أشهر الحج وفضائلها ! فضيلة العلامة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان :
الحمد لله على ما خصنا به من الفضل والإكرام ، فما زال يوالي علينا مواسم الخير والإنعام ، ما انتهى شهر رمضان حتى أعقبه بأشهر الحج إلى بيته الحرام . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وأسمائه الحسنى وصفاته العظام ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله . أفضل من صلى وصام ، ووقف بالمشاعر وطاف بالبيت الحرام . صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام . وسلم تسليمًا كثيرًا . أما بعد :
أيها الناس : اتقوا الله تعالى واشكروه على ما شرع لكم من الشرائعِ العظيمة ، وما خصكم به من المواسم الكريمة ، التي تتوالى عليكم كل يوم ، وكل أسبوع ، وكل عام ، وهي شرائع تحمل لكم كل خير ، وتبعد عنكم كل شر .
فالصلاة : تنهى عن الفحشاءِ والمنكر ، ﴿ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ﴾ . [ العنكبوت : 45 ] ، وهو خشوع لله ، وخضوع بين يديه ، واتصال به ، وإقبال عليه ، وهي من أكبر عون للمؤمنين على القيام بأعباء الدنيا والدين ، قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ . [ البقرة : 153 ] .
والزكاة : إحسان ومواسة للفقراء والمعسرين ، وترغيب للمؤلفة قلوبهم في الدين ؛ وإعانة في فكاك الرقاب والغارمين ، وطهرة وتزكية للنفوس والأموال ، فهي مغنم ولا مغرم ، قال تعالى : ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ . [ التوبة : 103 ] . وهي تنمية للمال ، وسبب لإنزال البركة فيه ودفع الآفات عنه . قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ما نقصت صدقة من مال ) ؛ فالمؤمن يعتبر الزكاة : مغنمًا ، لأنه واثق بوعد الله ، والمنافق يعتبرها : مغرمًا ، لأنه لا يؤمن بالله ولا يثق بوعده .
وأما الصيام : فإنه ترك للشهوات والمألوفات ومحبوبات النفس طاعةً لله - عز وجل - ، وهو مع ذلك تربية على الأخلاق الفاضلة وترك للأخلاق الرذيلة ، قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل : إني صائم ، إني صائم ) . [ رواه البخاري ] .
والحج : جهاد في سبيل الله ، ينفق فيه المال ، ويتعب فيه البدن ، وتترك من أجله الأولاد والبلاد إجابة لداعي الله وتلبيةً لندائه على لسان خليله إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - حين قال الله له : ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ . [ الحج : 27 - 29 ] .
عباد الله : ونحن الآن في أشهر الحج التي جعلها الله ميقاتًا للإحرام به والتلبس بنسكه ، قال الله تعالى : ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ﴾ . [ البقرة : 197 ] .
يخبر - تعالى - : أن الحج يقع في أشهر معلومات ، وهي : شوال وذو القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة ، وقال تعالى :
﴿ مَعْلُومَاتٌ ﴾ لأن الناس يعرفونها من عهد إبراهيم وإسماعيل - عليهما الصلاة والسلام - ، فالحج وقته معروف لا يحتاج إلى بيان كما احتاج الصيام والصلاة إلى بيان مواقيتهما .
وقوله تعالى : ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾ . معناه : من أحرم بالحج في هذه الأشهر سواء في أولها أو في وسطها أو في آخرها ، فإن الحج الذي يحرم به يصير فرضًا عليه ، يجب عليه أداؤه بفعل مناسكه ولو كان نفلاً ، فإن الإحرام به يصيره فرضًا عليه لا يجوز عليه رفضه .
وفي قوله تعالى : ﴿ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ . معناه : بيان لآداب المحرم وما يجب عليه أن يجتنبه حال الإحرام ، أي : يجب أن تعظموا الإحرام بالحج وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه من الرفث : وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية . الفسوق : وهو جميع المعاصي ، ومنها محظورات الإحرام . الجدال : وهو المحاورات والمنازعة والمخاصمة ، لأن الجدال يثير الشر ويوقع العداوة ويشغل عن ذكر الله . والمقصود من الحج الذل والانكسار بين يدي الله وعند بيته العتيق ومشاعره المقدسة ، والتقرب إلى الله بالطاعات وترك المعاصي والمحرمات ليكون الحج مبرورًا .
فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله : ( أن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) . ولما كان التقرب إلى الله تعالى لا يتحقق إلا بترك المعاصي وفعل الطاعات فإنه - سبحانه - بعد أن نهى عن المعاصي في الحج أمر بعمل الطاعات ، فقال تعالى : ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ ﴾ . وهذا يتضمن الحث على أفعال الخير خصوصًا في أيام الحج ، وفي تلك البقاع الشريفة والمشاعر المقدسة ، وفي المسجد الحرام ، فإن الحسنات تضاعف فيها أكثر من غيرها كما ثبت أن الصلاة الواحدة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة فيما سواه من المساجد ، لا سيما وقد اجتمع للحاج في هذا المكان وهذا الوقت شرف الزمان وشرف المكان .
ومن الجدل الذي نهى الله عنه في الحج ما كان يجري بين القبائل في الجاهلية في موسم الحج وفي أرض الحرم من التنازعِ والتفاخرِ ومدح آبائهم وقبائلهم حتى حولوا الحج من عبادة إلى نزاع وخصام ، ومن تحصيل فضائل إلى تحصيل جرائم وآثام ، وقد وجِد في زماننا هذا من يريد أن يحيِيِ هذه السنة الجاهلية ، والنخوة الشيطانية . فيحول الحج إلى هتافات ومظاهرات وشعارات ، ورفع صورِ ووثنيات ، وصخبِ ولجاج وإيذاء وترويع للحجاج . وعدم مراعاة لحرمة الحرم والإحرام ، وحرمة تلك الأيام. حيث يقول - سبحانه - : ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ؛ وقال تعالى عن الحرم : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ . [ الحج : 25 ] .
فاللهم من آذى حجيجك وروع عبيدك ، وانتهك حرمة بيتك وألحد في حرمك - بظلم وفودك - ؛ فأذقه من عذابك الأليم ، الذي توعدت به كل ملحد أثيم . إنك على كل شيء قدير ؛ وأنت مولانا نِعم المولى ونِعم النصير . اللهم يا مرسل الطير الأبابيل ، على أصحاب الفيل ، ترميهم بحجارة من سجيل ، حتى جعلتهم كعصف مأكول ، وأذق كل من حاول أن يفعل مثل فعلهم من عذابك الوبيل ، وأنت حسبنا ونعم الوكيل . اللهم أمين ، اللهم آمين .
أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين .
الخطبة الثانية : الحمد لله جعل الأوقات مواسم للطاعات ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وماله من الأسماء والصفات . وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ؛ حث على اغتنام مواسم الخير قبل الفوات ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين يسارعون في الخيرات ، وسلم تسليمًا كثيرًا . أما بعد :
أيها الناس : اتقوا الله تعالى ، واحفظوا أوقاتكم بفعل ما شرع فيها من ابًا مدخرًا ، وأجرها موفرًا ، ولا تكونوا ممن ضيعوا أوقاتهم ، فيتحسرون عند مماتهم ، كما قال الله تعالى : ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ﴾ . [ المؤمنون : 99 ] . فيقال له : ( كلا ) ، أي : لا رجوع إلى الدنيا بعد الممات ، وما تتمناه قد فات وهكذا عباد الله لا يزال فضل الله عليكم يتوالى ، فما إن انقضى شهر الصيام حتى أعقبته أشهر الحج إلى بيت الله الحرام .
فكما أن من صام رمضان وقامه غفر له ما تقدم من ذنبه ، فمن حج البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه .
فما يقضي من عمر المؤمن ساعة من الساعات إلا ولله فيها وظيفة من وظائف الطاعات ، وكل وقت يخليه العبد من طاعة الله فقد خسره ، وكل ساعةٍ يغفل فيها عن ذكر الله تكون عليه يوم القيامة حسرةً وترةً ، ومن عمل طاعة من الطاعات فعلامة قبولها : أن يصلها بطاعة أخرى ، وعلامة ردها : أن يتبعها بمعصية تكون عاقبتها خسرًا . وما أحسن الحسنة بعد السيئة تمحوها ، وأحسن منها الحسنة بعد الحسنة تتلوها ، قال الحسن - رحمه الله - : ( إن الله لم يجعل لعملِ المؤمن أجلاً دون الموت ، ثم قرأ : ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ . [ الحجر : 99 ] ... ) .
واحفظوا - رحمكم الله - أوقاتكم فيما يسركم . ولا تضيعوه فيما يضركم ، فإن خيركم من طال عمره وحسن عمله .
فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا : أن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها ، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ ، شذ في النار ، واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال - عز وعلا - : ﴿ إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ . [ الأحزاب : 56 ] .
