الحمد لله العدل المبين، والصلاة والسلام على رسوله أعدل الخلق أجمعين، وعلى آله وصحبه الثِّقات العدول الَّذين يحكمون بالحقِّ وبه يعدلون، وعلى من اهتدى بهديه والتزم سنته وجعل العدل خلقه في الدنيا والدين، أما بعد:
فإن العدل نظام كل شيء وقوام كل أمر وميزان كل حكم، عليه قامت الأرض والسموات، وبه جاءت الشرائع والرسالات، فأنزل الله به كتبه، وبعث به رسله، وأمر به خلقه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل:90]، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِﭜ﴾ [الحديد:25].
فما أنزل الله تعالى من كتاب إلا وجاء فيه الحث على العدل في ثنايا الخطاب، وما أرسل من رسول إلا أمر أمته بالعدل على سبيل الإيجاب، ولقد أمر الله تعالى به وحث عليه في كثير من آيات الكتاب لكون الدين يقوم عليه والدنيا تستقيم به، فيعد العدل أساس تشريع الأحكام وعمود مقاصدها وقوام كل التصرفات والمعاملات، وعماد كل المواقف والالتزامات سواء الحقوق منها والواجبات، وشامل ومستغرق لكل الظروف والحالات، وهو ضمان لأحسن المآلات، وذلك لأن انتظام حياة الناس جميعها منوط بقدر ما عندهم من العدل وما يحققونه منه.
فإن العدل نظام كل شيء وقوام كل أمر وميزان كل حكم، عليه قامت الأرض والسموات، وبه جاءت الشرائع والرسالات، فأنزل الله به كتبه، وبعث به رسله، وأمر به خلقه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل:90]، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِﭜ﴾ [الحديد:25].
فما أنزل الله تعالى من كتاب إلا وجاء فيه الحث على العدل في ثنايا الخطاب، وما أرسل من رسول إلا أمر أمته بالعدل على سبيل الإيجاب، ولقد أمر الله تعالى به وحث عليه في كثير من آيات الكتاب لكون الدين يقوم عليه والدنيا تستقيم به، فيعد العدل أساس تشريع الأحكام وعمود مقاصدها وقوام كل التصرفات والمعاملات، وعماد كل المواقف والالتزامات سواء الحقوق منها والواجبات، وشامل ومستغرق لكل الظروف والحالات، وهو ضمان لأحسن المآلات، وذلك لأن انتظام حياة الناس جميعها منوط بقدر ما عندهم من العدل وما يحققونه منه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : «وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل، وذلك أن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة»([1])، ولما كانت الأمة المحمدية آخر وخاتمة الأمم جعلها الله تعالى شاهدة على الناس كلهم وقيمة على الأمم جميعهم ـ تُبلِّغهم دين الله وتشهد لهم بالعدل والإيمان أو عليهم بالظلم والطغيان، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة: 143] كان العدل فيها قائما ودائما، وفي دعوتها ورسالتها عاما وتاما وهاما، ذلك لأن الله تعالى لم يكتف بإيجاب العدل على هذه الأمة وإنما أراد أن تجعله خلقا من أخلاقها أو صفة من صفاتها تمتاز وتتميز بها من دون الناس، فالعدل سائد فيها سريرة وسيرة، وقائد لها دعوة ومسيرة، لا تحابي فيه قريبا لقرابته ولا تضار عدوا لعداوته، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء: 135]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 8].
قال ابن جرير الطبري رحمه الله: «يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعداوتهم لكم ولا تقصروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم لكم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدي، واعملوا فيه بأمري»([2]).
فالعدل إذًا راسخ في هذه الأمة ثابت في حياتها، ودائم مستغرق لكل أحوالها، وهي قائمة عليه ومحكومة به ولا تتأخر عنه، ولو كان فيه مراغمة للعواطف: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8]، وكذلك تستديم وتستحب وجوبه ولو كان فيه مراغمة لكافة عواطف المودة والقرابة ـ السببية منها والنسبية ـ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [النساء: 135].
