مدرسة التيسير... خطر كبير
من المصائب التي مُنيت بها الأمة في هذه الأزمان خاصة، ظهور ما يُسمى بــ «مدرسة التيسير» والتي في حقيقتها تتبع رخص الفقهاء والإفتاء بها، والمراد بالرخصة هنا هو الأخذ بأهون أقوال العلماء في مسائل الخلاف بغض النظر عن الدليل، وقد افتتن فئام من الجهلة بهذا الأمر، وهم في حقيقة فعلهم يُحكًّمون أهواءهم ورغباتهم في مسائل الشرع، وأعظم منهم أن يأتي متصدر للفتوى ليتخذ تتبع رخص الفقهاء- وهو ما يسميه بالتيسير- منهجاً عاماً في الإفتاء، وطريقة لكسب شعبية عند الجهلة والغوغاء!! فتراه في كثير من الحوادث يرجع إلى أي كتاب من كتب الفقه التي تذكر أقوال العلماء الصحيح والضعيف والشاذ والمردود منها، وسواء صحة نسبته لذلك العالم أم لا، وسواء خالف صريح السنة أم لا، المهم أنه أفتى به فلان من العلماء، فيأخذ من الأقوال ما يوافق هواه أو يوافق رغبة الجماهير فيفتي به، وما عَلًمَ أن هذا هدم للشريعة في قلوب الناس، واستهانة بها، إذ لا تكاد تجد باباً من أبواب الفقه إلا وقد اختُلف في مسائل فيه، والغريب أنه إذا أنكر عليه مُنْكًري تعلَّل بأنه لم يأت به من قًبَل نفسه بل ذكره الفقهاء في كتب الخلاف وأفتى به فلان أو فلان، وترك صريح السنة خلافه ظهرياً، وأصبح المفتي يُلفق مذهباً جديداً على هواه وقياسه وعلى حسب ما يطلبه المستمعون، ولا شك أن هذا الأمر تترتب عليه مفاسد كثيرة جداً منها ذهاب هيبة الشريعة من النفوس حتى تصبح لعبة في أيدي المتصدرين للفتيا لا سيما من مشايخ (القنوات الفضائية)!
ومن مفاسد تتبع الرخص الانسلاخ من الدين، قال إبراهيم التيمي (ت: 143هـ):«لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله».
قال ابن عبد البر المالكي (ت: 463هـ) مُعقباً:«هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا» [جامع بيان العلم وفضله: 2/927].
وقال الأوزاعي (ت: 157هـ):«من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام» [السير للذهبي- 7/125].
وهو دليل على ضعف الدين، قال ابن حزم الظاهري (ت: 456هـ) في طبقات المختلفين:«وطبقة أخرى وهم قوم بلغت بهم رًقَّةُ الدين وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كل قائل، فهم يأخذون ما كان رخصة من قول كل عالم مقلدين له غير طالبين ما أوجبه النص عن الله تعالى وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم» [الإحكام في أصول الأحكام- 2/65].
وقال:«واتفقوا- يعني الفقهاء- على أنه لا يحل لمفتي ولا لقاضي أن يحكم بما يشتهي مما ذكرنا في قصة، وبما اشتهى مما يخالف ذلك الحكم في أخرى مثلها، وإن كان كلا القولين مما قال به جماعة من العلماء، ما لم يكن ذلك لرجوع عن خطأ لاح له إلى صواب بان له» [مراتب الإجماع- 58].
وقال الإمام النووي الشافعي (ت: 676هـ):«وليس للمفتي والعامل على مذهب الشافعي في المسألة ذات الوجهين أو القولين أن يفتي أو يعمل بما يشاء منهما في غير نظر، وهذا لا خلاف فيه» [روضة الطالبين- 11/111].
وسُئل شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728هـ) عن مقولة ابن حمدان «من التزم مذهبا أُنكًر عليه مخالفته بغير دليل ولا تقليد..« فأجاب بقوله:« هذا يُراد به شيئان:
أحدهما: أن من التزم مذهبا معينا ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه، ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك، ومن غير عذر شرعي يُبيح له ما فعله فإن يكون متبعا لهواه، وعاملا بغير اجتهاد ولا تقليد، فاعلا للمحرم بغير عذر شرعي، فهذا منكر...» [الفتاوى الكبرى- 2/237].
