إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما.
أما بعد :
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة".
وفي رواية لمسلم ج3/ص1525: "عن سَعْدِ بن أبي وَقَّاصٍ قال قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ على الْحَقِّ حتى تَقُومَ السَّاعَةُ".
قال النووي في شرح مسلم13/68:" قال على بن المدينى المراد بأهل الغرب العرب والمراد بالغرب الدلو الكبير لاختصاصهم بها غالبا وقال آخرون المراد به الغرب من الأرض وقال معاذ هم بالشام وجاء في حديث آخر هم ببيت المقدس وقيل هم أهل الشام وما وراء ذلك قال القاضي وقيل المراد بأهل الغرب أهل الشدة والجلد وغرب كل شيء حدته".
وقال السيوطي في الديباج على مسلم ج4/ص514:" وقيل المراد الغرب من الأرض الذي هو ضد الشرق فقيل المراد أهل الشام وقيل الشام وما وراء ذلك وقيل أهل بيت المقدس قال القرطبي أول الغرب بالنسبة إلى المدينة النبوية هو الشام وآخره حيث تنقطع الأرض من الغرب الأقصى وما بينهما كل ذلك يقال عليه مغرب فهل المراد المغرب كله أو أوله كل ذلك محتمل وقال أبو بكر الطرطوشي في رسالة بعث بها إلى أقصى المغرب الله أعلم هل أرادكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث أو أراد بذلك جملة أهل المغرب لما هم عليه من التمسك بالسنة والجماعة وطهارتهم من البدع والإحداث في الدين والاقتفاء لآثار من مضى من السلف الصالح؛ ومما يؤيد أن المراد بالغرب من الأرض رواية عبد بن حميد وبقي بن مخلد ولا يزال أهل الغرب ورواية الدارقطني لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق في المغرب حتى تقوم الساعة قلت(السيوطي) لا يبعد أن يراد بالمغرب مصر فإنها معدودة في الخط الغربي بالاتفاق وقد روى الطبراني والحاكم وصححه عن عمرو بن الحمق قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تكون فتنة أسلم الناس فيها الجند الغربي قال ابن الحمق فلذلك قدمت عليكم مصر وأخرجه محمد بن الربيع الجيزي في مسند الصحابة الذين دخلوا مصر وزاد فيه وأنتم الجند الغربي فهذه منقبة لمصر في صدر الملة واستمرت قليلة الفتن معافاة طول الملة لم يعترها ما اعترى غيرها من الأقطار وما زالت معدن العلم والدين ثم صارت في آخر الأمر دار الخلافة ومحط الرحال ولا بلد الآن في سائر الأقطار بعد مكة والمدينة يظهر فيها من شعائر الدين ما هو ظاهر في مصر".
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ج28/ص552: " وأول الغرب ما يسامت البيرة ونحوها فإن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بهذا الكلام وهو بالمدينة النبوية فما يغرب عنها فهو غرب كالشام ومصر وما شرق عنها فهو شرق كـالجزيرة والعراق وكان السلف يسمون أهل الشام أهل المغرب".
قال ياقوت بن عبدالله الحموي في معجم البلدان ج1/ص526:" البيرة في عدة مواضع منها بلد قرب سميساط بين حلب والثغور الرومية وهي قلعة حصينة ولها رستاق واسع ... والبيرة بين بيت المقدس ونابلس خربها الملك الناصر حين استنقذها من الأفرنج رأيتها وفي عدة مواضع، وأما إلبيرة التي في الأندلس فألفها أصلي والنسبة الإلبيري". وهي غير مرادة في كلام شيخ الإسلام ولعله أراد بيرة حلب أو بيرة المقدس لا إلبيرة الأندلس والله أعلم.
قال الشيخ الألباني في الضعيفة(ح6390):" وفي تفسير أهل الغرب " اختلاف ، والظاهر أنهم أهل الشام ، لأنهم غرب المدينة كما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية ، فانظر "الفتاوى" (27/507 - 50.ولكن ذلك لا يستلزم الدوام ، وعدم وجود الطائفة في إقليم آخر".
ولكن المعلمي يرى غير ذلك فيقول في الأنوار الكاشفة (ص140):" أقول: قد قيل وقيل، وأقرب الأقوال أن المراد بالغرب الحدة والشوكة في الجهاد، ففي حديث جابر بن سمرة ((لا يزال هذا الدين قائماً تقاتل عليه عصابة.. )) وفي حديث جابر بن عبد الله ((طائفة من أمتي يقاتلون )) ونحوه في حديث معاوية وحديث عقبة بن عامر".
وقال القرطبي في تفسيره ج8/ص296: "قال يزيد بن هارون إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم. قلت ( القرطبي) وهذا قول عبد الرزاق في تأويل الآية إنهم أصحاب الحديث ذكره الثعلبي سمعت شيخنا الأستاذ المقرئ النحوي المحدث أبا جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي المعروف بابن أبي حجة رحمه الله يقول في تأويل قوله عليه السلام لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة إنهم العلماء قال وذلك أن الغرب لفظ مشترك يطلق على الدلو الكبير وعلى مغرب الشمس ويطلق على فيضة من الدمع فمعنى لا يزال أهل الغرب أي لا يزال أهل فيض الدمع من خشية الله عن علم به وبأحكامه ظاهرين الحديث... قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء قلت وهذا التأويل يعضده قوله عليه السلام في صحيح مسلم من يرد الله به خيرا يفقه في الدين ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة وظاهر هذا المساق أن أوله مرتبط بآخره والله أعلم".
قلت ( أبو الحسين ): لا تنافي بين هذه الأقوال فقد يكونون في الشام؛ مصر ؛ بيت المقدس؛ الغرب كله ؛ أو بعضه ؛ ولا يلزم من عدم وجودهم في مكان آخر ومع ذلك هم أهل حدة في قتالهم الكفار وأهل دمع في تهجدهم في الليل؛ فهم أهل علم وتقوى وجهاد".
كما تفيد لفظة (لا تزال) الدوام والاستمرار ؛ قال الصبان في حاشيته على شرح الأشموني لألفية ابن مالك1/333 " تدل على ملازمة المخبر عنه على ما يقتضيه الحال ".
وقال الشيخ عبد الله الفوازان في شرحه لألفية ابن مالك1/111:" تدل على ملازمة الخبر للاسم ملازمة مستمرة لا تنقطع. أو مستمرة إلى وقت الكلام، ثم تنقطع بعد وقت طويل أو قصير، فالأول نحو: ما زال الأدب حلية طالب العلم. ومثال الثاني: لا يزال الخطيب متكلماً".
وهنا يلازم الخبر اسمه ملازمة مستمرة إلى يوم القيامة لقوله صلى الله عليه وسلم" ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة".
