الخطبة الأولى
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللهُ عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فيا أيُّها الناسَ، اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى، عباد الله، الرحمة خلق كريم، ولها في الإسلام شأن عظيم، فقد عظماه الله في كتابه يقول صلى الله عليه وسلم: "خلق الله الرحمة مائة جزء، أنزل جزءا واحداً في الأرض، به تتراحم الخليقة حتى أن الداء عافرها خوفا أن تصيب ولدها"، والرحمة رقة القلب ولينه مع الإحسان للخلق قولاً وفعلا، والرحمة صفة من صفات ربنا فلله الصفات العلى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، الرحمة صفة كمال وجلال ربنا جلَّ وعلا قال جل وعلا: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) فلا يعلم مداها إلى هو: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)، (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ)، ولهذه الرحمة آثار عظيمة، فمن رحمة الله أن خلق الخلق: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، ومن رحمته جلَّ وعلا خلق الإنسان في أحسن تقويم: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)، (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ*الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ*فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ)، (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، ومن رحمته أنه تكفل برزق جميع عباده ناطقهم وحيوانهم قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)، وقال جلَّ جلاله: (وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، عمَّا برزقه المؤمن والكافر فضلاً منه وإحسان لما قال الخليل إبراهيم في دعائه: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) قال الله: (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، ومن رحمته أن أرسل الرسل وأنزل الكتب لهداية الخلق، وإقامة الحجة عليهم: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل)، (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)، ومن رحمته مبعث محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله رحمةً للعالمين: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)، (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، ومن رحمته مغفرته للذنوب وقبول توبة التائبين قال تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى)، ومن رحمته أن رحمته سبقت غضبه، فالعفو أحق من الانتقام، لما خلق الله الخلق كتب في كتاب موضوع عنده فوق العرش: "إِنَّ رَحْمَتِى سَبَقَتْ غَضَبِى"، ورحمته جلَّ وعلا بعباد عبده أعظم من رحمة الأم الشفيقة على ولدها قال عمر رضي الله عنه: أوتين بسبي فجعلته امرأة تطلب بينها بين السبي فوجدته فإذا هو بصبي فألصقته على بطنها وألقمته ثديها إذا هو ابنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أترون هذه تلقي ولدها في النار وهي قادرة" قالوا: لا، قال: "لله أرحم بعبده من رحمة هذه الأم بولدها"، ومن رحمته جلَّ وعلا عفوه عن الناس، وعن الجاهل والمكره: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)، وفي الحديث: "إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِى الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ"، وعفي من رحمته عن وساوس صدورنا: "إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِى مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ يَتَكَلَّمْوا أَوْ يعْمَلْوا"، ومن رحمته جلَّ جلاله ما شرعه من العقوبات من القصاص وإقامة الحدود رحمةً بالمجتمع، وحفظاً لأمنه من الفوضى والاضطراب، ورحمة للمجرمين لتخلقون العقوبات مخففةً لهم من عقوبات الله ومكفرةً لهم عن ذلك مع التوبة النصوح.
أيُّها المسلم، وهذه الرحمة لعظمها دعاء بها الأنبياء والرسل قال تعالى عن الأبوين آدم وحواء أنهما: (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ)، وقال عن نوح أنه قال: (وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ)، وقال موسى عليه السلام: (وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)، وقال سليمان عليه السلام: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)، وقال الله لنبيه: (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)، ولهذه الرحمة أسبابها فمن أعظمها أسباب رحمة الله للعباد طاعة الله وطاعة رسوله مع الاستقامة على ذلك: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، ومن أسباب رحمة الله تقوى العبد لربه قال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)، ومن أسباب رحمة الله للعباد أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، ومن أسباب رحمة الله الاستغفار والتوبة إلى الله قال صالح عليه السلام: (لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، ومن أسباب رحمة الله رحمة العباد بعضهم لبعض: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ".
أيُّها المسلم، شريعة الإسلام شريعة رحمةٍ وإحسانٍ، شريعة رحمةٍ، وشريعة إحسانٍ، وشريعة يسيرٍ في أحكامها وتشريعاتها وأخلاقها، هذه الرحمة في هذه الشريعة تجعل المسلم يعمل بها، ويسير على نهجها، وكل إنسان يمكنه ذلك لأن الله جلَّ وعلا رفع عنا الحرج والأغلال والأصال التي كانت على من قبلنا: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)، ولما ذكر الوضوء قال: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، فشريعة الله مبنية على التيسير، وكل عسر يأتي بعده التيسير، فلا واجب مع العجز، ولا مشقة مع العسر.
