سر عجيب من أسرار الفشل في علاقات الناس بعضهم ببعض:
سر عجيب من أسرار الفشل في علاقات الناس بعضهم ببعض يكشفه الشيخان, ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، حيث نلحظ أنه يشتكي الناس من الصدمات في علاقاتهم بعضهم مع بعض، صدمة في صديق، في أخ، في قريب، في زوجة، وتتلخص هذه الشكاية في أنه لم يكن له كما يريد، وربما تبادل الشاكي والمشتكى عليه هذه الشكاية، فيعيش الواحد منا ضحية متهما، أو متهما ضحية، ونص الشكاية واحد بتعدد المواقف, (لم أجد من يقدرني، لم أجد من يفهمني، لم أجد من أكون معه روحا واحدة في جسدين، أعطيته أكبر من قدره وحجمه وهو لا يستحق، كنت أتوقع منه أكثر من هذا فصدمت فيه، لا يسأل عني، لا يبحث عني، لم أجد من يحبني كما أستحق، ضحيت من أجله فاكتشفت أنه لا يستحق)، وهلم جرا، كل هذه الدعاوى العريضة قد تكون بسبب مواقف تافهة، وربما لا يعلم الطرف الآخر لقصور المخلوق مقدار ما تطلبه منه وماهيته، ربما يظن في نفسه أنه يقوم بواجبك وزيادة، ومع هذا لا يصل الطرفان للرضى.
هذه الحاجة، وهذا الطمع في من يكون لك كما تريد أو فوق ما تريد تطبق الفطر البشرية بما فيها من تباين الطباع على الحاجة في طلبه، ودليله نصوص تلك الشكايات من الصدمات، فالفطر البشرية تعلنها صراحة أنها محتاجة لمن يفهمها، يقدرها، يريحها، يسعدها، لكن الصدمات المتكررة تكشف عن خطأ ما، خلل ما يدل على أنها أخطأت الطريق، والصدمات تعترضها وتنبهها إلى ذلك الخلل، حالات وأمراض نفسية بسبب تلك الصدمات، مرارة تعبر عن الحاجة إلى من ينفع ويدفع الضر، بدون أن يكون له فيك مصلحة، أسر تنهار، وأبناء يشردون، سكر وتعاطٍ، انتهاء بالانتحار، ثمرة لهذه المشكلة المتجذرة في عمق التاريخ البشري.
مشكلة متجذرة في عمق تاريخ الإنسانية، سببها رفع سقف الطمع والرجاء في مخلوق مثلك مثله، يرفع سقف الطمع فيك، فيتمناك أن تكون كما يريد، وفوق ما يريد، مع أنك وإياه مشتركان في الصفات ذاتها، فالمخلوق قاصر يطلب نفع نفسه ودفع ضره، ويسعى في إشباع نهمته، وهذا سر الحاجة إلى الاجتماع البشري، ولولا ذاك لاستغنى كل كائن بشري عن الآخر، ففسدت عمارة الكون، لكن، ما جاوز القصد إلى الإفراط كان له تأثير عكسي، فإذا ارتفع سقف الطمع في المخلوق زادت الصدمات والشكايات في العلاقات البشرية, لتباين المخلوقين في الطباع والأمزجة، وللقصور الملازم للمخلوق، كل هذا يقع ما لم تحكمها سنة كونية يجهلها أو يتجاهلها كثير من الناس، وهي أن رفع سقف الطمع من فقير في فقير مثله هو السبب في تلك الصدمات، فكيف تتوقع الكثير من مفتقر مثلك، له حاجياته كما لك حاجياتك، وله نهمته كما لك نهمتك، بينما الحاجة ملحة اضطرارا إلى غني يجبر فقرك، ويسد فاقتك، ينفعك لذاتك بلا مصلحة له فيك، لا ينتظر منك مقابلا.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيمجموع الفتاوى (1/39-41)):
" فصل والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارا إليه وخضوعا له : كان أقرب إليه ، وأعز له ، وأعظم لقدره ، فأسعد الخلق : أعظمهم عبودية لله . وأما المخلوق فكما قيل : احتج إلى من شئت تكن أسيره ، واستغن عمن شئت تكن نظيره ، وأحسن إلى من شئت تكن أميره ، ولقد صدق القائل : - بين التذلل والتدلل نقطة في رفعها تتحير الأفهام ذاك التذلل شرك فافهم يا فتى بالخلف.