قال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان ج7/ص377:" ولا شك في أن هذه الطائفة التي صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأنها لا تزال ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر الله أنها طائفة على كتاب الله وسنة رسوله وليست ألبتة من المقلدين التقليد الأعمى لأن الحق هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة كما قال تعالى في سورة النساء" يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ" وقال في الأنعام"وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ" وقال في النمل" فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ" وقال في يونس"يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ" والآيات بمثل ذلك كثيرة".
وهذا الحديث متواتر روي من حديث ستة عشر صحابيا وقد نص على تواتره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم1/6:" قد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال وذكر الحديث والحديث رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم ولقد ثبت عن أهل العلم أن المراد بهذه الطائفة هم أهل الحديث منهم عبدالله بن المبارك قال هم عندي أصحاب الحديث".
وقال الترمذي في السنن 4/485:" قال محمد بن إسماعيل قال عَلِيُّ بن الْمَدِينِيِّ هُمْ أَصْحَابُ الحديث".
وقال الحاكم في علوم الحديث1/35:" قد أحسن أحمد بن حنبل في تفسير هذا الخبر أن الطائفة المنصورة التي يرفع الخذلان عنهم إلى قيام الساعة هم أصحاب الحديث ومن أحق بهذا التأويل من قوم سلكوا محجة الصالحين واتبعوا آثار السلف من الماضين ودمغوا أهل البدع والمخالفين بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين من قوم آثروا قطع المفاوز والقفار على التنعم في الدمن والأوطار وتنعموا بالبؤس في الأسفار مع مساكنة العلم والأخبار وقنعوا عند جمع الأحاديث والآثار بوجود الكسر والأطمار قد رفضوا الإلحاد الذي تتوق إليه النفوس الشهوانية وتوابع ذلك من البدع والأهواء والمقاييس والآراء والزيغ جعلوا المساجد بيوتهم وأساطينها تكاهم وبواريها فرشهم؛ وأحمد بن حنبل قال إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث فلا أدري من هم روى الخطيب عن أبي حاتم قال سمعت أحمد بن سنان وذكر الحديث فقال هم أهل العلم وأصحاب الأثر" .
وقال البخاري في صحيحه ج6/ص2667: بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ يُقَاتِلُونَ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ.
ثم قال البخاري :" عن الْمُغِيرَةِ بن شُعْبَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لَا تزال طَائِفَةٌ من أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حتى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ ".
"وعن بن شِهَابٍ أخبرني حُمَيْدٌ قال سمعت مُعَاوِيَةَ بن أبي سُفْيَانَ يَخْطُبُ قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من يُرِدْ الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ وَإِنَّمَا أنا قَاسِمٌ وَيُعْطِي الله وَلَنْ يَزَالَ أَمْرُ هذه الْأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حتى تَقُومَ السَّاعَةُ أو حتى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ".
وفي صحيح مسلم ج1/ص137:" عن ابن جُرَيْجٍ قال أخبرني أبو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سمع جَابِرَ بن عبد اللَّهِ يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ من أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ على الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قال فَيَنْزِلُ عِيسَى بن مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم فيقول أَمِيرُهُمْ تَعَالَ صَلِّ لنا فيقول لَا إِنَّ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ أُمَرَاءُ تَكْرِمَةَ اللَّهِ هذه الْأُمَّةَ".
وفي صحيح مسلم ج3/ص1524:" عن جَابِرِ بن سَمُرَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَنْ يَبْرَحَ هذا الدِّينُ قَائِمًا يُقَاتِلُ عليه عِصَابَةٌ من الْمُسْلِمِينَ حتى تَقُومَ السَّاعَةُ ".
وحدثني هَارُونُ بن عبد اللَّهِ وَحَجَّاجُ بن الشَّاعِرِ قالا حدثنا حَجَّاجُ بن مُحَمَّدٍ قال قال ابن جُرَيْجٍ أخبرني أبو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سمع جَابِرَ بن عبد اللَّهِ يقول سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ من أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ على الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".
وعن عبد الرحمن بن يَزِيدَ بن جَابِرٍ أَنَّ عُمَيْرَ بن هَانِئٍ حدثه قال سمعت مُعَاوِيَةَ على الْمِنْبَرِ يقول سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ من أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ من خَذَلَهُمْ أو خَالَفَهُمْ حتى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ على الناس".
وعن يَزِيدُ بن الْأَصَمِّ قال سمعت مُعَاوِيَةَ بن أبي سُفْيَانَ ذَكَرَ حَدِيثًا رَوَاهُ عن النبي صلى الله عليه وسلم لم أَسْمَعْهُ رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم على مِنْبَرِهِ حَدِيثًا غَيْرَهُ قال قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من يُرِدْ الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ ولا تَزَالُ عِصَابَةٌ من الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ على الْحَقِّ ظَاهِرِينَ على من نَاوَأَهُمْ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".
وعن عبد الرحمن بن شِمَاسَةَ الْمَهْرِيُّ قال كنت عِنْدَ مَسْلَمَةَ بن مُخَلَّدٍ وَعِنْدَهُ عبد اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ فقال عبد اللَّهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إلا على شِرَارِ الْخَلْقِ هُمْ شَرٌّ من أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَدْعُونَ اللَّهَ بِشَيْءٍ إلا رَدَّهُ عليهم فَبَيْنَمَا هُمْ على ذلك أَقْبَلَ عُقْبَةُ بن عَامِرٍ فقال له مَسْلَمَةُ يا عُقْبَةُ اسْمَعْ ما يقول عبد اللَّهِ فقال عُقْبَةُ هو أَعْلَمُ وَأَمَّا أنا فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ من أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ على أَمْرِ اللَّهِ قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ لَا يَضُرُّهُمْ من خَالَفَهُمْ حتى تَأْتِيَهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ على ذلك فقال عبد اللَّهِ أَجَلْ ثُمَّ يَبْعَثُ الله رِيحًا كَرِيحِ الْمِسْكِ مَسُّهَا مَسُّ الْحَرِيرِ فلا تَتْرُكُ نَفْسًا في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ من الْإِيمَانِ إلا قَبَضَتْهُ ثُمَّ يَبْقَى شِرَارُ الناس عليهم تَقُومُ السَّاعَةُ".
وقال القاضي عياض في الإلماع(ص27):" كان الأعمش يقول لا أعلم لله قوما أفضل من قوم يطلبون هذا الحديث ويحيون هذه السنة وكم أنتم في الناس والله لأنتم أقل من الذهب".
قال الشيخ الألباني في الصحيحة1/478:" قد يستغرب بعض الناس تفسير هؤلاء الأئمة للطائفة الظاهرة والفرقة الناجية بأنهم أهل الحديث ولا غرابة في ذلك إذا تذكرنا ما يأتي:
أولا: إن أهل الحديث هم بحكم اختصاصهم في دراسة السنة وما يتعلق من معرفة تراجم الرواة وعلل الحديث وطرقه أعلم الناس قاطبة بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وهدية وأخلاقه وغزواته وما يتصل به.