أيُّها المسلم، ولهذا شرع الله الوضوء بالماء، وأقام التيمم مقام الماء عند عدم الماء: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)، فرض الصلوات الخمس وأوجب القيام والركوع والسجود وأسقط ذلك عند العجز عنه: "صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فمستلقيا"، وجعل صوم رمضان من أركان الإسلام وعذر للمريض والمسافر فيه وجعل الإطعام قائماً مقام الصيام عند العجز عنه، وأسقط الحج عن من لم يستطع إليه سبيلا: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)، تيسير وتسهيل.
أيُّها المسلم، إن المؤمن في قلبه رقة على المساكين، وآلام للمحزونين، وحنان على الفقراء والمحتاجين، الرحمة بين الأمة خُلُقُ لها قال جلَّ وعلا: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)، فهو يرحم بعضهم بعضا، يرحم غنيهم فقيرهم، وكبيرهم صغيرهم، وعالمهم جاهلهم، وعاقلهم سفهيهم، رحمة بين الأمة متبادلة، دليل على الخير وأصالة في نفوسهم، فمجالات الرحمة عامة، فأعظم رحمة أيها المسلم أحق الناس برحمتك من خلق الله أبواك فرحمهما رحمةً إيمانية، رحمة من تذكر سابق أفعالهما، وجميل أخلاقهما، وما قدما لك من خدمةٍ وإحسان، من حملٍ ورضاعٍ وحضانةٍ، أب كدح ورزق وسعي لأجل راحتك، فقابل ذلك الإحسان برحمتهما لاسيما عند كبر سنهما، ورقة عظمهما، وعجزهم عن القيام بحقوقهما: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً*وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً)، أحسن إليهما بالقول الطيب، وأحسن إليهما بالخدمة، وأحسن إليهما بالنفقة، وواسهما وعرف لهما قدرهما وحقهما لتسعد في حياتك بحياة طيبة مطمئنة وقلب مرتاح وذرية صالحة يبرون بك إن شاء الله، ومن يستحق الرحمة منك زوجتك وشريكتك في حياتك فرحمها بالإحسان إليها ومعاشرتها بالمعروف، والنفقة عليها، والرفق بها، واللطف بها والإحسان إليها، والصبر على بعض الأخطاء التي لا علاقة بشرف ولا دين، ولكنها طبيعة البشر: "اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ"، ومحمد صلى الله عليه وسلم يقول: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي" صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين، أرحم رقة المرأة، ورحم ضعفها وقصورها، ولا تحملها ما لا تطيق ولا تعاتب عن كل دقيق وجليل، تعش أنت وإياها والأولاد في سلامة وطمأنيةٍ وبيت مملوء بالسعادة والهناء، أولادنا فلذت أكبادنا رحمتننا مطلوبه نرحمهم ننفق عليهم، نربيهم نحسن إليهم، نوجههم نحثهم على الخير، ندعوهم إلى الخير، نتحبب إليهم لكي تكون الصلة بيننا وبينهم صلة قويةٌ ثابتة "وكفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول"، نرحم البنات ونحسن إليهم ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: "من عال جاريتين حتى يكبرا، كنت أنا وإياه في الجنة كهاتين"، تدخل امرأة على عائشة تسألها شيئاً، فلم تجد في بيت رسول الله إلا ثلاث تمرات فأعطت تلك المرأة وابنتيها تلكم التمرات الثلاث المتبقية في بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم، تعطي لك امرأة تمره وتقع الثالثة فأتنظر الابنتان إلى هذه التمرة الثالثة فتخرجها من فيَّها وتقسمها بين بنتيها، فتتعجب عائشة من هذا الصنع العظيم والرحمة والرقة الكبيرة، فتخبر بها محمد صلى الله عليه وسلم يقول: "من ابتليا بشيء من هذا البنات فصبر عليهم كن لهن ستراً من النار"، ومن ترحمهم أيُّها المسلم أرحم اليتيم فاقد الأب، أرحمه رحمةً تأديبيةً وإحسانا ورفقا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ في الجنةِ كَهَاتَيْنِ"، أرحم هذا المسكين اليتيم، ورحم فقده لأبه فرعيه وأدبه وأحسن إليه تفوز بالخير: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً)، أحفظ ماله من الضياع إن كنت ولياً له، واحذر التعدي عليه: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)، أرحم الخادم ورحمه وعطف عليه، أعطه حقه في وقته، وأحسن صحبته، وإياك أن تخاطبه بالسوء أو تعامله بالسوء فهو مسكين محتاج ترك الأهل والوطن لأجل لقمة العيش، فحمد الله أن كنت مخدوما، وأعطه حقه قبل أن يجف عرقه، وعالمه بالحسنى ولا تستغل ضعفه وفاقته وحاجته فتتكبر وتتعالى عليه، أرحم أيها المسلم رحمك صلهم وواسي محتاجهم وصل غنيهم، وتحمل الأخطاء والمساوئ فإن الرحم معلقة بالعرش يقول الله: "مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ".