"أعظم ما يكون العبد قدرا وحرمة عند الخلق : إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه ، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم : كنت أعظم ما يكون عندهم ، ومتى احتجت إليهم - ولو في شربة ماء - نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم ، وهذا من حكمة الله ورحمته ، ليكون الدين كله لله ، ولا يشرك به شيء . ولهذا قال حاتم الأصم ، لما سئل فيم السلامة من الناس ؟ قال : أن يكون شيؤك لهم مبذولا وتكون من شيئهم آيسا ، لكن إن كنت معوضا لهم عن ذلك وكانوا محتاجين ، فإن تعادلت الحاجتان تساويتم كالمتبايعين ليس لأحدهما فضل على الآخر وإن كانوا إليك أحوج خضعوا لك . فالرب سبحانه : أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه . وأفقر ما تكون إليه . والخلق : أهون ما يكون عليهم أحوج ما يكون إليهم ، لأنهم كلهم محتاجون في أنفسهم ، فهم لا يعلمون حوائجك ، ولا يهتدون إلى مصلحتك ، بل هم جهلة بمصالح أنفسهم ، فكيف يهتدون إلى مصلحة غيرهم فإنهم لا يقدرون عليها ، ولا يريدون من جهة أنفسهم ، فلا علم ولا قدرة ولا إرادة . والرب تعالى يعلم مصالحك ويقدر عليها ، ويريدها رحمة منه وفضلا ، وذلك صفته من جهة نفسه ، لا شيء آخر جعله مريدا راحما ، بل رحمته من لوازم نفسه ، فإنه كتب على نفسه الرحمة ، ورحمته وسعت كل شيء ، والخلق كلهم محتاجون ، لا يفعلون شيئا إلا لحاجتهم ومصلحتهم ، وهذا هو الواجب عليهم والحكمة ، ولا ينبغي لهم إلا ذلك ، لكن السعيد منهم الذي يعمل لمصلحته التي هي مصلحة ، لا لما يظنه مصلحة وليس كذلك . فهم ثلاثة أصناف : ظالم . وعادل . ومحسن . فالظالم : الذي يأخذ منك مالا أو نفعا ولا يعطيك عوضه ، أو ينفع نفسه بضررك . والعادل : المكافئ . كالبايع لا لك ولا عليك كل به يقوم الوجود ، وكل منهما محتاج إلى صاحبه كالزوجين والمتبايعين والشريكين . والمحسن الذي يحسن لا لعوض يناله منك . فهذا إنما عمل لحاجته ومصلحته ، وهو انتفاعه بالإحسان ، وما يحصل له بذلك مما تحبه نفسه من الأجر ، أو طلب مدح - الخلق وتعظيمهم ، أو التقرب إليك ، إلى غير ذلك . وبكل حال : ما أحسن إليك إلا لما يرجو من الانتفاع . وسائر الخلق إنما يكرمونك ويعظمونك لحاجتهم إليك ، وانتفاعهم بك ، إما بطريق المعاوضة ؛ لأن كل واحد من المتبايعين والمتشاركين والزوجين محتاج إلى الآخر ، والسيد محتاج إلى مماليكه وهم محتاجون إليه ، والملوك محتاجون إلى الجند والجند محتاجون إليهم ، وعلى هذا بني أمر العالم ، وأما بطريق الإحسان منك إليهم . فأقرباؤك وأصدقاؤك وغيرهم إذا أكرموك لنفسك ، فهم إنما يحبونك ويكرمونك لما يحصل لهم بنفسك من الكرامة ، فلو قد وليت ولوا عنك وتركوك فهم في الحقيقة إنما يحبون أنفسهم ، وأغراضهم . فهؤلاء كلهم من الملوك إلى من دونهم تجد أحدهم سيدا مطاعا وهو في الحقيقة عبد مطيع وإذا أوذي أحدهم بسبب سيده أو من يطيعه تغير الأمر بحسب الأحوال ، ومتى كنت محتاجا إليهم نقص الحب والإكرام والتعظيم بحسب ذلك وإن قضوا حاجتك . والرب تعالى : يمتنع أن يكون المخلوق الآخرين له أو متفضلا عليه ؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفعت مائدته : { الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مكفور ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا } رواه البخاري من حديث أبي أمامة بل ولا يزال الله هو المنعم المتفضل على العبد وحده لا شريك له في ذلك ؛ بل ما بالخلق كلهم من نعمة فمن الله ؛ وسعادة العبد في كمال افتقاره إلى الله ، واحتياجه إليه ، وأن يشهد ذلك ويعرفه ويتصف معه بموجبه ، أي بموجب علمه ذلك".
فعلاقات البشر مبنية على المعاوظات التي يختلفون في تقديرها، أو لا يعلمونها، وبين الواقع والمأمول غالبا ما تأتي الصدمة بحسب ما بينهما من الفجوة.