ثانيا: إن الأمة قد انقسمت إلى فرق ومذاهب لم تكن في القرن الأول ولكل مذهب أصوله وفروعه وأحاديثه التي يستدل بها ويعتمد عليها وإن المتمذهب بواحد منها يتعصب له ويتمسك بكل ما فيه دون أن يلتفت إلى المذاهب الأخرى وينظر لعله يحد فيها من الأحاديث ما لا يجده في مذهبه الذي قلده فإن من الثابت لدى أهل العلم أن في كل مذهب من السنة والأحاديث ما لا يوجد في المذهب الآخر فالمتمسك بالمذهب الواحد يضل ولا بد عن قسم عظيم من السنة المحفوظة لدى المذاهب الأخرى وليس على هذا أهل الحديث فإنهم يأخذون بكل حديث صح إسناده في أي مذهب كان ومن أي طائفة كان راويه ما دام أنه مسلم ثقة حتى لو كان شيعيا أو قدريا أو خارجيا فضلا عن أن يكون حنفيا أو مالكيا أو غير ذلك وقد صرح بهذا الإمام الشافعي رضي الله عنه حين خاطب الإمام أحمد بقوله أنتم أعلم بالحديث مني فإذا جاءكم الحديث صحيحا فأخبرني به حتى أذهب إليه سواء كان حجازيا أم كوفيا أم مصريا فأهل الحديث حشرنا الله معهم لا يتعصبون لقول شخص معين مهما علا وسما حاشا محمدا صلى الله عليه وسلم بخلاف غيرهم ممن لا ينتمي إلى الحديث والعمل به فإنهم يتعصبون لأقوال أئمتهم وقد نهوهم عن ذلك كما يتعصب أهل الحديث لأقوال نبيهم فلا عجب بعد هذا البيان أن يكون أهل الحديث هم الطائفة الظاهرة والفرقة الناجية بل والأمة الوسط الشهداء على الخلق ".
وقال الخطيب في مقدمة الكفاية في علم الرواية (ص5) :" عن أحمد بن على الأبار قال رأيت بالأهواز رجلا حف شاربه وأظنه قد اشترى كتبا وتعبأ للفتيا فذكروا أصحاب الحديث فقال ليسوا بشيء وليس يسوون شيئا فقلت له أنت لا تحسن تصلى قال قلت نعم قلت أيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتحت الصلاة ورفعت يديك فسكت فقلت وأيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وضعت يديك على ركبتيك فسكت قلت أيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجدت فسكت قلت مالك لا تكلم ألم أقل لك انك لا تحسن تصلى أنت إنما قيل لك تصلى الغداة ركعتين والظهر أربعا فالزم ذا خير لك من أن تذكر أصحاب الحديث فلست بشيء ولا تحسن شيئا فهذا المذكور مثله في الفقهاء كمثل من تقدم ذكرنا له ممن انتسب إلى الحديث ولم يعلق به منه غير سماعه وكتبه دون نظره في أنواع عمله وأما المحققون فيه المتخصصون به فهم الأئمة العلماء والسادة الفهماء أهل الفضل والفضيلة والمرتبة الرفيعة حفظوا على الأمة أحكام الرسول واخبروا على أنباء التنزيل وأثبتوا ناسخه ومنسوخه وميزوا محكمه ومتشابهه ودونوا أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وضبطوا على اختلاف الأمور أحواله في يقظته ومنامه وقعوده وقيامه وملبسه ومركبه ومأكله ومشربه حتى القلامة من ظفره ما كان يصنع بها والنخاعة من فيه كيف كان يلفظها وقوله عند كل فعل يحدثه ولدى كل موقف يشهده تعظيما لقدره صلى الله عليه وسلم ومعرفة بشرف ما ذكر عنه وعزى إليه وحفظوا مناقب صحابته ومآثر عشيرته وجاؤا بسير الأنبياء ومقامات الأولياء واختلاف الفقهاء ولولا عناية أصحاب الحديث بضبط السنن وجمعها واستنباطها من معادنها والنظر في طرقها لبطلت الشريعة وتعطلت أحكامها إذ كانت مستخرجة من الآثار المحفوظة ومستفادة من السنن المنقولة فمن عرف للإسلام حقه وأوجب للدين حرمته أكبر أن يحتقر من عظم الله شأنه وأعلى مكانه وأظهر حجته وأبان فضيلته ولم يرتق بطعنه إلى حزب الرسول وأتباع الوحي وأوعية الدين وخزنة العلم الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه فقال والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وكفى المحدث شرفا أن يكون اسمه مقرونا باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكره متصلا بذكره ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم والواجب على من خصه الله تعالى بهذه الرتبة وبلغه إلى هذه المنزلة أن يبذل مجهوده في تتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وطلبها من مظانها وحملها عن أهلها والتفقه بها والنظر في أحكامها والبحث عن معانيها والتأدب بآدابها ويصدف عما يقل نفعه وتبعد فائدته من طلب الشواذ والمنكرات وتتبع الأباطيل والموضوعات ويؤتي الحديث حقه من الدراسة والحفظ والتهذيب والضبط ويتميز بما تقتضيه حاله ويعود عليه زينه وجماله".
وقال رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه شرف أصحاب الحديث1/8:" أن الحديث يشتمل على معرفة أصول التوحيد وبيان ما جاء من وجوه الوعد والوعيد وصفات رب العالمين تعالى عن مقالات الملحدين والإخبار عن صفة الجنة والنار وما أعد صفة الجنة والنار وما أعد الله فيهما للمتقين والفجار وما خلق الله في الأرضين والسماوات وصنوف العجائب وعظيم الآيات وذكر الملائكة المقربين ونعت الصافين والمسبحين وفي الحديث قصص الأنبياء وأخبار الزهاد والأولياء ومواعظ البلغاء وكلام الفقهاء وسير ملوك العرب والعجم وأقاصيص المتقدمين من الأمم وشرح مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم وسراياه وجعل أحكامه وقضاياه وخطبه وعظاته وإعلامه ومعجزاته وعدة أزواجه وأولاده وأصهاره وأصحابه وذكر فضائلهم ومآثرهم وشرح أخبارهم ومناقبهم ومبلغ أعمارهم وبيان أنسابهم وفيه تفسير القران العظيم وما فيه من النبأ والذكر الحكيم وأقاويل الصحابة في الأحكام المحفوظة عنهم وتسمية من ذهب إلى قول كل واحد منهم من الأئمة الخالفين والفقهاء المجتهدين وقد جعل الله أهله أركان الشريعة وهدم بهم كل بدعة شنيعة فهم أمناء الله في خليقته والواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأمته والمجتهدون في حفظ ملته أنوارهم زاهرة وفضائلهم سائرة وآياتهم باهرة ومذاهبهم ظاهرة وحججهم قاهرة وكل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه وتستحسن رأيا تعكف عليه سوى أصحاب الحديث فإن الكتاب عدتهم والسنة حجتهم والرسول فئتهم وإليه نسبتهم لا يعرجون على الأهواء ولا يلتفتون إلى الآراء يقبل منهم ما رووا عن الرسول وهم المأمونون عليه العدول حفظة الدين وخزنته وأوعية العلم وحملته إذا اختلف في حديث كان إليهم الرجوع فما حكموا به فهو المقبول المسموع منهم كل عالم فقيه وإمام رفيع نبيه وزاهد في قبيلة ومخصوص بفضليه وقارئ متقن وخطيب محسن وهم الجمهور العظيم وسبيلهم السبيل المستقيم وكل مبتدع باعتقادهم يتظاهر وعلل الإفصاح بغير مذاهبهم لا يتجاسر من كادهم قصمه الله ومن عاندهم خذله الله لا يضرهم من خذلهم ولا يفلح من اعتزلهم المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير ويصير الناظر بالسوء إليهم حسير وإن الله على نصرهم لقدير" .