أيُّها المسلم، أرحم المعسر العاجز عن قضاء دينه أرحمه فخفف عنه، أرحمه فأنظره، أرحمه فتصدق عليه: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)، أرحم المنكوب والمكروب والمهموم والمعسر فرج كربته ويسر أمره: "مَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً يومِ الْقِيَامَةِ"، أرحم الصغير والكبير، أرحم الكبير والصغير: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ شَرَفَ حَقَّ كَبِيرِنَا".
أيُّها المسلم، أرحم الجاهل بأحكام الشريعة فتلطف به ولا تأخذه بجهله، فمحمد صلى الله عليه وسلم كان يعامل الجهلة بالحلم والأناة والرحمة حتى يوصل الحق غلى نفوسهم، بينما هو جالس في المسجد عند أصحابه إذا أعراب يأتي إلا طائفة من المسجد فيبول في المسجد فيهم الصحابة به لأنه ارتكب خطأً كبيرا، فالمصطفى يقول: "دَعُوهُ لاَ تُزْرِمُوهُ له بوله دَعُوهُ". حتى إذا قضى بوله دَعَاهُ فَقَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ يصْلُحُ شَىْءٍ مِنَ الْقَذَرِ"، فقال: اللهم أدخلني الجنة أنا ومحمدا، تركه لأجل أن يقبل الحق ولا ينفر من الإسلام، ولا يسأم نفسه فصلوات الله وسلامه عليه، أرحم صاحب الحق الذي يريد حقه فلا تتأخر عليه، جاء رجل إلى النبي يتقاضى منه فأغلظ القول على النبي، هم الصحابة به، قال: "دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً"، أرحم أيُّها المسلم ضعيف العقل، قليل الإرادة فإياك أن تخدعه في تعاملك معه في البيع والشراء، فقد يكون أمامك رجل ذكي يصارعك ويحاكيك ويماكسك، ولكن مسكين قد تغفل أمور عليه، فإياك أن تستغل جهله وقصر نظره أرحمه فعامله كما تعامل من في الذكاء والحرص والمماكسة والقدر على المساومة.
أيُّها المسلم، أيُّها المسلم، أرحموا شباب الإسلام، يا دعاة الإسلام أرحموا شبابنا، أرحموا أبنائنا إياكم أن تزجوا بهم في أفكار بعيده وأراء شاطه، إيَّاكم أن تصدروا فتاوى لهم لا يحمل معانيها ولا يدركون حقائقها ولا ما وراءها، إيَّاكم أن تزجوا بهم في طوائف وأحزاب هم لا يعرفون حقيقة الأمر بعيدون كل البعد عنه، إيَّاكم أن تحملوا صدورهم حقدا وبغضاء لهذا وهذا، إيَّاكم أن تزجوا بهم في سطحات لا حقائق لها، إن شباب الأمة بحاجة إلى الرحمة والإحسان والتوجيه السليم، والتحذير من مبادئ الفرقة والاختلاف، نسمع كثيرا عن بعض جمعيات تنتشر في الإسلام تارة لكن حقائق أمرها وما وراء ذلك أمور خطيرة وأضرار كثيرة وشطحات وسوء تصرف وبغض للإسلام وأهله، فلنحذر من هذه الجمعيات وأمثالها، ولنكن على بصيرة من أمرنا، لا نقبل على قول قيل لنا.