ويبين ابن القيم ذلك بأوجز عبارة في كتابه طريق الهجرتين (1/61) فيقول:
"ومما يوضح ذلك ويقويه أَن في تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه إِذا أَخذ منه القدر الزائد على حاجته المعينة له على عبودية الله ومحبته وتفريغ قلبه له، فإِنه إِن نال من الطعام الشراب فوق حاجاته ضره أَو أَهلكه، وكذلك من النكاح واللباس، وإِن أَحب شيئاً بحيث يُخالِلُهُ فلا بد أَن يسأَمه أَو يفارقه، فالضرر حاصل له إِن وجد أَو فقد، فإِن فقد تعذب بالفراق وتَأَلم، وإِن وجد فإِنه يحصل له من الأَلم أَكثر مما يحصل له من اللذة. وهذا أَمر معلوم بالاعتبار والاستقراء أَن كل من أَحب شيئاً دون الله لغير الله فإِن مضرته أَكثر من منفعته وعذابه أَعظم من نعيمه".
وذلك لأنه رفع سقف الطمع في ذاك المخلوق، بحيث توقع منه أمرا ربما لا يقدر عليه ذلك المخلوق، فيكون معذورا، ومع هذا يظل في نظر المشتكي منه مقصرا، أو هو يقدر عليه ويضن به على عادة المخلوق، أو غير ذلك.
فتأمل قوله: " إِذا أَخذ منه القدر الزائد على حاجته المعينة له على عبودية الله ومحبته وتفريغ قلبه له".
ثم بين ص62، سر التباين البشري وعدم استغنائهم عن بعضهم فقال:
"وهذا من حكمة الله التي أقام بها مصالح خلقه إِذ قسم بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفع بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً"
ثم قال ص62:
"فصل: في . بيان منفعة الحق، ومنفعة الخلق، وما بينهما من التباين
إِذا تبين هذا ظهر أَن أَحداً من المخلوقين لا يقصد منفعتك بالمقصد الأَول، بل إِنما يقصد منفعته بك، وقد يكون عليك في ذلك ضرر إِذا لم يراع المحب العدل، فإِذا دعوته فقد دعوت من ضرُّه أَقرب من نفعه. وأَما الرب تبارك وتعالى فهو يريدك لك ولمنفعتك لا لينتفع بك، وذلك منفعة لك محضة لا ضرر فيها، فتدبر هذا حق التدبر وراعه حق المراعاة، فملاحظة تمنعك أَن ترجو المخلوق أَو تطلب منه منفعته لك فإِنه لا يريد ذلك البتة بالقصد الأَول، بل إِنما يريد انتفاعه بك عاجلاً أَو آجلاً، فهو يريد نفسه لا يريدك، ويريد نفع نفسه بك لا نفعك بنفسه، فتأَمل ذلك فإن فيه منفعة عظيمة وراحة ويأْساً من المخلوقين، سداً لباب عبوديتهم وفتحاً لباب عبودية الله وحده، فما أَعظم حظ من عرف هذه المسأَلة ورعاها حق رعايتها. ولا يحملنك هذا على جفوة الناس وترك الإِحسان إِليهم واحتمال أَذاهم، بل أَحسن إِليهم لله لا لرجائهم، فكما لا تخافهم فلا ترجوهم".
فتأمل قوله: " بل إِنما يقصد منفعته بك، وقد يكون عليك في ذلك ضرر إِذا لم يراع المحب العدل"، وهذا نوع عجيب من استعباد المخلوق لمخلوق، فيأمرك، أو يجبرك على أمر فيه ضررك لأن فيه قضاء وطره، مع أنك تتألم وتتأذى، وقد يكون أقرب الناس إليك من يفعل ذلك بك في صورة محبة الخير لك، والحقيقة ضرر عليك، قال ابن القيم في المصدر السابق ص63:
" فإِن صاحب الحاجة أعمى لا يرى إلا قضاءَها، فهم لا يبالون بمضرتك إِذا أَدركوا منك حاجتهم، بل لو كان فيها هلاك دنياك وآخرتك لم يبالوا بذلك".
ويقول ابن القيم رحمه الله أيضا في إغاثة اللهفان (1/41):
"الوجه الثامن: أن الله سبحانه غني كريم عزيز رحيم. فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعه إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة منه وإحسانا. فهو سبحانه لم يخلق خلقه ليتكثر بهم من قلة، ولا ليعتز بهم من ذلة، ولا ليرزقوه قوة، ولا لينفعوه، ولا ليدفعوا عنه، كما قال تعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ منْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58] وقال تعالى: {وَقُلِ الحمْدُ لِلَّهِ الّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في اُلملْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِى مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء: 111]".
