مختصر من إيقاف النبيل على حكم التمثيل
للشيخ عبد السلام برجس - رحمه الله تعالى -
الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إن قضية (( التمثيل )) قضية طال الجدل حولها , وتباينت آراء الناس فيها فمن مجوز على الإطلاق , ومن محرم , ومن مقيد التحريم بصور و الجواز بأخرى.
والتمثيل : هو محاكاة شخص لآخر حقيقي أو خيالي قصدًا.
وينقسم التمثيل من حيث موضوعه إلى قسمين .
هما:
1- التمثيل الديني .
2- والتمثيل غير الديني .
وتسميتنا للقسم الأول تمثيلاً دينياً لا تدل على أمر الدين به, ولا إباحته له .
ولكن تمشياً مع عرف الناس , حتى يتضح الحكم الشرعي الذي نحن بصدده في شأن التمثيل .
وهذا القسم ( التمثيل الديني ) هو الذي تطرق له المؤلف بالبحث لأن الخلاف القائم على أشده إنما هو في هذا القسم . ولأن إسقاطه يقتضي إسقاط غيره من باب أولى.
والتمثيل عادة وثنية يونانية ارتبط بالاحتفالات الدينية الوثنية في بلاد اليونان , ومصر , وسوريا .
التي كانت تدور حول عقائدهم وأساطيرهم الوثنية.
ثم نشأ عند النصارى فهو طقوس نصرانية كنسية. ثم أخذته الحضارة الغربية الكافرة. وهو من خصائصهم وشعاراتهم .
أما العرب فلم يوجد المسرح عندهم في جاهليتهم .
ولم يعرف المسلمون هذا (( العمل )) منذ قيام دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
كما أنهم إبان الدولة العباسية نقلوا جميع العلوم اليونانية ماخلا الأدب فإنهم استغنوا بما لديهم , فلم تصل إليهم ملاحم اليونان , ولا قصصهم التمثيلية .
ولو قدر لها الوصول لما كان الحكم الإسلامي يوم ذاك يعمل لإحياء التمثيل , شأن الكنيسة المسيحية في القرون الوسطى لأن التمثيل عندهم تزوير لعظماء الرجال .
فالتمثيل بمعناه الحديث لم تعرفه العرب ولا اللغة العربية إلا في أواسط القرن الماضي بعد الانفتاح على العالم الغربي والإعجاب بحضارته .
وأدلة تحريم التمثيل عديدة , وقد أفتى بحرمة إقامة التمثيل المسمى بـ (( الديني )) جماعة من العلماء.
ومنهم :
الشيخ العلامة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الشيخ العلامة المحدث: محمد ناصر الدين الألباني
الشيخ العلامة: عبد الرزاق عفيفي
الشيخ العلامة: حماد الأنصاري
الشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
الشيخ : ربيع بن هادي المدخلي
(وآخرون ... )
من أدلة التحريم :
الدليل الأول : أن التمثيل شعيرة من شعائر الوثنية اليونانية , والكنيسة النصرانية , يقوم بها أولئك تقربًا إلى آلهتهم , وهؤلاء إحياءً لسيرة عيسى –عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم- فهو موروث منهم و مقتبس من طقوسهم وشعائرهم .
ولم يعرفه المسلمون لاتعبدًا ولا عادةً إلا من وقت قريب.
ومن القواعد المقررة أن مخالفة الكفار في تقاليدهم وعاداتهم مطلب شرعي ومقصد إسلامي , فكيف بعباداتهم وشعائرهم؟
قال تعالى (( ومنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ )) (المائدة:51)
وقال تعالى: (( فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَااسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا )) (التوبة:69) .
وفي المسند وسنن أبي داود عن ابن عمر-رضي الله عنهما-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( ومن تشبه بقوم فهو منهم )).
قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية: وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم,وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم...
وبكل حال يقتضي تحريم التشبه , بعلة كونه تشبها. والتشبه يعم من فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه- وهو نادر- . ومن تبع غيره في فعلٍ , لغرض له فيذلك , إذا كان أصل الفعل مأخوذًا عن ذلك الغير...
وقوله صلى الله عليه وسلم: (( غيرواالشيب ولا تشبهوا باليهود )) دليل على أن التشبه بهم يحصل بغير قصد منا, ولا فعل .
بل بمجرد ترك تغيير ما خلق فينا.
وهذا أبلغ من الموافقة الفعلية الاتفاقية ... الخ كلامه رحمه الله.
وإذا أعملت النظر في تتبع أصول (( التمثيل )) , وإلى أي ملة يرجع , وفي أي قوم ينتشر, ومن أي بلد وفد إلينا, تيقنت حرمته , ونكارته .
وقنعت بوجوب هجره وتركه.
ولو لم يكن في الأدلة المحرمة لهذا (( التمثيل )) إلا هذا الدليل لكان كافيا في إثبات حرمته قطعا, وإبطال قول من قال بالجواز تعلقا بشبه لا تثبت أمام هذا الدليل الجبل , الذي بنى عليه العلماء أحكاما كثيرة, وأخذوا منه قواعد صلبة, تحكم سير المستجدات في بحر الفقه الإسلامي.