وقال معالي الشيخ صالح آل الشيخ (حفظه الله وأطال في عمره ونفع في علمه) في شرح الطحاوية (ص34: " فالواجب على كل مسلم يريد السلامة في دينه وأن يكون ممن وَعَدَهُ النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون من الفرقة الواحدة التي لم تأخذ سبيل الثنتين والسبعين فرقة أن يلزم أمر الجماعة قبل أن تفسد الجماعة، وهذا من أعظم مقاصد الدّين العظيمة التي يمتثلها العبد بامتثال قوله تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} فالعبد المؤمن يلزم هذه الطريقة".
وقال الشيخ صالح في شرح الواسطية 1/18:" هم ظاهرون ومنصورون، ينصرهم الله جل وعلا على من عداهم إما بالحجة وإما بالسنان إما باللسان نصر بيان ولسان وإما نصر سنان إذا كان ثَمَّ جهاد قائم . وإما نصر حجة وبيان وهذا لا يخلو منه أهل السنة والجماعة" .
وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ج35/ص374:" ومن اتبع ما بعث الله به رسوله كان مهديا منصورا بنصرة الله في الدنيا والآخرة كما قال تعالى إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وقال تعالى ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون".
وبعد ذلك نقول:
إنَّ الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله.
ولهذا قال الطحاوي في عقيدته:" وَلا تَثْبُتُ قَدَمُ الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِسْلَامِ".
ويلزم من ذلك تعظيم الله في أمره ونهيه وتعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم وتعظيم حملة الشريعة.
قال تعالى:" ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه".
قال ابن القيم في مدارج السالكين ج2/ص74: " قال جماعة من المفسرين حرمات الله ههنا مغاضبه وما نهى عنه وتعظيمها ترك ملابستها قال الليث حرمات الله ما لا يحل انتهاكها وقال قوم الحرمات هي الأمر والنهي وقال الزجاج الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه وقال قوم الحرمات ههنا المناسك ومشاعر الحج زمانا ومكانا.
والصواب أن الحرمات تعم هذا كله وهي جمع حرمة وهي ما يجب احترامه وحفظه من الحقوق والأشخاص والأزمنة والأماكن فتعظيمها توفيتها حقها وحفظها من الإضاعة".
وقال تعالى" ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب".
قال السعدي في التفسير ج1/ص538:" والمراد بالشعائر أعلام الدين الظاهرة ومنها المناسك كلها".
وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ج17/ص485: "المقصود تقوى القلوب لله وهو عبادتها له وحده دون ما سواه بغاية العبودية له والعبودية فيها غاية المحبة وغاية الذل والإخلاص وهذه ملة إبراهيم الخليل وهذا كله مما يبين أن عبادة القلوب هي الأصل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب والنية والقصد هما عمل القلب فلابد في المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم من اعتبار النية والقصد".
وقال تعالى أيضا في بيان حال المؤمنين مع النصوص الشرعية " إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَآئِزُون".
قال الشنقيطي في أضواء البيان ج7/ص304:" ولا شك عند أحد من أهل العلم أن طاعة الله ورسوله المذكورة في هذه الآيات ونحوها من نصوص الوحي محصورة في العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم".
وقال السعدي ج1/ص572:" أي حقيقة الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم سواء وافق أهواءهم أو خالفها أن يقولوا سمعنا وأطعنا أي سمعنا حكم الله ورسوله وأجبنا من دعانا إليه وأطعنا طاعة تامة سالمة من الحرج وأولئك هم المفلحون حصر الفلاح فيهم لأن الفلاح الفوز بالمطلوب والنجاة من المكروه ولا يفلح إلا من حكم الله ورسوله وأطاع الله ورسوله ولما ذكر فضل الطاعة في الحكم خصوصا ذكر فضلها عموما في جميع الأحوال فقال ومن يطع الله ورسوله فيصدق خبرهما ويمتثل أمرهما ويخش الله أي يخافه خوفا مقرونا بمعرفة فيترك ما نهى عنه ويكف نفسه عما تهوى ولهذا قال ويتقه بترك المحظور لأن التقوى عند الإطلاق يدخل فيها فعل المأمور به وترك المنهي عنه وعند اقترانها بالبر أو الطاعة كما في هذا الموضع تفسر بتوقي عذاب الله بترك معاصيه فأولئك الذين جمعوا بين طاعة الله وطاعة رسوله وخشية الله وتقواه هم الفائزون بنجاتهم من العذاب لتركهم أسبابه ووصولهم إلى الثواب لفعلهم أسبابه فالفوز محصور فيهم وأما من لم يتصف بوصفهم فإنه يفوته من الفوز بحسب ما قصر عنه من هذه الأوصاف الحميدة".
وهم الذين يمتنعون من الاختيار عند أمر الرسول صلى الله عليه وسلم . قال تعالى :" وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخَيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ".
قال الشنقيطي في أضواء البيان ج3/ص43:" فدلت الآية على أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم مانع من الاختيار موجب للامتثال".
وقال أيضا ج4/ص204: " فإنما منعهم من الخيرة عند حكمه وحكم رسوله لا عند آراء الرجال وأقيستهم وظنونهم".
وقال ابن كثير ج3/ص491:" فهذه الآية عامة في جميع الأمور وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد ههنا ولا رأي ولا قول".
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين ج1/ص51:" فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ ليس لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَخْتَارَ بَعْدَ قَضَائِهِ وَقَضَاءِ رَسُولِهِ وَمَنْ تَخَيَّرَ بَعْدَ ذلك فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا".
وقال أيضا ج1/ص241:" فَإِنَّمَا مَنَعَهُمْ من الْخِيَرَةِ عِنْدَ حُكْمِهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ لَا عِنْدَ آرَاءِ الرِّجَالِ وَأَقْيِسَتِهِمْ وَظُنُونِهِمْ".
وقال في مدارج السالكين ج2/ص188:" فاختيار العبد خلاف ذلك مناف لإيمانه وتسليمه ورضاه بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا".
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما.