إلى أن قال (1/41-42):
"فهم لفقرهم وحاجتهم إنما يحسن بعضهم إلى بعض لحاجته إلى ذلك وانتفاعه به عاجلاً أو آجلاً. ولولا تصور ذلك النفع لما أحسن إليه. فهو في الحقيقة إنما أراد الإحسان إلى نفسه، وجعل إحسانه إلى غيره وسيلة وطريقا إلى وصول نفع ذلك الإحسان إليه. فإنه إما أن يحسن إليه لتوقع جزائه في العاجل، فهو محتاج إلى ذلك الجزاء، أو معاوضة بإحسانه، أو لتوقع حمده وشكره. وهو أيضاً إنما يحسن إليه ليحصل منه ما هو محتاج إليه من الثناء والمدح، فهو محسن إلى نفسه بإحسانه إلى الغير. وإما أن يريد الجزاء من الله تعالى فى الآخرة، فهو أيضاً محسن إلى نفسه بذلك، وإنما أخر جزاءه إلى يوم فقره وفاقته، فهو غير ملوم في هذا القصد، فإنه فقير محتاج، وفقره وحاجته أمر لازم له من لوازم ذاته، فكماله أن يحرص على ما ينفعه ولا يعجز عنه، وقال تعالى:
{إِنْ أحْسَنْتُمْ أََحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7] وقال: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إلَيْكمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272] .
وقال تعالى، فيما رواه عنه رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: " يَا عِبَادِى: إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِى فَتَنْفَعُونِى، وَلَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِى، يا عِبَادِى: إِنّمَا هِىَ أَعْماَلكُم أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غيْرَ ذلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ".
فالمخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد انتفاعه بك.
والرب تعالى إنما يريد نفعك لا انتفاعه به، وذلك منفعة محضة لك خالصة من المضرة، بخلاف إرادة المخلوق نفعك، فإنه قد يكون فيه مضرة عليك، ولو بتحمل منته.
فتدبر هذا فإن ملاحظته تمنعك أن ترجو المخلوق أو تعامله دون الله عز وجل، أو تطلب منه نفعا، أو دفعا أو تعلق قلبك به، فإنه إنما يريد انتفاعه بك لا محض نفعك، وهذا حال الخلق كلهم بعضهم مع بعض، وهو حال الولد مع والده، والزوج مع زوجه، والمملوك مع سيده، والشريك مع شريكه. فالسعيد من عاملهم لله تعالى لا لهم، وأحسن إليهم لله تعالى، وخاف الله تعالى فيهم، ولم يخفهم مع الله تعالى، ورجا الله تعالى بالإحسان إليهم، ولم يرجهم مع الله، وأحبهم بِحُبِّ الله، ولم يحبهم مع الله تعالى، كما قال أولياء الله عز وجل: {إِنمَا نُطعمكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكورًا} [الإنسان: 9]"..
ثم بين ما يقطع عليك الرجاء ورفع السقف في المخلوق فقال عقب الكلام السابق::
"الوجه التاسع: أن العبد المخلوق لا يعلم مصلحتك حتى يعرفه الله تعالى إياها، ولا يقدر على تحصيلها لك، حتى يقدره الله تعالى عليها، ولا يريد ذلك حتى يخلق الله فيه إرادة ومشيئة. فعاد الأمر كله لمن ابتدأ منه، وهو الذى بيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، فتعلق القلب بغيره رجاء وخوفا وتوكلا وعبودية: ضرر محض، لا منفعة فيه، وما يحصل بذلك من المنفعة فهو سبحانه وحده الذى قدرها ويسرها وأوصلها إليك".
وقال ابن القيم رحمه الله في طريق الهجرتين (1/63):
" فالسعيد الرابح من عامل الله فيهم ولم يعاملهم في الله، وخاف الله فيهم ولم يخفهم في الله وأَرضى الله بسخطهم ولم يرضهم بسخط الله، وراقب الله فيهم ولم يراقبهم في الله، وآثر الله عليهم ولم يؤثرهم في الله، وأَمات خوفهم ورجاءَهم وحبهم من قلبه وأَحى حب الله وخوفه ورجاءَه فيه، فهذا هو الذى يكتب عليهم، وتكون معاملته لهم كلها ربحاً، بشرط أَن يصبر على أَذاهم ويتخذه مغنماً لا مغرماً وربحاً لا خسراناً".
لو تعلمت هذا وأدركته وعملت به ارتحت من ركام من الهموم والصدمات بسبب المخلوقين.
ومما يقوي فيك هذا أن من كان رأس ماله في الدنيا رفع السقف الطمع في المخلوق إضافة إلى صدمات الدنيا فإن أحب الناس إليه في الدنيا يفرون منه أحوج ما يكون إلى النفع يوم القيامة، أمك التي بذلت من أجلك الغالي والنفيس، أبوك الذي كان يفتخر بك، أخوك الذي كان لك عضدا ومناصرا، زوجتك أم أولادك، أبناؤك الذين قضيت عمرك في تربيتهم ورعايتهم، كلهم سيتخلون عنك, {يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه}، ليس لك إلا الله الذي قل سقف طمعك في كرمه في الدنيا.
الأنساب ينقطع أثرها الذي كان في الدنيا, {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون}، {ولا يسأل حميم حميما}، عن حاله يوم ذاك، وهل يعرف بعضهم بعضا؟ {يبصرونهم}، تبصرهم ويبصرونك، تعرفهم ويعرفونك، ما لك إلا الله الذي بيده النفع والضر.
