوء عاقبة من أقدم على قتل المؤمنين: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾، وحرمة دم المسلم أمر معلوم في ديننا الحنيف، لا ينكره إلا معاند مكابر، قد نزع الله الرأفة والرحمة من قلبه، وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يذكرنا بهذه الوصايا، ويحرم علينا دم المسلم خاصة إذا كان في هذه الأشهر الحرم، وفي الأيام المباركة كعشر ذي الحجة.
فما بال أقوام من بني جلدتنا يتكلمون بألسنتنا لا يبالون بوصية نبيِّهم، ولا يراعون حقَّ غيرهم، يتعلقون بشبهات أوهى من بيت العنكبوت، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان.
وإنَّ ما وقع في الجزائر من تدمير وتخريب وتفجير في مطلع هذا الشهر المبارك لدليل واضح أنَّ من يقوم بمثل هذه التفجيرات لا عقل له ولا دين، فبأي عقل ودين يكون التفجير والتدمير جهاداً؟ وكيف يدعي الجهاد من يقتل الأبرياء من الناس، بل نعرف ممن أصيب في هذه التفجيرات بالصلاة وحضور الجماعات في المساجد، فأي دين يأمر بقتل هؤلاء وغيرهم من المعاهدين والمستأمنين.
روى البخاري في «صحيحه» عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإنَّ ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً»، وفي لفظ: «مَن قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً».
هذا في قتل المعاهد؛ فكيف المسلم الذي يصلي ويصوم ويعبد الله الفرد الصمد، فقد وردت أحاديث كثيرة في تعظيم قتل المسلم:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله! وما هنَّ؟ قال: الشرك بالله، والسِّحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحقِّ، وأكل الرِّبا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزَّحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يزال المؤمن في فُسحة من دينه ما لم يُصب دماً حراماً»، وقال ابن عمر: «إنَّ من وَرْطات الأمور التي لا مخرج لِمَن أوقع نفسَه فيها سفك الدم الحرام بغير حلِّه» رواهما البخاري في «صحيحه».
وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس، فقال: «تُبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفسَ التي حرَّم الله إلاَّ بالحقِّ، فمَن وفَّى منكم فأجره على الله، ومَن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به فهو كفَّارةٌ له، ومَن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه فأمرُه إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذَّبه» رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظ مسلم.
وعن ابن عمر، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَن حَمَلَ علينا السِّلاحَ فليس منَّا» رواه البخاري ومسلم.
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحلُّ دمُ امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلَّا الله وأنِّي رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيِّب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة» رواه البخاري، ومسلم.
وعنه أيضاً: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «سبابُ المسلم فسوق، وقتاله كفر» رواه البخاري، ومسلم.
وعن ابن عباس: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «أبغضُ الناس إلى الله ثلاثة: مُلحدٌ في الحرَم، ومبتغ في الإسلام سنَّة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حقٍّ ليهريق دمه» رواه البخاري.
فهذه الأحاديث وردت في «صحيحي» البخاري ومسلم، ووردت أحاديث في غير الصحيحين تحذر أشد الحذر من قتل المسلم وحرمة دمه وماله، أوردها الإمام المنذري في «الترغيب والترهيب»، وأوردها الألباني في «صحيح الترغيب والتهريب»، ومنها:
عن البراء رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لزوال الدنيا أهونُ على الله من قتل مؤمن بغير حق، ولو أنَّ أهلَ سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله النار ».
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم».
وعن بُريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا».
وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أنَّ أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبَّهم الله في النار».
وعن أبي بكرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «لو أنَّ أهل السموات والأرض اجتمعوا على قتل مسلم لكبَّهم الله جميعاً على وجوههم في النار».
وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلُّ ذنب عسى الله أن يغفره، إلا الرجل يموت كافراً، أو الرجل يقتل مؤمناً متعمِّداً».
وعن أبي موسى رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أصبح إبليسُ بثَّ جنودَه، فيقول: مَن أخذل اليوم مسلماً أُلبسُه التاج، قال: فيجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى طلَّق امرأته، فيقول: أوشك أن يتزوَّج، ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى عقَّ والديه، فيقول: يوشك أن يبرَّهما، ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى أشرك، فيقول: أنت أنت، ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى قَتَل، فيقول: أنت أنت، ويُلبسه التاج».
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل مؤمناً فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً» رواه أبو داود، ثم روى عن خالد بن دهقان: سألت يحيى بن يحيى الغسَّاني عن قوله: «فاغتبط»، فقال: «الذين يقاتلون في الفتنة، فيقتل أحدهم، فيرى أحدهم أنَّه على هدى لا يستغفر الله، يعني من ذلك».
وعن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج عُنق من النار يتكلَّم، يقول: وُكلتُ اليوم بثلاثة: بكلِّ جبَّار عنيد، ومَن جعل مع الله إلَهاً آخر، ومن قتل نفساً بغير حق، فينطوي عليهم فيقذفهم في غمرات جهنَّم». وانظر للاستزادة كتابَيْ الشيخ عبد المحسن العباد: «بأي عقل ودين يكون التفجير والتدمير جهادا؟!!»، و«بذل النصح والتذكير لبقايا المفتونين بالتكفير والتفجير».
وقد صنف العلماء قديما وحديثا في بيان عظم حرمة دم المسلم، في تعظيم القتل وتحريمه، ولم يبق لجاهل أن يجهل حرمة ذلك، ولا أن يدعي أنه يجاهد في سبيل إعلاء كلمة الله بالتفجير والتدمير، بل ذلك من وساوس الشيطان؛ الذي يلبس أولياءه تاجاً عند فشو القتل والقيام به.
نسأل الله تعالى أن يهدي ضال المسلمين، وأن يردهم إلى الدين الحق ردًّا جميلا، وأن يكف عن المسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن، ويعصم دماءهم وأموالهم، ويعامل القتلة الفجرة بعدله، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يهل علينا شهر ذي الحجة وغيره من الشهور بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما يحبه ويرضاه، والحمد لله رب العالمين.
الرابط:
http://www.rayatalislah.com/kalimah/...-el-horoum.htm