لم تعرف أمة العدل بهذه الصورة الصافية، ولم تقم به بهذه الصفة الشاملة الخالصة الصادقة إلا على يد الأمة المحمدية التي جعلها الله نبراسا للناس وهي خير أمة أخرجت للناس، قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110].
لم يكن العدل في حياة هذه الأمة مجرد صفة تتفاخر بها أو مثل تتظاهر بها أمام الأمم دون ممارسة أو تطبيق، ولكنه كان واقعا عاشته ومارسته بصدق والتزمت به وطبقته بحق وبهذا جعلها الله تعالى شاهدة وحجة على البشرية، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143]، قال ابن كثير رحمه الله: «شهادة أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على جميع الأمم يوم القيامة برهان على عدالة هذه الأمة وشرفها»([3]).
فالعدل مبدأ عظيم وميزان قويم في كل الشؤون والأحوال الخاصة والعامة، ولذلك جاء الأمر به والحث عليه والقيام والالتزام به في كل الأقوال والأفعال العقدية منها والتعبدية والحسية منها والمعنوية، القاصرة منها والمتعدية.
ومن المواضع ـ مثلا ـ المطلوب فيها العدل من المكلف:
قال ابن تيمية رحمه الله: «وأمر العالم في الشريعة مبني على هذا وهو العدل في الدماء والأموال والأبضاع والأنساب والأعراض، ولهذا جاءت السنة بالقصاص في ذلك ومقابلة العادي بمثل فعله»([6])، «ومن التصرفات والتجاوزات ما يستحق أن يكون الجزاء عليهما شديدًا سديدًا، ومنها ما يلزم فيه الرفق ويستحب فيه اللين، والخلاصة أن الشريعة الكاملة جاءت باللين في محله والشدة في محلها، فلا يجوز للمسلم أن يتجاهل ذلك، ولا يجوز ـ أيضا ـ أن يوضع اللين في محل الشدة ولا الشدة في محل اللين، ولا ينبغي أن ينسب إلى الشريعة أنها جاءت باللين فقط ولا أنها جاءت بالشدة فقط، بل هي شريعة حكيمة كاملة صالحة لكل زمان ومكان ولإصلاح جميع الأمة، ولذلك جاءت بالأمرين معا واتسمت بالعدل والحكمة والسماحة»([7]).
وحتى لا يقع العبد في الظلم والبهتان والتجاوز والعدوان وهو يلتمس العدل والإحسان: فلابد أن يكون العلم والفرقان مرآته العدل والميزان ومن علم عمل به على حقيقته وصفته، أما الجاهل فلا يتصور منه العدل في قضية شرعية يجهلها، ولما كان العدل لابد أن يتقدمه العلم، إذ من لا يعلم لا يدري ما العدل، والناس من القضاة وغيرهم ثلاثة أصناف: العالم العادل، والجاهل، والظالم.
فالعدل مطلوب على وجه الوجوب في المكروه والمحبوب والعدول عنه ظلم وحوب فإنه واجب في الغضب والرضا والمنشط والمكره والسر والعلن ومع الغني والفقير والقوي والضعيف والصديق والعدو والقريب والغريب، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8].
ومن كمال محبة الله ورسوله للعدل أنه أمر به الإنسان في كل شؤونه حتى في شأن نفسه وخاصة أمره حيث نهاه عن حلق بعض رأسه وترك بعضه؛ لأنه ظلم للرأس وذلك لما ترك بعضه كاسيا وبعضه عاريا([8])، وكذلك نهيه للعبد أن يجلس بين الشمس والظل([9])؛ فإنه ظلم لبعض بدنه، وكذا نظيره مشي الرجل في نعل واحدة، بل إما أن ينعلهما أو يحفيهما([10]).
فهذه كلمات مختصرة في حقيقة العدل وأهميته في القول والفعل، وذكر بعض مواضعه على سبيل الذكر والمثال لا الحصر، فالله نسأل أن يرزقنا العدل في الأقوال والأعمال وسائر الأحوال.
(1) «مجموع الفتاوى» (28/146).
