مناظرة شعيب بن أبي سعيد لراهب في الشام
واسمع في ذلك أثراً غريباً حكاه ابن وهب من طريق إبراهيم بن نشيط :
قال : سمعت شعيب بن أبي سعيد يحدث : أن راهباً كان بالشام من علمائهم وكان ينزل مرة في السنة فتجتمع إليه الرهبان ليعلمهم ما أشكل عليهم من دينهم فأتاه خالد بن يزيد بن معاوية فيمن جاءه . فقال له الراهب : أمن علمائهم أنت ؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني . قال الراهب : أليس تقولون : إنكم تأكلون في الجنة وتشربون ثم لا يخرج منكم أذى ؟ قال خالد : بلى ! قال الراهب : افلهذا مثل تعرفونه في الدنيا ؟ قال : نعم ! الصبي يأكل في بطن أمه من طعامها . ويشرب من شرابها ثم لا يخرج منه أذى . قال الراهب لخالد : أليس تقول إنك لست من علمائهم ؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني : قال : افليس تقولون : إن في الجنة فواكه تأكلون منها لا ينقص منها شيء ؟ قال خالد : بلى ! أفلهذا مثل في الدنيا تعرفونه ؟ قال خالد : نعم ! الكتاب يكتب منه كل شيء أحد ثم لا ينقص منه شيء ، قال الراهب : أليس تقول : إنك لست من علمائهم ؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني . قال خالد : فتمعر وجهه ثم قال : إن هذا من أمة بسط لها في الحسنات ما لم يبسط لأحد . انتهى المقصود من الخبر .
وهو ينبه على أن ذلك الأصل الذي يظهر من أول الأمر أنه غير معتاد له أصل في المعتاد ،و هو تنزل للمنكر غير لازم ، ولكنه مقرب لفهم من قصر فهمه عن إدراك الحقائق الواضحات .
فعلى هذا يصح قضاء العقل في عادي بانخرافه مع أن كون العادي عادياً مطرداً غير صحيح أيضاً ، فكل عادي يفرض العقل فيه خرق العادة فليس للعقل فيه إنكار ، إذ قد ثبت في بعض الأنواع التي اختص الباري باختراعها والعقل لا يفرق بين خلق وخلق ، فلا يمكن إلا الحكم بذلك الإمكان على كل مخلوق ، ولذلك قال بعض المحققين من أهل الاعتبار : سبحان من ربط الأسباب بمسبباتها وخرق العوائد ليتفطن العارفون تنبيهاً على هذا المعنى المقرر .
حكمة ربط الأسباب بالمسببات وحكمة خرق العوائد
فهو أصل اقتضى للعاقل أمرين :
أحدهما : أن لا يجعل العقل حاكماً بإطلاق ، وقد ثبت عليه حاكم بإطلاق وهو الشرع ، بل الواجب عليه أن يقدم ما حقه التقديم ـ وهو الشرع ـ ويؤخر ما حقه التأخير ـ وهو نظر العقل ـ لأنه لا يصح تقديم الناقص حاكماً على الكامل ، لأنه خلاف المعقول والمنقول ، بل ضد القضية هو الموافق للأدلة فلا معدل عنه ، ولذلك قال : اجعل الشرع في يمينك والعقل في يسارك ، تنبيهاً على تقدم الشرع على العقل .
العقل غير حاكم بإطلاق . والشرع حاكم عليه بإطلاق ، خرق العوائد لا ينبغي للعقل إنكاره بإطلاق
والثاني : أنه إذا وجد في الشرع أخباراً تقتضي ظاهراً خرق لعادة الجارية المعتادة ، فلا ينبغي له أن يقدم بين يديه الإنكار يإطلاق ، بل له سعة في أحد أمرين : إما أن يصدق به على حسب ما جاء ويكل علمه إلى عالمه . وهو ظاهر قوله تعالى : "والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا" يعني الواضح المحكم ، والمتشابه المجمل ، إذ لا يلزمه العلم به ، ولو لزم العلم به لجعل له طريق إلى معرفته ، وإلا كان تكليفاً بما لا يطاق . وإما أن يتأوله على ما يمكن حمله عليه مع الإقرار بمقتضى الظاهر ، لأن إنكاره إنكار لخرق العادة فيه .
وعلى هذا السبيل يجري حكم الصفات التي وصفت الباري بها نفسه ، لأن من نفاها نفى شبه صفات المخلوقين ، وهذا منفي عند الجمهور ، فبقي الخلاف في نفي عين الصفة أو إثباتها ، فالمثبت أثبتها على شرط نفي التشبيه ، والمنكر لأن يكون ثم صفة غير شبيهة بصفات المخلوقين منكر لأن يثبت أمر إلا على وفق المعتاد .
فإن قالوا : هذا لازم فيما تنكره العقول بديهة ، كقوله :
"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ، فإن الجميع أنكروا ظاهره ، إذ العقل والحس يشهدان بأنها غير مرفوعة ، وأنت تقول :اعتقدوا أنها مرفوعة ، وتأولوا الكلام .