أما بعد :
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة".
وفي رواية لمسلم ج3/ص1525: "عن سَعْدِ بن أبي وَقَّاصٍ قال قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ على الْحَقِّ حتى تَقُومَ السَّاعَةُ".
قال النووي في شرح مسلم13/68:" قال على بن المدينى المراد بأهل الغرب العرب والمراد بالغرب الدلو الكبير لاختصاصهم بها غالبا وقال آخرون المراد به الغرب من الأرض وقال معاذ هم بالشام وجاء في حديث آخر هم ببيت المقدس وقيل هم أهل الشام وما وراء ذلك قال القاضي وقيل المراد بأهل الغرب أهل الشدة والجلد وغرب كل شيء حدته".
وقال السيوطي في الديباج على مسلم ج4/ص514:" وقيل المراد الغرب من الأرض الذي هو ضد الشرق فقيل المراد أهل الشام وقيل الشام وما وراء ذلك وقيل أهل بيت المقدس قال القرطبي أول الغرب بالنسبة إلى المدينة النبوية هو الشام وآخره حيث تنقطع الأرض من الغرب الأقصى وما بينهما كل ذلك يقال عليه مغرب فهل المراد المغرب كله أو أوله كل ذلك محتمل وقال أبو بكر الطرطوشي في رسالة بعث بها إلى أقصى المغرب الله أعلم هل أرادكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث أو أراد بذلك جملة أهل المغرب لما هم عليه من التمسك بالسنة والجماعة وطهارتهم من البدع والإحداث في الدين والاقتفاء لآثار من مضى من السلف الصالح؛ ومما يؤيد أن المراد بالغرب من الأرض رواية عبد بن حميد وبقي بن مخلد ولا يزال أهل الغرب ورواية الدارقطني لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق في المغرب حتى تقوم الساعة قلت(السيوطي) لا يبعد أن يراد بالمغرب مصر فإنها معدودة في الخط الغربي بالاتفاق وقد روى الطبراني والحاكم وصححه عن عمرو بن الحمق قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تكون فتنة أسلم الناس فيها الجند الغربي قال ابن الحمق فلذلك قدمت عليكم مصر وأخرجه محمد بن الربيع الجيزي في مسند الصحابة الذين دخلوا مصر وزاد فيه وأنتم الجند الغربي فهذه منقبة لمصر في صدر الملة واستمرت قليلة الفتن معافاة طول الملة لم يعترها ما اعترى غيرها من الأقطار وما زالت معدن العلم والدين ثم صارت في آخر الأمر دار الخلافة ومحط الرحال ولا بلد الآن في سائر الأقطار بعد مكة والمدينة يظهر فيها من شعائر الدين ما هو ظاهر في مصر".
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ج28/ص552: " وأول الغرب ما يسامت البيرة ونحوها فإن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بهذا الكلام وهو بالمدينة النبوية فما يغرب عنها فهو غرب كالشام ومصر وما شرق عنها فهو شرق كـالجزيرة والعراق وكان السلف يسمون أهل الشام أهل المغرب".
قال ياقوت بن عبدالله الحموي في معجم البلدان ج1/ص526:" البيرة في عدة مواضع منها بلد قرب سميساط بين حلب والثغور الرومية وهي قلعة حصينة ولها رستاق واسع ... والبيرة بين بيت المقدس ونابلس خربها الملك الناصر حين استنقذها من الأفرنج رأيتها وفي عدة مواضع، وأما إلبيرة التي في الأندلس فألفها أصلي والنسبة الإلبيري". وهي غير مرادة في كلام شيخ الإسلام ولعله أراد بيرة حلب أو بيرة المقدس لا إلبيرة الأندلس والله أعلم.
قال الشيخ الألباني في الضعيفة(ح6390):" وفي تفسير أهل الغرب " اختلاف ، والظاهر أنهم أهل الشام ، لأنهم غرب المدينة كما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية ، فانظر "الفتاوى" (27/507 - 50.ولكن ذلك لا يستلزم الدوام ، وعدم وجود الطائفة في إقليم آخر".
ولكن المعلمي يرى غير ذلك فيقول في الأنوار الكاشفة (ص140):" أقول: قد قيل وقيل، وأقرب الأقوال أن المراد بالغرب الحدة والشوكة في الجهاد، ففي حديث جابر بن سمرة ((لا يزال هذا الدين قائماً تقاتل عليه عصابة.. )) وفي حديث جابر بن عبد الله ((طائفة من أمتي يقاتلون )) ونحوه في حديث معاوية وحديث عقبة بن عامر".
وقال القرطبي في تفسيره ج8/ص296: "قال يزيد بن هارون إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم. قلت ( القرطبي) وهذا قول عبد الرزاق في تأويل الآية إنهم أصحاب الحديث ذكره الثعلبي سمعت شيخنا الأستاذ المقرئ النحوي المحدث أبا جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي المعروف بابن أبي حجة رحمه الله يقول في تأويل قوله عليه السلام لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة إنهم العلماء قال وذلك أن الغرب لفظ مشترك يطلق على الدلو الكبير وعلى مغرب الشمس ويطلق على فيضة من الدمع فمعنى لا يزال أهل الغرب أي لا يزال أهل فيض الدمع من خشية الله عن علم به وبأحكامه ظاهرين الحديث... قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء قلت وهذا التأويل يعضده قوله عليه السلام في صحيح مسلم من يرد الله به خيرا يفقه في الدين ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة وظاهر هذا المساق أن أوله مرتبط بآخره والله أعلم".
قلت ( أبو الحسين ): لا تنافي بين هذه الأقوال فقد يكونون في الشام؛ مصر ؛ بيت المقدس؛ الغرب كله ؛ أو بعضه ؛ ولا يلزم من عدم وجودهم في مكان آخر ومع ذلك هم أهل حدة في قتالهم الكفار وأهل دمع في تهجدهم في الليل؛ فهم أهل علم وتقوى وجهاد".
كما تفيد لفظة (لا تزال) الدوام والاستمرار ؛ قال الصبان في حاشيته على شرح الأشموني لألفية ابن مالك1/333 " تدل على ملازمة المخبر عنه على ما يقتضيه الحال ".
وقال الشيخ عبد الله الفوازان في شرحه لألفية ابن مالك1/111:" تدل على ملازمة الخبر للاسم ملازمة مستمرة لا تنقطع. أو مستمرة إلى وقت الكلام، ثم تنقطع بعد وقت طويل أو قصير، فالأول نحو: ما زال الأدب حلية طالب العلم. ومثال الثاني: لا يزال الخطيب متكلماً".
وهنا يلازم الخبر اسمه ملازمة مستمرة إلى يوم القيامة لقوله صلى الله عليه وسلم" ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة".