(2) «جامع البيان» (10/95).
(3) «النهاية في الملاحم والفتن» (2/9).
(4) «الجواب الصحيح» (1/106).
(5) «مجموع الفتاوى» (25/249.250).
(6) «مجموع الفتاوى» (18/167).
(7) «فتاوى ابن باز» (3/204).
( كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع.
أخرجه البخاري واللفظ له (5921) ومسلم (2120).
(9) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أحدكم في الشمس ـ أي في الفيء ـ فقلص عنه الظل، وصار بعضه في الشمس وبعضه في الظل، فليقم».
أخرجه أبو داود (4821)، ينظر: «صحيح الجامع» (74.
(10) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمشي أحدكم في نعل واحدة لينعلهما جميعا أو ليخلعهما جميعا».
أخرجه البخاري (5855)، ومسلم (2097).
قال ابن جرير الطبري رحمه الله: «يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعداوتهم لكم ولا تقصروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم لكم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدي، واعملوا فيه بأمري»([2]).
فالعدل إذًا راسخ في هذه الأمة ثابت في حياتها، ودائم مستغرق لكل أحوالها، وهي قائمة عليه ومحكومة به ولا تتأخر عنه، ولو كان فيه مراغمة للعواطف: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8]، وكذلك تستديم وتستحب وجوبه ولو كان فيه مراغمة لكافة عواطف المودة والقرابة ـ السببية منها والنسبية ـ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [النساء: 135].
لم تعرف أمة العدل بهذه الصورة الصافية، ولم تقم به بهذه الصفة الشاملة الخالصة الصادقة إلا على يد الأمة المحمدية التي جعلها الله نبراسا للناس وهي خير أمة أخرجت للناس، قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110].
لم يكن العدل في حياة هذه الأمة مجرد صفة تتفاخر بها أو مثل تتظاهر بها أمام الأمم دون ممارسة أو تطبيق، ولكنه كان واقعا عاشته ومارسته بصدق والتزمت به وطبقته بحق وبهذا جعلها الله تعالى شاهدة وحجة على البشرية، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143]، قال ابن كثير رحمه الله: «شهادة أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على جميع الأمم يوم القيامة برهان على عدالة هذه الأمة وشرفها»([3]).
فالعدل مبدأ عظيم وميزان قويم في كل الشؤون والأحوال الخاصة والعامة، ولذلك جاء الأمر به والحث عليه والقيام والالتزام به في كل الأقوال والأفعال العقدية منها والتعبدية والحسية منها والمعنوية، القاصرة منها والمتعدية.
ومن المواضع ـ مثلا ـ المطلوب فيها العدل من المكلف:
- العدل في حق الله تعالى: ويتمثل في عبادته وحده لا شريك له وطاعته وعدم معصيته وشكره وعدم الكفر به، قال ابن تيمية رحمه الله: «أصل العدل العدل في حق الله تعالى وهو عبادته وحده لا شريك له، فإن الشرك ظلم عظيم كما قال لقمان لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]([4]).
- وكذلك في العبادة: مطلوب العدل وذلك بالوقوف عند الحد المشروع والقيام به على الوجه المشروع، وذلك بالاقتصاد في العبادات على ما ورد في السنة من غير غلو فيها ولا جفاء عنها، قال ابن تيمية رحمه الله: «إن الشرع جاء بالعدل في كل شيء والإسراف في العبادات من الجور الذي نهى عنه الشارع، وأمر بالاقتصاد في العبادات... فالعدل في العبادات من أكبر مقاصد الشرع»([5]).
- وكذلك الذي تولى أمر الحكم بين الناس ـ وعليهم ـ: أن يتحلى بالعدل ويتجلى العدل في حكمه بتحريه له، قال تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ [النساء: 58]، وإن الأمر بالعدل في الأحكام شامل لجوانب كثيرة من الدين المرتبطة بالدعوة إلى الله والاحتساب والتوجيه والتعليم في الأمور الدقيقة أو الجليلة، الكبيرة أو الصغيرة، حتى الذي يحكم بين الصبيان في الخطوط، فإن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا يعدونه من الحكام.