ويا أيها الدعاة والمفتون، إياكم والفتوى الشاطه والفتوى الضارة التي تحمل هذا النشء الذي لا يعلم ما وراء الأحداث ولا يبصر الأشياء على حقيقتها، وقد تستغل هذه الفتوى أو هذه التوجيهات يستغلها الأعداء لمصالحهم وأغراضهم، نحن بأمس الحاجة إلى أن نرحم شبابنا بالتوجيه السليم والنصيحة القيمة والهداية والطريق المستقيم، وأخذ العبر مما جرى وحصل في الأمة من هذا الاضطراب والفتن نجنبهم بذلك ونأخذ بأيدهم لما فيه خير صلاح دينهم ودنياهم، أما أن نزج بهم في أمور وترهات، وعقول لا يتحملها ولا تستطيع هضمها، ولكن نغريهم ونملئ صدورهم حقدا وبغضا ونوجهم التوجيه غير السليم، إياكم شبابنا والإصغاء إلى المنتديات والمواقع الخبيثة التي تصور واقعكم بخلاف ما أنتم فيه، أنتم في نعمة وأمن واستقرار وراحة بال نفس، أعداءهم يصور واقعكم بأنه واقع مؤلم حسدا من أنفسهم وحقدا على هذه الأمة، فإياكم وإياهم ولنكن على حذر دائما من هذه الدعايات وهذه الآراء وهذه المقالات السيئة، ننزل بها في ميزان العدل فما كان شرط قبلناه وما كان مخالفا ترفعنا عنه، فارحموا شبابنا، أرحموا قلة علمهم، أرحموا ضعف إدراكهم فلا تحملهم ما لا يطيقون ولا تفوتهم بغير ما هو حق، أرحموهم فأتوهم بالحق والدعوة إلى الحق، أسأل الله أن يجمع القلوب على طاعته، وأن يرحمنا برحمته إنه على كل شيء قدير، أقولٌ قولي هذا واستغفرٌ الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنَّه هو الغفورٌ الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ، أما بعدُ:
فيا أيُّها النَّاس، اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى، أيُّها المسلم، أرحم المنكوبين، وضمد جرح المجروحين، وواسي المحتاجين، وارحم المسكين والفقير، واحترم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، وادعوا الناس إلى الخير والصلاح والهدى، واحذرهم من سبيل الشر والبلايا والرداء.
أيُّها القاضي، أرحم الخصمان الذي أمامك، أرحم الحاكم والمحكوم عليه رحمةً تقتضي منك إيصال الحق إلى أهله من غير محاباة ومجاملة.
أيُّها المحقق، أرحم من تحقق معه، إياك أن تحمله على إقرار بأمر هو غير معتقد له ولا يراه ولا قرابة به أو تحمله أمراً ما قاله ولا فعله، أتقي الله وارحمه أثناء التحقيق، أرحم المعلم طلابك وأبناءك رحمة تقتضي تأديبهم وحمله على الخير.
أيُّها المسلم، أرحم المستأجر فلا تحمله ما لا يطيق وأعنه في استحقاق الأجر ولا تحمله أمرا يشق عليه راعه ظروفه وفقره وحاجته، وعلى المستأجر أن يراعي أيضا حاجة المؤجر، فالكل يجب أن يكون بينهم تعاون لا المستأجر ولا المؤجر حتى تكون الأمور على الخير، أرحم أيَّها المسلم، أرحم الجاهل فعلمه، أرحم العاصي الذي زلت به قدمه أرحمه انصحه وأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، وحذره من أسباب الشر، وإياك والشماتة به، إياك وهتك عرضه، وإياك والفضح بعيبه، أرحمه رحمة الشقيق المحسن الذي يحب الخير له، والنبي يقول: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"، لتكون الرحمة متبادلة في أمورنا كلها، وفي تعاملنا مع ربنا، مع أنفسنا، مع أهلينا وأولادنا، مع جيراننا، مع من نتعامل معه، نسال الله أن يعمنا برحمته إنُّه على كل شيء قدير.
أيها المسلمون اتقوا الله تعالى واعلموا أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصَلُّوا رحمكم الله على محمد صلى الله علي وسلم امتثالاً لأمر ربكم قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائه الراشدين، الأئمة المهدين، أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التَّابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك وإحسانك يا أرحمَ الراحمين.
اللَّهمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمَّر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، واجعل اللَّهمَّ هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين، اللَّهمَّ أمنَّا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفق ولاة أمور المسلمين لما فيه خير الإسلام والمسلمين، اللَّهمّ وفِّقْ إمامَنا إمامَ المسلمينَ عبدالله بنَ عبدِالعزيزِ لكل خير، اللَّهمَّ سدده في أقواله وأعماله،وبارك له في عمره وعمله، واجعله بركة على نفسه وعلى مجتمع المسلم، اللَّهمَّ شد أزره بولي عهده نايف بن عبدِالعزيزِ ووفقه للصواب فيما يقول ويعمل، وأعنه على مسئوليته وأمده بالصحة والسلامة والعافية، اللَّهمَّ وفقنا جميعا لما تحبه وترضى (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُرْكم، واشكُروه على عُمومِ نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرَ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.