قال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان ج7/ص377:" ولا شك في أن هذه الطائفة التي صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأنها لا تزال ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر الله أنها طائفة على كتاب الله وسنة رسوله وليست ألبتة من المقلدين التقليد الأعمى لأن الحق هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة كما قال تعالى في سورة النساء" يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ" وقال في الأنعام"وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ" وقال في النمل" فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ" وقال في يونس"يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ" والآيات بمثل ذلك كثيرة".
وهذا الحديث متواتر روي من حديث ستة عشر صحابيا وقد نص على تواتره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم1/6:" قد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال وذكر الحديث والحديث رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم ولقد ثبت عن أهل العلم أن المراد بهذه الطائفة هم أهل الحديث منهم عبدالله بن المبارك قال هم عندي أصحاب الحديث".
وقال الترمذي في السنن 4/485:" قال محمد بن إسماعيل قال عَلِيُّ بن الْمَدِينِيِّ هُمْ أَصْحَابُ الحديث".
وقال الحاكم في علوم الحديث1/35:" قد أحسن أحمد بن حنبل في تفسير هذا الخبر أن الطائفة المنصورة التي يرفع الخذلان عنهم إلى قيام الساعة هم أصحاب الحديث ومن أحق بهذا التأويل من قوم سلكوا محجة الصالحين واتبعوا آثار السلف من الماضين ودمغوا أهل البدع والمخالفين بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين من قوم آثروا قطع المفاوز والقفار على التنعم في الدمن والأوطار وتنعموا بالبؤس في الأسفار مع مساكنة العلم والأخبار وقنعوا عند جمع الأحاديث والآثار بوجود الكسر والأطمار قد رفضوا الإلحاد الذي تتوق إليه النفوس الشهوانية وتوابع ذلك من البدع والأهواء والمقاييس والآراء والزيغ جعلوا المساجد بيوتهم وأساطينها تكاهم وبواريها فرشهم؛ وأحمد بن حنبل قال إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث فلا أدري من هم روى الخطيب عن أبي حاتم قال سمعت أحمد بن سنان وذكر الحديث فقال هم أهل العلم وأصحاب الأثر" .
وقال البخاري في صحيحه ج6/ص2667: بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ يُقَاتِلُونَ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ.
ثم قال البخاري :" عن الْمُغِيرَةِ بن شُعْبَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لَا تزال طَائِفَةٌ من أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حتى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ ".
"وعن بن شِهَابٍ أخبرني حُمَيْدٌ قال سمعت مُعَاوِيَةَ بن أبي سُفْيَانَ يَخْطُبُ قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من يُرِدْ الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ وَإِنَّمَا أنا قَاسِمٌ وَيُعْطِي الله وَلَنْ يَزَالَ أَمْرُ هذه الْأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حتى تَقُومَ السَّاعَةُ أو حتى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ".
وفي صحيح مسلم ج1/ص137:" عن ابن جُرَيْجٍ قال أخبرني أبو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سمع جَابِرَ بن عبد اللَّهِ يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ من أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ على الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قال فَيَنْزِلُ عِيسَى بن مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم فيقول أَمِيرُهُمْ تَعَالَ صَلِّ لنا فيقول لَا إِنَّ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ أُمَرَاءُ تَكْرِمَةَ اللَّهِ هذه الْأُمَّةَ".
وفي صحيح مسلم ج3/ص1524:" عن جَابِرِ بن سَمُرَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَنْ يَبْرَحَ هذا الدِّينُ قَائِمًا يُقَاتِلُ عليه عِصَابَةٌ من الْمُسْلِمِينَ حتى تَقُومَ السَّاعَةُ ".
وحدثني هَارُونُ بن عبد اللَّهِ وَحَجَّاجُ بن الشَّاعِرِ قالا حدثنا حَجَّاجُ بن مُحَمَّدٍ قال قال ابن جُرَيْجٍ أخبرني أبو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سمع جَابِرَ بن عبد اللَّهِ يقول سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ من أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ على الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".
وعن عبد الرحمن بن يَزِيدَ بن جَابِرٍ أَنَّ عُمَيْرَ بن هَانِئٍ حدثه قال سمعت مُعَاوِيَةَ على الْمِنْبَرِ يقول سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ من أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ من خَذَلَهُمْ أو خَالَفَهُمْ حتى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ على الناس".
وعن يَزِيدُ بن الْأَصَمِّ قال سمعت مُعَاوِيَةَ بن أبي سُفْيَانَ ذَكَرَ حَدِيثًا رَوَاهُ عن النبي صلى الله عليه وسلم لم أَسْمَعْهُ رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم على مِنْبَرِهِ حَدِيثًا غَيْرَهُ قال قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من يُرِدْ الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ ولا تَزَالُ عِصَابَةٌ من الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ على الْحَقِّ ظَاهِرِينَ على من نَاوَأَهُمْ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".
وعن عبد الرحمن بن شِمَاسَةَ الْمَهْرِيُّ قال كنت عِنْدَ مَسْلَمَةَ بن مُخَلَّدٍ وَعِنْدَهُ عبد اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ فقال عبد اللَّهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إلا على شِرَارِ الْخَلْقِ هُمْ شَرٌّ من أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَدْعُونَ اللَّهَ بِشَيْءٍ إلا رَدَّهُ عليهم فَبَيْنَمَا هُمْ على ذلك أَقْبَلَ عُقْبَةُ بن عَامِرٍ فقال له مَسْلَمَةُ يا عُقْبَةُ اسْمَعْ ما يقول عبد اللَّهِ فقال عُقْبَةُ هو أَعْلَمُ وَأَمَّا أنا فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ من أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ على أَمْرِ اللَّهِ قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ لَا يَضُرُّهُمْ من خَالَفَهُمْ حتى تَأْتِيَهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ على ذلك فقال عبد اللَّهِ أَجَلْ ثُمَّ يَبْعَثُ الله رِيحًا كَرِيحِ الْمِسْكِ مَسُّهَا مَسُّ الْحَرِيرِ فلا تَتْرُكُ نَفْسًا في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ من الْإِيمَانِ إلا قَبَضَتْهُ ثُمَّ يَبْقَى شِرَارُ الناس عليهم تَقُومُ السَّاعَةُ".
وقال القاضي عياض في الإلماع(ص27):" كان الأعمش يقول لا أعلم لله قوما أفضل من قوم يطلبون هذا الحديث ويحيون هذه السنة وكم أنتم في الناس والله لأنتم أقل من الذهب".
قال الشيخ الألباني في الصحيحة1/478:" قد يستغرب بعض الناس تفسير هؤلاء الأئمة للطائفة الظاهرة والفرقة الناجية بأنهم أهل الحديث ولا غرابة في ذلك إذا تذكرنا ما يأتي:
أولا: إن أهل الحديث هم بحكم اختصاصهم في دراسة السنة وما يتعلق من معرفة تراجم الرواة وعلل الحديث وطرقه أعلم الناس قاطبة بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وهدية وأخلاقه وغزواته وما يتصل به.