فسل الله أن يجبر كسرك وفقرك بغناه، وفي الأثر الإلهي, (عبدي، كن لي كما أريد، أكن لك فوق ما تريد)، وفي أثر آخر, (عبدي، اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فقدتني فقدت كل شيء)، والله أعلم، وهو الموفق والهادي سواء السبيل.
سر عجيب من أسرار الفشل في علاقات الناس بعضهم ببعض يكشفه الشيخان, ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، حيث نلحظ أنه يشتكي الناس من الصدمات في علاقاتهم بعضهم مع بعض، صدمة في صديق، في أخ، في قريب، في زوجة، وتتلخص هذه الشكاية في أنه لم يكن له كما يريد، وربما تبادل الشاكي والمشتكى عليه هذه الشكاية، فيعيش الواحد منا ضحية متهما، أو متهما ضحية، ونص الشكاية واحد بتعدد المواقف, (لم أجد من يقدرني، لم أجد من يفهمني، لم أجد من أكون معه روحا واحدة في جسدين، أعطيته أكبر من قدره وحجمه وهو لا يستحق، كنت أتوقع منه أكثر من هذا فصدمت فيه، لا يسأل عني، لا يبحث عني، لم أجد من يحبني كما أستحق، ضحيت من أجله فاكتشفت أنه لا يستحق)، وهلم جرا، كل هذه الدعاوى العريضة قد تكون بسبب مواقف تافهة، وربما لا يعلم الطرف الآخر لقصور المخلوق مقدار ما تطلبه منه وماهيته، ربما يظن في نفسه أنه يقوم بواجبك وزيادة، ومع هذا لا يصل الطرفان للرضى.
هذه الحاجة، وهذا الطمع في من يكون لك كما تريد أو فوق ما تريد تطبق الفطر البشرية بما فيها من تباين الطباع على الحاجة في طلبه، ودليله نصوص تلك الشكايات من الصدمات، فالفطر البشرية تعلنها صراحة أنها محتاجة لمن يفهمها، يقدرها، يريحها، يسعدها، لكن الصدمات المتكررة تكشف عن خطأ ما، خلل ما يدل على أنها أخطأت الطريق، والصدمات تعترضها وتنبهها إلى ذلك الخلل، حالات وأمراض نفسية بسبب تلك الصدمات، مرارة تعبر عن الحاجة إلى من ينفع ويدفع الضر، بدون أن يكون له فيك مصلحة، أسر تنهار، وأبناء يشردون، سكر وتعاطٍ، انتهاء بالانتحار، ثمرة لهذه المشكلة المتجذرة في عمق التاريخ البشري.
مشكلة متجذرة في عمق تاريخ الإنسانية، سببها رفع سقف الطمع والرجاء في مخلوق مثلك مثله، يرفع سقف الطمع فيك، فيتمناك أن تكون كما يريد، وفوق ما يريد، مع أنك وإياه مشتركان في الصفات ذاتها، فالمخلوق قاصر يطلب نفع نفسه ودفع ضره، ويسعى في إشباع نهمته، وهذا سر الحاجة إلى الاجتماع البشري، ولولا ذاك لاستغنى كل كائن بشري عن الآخر، ففسدت عمارة الكون، لكن، ما جاوز القصد إلى الإفراط كان له تأثير عكسي، فإذا ارتفع سقف الطمع في المخلوق زادت الصدمات والشكايات في العلاقات البشرية, لتباين المخلوقين في الطباع والأمزجة، وللقصور الملازم للمخلوق، كل هذا يقع ما لم تحكمها سنة كونية يجهلها أو يتجاهلها كثير من الناس، وهي أن رفع سقف الطمع من فقير في فقير مثله هو السبب في تلك الصدمات، فكيف تتوقع الكثير من مفتقر مثلك، له حاجياته كما لك حاجياتك، وله نهمته كما لك نهمتك، بينما الحاجة ملحة اضطرارا إلى غني يجبر فقرك، ويسد فاقتك، ينفعك لذاتك بلا مصلحة له فيك، لا ينتظر منك مقابلا.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيمجموع الفتاوى (1/39-41)):
" فصل والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارا إليه وخضوعا له : كان أقرب إليه ، وأعز له ، وأعظم لقدره ، فأسعد الخلق : أعظمهم عبودية لله . وأما المخلوق فكما قيل : احتج إلى من شئت تكن أسيره ، واستغن عمن شئت تكن نظيره ، وأحسن إلى من شئت تكن أميره ، ولقد صدق القائل : - بين التذلل والتدلل نقطة في رفعها تتحير الأفهام ذاك التذلل شرك فافهم يا فتى بالخلف.