الدليل الثاني: أن التمثيل لا يخلو من حالتين :
1- إما أن يكون أسطورة خيالية لا واقع لها فهو في هذه الحالة : كذب , والكذب محرم. والنبي صلى الله عليه وسلم حرم الكذب ولم يرخص فيه, والأحاديث الدالة على تحريم الكذب عامة فلا تخصص إلا بما خصصه الشرع ولم يأت دليل صحيح صريح في تخصيص ( التمثيل ), وما جاء من تخصيص الجواز في الكذب أو التعريض للمصلح , مع حالات أخرى منصوص عليها , دليل صريح على المنع من استعمال الكذب في غيرها.
فعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع من كن فيه كان منافقاخالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق))وفيه(( إذا حدث كذب )).أخرجه الشيخان،
وعن سعيد ابن أبي وقاص رفعه ((يطبع المؤمن على كل شيء إلا الخيانة والكذب)) أخرجه البزار. وقال الحافظ سنده قوي, ورجح الدارقطني وقفه .
وقد جاء مايدل على تحريم الكذب مطلقا في قول جماعة من الصحابة .
ففي (( الأدب المفرد )) للبخاري و(( تهذيب الآثار ))لابن جرير, عن ابن مسعود –رضي الله عنه- قال: لا يصلح الكذب في جد ولا هزل, ولا أن يعد أحدكم ولده شيئا ثم لا ينجز له.
وفي لفظ: والذي لا إله غيره لايصلح الكذب في هزل ولا جد .
اقرؤوا إن شئتم: (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين )).
2- وأما أن يكون واقعة سالفة قام به أشخاص معينون , على سبيل الحقيقة.
وهو محرم أيضا ووجه تحريمه أمور منها:
1- الكذب فإن الممثل يقول : هوفلان بن فلان, وليس كذلك.
2- التشبع بما لم يعط كأن يتقمص شخصية ((صلاح الدين أوشيخ الإسلام ابن تيمية )) فيظهر بمظهر القوة والشجاعة . أو العلم والإدراك , وليس كذلك.
3-
الإفضاء إلى استنقاص الأموات وذكر مساوئهم وقد ورد النهي عن ذكر مساوئ الموتى. وذلك أن (( الممثل )) قد يتنقص إحدى الشخصيات بقصد الإتيان بتمثيل الواقعة كما كانت .
4- الغيبة؛ ووجه اشتمال هذا (( التمثيل )) عليها واضح ومنها :
المحاكاة وهي: تقليد شخص لآخر في حركاته وسكناته , على وجه الانتقاص.
وقد روى أبو داود –وغيره- عن عائشة - رضي الله عنها- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (( ما أحب أني حكيت إنسانا , وأن لي كذا وكذا )).
قال ابن الأثير : (( أي فعلت مثل فعله )).
الدليل الثالث :عن أسماء- رضي الله عنها- أن امرأة قالت : يا رسول الله , إن لي ضرة, فهل علي جناح إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني ؟
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور ))أخرجه الشيخان وأحمد وأبو داود.
قال أبو عبيد –رحمه الله- : (( قوله: ( المتشبع بما لا يملك) يعني المتزين بأكثر مما عنده , يتكثر بذلك...)) فدلالة هذا الحديث على تحريم (( التمثيل )) ظاهرة, فإن (( التمثيل )) تشبع بما لم يعط صاحبه, ولا يصح تمثيل في الدنيا بدون هذاالتشبع ,إذ التمثيل لا بد فيه من محاكاة آخر , كطبيب , أو عالم , أو قائد,...الخ.
الدليل الرابع: أن الغالب على (( التمثيل )) شوبه بالمضحكات, من الخروج بزي مضحك , أو التلفظ بما يثير الضحك بالكذب.
وقد روى الإمام أحمد –وغيره- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم, ويل له , ويل له )).
الدليل الخامس : ما رواه أبو داود –وغيره – عن عائشة –رضي الله عنها قالت:
وحكيت له -صلى الله عليه وسلم- إنسانا فقال (( ما أحب أني حكيت إنسانا , وأن لي كذا وكذا )) .
وقد تقرر في علم الأصول : أن العبرة بعموم اللفظ , لا بخصوص السبب .
وقوله (( إنسانا )) نكرة في سياق النفي فتدل على العموم.
فلا يقال إن هذاالحديث وارد على حكاياة إنسان معين, فلا يتناول غيره.
الدليل السادس: أن هذا (( التمثيل ))لا يتم إلا بارتكاب أحد المخالفات الشرعية –الآتية- أو كلها:
1- الكذب.
2- اليمين الغموس : ووجه كون (( التمثيل )) مشتملا على اليمين الغموس, أن (( الممثل )) يحلف -أحيانا- على أنه فعل كذا ,أو قال كذا؛وقد علم كذب نفسه.فما وجه إجازة هذا الفعل له, دون غيره؟
3-الانتساب إلى غير الأب الحقيقي , والتبني.