منقول
الحمد لله على ما خصنا به من الفضل والإكرام ، فما زال يوالي علينا مواسم الخير والإنعام ، ما انتهى شهر رمضان حتى أعقبه بأشهر الحج إلى بيته الحرام . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وأسمائه الحسنى وصفاته العظام ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله . أفضل من صلى وصام ، ووقف بالمشاعر وطاف بالبيت الحرام . صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام . وسلم تسليمًا كثيرًا . أما بعد :
أيها الناس : اتقوا الله تعالى واشكروه على ما شرع لكم من الشرائعِ العظيمة ، وما خصكم به من المواسم الكريمة ، التي تتوالى عليكم كل يوم ، وكل أسبوع ، وكل عام ، وهي شرائع تحمل لكم كل خير ، وتبعد عنكم كل شر .
فالصلاة : تنهى عن الفحشاءِ والمنكر ، ﴿ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ﴾ . [ العنكبوت : 45 ] ، وهو خشوع لله ، وخضوع بين يديه ، واتصال به ، وإقبال عليه ، وهي من أكبر عون للمؤمنين على القيام بأعباء الدنيا والدين ، قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ . [ البقرة : 153 ] .
والزكاة : إحسان ومواسة للفقراء والمعسرين ، وترغيب للمؤلفة قلوبهم في الدين ؛ وإعانة في فكاك الرقاب والغارمين ، وطهرة وتزكية للنفوس والأموال ، فهي مغنم ولا مغرم ، قال تعالى : ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ . [ التوبة : 103 ] . وهي تنمية للمال ، وسبب لإنزال البركة فيه ودفع الآفات عنه . قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ما نقصت صدقة من مال ) ؛ فالمؤمن يعتبر الزكاة : مغنمًا ، لأنه واثق بوعد الله ، والمنافق يعتبرها : مغرمًا ، لأنه لا يؤمن بالله ولا يثق بوعده .
وأما الصيام : فإنه ترك للشهوات والمألوفات ومحبوبات النفس طاعةً لله - عز وجل - ، وهو مع ذلك تربية على الأخلاق الفاضلة وترك للأخلاق الرذيلة ، قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل : إني صائم ، إني صائم ) . [ رواه البخاري ] .
والحج : جهاد في سبيل الله ، ينفق فيه المال ، ويتعب فيه البدن ، وتترك من أجله الأولاد والبلاد إجابة لداعي الله وتلبيةً لندائه على لسان خليله إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - حين قال الله له : ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ . [ الحج : 27 - 29 ] .
عباد الله : ونحن الآن في أشهر الحج التي جعلها الله ميقاتًا للإحرام به والتلبس بنسكه ، قال الله تعالى : ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ﴾ . [ البقرة : 197 ] .
يخبر - تعالى - : أن الحج يقع في أشهر معلومات ، وهي : شوال وذو القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة ، وقال تعالى :
﴿ مَعْلُومَاتٌ ﴾ لأن الناس يعرفونها من عهد إبراهيم وإسماعيل - عليهما الصلاة والسلام - ، فالحج وقته معروف لا يحتاج إلى بيان كما احتاج الصيام والصلاة إلى بيان مواقيتهما .
وقوله تعالى : ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾ . معناه : من أحرم بالحج في هذه الأشهر سواء في أولها أو في وسطها أو في آخرها ، فإن الحج الذي يحرم به يصير فرضًا عليه ، يجب عليه أداؤه بفعل مناسكه ولو كان نفلاً ، فإن الإحرام به يصيره فرضًا عليه لا يجوز عليه رفضه .
وفي قوله تعالى : ﴿ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ . معناه : بيان لآداب المحرم وما يجب عليه أن يجتنبه حال الإحرام ، أي : يجب أن تعظموا الإحرام بالحج وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه من الرفث : وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية . الفسوق : وهو جميع المعاصي ، ومنها محظورات الإحرام . الجدال : وهو المحاورات والمنازعة والمخاصمة ، لأن الجدال يثير الشر ويوقع العداوة ويشغل عن ذكر الله . والمقصود من الحج الذل والانكسار بين يدي الله وعند بيته العتيق ومشاعره المقدسة ، والتقرب إلى الله بالطاعات وترك المعاصي والمحرمات ليكون الحج مبرورًا .
فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله : ( أن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) . ولما كان التقرب إلى الله تعالى لا يتحقق إلا بترك المعاصي وفعل الطاعات فإنه - سبحانه - بعد أن نهى عن المعاصي في الحج أمر بعمل الطاعات ، فقال تعالى : ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ ﴾ . وهذا يتضمن الحث على أفعال الخير خصوصًا في أيام الحج ، وفي تلك البقاع الشريفة والمشاعر المقدسة ، وفي المسجد الحرام ، فإن الحسنات تضاعف فيها أكثر من غيرها كما ثبت أن الصلاة الواحدة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة فيما سواه من المساجد ، لا سيما وقد اجتمع للحاج في هذا المكان وهذا الوقت شرف الزمان وشرف المكان .
ومن الجدل الذي نهى الله عنه في الحج ما كان يجري بين القبائل في الجاهلية في موسم الحج وفي أرض الحرم من التنازعِ والتفاخرِ ومدح آبائهم وقبائلهم حتى حولوا الحج من عبادة إلى نزاع وخصام ، ومن تحصيل فضائل إلى تحصيل جرائم وآثام ، وقد وجِد في زماننا هذا من يريد أن يحيِيِ هذه السنة الجاهلية ، والنخوة الشيطانية . فيحول الحج إلى هتافات ومظاهرات وشعارات ، ورفع صورِ ووثنيات ، وصخبِ ولجاج وإيذاء وترويع للحجاج . وعدم مراعاة لحرمة الحرم والإحرام ، وحرمة تلك الأيام. حيث يقول - سبحانه - : ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ؛ وقال تعالى عن الحرم : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ . [ الحج : 25 ] .
فاللهم من آذى حجيجك وروع عبيدك ، وانتهك حرمة بيتك وألحد في حرمك - بظلم وفودك - ؛ فأذقه من عذابك الأليم ، الذي توعدت به كل ملحد أثيم . إنك على كل شيء قدير ؛ وأنت مولانا نِعم المولى ونِعم النصير . اللهم يا مرسل الطير الأبابيل ، على أصحاب الفيل ، ترميهم بحجارة من سجيل ، حتى جعلتهم كعصف مأكول ، وأذق كل من حاول أن يفعل مثل فعلهم من عذابك الوبيل ، وأنت حسبنا ونعم الوكيل . اللهم أمين ، اللهم آمين .
أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين .
الخطبة الثانية : الحمد لله جعل الأوقات مواسم للطاعات ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وماله من الأسماء والصفات . وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ؛ حث على اغتنام مواسم الخير قبل الفوات ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين يسارعون في الخيرات ، وسلم تسليمًا كثيرًا . أما بعد :
أيها الناس : اتقوا الله تعالى ، واحفظوا أوقاتكم بفعل ما شرع فيها من ابًا مدخرًا ، وأجرها موفرًا ، ولا تكونوا ممن ضيعوا أوقاتهم ، فيتحسرون عند مماتهم ، كما قال الله تعالى : ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ﴾ . [ المؤمنون : 99 ] . فيقال له : ( كلا ) ، أي : لا رجوع إلى الدنيا بعد الممات ، وما تتمناه قد فات وهكذا عباد الله لا يزال فضل الله عليكم يتوالى ، فما إن انقضى شهر الصيام حتى أعقبته أشهر الحج إلى بيت الله الحرام .
فكما أن من صام رمضان وقامه غفر له ما تقدم من ذنبه ، فمن حج البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه .
فما يقضي من عمر المؤمن ساعة من الساعات إلا ولله فيها وظيفة من وظائف الطاعات ، وكل وقت يخليه العبد من طاعة الله فقد خسره ، وكل ساعةٍ يغفل فيها عن ذكر الله تكون عليه يوم القيامة حسرةً وترةً ، ومن عمل طاعة من الطاعات فعلامة قبولها : أن يصلها بطاعة أخرى ، وعلامة ردها : أن يتبعها بمعصية تكون عاقبتها خسرًا . وما أحسن الحسنة بعد السيئة تمحوها ، وأحسن منها الحسنة بعد الحسنة تتلوها ، قال الحسن - رحمه الله - : ( إن الله لم يجعل لعملِ المؤمن أجلاً دون الموت ، ثم قرأ : ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ . [ الحجر : 99 ] ... ) .
واحفظوا - رحمكم الله - أوقاتكم فيما يسركم . ولا تضيعوه فيما يضركم ، فإن خيركم من طال عمره وحسن عمله .
فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا : أن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها ، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ ، شذ في النار ، واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال - عز وعلا - : ﴿ إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ . [ الأحزاب : 56 ] .
منقول