"أعظم ما يكون العبد قدرا وحرمة عند الخلق : إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه ، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم : كنت أعظم ما يكون عندهم ، ومتى احتجت إليهم - ولو في شربة ماء - نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم ، وهذا من حكمة الله ورحمته ، ليكون الدين كله لله ، ولا يشرك به شيء . ولهذا قال حاتم الأصم ، لما سئل فيم السلامة من الناس ؟ قال : أن يكون شيؤك لهم مبذولا وتكون من شيئهم آيسا ، لكن إن كنت معوضا لهم عن ذلك وكانوا محتاجين ، فإن تعادلت الحاجتان تساويتم كالمتبايعين ليس لأحدهما فضل على الآخر وإن كانوا إليك أحوج خضعوا لك . فالرب سبحانه : أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه . وأفقر ما تكون إليه . والخلق : أهون ما يكون عليهم أحوج ما يكون إليهم ، لأنهم كلهم محتاجون في أنفسهم ، فهم لا يعلمون حوائجك ، ولا يهتدون إلى مصلحتك ، بل هم جهلة بمصالح أنفسهم ، فكيف يهتدون إلى مصلحة غيرهم فإنهم لا يقدرون عليها ، ولا يريدون من جهة أنفسهم ، فلا علم ولا قدرة ولا إرادة . والرب تعالى يعلم مصالحك ويقدر عليها ، ويريدها رحمة منه وفضلا ، وذلك صفته من جهة نفسه ، لا شيء آخر جعله مريدا راحما ، بل رحمته من لوازم نفسه ، فإنه كتب على نفسه الرحمة ، ورحمته وسعت كل شيء ، والخلق كلهم محتاجون ، لا يفعلون شيئا إلا لحاجتهم ومصلحتهم ، وهذا هو الواجب عليهم والحكمة ، ولا ينبغي لهم إلا ذلك ، لكن السعيد منهم الذي يعمل لمصلحته التي هي مصلحة ، لا لما يظنه مصلحة وليس كذلك . فهم ثلاثة أصناف : ظالم . وعادل . ومحسن . فالظالم : الذي يأخذ منك مالا أو نفعا ولا يعطيك عوضه ، أو ينفع نفسه بضررك . والعادل : المكافئ . كالبايع لا لك ولا عليك كل به يقوم الوجود ، وكل منهما محتاج إلى صاحبه كالزوجين والمتبايعين والشريكين . والمحسن الذي يحسن لا لعوض يناله منك . فهذا إنما عمل لحاجته ومصلحته ، وهو انتفاعه بالإحسان ، وما يحصل له بذلك مما تحبه نفسه من الأجر ، أو طلب مدح - الخلق وتعظيمهم ، أو التقرب إليك ، إلى غير ذلك . وبكل حال : ما أحسن إليك إلا لما يرجو من الانتفاع . وسائر الخلق إنما يكرمونك ويعظمونك لحاجتهم إليك ، وانتفاعهم بك ، إما بطريق المعاوضة ؛ لأن كل واحد من المتبايعين والمتشاركين والزوجين محتاج إلى الآخر ، والسيد محتاج إلى مماليكه وهم محتاجون إليه ، والملوك محتاجون إلى الجند والجند محتاجون إليهم ، وعلى هذا بني أمر العالم ، وأما بطريق الإحسان منك إليهم . فأقرباؤك وأصدقاؤك وغيرهم إذا أكرموك لنفسك ، فهم إنما يحبونك ويكرمونك لما يحصل لهم بنفسك من الكرامة ، فلو قد وليت ولوا عنك وتركوك فهم في الحقيقة إنما يحبون أنفسهم ، وأغراضهم . فهؤلاء كلهم من الملوك إلى من دونهم تجد أحدهم سيدا مطاعا وهو في الحقيقة عبد مطيع وإذا أوذي أحدهم بسبب سيده أو من يطيعه تغير الأمر بحسب الأحوال ، ومتى كنت محتاجا إليهم نقص الحب والإكرام والتعظيم بحسب ذلك وإن قضوا حاجتك . والرب تعالى : يمتنع أن يكون المخلوق الآخرين له أو متفضلا عليه ؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفعت مائدته : { الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مكفور ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا } رواه البخاري من حديث أبي أمامة بل ولا يزال الله هو المنعم المتفضل على العبد وحده لا شريك له في ذلك ؛ بل ما بالخلق كلهم من نعمة فمن الله ؛ وسعادة العبد في كمال افتقاره إلى الله ، واحتياجه إليه ، وأن يشهد ذلك ويعرفه ويتصف معه بموجبه ، أي بموجب علمه ذلك".
فعلاقات البشر مبنية على المعاوظات التي يختلفون في تقديرها، أو لا يعلمونها، وبين الواقع والمأمول غالبا ما تأتي الصدمة بحسب ما بينهما من الفجوة.