4- تغيير خلق الله : قال تعالى: (( وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَخُسْرَاناً مُبِيناً )) (النساء:119)
5-الاستهزاء بالدين وأهله: ويحصل هذا عندما يمثل رجلٌ دور مستهزئ بالدين وأهله, فيحتاج إلى محاكاته فيما يلمز به الدين وأهله. وقد عُلم شناعة هذاالعمل, وغلظ تحريمه.حتى لقد نص بعض العلماء على جعله من المكفرات المخرجة من الدين.
6- تمثيل دور الكفرة, والتلفظ بأقوال الكفر: ويحصل ذلك عندما يمثل الجل دور أحد الكفرة, فيحاكي أفعاله , ويتلفظ بأقواله, وهو مجتهد في إتقان ذلك، متفاعل فيه.
كما حصل لبعضهم حين مثل نفسه من أهل الجاهلية, فسجد للقبر , بمشهد من الناس.ولا شك أن هذاالعمل كفر مخرج من دين الإسلام , على أي وجه قام به الممثل.
قال تعالى: (( يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَافِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ )) (التوبة:64 الآيات -66)
قال أبو بكر الجصاص على هذه الآية: ((فيه دليل على أن اللاعب والجاد سواء في إظهار كلمة الكفر على غبر وجه الإكراه.لأن هؤلاء المنافقين ذكروا أنهم قالوا ماقالوه لعبأ , فأخبر الله عن كفرهم باللعب بذلك ...))
ولهذا أجمع العلماء على كفرمن فعل شيئا من ذلك, فمن استهزأ بالله , أو بكتابه ,أو برسوله, أو بدينه, كفر, ولوهازلا لم يقصد حقيقة الاستهزاء إجماعًا.
وفي سنن النسائي عن بريدة قال: قال رسولالله-صلى الله عليه وسلم- ))من قال إني بريء من الإسلام , فإن كان كاذبا فهو كماقال, وإن كان صادقا لم يعد إلى الإسلام سالما)) وهذا في التحذير من الحلف بملةالإسلام , سواء كان الحلف صادقا أو كاذبا.
7-الدعوة-غير الباشرة-إلى أخلاق هابطة وصفات مرذولة.
7-الدعوة-غير الباشرة-إلى أخلاق هابطة وصفات مرذولة.
8- الرضا بالمنكرات –المتقدمة الذكر-التي يشتمل عليه التمثيل والسكوت عنها وهذا منكر لايجوز.
وهناك أدلة للمجيزين فنذكرها ونذكر الردعليها ملخصا فنقول وبالله التوفيق مما استدلوا به :
الدليل الأول: ثبوت تشكل الملائكة في صور البشر.
وهذا يدل على جواز المحاكاة على سبيل الإفادة والتعليم.
والجواب من وجوه:
الأول: أنكم غير قائلين بمدلول هذا الدليل في جميع صور التمثيل ، فإنكم تحرمون تمثيل الأنبياء والصالحين.
و مقتضى الدليل-على هذا الرأي- جوازه .
لأن الملائكة مثلوا الصالحين –وهم أفضل منهم على الصحيح- فيلزم ذلك جواز تمثيل المفضول للفاضل.
وحيث منع تم تمثيل الأنباء والصالحين فإن هذا دليل ضعف حجتكم , وعدم صحة الاستدلال به.
الثاني: أن تشكل الملائكة هو بأمر من الله لهم. ولم يأمرنا الله بذلك ولا بالاقتداء بهم في ذلك.
الثالث: أن تشكل هؤلاء الملائكةحقيقي, بحيث أوتوا القدرة على الظهور في قالب غير قالبهم. أما التمثيل فإنه تشك لمكشوف, وطاقاته محدودة , يعلم الرائي تصنعه , ومضاهاته لخلق الله.
الرابع :أنه قياس لعالم الشهادة على عالم الغيب. وهو ممنوع .
الدليل الثاني : قياسا لتمثيل على الأمثال المضروبة والتشبيهات الواردة في القرآن والسنة.
والجواب من وجوه :
الأول : إخراجكم الأنبياء والصحابة والملائكة من هذا الدليل ,لعل و قدره مخشية انتقاصهم , يجعلنا نرد بأن : هذا هو حال علماء الأمة وقادتها المخلصين فإن حرمتهم كبيرة , ومكانتهم عالية, بنص القرآن , والسنة, وكلام الصحابة, وعلماء الأمة.
الثاني : ما قاله العلامة الشيخ بكر أبو زيد: أن في هذا القياس فارق بين المقيس و المقيس عليه, إذ الأمثال قوليه, وأما التمثيليات فهي فعليه.
الدليل الثالث : قيام بعض الصحابة بدور الصديق المقرب والولي الناصح لبعض المشركين.
والجواب : أن مثل هذه الوقائع إنما هي في مجال الحرب, وقد قام الدليل على تخصيص الحرب بمثل هذه الحيل , وأكبر منها, وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم (( الحرب خدعة )).
انتهى التلخيص والحمد لله رب العالمين
هذا البحث من تلخيص بعض طلبة العلم أسأل الله أن يوفقه لكل خير .
والحمد لله . والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين .
المصدر : شبكة سحاب السلفية .
--