ثانيا: إن الأمة قد انقسمت إلى فرق ومذاهب لم تكن في القرن الأول ولكل مذهب أصوله وفروعه وأحاديثه التي يستدل بها ويعتمد عليها وإن المتمذهب بواحد منها يتعصب له ويتمسك بكل ما فيه دون أن يلتفت إلى المذاهب الأخرى وينظر لعله يحد فيها من الأحاديث ما لا يجده في مذهبه الذي قلده فإن من الثابت لدى أهل العلم أن في كل مذهب من السنة والأحاديث ما لا يوجد في المذهب الآخر فالمتمسك بالمذهب الواحد يضل ولا بد عن قسم عظيم من السنة المحفوظة لدى المذاهب الأخرى وليس على هذا أهل الحديث فإنهم يأخذون بكل حديث صح إسناده في أي مذهب كان ومن أي طائفة كان راويه ما دام أنه مسلم ثقة حتى لو كان شيعيا أو قدريا أو خارجيا فضلا عن أن يكون حنفيا أو مالكيا أو غير ذلك وقد صرح بهذا الإمام الشافعي رضي الله عنه حين خاطب الإمام أحمد بقوله أنتم أعلم بالحديث مني فإذا جاءكم الحديث صحيحا فأخبرني به حتى أذهب إليه سواء كان حجازيا أم كوفيا أم مصريا فأهل الحديث حشرنا الله معهم لا يتعصبون لقول شخص معين مهما علا وسما حاشا محمدا صلى الله عليه وسلم بخلاف غيرهم ممن لا ينتمي إلى الحديث والعمل به فإنهم يتعصبون لأقوال أئمتهم وقد نهوهم عن ذلك كما يتعصب أهل الحديث لأقوال نبيهم فلا عجب بعد هذا البيان أن يكون أهل الحديث هم الطائفة الظاهرة والفرقة الناجية بل والأمة الوسط الشهداء على الخلق ".
وقال الخطيب في مقدمة الكفاية في علم الرواية (ص5) :" عن أحمد بن على الأبار قال رأيت بالأهواز رجلا حف شاربه وأظنه قد اشترى كتبا وتعبأ للفتيا فذكروا أصحاب الحديث فقال ليسوا بشيء وليس يسوون شيئا فقلت له أنت لا تحسن تصلى قال قلت نعم قلت أيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتحت الصلاة ورفعت يديك فسكت فقلت وأيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وضعت يديك على ركبتيك فسكت قلت أيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجدت فسكت قلت مالك لا تكلم ألم أقل لك انك لا تحسن تصلى أنت إنما قيل لك تصلى الغداة ركعتين والظهر أربعا فالزم ذا خير لك من أن تذكر أصحاب الحديث فلست بشيء ولا تحسن شيئا فهذا المذكور مثله في الفقهاء كمثل من تقدم ذكرنا له ممن انتسب إلى الحديث ولم يعلق به منه غير سماعه وكتبه دون نظره في أنواع عمله وأما المحققون فيه المتخصصون به فهم الأئمة العلماء والسادة الفهماء أهل الفضل والفضيلة والمرتبة الرفيعة حفظوا على الأمة أحكام الرسول واخبروا على أنباء التنزيل وأثبتوا ناسخه ومنسوخه وميزوا محكمه ومتشابهه ودونوا أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وضبطوا على اختلاف الأمور أحواله في يقظته ومنامه وقعوده وقيامه وملبسه ومركبه ومأكله ومشربه حتى القلامة من ظفره ما كان يصنع بها والنخاعة من فيه كيف كان يلفظها وقوله عند كل فعل يحدثه ولدى كل موقف يشهده تعظيما لقدره صلى الله عليه وسلم ومعرفة بشرف ما ذكر عنه وعزى إليه وحفظوا مناقب صحابته ومآثر عشيرته وجاؤا بسير الأنبياء ومقامات الأولياء واختلاف الفقهاء ولولا عناية أصحاب الحديث بضبط السنن وجمعها واستنباطها من معادنها والنظر في طرقها لبطلت الشريعة وتعطلت أحكامها إذ كانت مستخرجة من الآثار المحفوظة ومستفادة من السنن المنقولة فمن عرف للإسلام حقه وأوجب للدين حرمته أكبر أن يحتقر من عظم الله شأنه وأعلى مكانه وأظهر حجته وأبان فضيلته ولم يرتق بطعنه إلى حزب الرسول وأتباع الوحي وأوعية الدين وخزنة العلم الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه فقال والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وكفى المحدث شرفا أن يكون اسمه مقرونا باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكره متصلا بذكره ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم والواجب على من خصه الله تعالى بهذه الرتبة وبلغه إلى هذه المنزلة أن يبذل مجهوده في تتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وطلبها من مظانها وحملها عن أهلها والتفقه بها والنظر في أحكامها والبحث عن معانيها والتأدب بآدابها ويصدف عما يقل نفعه وتبعد فائدته من طلب الشواذ والمنكرات وتتبع الأباطيل والموضوعات ويؤتي الحديث حقه من الدراسة والحفظ والتهذيب والضبط ويتميز بما تقتضيه حاله ويعود عليه زينه وجماله".
وقال رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه شرف أصحاب الحديث1/8:" أن الحديث يشتمل على معرفة أصول التوحيد وبيان ما جاء من وجوه الوعد والوعيد وصفات رب العالمين تعالى عن مقالات الملحدين والإخبار عن صفة الجنة والنار وما أعد صفة الجنة والنار وما أعد الله فيهما للمتقين والفجار وما خلق الله في الأرضين والسماوات وصنوف العجائب وعظيم الآيات وذكر الملائكة المقربين ونعت الصافين والمسبحين وفي الحديث قصص الأنبياء وأخبار الزهاد والأولياء ومواعظ البلغاء وكلام الفقهاء وسير ملوك العرب والعجم وأقاصيص المتقدمين من الأمم وشرح مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم وسراياه وجعل أحكامه وقضاياه وخطبه وعظاته وإعلامه ومعجزاته وعدة أزواجه وأولاده وأصهاره وأصحابه وذكر فضائلهم ومآثرهم وشرح أخبارهم ومناقبهم ومبلغ أعمارهم وبيان أنسابهم وفيه تفسير القران العظيم وما فيه من النبأ والذكر الحكيم وأقاويل الصحابة في الأحكام المحفوظة عنهم وتسمية من ذهب إلى قول كل واحد منهم من الأئمة الخالفين والفقهاء المجتهدين وقد جعل الله أهله أركان الشريعة وهدم بهم كل بدعة شنيعة فهم أمناء الله في خليقته والواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأمته والمجتهدون في حفظ ملته أنوارهم زاهرة وفضائلهم سائرة وآياتهم باهرة ومذاهبهم ظاهرة وحججهم قاهرة وكل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه وتستحسن رأيا تعكف عليه سوى أصحاب الحديث فإن الكتاب عدتهم والسنة حجتهم والرسول فئتهم وإليه نسبتهم لا يعرجون على الأهواء ولا يلتفتون إلى الآراء يقبل منهم ما رووا عن الرسول وهم المأمونون عليه العدول حفظة الدين وخزنته وأوعية العلم وحملته إذا اختلف في حديث كان إليهم الرجوع فما حكموا به فهو المقبول المسموع منهم كل عالم فقيه وإمام رفيع نبيه وزاهد في قبيلة ومخصوص بفضليه وقارئ متقن وخطيب محسن وهم الجمهور العظيم وسبيلهم السبيل المستقيم وكل مبتدع باعتقادهم يتظاهر وعلل الإفصاح بغير مذاهبهم لا يتجاسر من كادهم قصمه الله ومن عاندهم خذله الله لا يضرهم من خذلهم ولا يفلح من اعتزلهم المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير ويصير الناظر بالسوء إليهم حسير وإن الله على نصرهم لقدير" .