ويبين ابن القيم ذلك بأوجز عبارة في كتابه طريق الهجرتين (1/61) فيقول:
"ومما يوضح ذلك ويقويه أَن في تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه إِذا أَخذ منه القدر الزائد على حاجته المعينة له على عبودية الله ومحبته وتفريغ قلبه له، فإِنه إِن نال من الطعام الشراب فوق حاجاته ضره أَو أَهلكه، وكذلك من النكاح واللباس، وإِن أَحب شيئاً بحيث يُخالِلُهُ فلا بد أَن يسأَمه أَو يفارقه، فالضرر حاصل له إِن وجد أَو فقد، فإِن فقد تعذب بالفراق وتَأَلم، وإِن وجد فإِنه يحصل له من الأَلم أَكثر مما يحصل له من اللذة. وهذا أَمر معلوم بالاعتبار والاستقراء أَن كل من أَحب شيئاً دون الله لغير الله فإِن مضرته أَكثر من منفعته وعذابه أَعظم من نعيمه".
وذلك لأنه رفع سقف الطمع في ذاك المخلوق، بحيث توقع منه أمرا ربما لا يقدر عليه ذلك المخلوق، فيكون معذورا، ومع هذا يظل في نظر المشتكي منه مقصرا، أو هو يقدر عليه ويضن به على عادة المخلوق، أو غير ذلك.
فتأمل قوله: " إِذا أَخذ منه القدر الزائد على حاجته المعينة له على عبودية الله ومحبته وتفريغ قلبه له".
ثم بين ص62، سر التباين البشري وعدم استغنائهم عن بعضهم فقال:
"وهذا من حكمة الله التي أقام بها مصالح خلقه إِذ قسم بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفع بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً"
ثم قال ص62:
"فصل: في . بيان منفعة الحق، ومنفعة الخلق، وما بينهما من التباين
إِذا تبين هذا ظهر أَن أَحداً من المخلوقين لا يقصد منفعتك بالمقصد الأَول، بل إِنما يقصد منفعته بك، وقد يكون عليك في ذلك ضرر إِذا لم يراع المحب العدل، فإِذا دعوته فقد دعوت من ضرُّه أَقرب من نفعه. وأَما الرب تبارك وتعالى فهو يريدك لك ولمنفعتك لا لينتفع بك، وذلك منفعة لك محضة لا ضرر فيها، فتدبر هذا حق التدبر وراعه حق المراعاة، فملاحظة تمنعك أَن ترجو المخلوق أَو تطلب منه منفعته لك فإِنه لا يريد ذلك البتة بالقصد الأَول، بل إِنما يريد انتفاعه بك عاجلاً أَو آجلاً، فهو يريد نفسه لا يريدك، ويريد نفع نفسه بك لا نفعك بنفسه، فتأَمل ذلك فإن فيه منفعة عظيمة وراحة ويأْساً من المخلوقين، سداً لباب عبوديتهم وفتحاً لباب عبودية الله وحده، فما أَعظم حظ من عرف هذه المسأَلة ورعاها حق رعايتها. ولا يحملنك هذا على جفوة الناس وترك الإِحسان إِليهم واحتمال أَذاهم، بل أَحسن إِليهم لله لا لرجائهم، فكما لا تخافهم فلا ترجوهم".
فتأمل قوله: " بل إِنما يقصد منفعته بك، وقد يكون عليك في ذلك ضرر إِذا لم يراع المحب العدل"، وهذا نوع عجيب من استعباد المخلوق لمخلوق، فيأمرك، أو يجبرك على أمر فيه ضررك لأن فيه قضاء وطره، مع أنك تتألم وتتأذى، وقد يكون أقرب الناس إليك من يفعل ذلك بك في صورة محبة الخير لك، والحقيقة ضرر عليك، قال ابن القيم في المصدر السابق ص63:
" فإِن صاحب الحاجة أعمى لا يرى إلا قضاءَها، فهم لا يبالون بمضرتك إِذا أَدركوا منك حاجتهم، بل لو كان فيها هلاك دنياك وآخرتك لم يبالوا بذلك".
ويقول ابن القيم رحمه الله أيضا في إغاثة اللهفان (1/41):
"الوجه الثامن: أن الله سبحانه غني كريم عزيز رحيم. فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعه إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة منه وإحسانا. فهو سبحانه لم يخلق خلقه ليتكثر بهم من قلة، ولا ليعتز بهم من ذلة، ولا ليرزقوه قوة، ولا لينفعوه، ولا ليدفعوا عنه، كما قال تعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ منْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58] وقال تعالى: {وَقُلِ الحمْدُ لِلَّهِ الّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في اُلملْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِى مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء: 111]".