- ومن المجالات والمواضع التي يطلب فيها العدل كذلك الدماء والأموال والأعراض: وذلك أن العدل فيها هو الميزان بحق وتطبيقه بحق برهان الصدق، وذلك بمقابلة العادي بمثل فعله، وجزاؤه من جنس عمله.
قال ابن تيمية رحمه الله: «وأمر العالم في الشريعة مبني على هذا وهو العدل في الدماء والأموال والأبضاع والأنساب والأعراض، ولهذا جاءت السنة بالقصاص في ذلك ومقابلة العادي بمثل فعله»([6])، «ومن التصرفات والتجاوزات ما يستحق أن يكون الجزاء عليهما شديدًا سديدًا، ومنها ما يلزم فيه الرفق ويستحب فيه اللين، والخلاصة أن الشريعة الكاملة جاءت باللين في محله والشدة في محلها، فلا يجوز للمسلم أن يتجاهل ذلك، ولا يجوز ـ أيضا ـ أن يوضع اللين في محل الشدة ولا الشدة في محل اللين، ولا ينبغي أن ينسب إلى الشريعة أنها جاءت باللين فقط ولا أنها جاءت بالشدة فقط، بل هي شريعة حكيمة كاملة صالحة لكل زمان ومكان ولإصلاح جميع الأمة، ولذلك جاءت بالأمرين معا واتسمت بالعدل والحكمة والسماحة»([7]).
وحتى لا يقع العبد في الظلم والبهتان والتجاوز والعدوان وهو يلتمس العدل والإحسان: فلابد أن يكون العلم والفرقان مرآته العدل والميزان ومن علم عمل به على حقيقته وصفته، أما الجاهل فلا يتصور منه العدل في قضية شرعية يجهلها، ولما كان العدل لابد أن يتقدمه العلم، إذ من لا يعلم لا يدري ما العدل، والناس من القضاة وغيرهم ثلاثة أصناف: العالم العادل، والجاهل، والظالم.
فالعدل مطلوب على وجه الوجوب في المكروه والمحبوب والعدول عنه ظلم وحوب فإنه واجب في الغضب والرضا والمنشط والمكره والسر والعلن ومع الغني والفقير والقوي والضعيف والصديق والعدو والقريب والغريب، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8].
ومن كمال محبة الله ورسوله للعدل أنه أمر به الإنسان في كل شؤونه حتى في شأن نفسه وخاصة أمره حيث نهاه عن حلق بعض رأسه وترك بعضه؛ لأنه ظلم للرأس وذلك لما ترك بعضه كاسيا وبعضه عاريا([8])، وكذلك نهيه للعبد أن يجلس بين الشمس والظل([9])؛ فإنه ظلم لبعض بدنه، وكذا نظيره مشي الرجل في نعل واحدة، بل إما أن ينعلهما أو يحفيهما([10]).
فهذه كلمات مختصرة في حقيقة العدل وأهميته في القول والفعل، وذكر بعض مواضعه على سبيل الذكر والمثال لا الحصر، فالله نسأل أن يرزقنا العدل في الأقوال والأعمال وسائر الأحوال.
(1) «مجموع الفتاوى» (28/146).
(2) «جامع البيان» (10/95).
(3) «النهاية في الملاحم والفتن» (2/9).
(4) «الجواب الصحيح» (1/106).
(5) «مجموع الفتاوى» (25/249.250).
(6) «مجموع الفتاوى» (18/167).
(7) «فتاوى ابن باز» (3/204).
( كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع.
أخرجه البخاري واللفظ له (5921) ومسلم (2120).
(9) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أحدكم في الشمس ـ أي في الفيء ـ فقلص عنه الظل، وصار بعضه في الشمس وبعضه في الظل، فليقم».
أخرجه أبو داود (4821)، ينظر: «صحيح الجامع» (74.
(10) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمشي أحدكم في نعل واحدة لينعلهما جميعا أو ليخلعهما جميعا».
أخرجه البخاري (5855)، ومسلم (2097).