وأقوال العلماء كثيرة جدا في هذا الباب كلها تنهي عن تتبع رخص الفقهاء والأخذ بما تهوى الأنفس وهو ما يُسمى الآن بــ «التيسير».
ومسائل الخلاف فيها ضابط قرآني ينفي إتباع الهوى، وهو قوله تعالى (فَإًن تَنَازَعْتُمْ فًي شَيْء فَرُدُّوهُ إًلَى اللّهً وَالرَّسُولً إًن كُنتُمْ تُؤْمًنُونَ بًاللّهً وَالْيَوْمً الآخًرً ذَلًكَ خَيْر وَأَحْسَنُ تَأْوًيلاً) [النساء-59].
فيجب على المتصدرين للفتيا أن يتقوا الله عز وجل وأن يفتوا بما يوافق الشرع وبما دلت عليه الأدلة، وليس معنى أن الدين يسر أن نأخذ بما يوافق رغباتنا وأهوائنا، فإن الجنة ثمنها غالي، ولا يمكن أن يكون الثمن بإتباع الأهواء والسير خلف رغبات النفوس، فقد حُفت الجنة بالمكاره كما حُفت النار بالشهوات، فلا بد من كبح رغبات النفس.
والدين يُسر نعم، وكل ما أمرنا الله به يُسر حتى ولو رأت النفس أنه ثقيل عليها فهو أيسر من غيره من الأوامر التي أُمرت بها الأمم قبلنا، وهو قليل- أيضا- بالنسبة للجزاء العظيم والثواب الكبير وهو الجنة التي عرضها السماوات والأرض، وليس معنى التيسير التحلل من أوامر الشرع والأخذ بالشاذ والضعيف من أقوال العلماء. هذا والله تعالى أعلم.
دغش بن شبيب العجمي
تاريخ النشر: الاثنين 26/3/2007
جريدة الوطن الكويتية
من المصائب التي مُنيت بها الأمة في هذه الأزمان خاصة، ظهور ما يُسمى بــ «مدرسة التيسير» والتي في حقيقتها تتبع رخص الفقهاء والإفتاء بها، والمراد بالرخصة هنا هو الأخذ بأهون أقوال العلماء في مسائل الخلاف بغض النظر عن الدليل، وقد افتتن فئام من الجهلة بهذا الأمر، وهم في حقيقة فعلهم يُحكًّمون أهواءهم ورغباتهم في مسائل الشرع، وأعظم منهم أن يأتي متصدر للفتوى ليتخذ تتبع رخص الفقهاء- وهو ما يسميه بالتيسير- منهجاً عاماً في الإفتاء، وطريقة لكسب شعبية عند الجهلة والغوغاء!! فتراه في كثير من الحوادث يرجع إلى أي كتاب من كتب الفقه التي تذكر أقوال العلماء الصحيح والضعيف والشاذ والمردود منها، وسواء صحة نسبته لذلك العالم أم لا، وسواء خالف صريح السنة أم لا، المهم أنه أفتى به فلان من العلماء، فيأخذ من الأقوال ما يوافق هواه أو يوافق رغبة الجماهير فيفتي به، وما عَلًمَ أن هذا هدم للشريعة في قلوب الناس، واستهانة بها، إذ لا تكاد تجد باباً من أبواب الفقه إلا وقد اختُلف في مسائل فيه، والغريب أنه إذا أنكر عليه مُنْكًري تعلَّل بأنه لم يأت به من قًبَل نفسه بل ذكره الفقهاء في كتب الخلاف وأفتى به فلان أو فلان، وترك صريح السنة خلافه ظهرياً، وأصبح المفتي يُلفق مذهباً جديداً على هواه وقياسه وعلى حسب ما يطلبه المستمعون، ولا شك أن هذا الأمر تترتب عليه مفاسد كثيرة جداً منها ذهاب هيبة الشريعة من النفوس حتى تصبح لعبة في أيدي المتصدرين للفتيا لا سيما من مشايخ (القنوات الفضائية)!