المصدر/ كتاب الأعتصام صفحة 463
للعلامة المحقق أبي إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد الخمي الشــاطبي
رحمه الله
كتبه أخوكم / أبوأسيف
غفر الله لــه ولوالديه
واسمع في ذلك أثراً غريباً حكاه ابن وهب من طريق إبراهيم بن نشيط :
قال : سمعت شعيب بن أبي سعيد يحدث : أن راهباً كان بالشام من علمائهم وكان ينزل مرة في السنة فتجتمع إليه الرهبان ليعلمهم ما أشكل عليهم من دينهم فأتاه خالد بن يزيد بن معاوية فيمن جاءه . فقال له الراهب : أمن علمائهم أنت ؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني . قال الراهب : أليس تقولون : إنكم تأكلون في الجنة وتشربون ثم لا يخرج منكم أذى ؟ قال خالد : بلى ! قال الراهب : افلهذا مثل تعرفونه في الدنيا ؟ قال : نعم ! الصبي يأكل في بطن أمه من طعامها . ويشرب من شرابها ثم لا يخرج منه أذى . قال الراهب لخالد : أليس تقول إنك لست من علمائهم ؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني : قال : افليس تقولون : إن في الجنة فواكه تأكلون منها لا ينقص منها شيء ؟ قال خالد : بلى ! أفلهذا مثل في الدنيا تعرفونه ؟ قال خالد : نعم ! الكتاب يكتب منه كل شيء أحد ثم لا ينقص منه شيء ، قال الراهب : أليس تقول : إنك لست من علمائهم ؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني . قال خالد : فتمعر وجهه ثم قال : إن هذا من أمة بسط لها في الحسنات ما لم يبسط لأحد . انتهى المقصود من الخبر .
وهو ينبه على أن ذلك الأصل الذي يظهر من أول الأمر أنه غير معتاد له أصل في المعتاد ،و هو تنزل للمنكر غير لازم ، ولكنه مقرب لفهم من قصر فهمه عن إدراك الحقائق الواضحات .
فعلى هذا يصح قضاء العقل في عادي بانخرافه مع أن كون العادي عادياً مطرداً غير صحيح أيضاً ، فكل عادي يفرض العقل فيه خرق العادة فليس للعقل فيه إنكار ، إذ قد ثبت في بعض الأنواع التي اختص الباري باختراعها والعقل لا يفرق بين خلق وخلق ، فلا يمكن إلا الحكم بذلك الإمكان على كل مخلوق ، ولذلك قال بعض المحققين من أهل الاعتبار : سبحان من ربط الأسباب بمسبباتها وخرق العوائد ليتفطن العارفون تنبيهاً على هذا المعنى المقرر .
حكمة ربط الأسباب بالمسببات وحكمة خرق العوائد
فهو أصل اقتضى للعاقل أمرين :
أحدهما : أن لا يجعل العقل حاكماً بإطلاق ، وقد ثبت عليه حاكم بإطلاق وهو الشرع ، بل الواجب عليه أن يقدم ما حقه التقديم ـ وهو الشرع ـ ويؤخر ما حقه التأخير ـ وهو نظر العقل ـ لأنه لا يصح تقديم الناقص حاكماً على الكامل ، لأنه خلاف المعقول والمنقول ، بل ضد القضية هو الموافق للأدلة فلا معدل عنه ، ولذلك قال : اجعل الشرع في يمينك والعقل في يسارك ، تنبيهاً على تقدم الشرع على العقل .
العقل غير حاكم بإطلاق . والشرع حاكم عليه بإطلاق ، خرق العوائد لا ينبغي للعقل إنكاره بإطلاق
والثاني : أنه إذا وجد في الشرع أخباراً تقتضي ظاهراً خرق لعادة الجارية المعتادة ، فلا ينبغي له أن يقدم بين يديه الإنكار يإطلاق ، بل له سعة في أحد أمرين : إما أن يصدق به على حسب ما جاء ويكل علمه إلى عالمه . وهو ظاهر قوله تعالى : "والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا" يعني الواضح المحكم ، والمتشابه المجمل ، إذ لا يلزمه العلم به ، ولو لزم العلم به لجعل له طريق إلى معرفته ، وإلا كان تكليفاً بما لا يطاق . وإما أن يتأوله على ما يمكن حمله عليه مع الإقرار بمقتضى الظاهر ، لأن إنكاره إنكار لخرق العادة فيه .
وعلى هذا السبيل يجري حكم الصفات التي وصفت الباري بها نفسه ، لأن من نفاها نفى شبه صفات المخلوقين ، وهذا منفي عند الجمهور ، فبقي الخلاف في نفي عين الصفة أو إثباتها ، فالمثبت أثبتها على شرط نفي التشبيه ، والمنكر لأن يكون ثم صفة غير شبيهة بصفات المخلوقين منكر لأن يثبت أمر إلا على وفق المعتاد .
فإن قالوا : هذا لازم فيما تنكره العقول بديهة ، كقوله :
"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ، فإن الجميع أنكروا ظاهره ، إذ العقل والحس يشهدان بأنها غير مرفوعة ، وأنت تقول :اعتقدوا أنها مرفوعة ، وتأولوا الكلام .
المصدر/ كتاب الأعتصام صفحة 463
للعلامة المحقق أبي إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد الخمي الشــاطبي
رحمه الله
كتبه أخوكم / أبوأسيف
غفر الله لــه ولوالديه