وقال معالي الشيخ صالح آل الشيخ (حفظه الله وأطال في عمره ونفع في علمه) في شرح الطحاوية (ص34: " فالواجب على كل مسلم يريد السلامة في دينه وأن يكون ممن وَعَدَهُ النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون من الفرقة الواحدة التي لم تأخذ سبيل الثنتين والسبعين فرقة أن يلزم أمر الجماعة قبل أن تفسد الجماعة، وهذا من أعظم مقاصد الدّين العظيمة التي يمتثلها العبد بامتثال قوله تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} فالعبد المؤمن يلزم هذه الطريقة".
وقال الشيخ صالح في شرح الواسطية 1/18:" هم ظاهرون ومنصورون، ينصرهم الله جل وعلا على من عداهم إما بالحجة وإما بالسنان إما باللسان نصر بيان ولسان وإما نصر سنان إذا كان ثَمَّ جهاد قائم . وإما نصر حجة وبيان وهذا لا يخلو منه أهل السنة والجماعة" .
وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ج35/ص374:" ومن اتبع ما بعث الله به رسوله كان مهديا منصورا بنصرة الله في الدنيا والآخرة كما قال تعالى إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وقال تعالى ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون".
وبعد ذلك نقول:
إنَّ الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله.
ولهذا قال الطحاوي في عقيدته:" وَلا تَثْبُتُ قَدَمُ الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِسْلَامِ".
ويلزم من ذلك تعظيم الله في أمره ونهيه وتعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم وتعظيم حملة الشريعة.
قال تعالى:" ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه".
قال ابن القيم في مدارج السالكين ج2/ص74: " قال جماعة من المفسرين حرمات الله ههنا مغاضبه وما نهى عنه وتعظيمها ترك ملابستها قال الليث حرمات الله ما لا يحل انتهاكها وقال قوم الحرمات هي الأمر والنهي وقال الزجاج الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه وقال قوم الحرمات ههنا المناسك ومشاعر الحج زمانا ومكانا.
والصواب أن الحرمات تعم هذا كله وهي جمع حرمة وهي ما يجب احترامه وحفظه من الحقوق والأشخاص والأزمنة والأماكن فتعظيمها توفيتها حقها وحفظها من الإضاعة".
وقال تعالى" ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب".
قال السعدي في التفسير ج1/ص538:" والمراد بالشعائر أعلام الدين الظاهرة ومنها المناسك كلها".
وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ج17/ص485: "المقصود تقوى القلوب لله وهو عبادتها له وحده دون ما سواه بغاية العبودية له والعبودية فيها غاية المحبة وغاية الذل والإخلاص وهذه ملة إبراهيم الخليل وهذا كله مما يبين أن عبادة القلوب هي الأصل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب والنية والقصد هما عمل القلب فلابد في المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم من اعتبار النية والقصد".
وقال تعالى أيضا في بيان حال المؤمنين مع النصوص الشرعية " إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَآئِزُون".
قال الشنقيطي في أضواء البيان ج7/ص304:" ولا شك عند أحد من أهل العلم أن طاعة الله ورسوله المذكورة في هذه الآيات ونحوها من نصوص الوحي محصورة في العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم".
وقال السعدي ج1/ص572:" أي حقيقة الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم سواء وافق أهواءهم أو خالفها أن يقولوا سمعنا وأطعنا أي سمعنا حكم الله ورسوله وأجبنا من دعانا إليه وأطعنا طاعة تامة سالمة من الحرج وأولئك هم المفلحون حصر الفلاح فيهم لأن الفلاح الفوز بالمطلوب والنجاة من المكروه ولا يفلح إلا من حكم الله ورسوله وأطاع الله ورسوله ولما ذكر فضل الطاعة في الحكم خصوصا ذكر فضلها عموما في جميع الأحوال فقال ومن يطع الله ورسوله فيصدق خبرهما ويمتثل أمرهما ويخش الله أي يخافه خوفا مقرونا بمعرفة فيترك ما نهى عنه ويكف نفسه عما تهوى ولهذا قال ويتقه بترك المحظور لأن التقوى عند الإطلاق يدخل فيها فعل المأمور به وترك المنهي عنه وعند اقترانها بالبر أو الطاعة كما في هذا الموضع تفسر بتوقي عذاب الله بترك معاصيه فأولئك الذين جمعوا بين طاعة الله وطاعة رسوله وخشية الله وتقواه هم الفائزون بنجاتهم من العذاب لتركهم أسبابه ووصولهم إلى الثواب لفعلهم أسبابه فالفوز محصور فيهم وأما من لم يتصف بوصفهم فإنه يفوته من الفوز بحسب ما قصر عنه من هذه الأوصاف الحميدة".
وهم الذين يمتنعون من الاختيار عند أمر الرسول صلى الله عليه وسلم . قال تعالى :" وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخَيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ".
قال الشنقيطي في أضواء البيان ج3/ص43:" فدلت الآية على أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم مانع من الاختيار موجب للامتثال".
وقال أيضا ج4/ص204: " فإنما منعهم من الخيرة عند حكمه وحكم رسوله لا عند آراء الرجال وأقيستهم وظنونهم".
وقال ابن كثير ج3/ص491:" فهذه الآية عامة في جميع الأمور وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد ههنا ولا رأي ولا قول".
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين ج1/ص51:" فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ ليس لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَخْتَارَ بَعْدَ قَضَائِهِ وَقَضَاءِ رَسُولِهِ وَمَنْ تَخَيَّرَ بَعْدَ ذلك فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا".
وقال أيضا ج1/ص241:" فَإِنَّمَا مَنَعَهُمْ من الْخِيَرَةِ عِنْدَ حُكْمِهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ لَا عِنْدَ آرَاءِ الرِّجَالِ وَأَقْيِسَتِهِمْ وَظُنُونِهِمْ".
وقال في مدارج السالكين ج2/ص188:" فاختيار العبد خلاف ذلك مناف لإيمانه وتسليمه ورضاه بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا".
يتبع بإذن الله
تعليق