ومن مفاسد تتبع الرخص الانسلاخ من الدين، قال إبراهيم التيمي (ت: 143هـ):«لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله».
قال ابن عبد البر المالكي (ت: 463هـ) مُعقباً:«هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا» [جامع بيان العلم وفضله: 2/927].
وقال الأوزاعي (ت: 157هـ):«من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام» [السير للذهبي- 7/125].
وهو دليل على ضعف الدين، قال ابن حزم الظاهري (ت: 456هـ) في طبقات المختلفين:«وطبقة أخرى وهم قوم بلغت بهم رًقَّةُ الدين وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كل قائل، فهم يأخذون ما كان رخصة من قول كل عالم مقلدين له غير طالبين ما أوجبه النص عن الله تعالى وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم» [الإحكام في أصول الأحكام- 2/65].
وقال:«واتفقوا- يعني الفقهاء- على أنه لا يحل لمفتي ولا لقاضي أن يحكم بما يشتهي مما ذكرنا في قصة، وبما اشتهى مما يخالف ذلك الحكم في أخرى مثلها، وإن كان كلا القولين مما قال به جماعة من العلماء، ما لم يكن ذلك لرجوع عن خطأ لاح له إلى صواب بان له» [مراتب الإجماع- 58].
وقال الإمام النووي الشافعي (ت: 676هـ):«وليس للمفتي والعامل على مذهب الشافعي في المسألة ذات الوجهين أو القولين أن يفتي أو يعمل بما يشاء منهما في غير نظر، وهذا لا خلاف فيه» [روضة الطالبين- 11/111].
وسُئل شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728هـ) عن مقولة ابن حمدان «من التزم مذهبا أُنكًر عليه مخالفته بغير دليل ولا تقليد..« فأجاب بقوله:« هذا يُراد به شيئان:
أحدهما: أن من التزم مذهبا معينا ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه، ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك، ومن غير عذر شرعي يُبيح له ما فعله فإن يكون متبعا لهواه، وعاملا بغير اجتهاد ولا تقليد، فاعلا للمحرم بغير عذر شرعي، فهذا منكر...» [الفتاوى الكبرى- 2/237].
وأقوال العلماء كثيرة جدا في هذا الباب كلها تنهي عن تتبع رخص الفقهاء والأخذ بما تهوى الأنفس وهو ما يُسمى الآن بــ «التيسير».
ومسائل الخلاف فيها ضابط قرآني ينفي إتباع الهوى، وهو قوله تعالى (فَإًن تَنَازَعْتُمْ فًي شَيْء فَرُدُّوهُ إًلَى اللّهً وَالرَّسُولً إًن كُنتُمْ تُؤْمًنُونَ بًاللّهً وَالْيَوْمً الآخًرً ذَلًكَ خَيْر وَأَحْسَنُ تَأْوًيلاً) [النساء-59].
فيجب على المتصدرين للفتيا أن يتقوا الله عز وجل وأن يفتوا بما يوافق الشرع وبما دلت عليه الأدلة، وليس معنى أن الدين يسر أن نأخذ بما يوافق رغباتنا وأهوائنا، فإن الجنة ثمنها غالي، ولا يمكن أن يكون الثمن بإتباع الأهواء والسير خلف رغبات النفوس، فقد حُفت الجنة بالمكاره كما حُفت النار بالشهوات، فلا بد من كبح رغبات النفس.
والدين يُسر نعم، وكل ما أمرنا الله به يُسر حتى ولو رأت النفس أنه ثقيل عليها فهو أيسر من غيره من الأوامر التي أُمرت بها الأمم قبلنا، وهو قليل- أيضا- بالنسبة للجزاء العظيم والثواب الكبير وهو الجنة التي عرضها السماوات والأرض، وليس معنى التيسير التحلل من أوامر الشرع والأخذ بالشاذ والضعيف من أقوال العلماء. هذا والله تعالى أعلم.
دغش بن شبيب العجمي
تاريخ النشر: الاثنين 26/3/2007
جريدة الوطن الكويتية