إلى أن قال (1/41-42):
"فهم لفقرهم وحاجتهم إنما يحسن بعضهم إلى بعض لحاجته إلى ذلك وانتفاعه به عاجلاً أو آجلاً. ولولا تصور ذلك النفع لما أحسن إليه. فهو في الحقيقة إنما أراد الإحسان إلى نفسه، وجعل إحسانه إلى غيره وسيلة وطريقا إلى وصول نفع ذلك الإحسان إليه. فإنه إما أن يحسن إليه لتوقع جزائه في العاجل، فهو محتاج إلى ذلك الجزاء، أو معاوضة بإحسانه، أو لتوقع حمده وشكره. وهو أيضاً إنما يحسن إليه ليحصل منه ما هو محتاج إليه من الثناء والمدح، فهو محسن إلى نفسه بإحسانه إلى الغير. وإما أن يريد الجزاء من الله تعالى فى الآخرة، فهو أيضاً محسن إلى نفسه بذلك، وإنما أخر جزاءه إلى يوم فقره وفاقته، فهو غير ملوم في هذا القصد، فإنه فقير محتاج، وفقره وحاجته أمر لازم له من لوازم ذاته، فكماله أن يحرص على ما ينفعه ولا يعجز عنه، وقال تعالى:
{إِنْ أحْسَنْتُمْ أََحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7] وقال: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إلَيْكمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272] .
وقال تعالى، فيما رواه عنه رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: " يَا عِبَادِى: إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِى فَتَنْفَعُونِى، وَلَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِى، يا عِبَادِى: إِنّمَا هِىَ أَعْماَلكُم أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غيْرَ ذلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ".
فالمخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد انتفاعه بك.
والرب تعالى إنما يريد نفعك لا انتفاعه به، وذلك منفعة محضة لك خالصة من المضرة، بخلاف إرادة المخلوق نفعك، فإنه قد يكون فيه مضرة عليك، ولو بتحمل منته.
فتدبر هذا فإن ملاحظته تمنعك أن ترجو المخلوق أو تعامله دون الله عز وجل، أو تطلب منه نفعا، أو دفعا أو تعلق قلبك به، فإنه إنما يريد انتفاعه بك لا محض نفعك، وهذا حال الخلق كلهم بعضهم مع بعض، وهو حال الولد مع والده، والزوج مع زوجه، والمملوك مع سيده، والشريك مع شريكه. فالسعيد من عاملهم لله تعالى لا لهم، وأحسن إليهم لله تعالى، وخاف الله تعالى فيهم، ولم يخفهم مع الله تعالى، ورجا الله تعالى بالإحسان إليهم، ولم يرجهم مع الله، وأحبهم بِحُبِّ الله، ولم يحبهم مع الله تعالى، كما قال أولياء الله عز وجل: {إِنمَا نُطعمكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكورًا} [الإنسان: 9]"..
ثم بين ما يقطع عليك الرجاء ورفع السقف في المخلوق فقال عقب الكلام السابق::
"الوجه التاسع: أن العبد المخلوق لا يعلم مصلحتك حتى يعرفه الله تعالى إياها، ولا يقدر على تحصيلها لك، حتى يقدره الله تعالى عليها، ولا يريد ذلك حتى يخلق الله فيه إرادة ومشيئة. فعاد الأمر كله لمن ابتدأ منه، وهو الذى بيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، فتعلق القلب بغيره رجاء وخوفا وتوكلا وعبودية: ضرر محض، لا منفعة فيه، وما يحصل بذلك من المنفعة فهو سبحانه وحده الذى قدرها ويسرها وأوصلها إليك".
وقال ابن القيم رحمه الله في طريق الهجرتين (1/63):
" فالسعيد الرابح من عامل الله فيهم ولم يعاملهم في الله، وخاف الله فيهم ولم يخفهم في الله وأَرضى الله بسخطهم ولم يرضهم بسخط الله، وراقب الله فيهم ولم يراقبهم في الله، وآثر الله عليهم ولم يؤثرهم في الله، وأَمات خوفهم ورجاءَهم وحبهم من قلبه وأَحى حب الله وخوفه ورجاءَه فيه، فهذا هو الذى يكتب عليهم، وتكون معاملته لهم كلها ربحاً، بشرط أَن يصبر على أَذاهم ويتخذه مغنماً لا مغرماً وربحاً لا خسراناً".
لو تعلمت هذا وأدركته وعملت به ارتحت من ركام من الهموم والصدمات بسبب المخلوقين.
ومما يقوي فيك هذا أن من كان رأس ماله في الدنيا رفع السقف الطمع في المخلوق إضافة إلى صدمات الدنيا فإن أحب الناس إليه في الدنيا يفرون منه أحوج ما يكون إلى النفع يوم القيامة، أمك التي بذلت من أجلك الغالي والنفيس، أبوك الذي كان يفتخر بك، أخوك الذي كان لك عضدا ومناصرا، زوجتك أم أولادك، أبناؤك الذين قضيت عمرك في تربيتهم ورعايتهم، كلهم سيتخلون عنك, {يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه}، ليس لك إلا الله الذي قل سقف طمعك في كرمه في الدنيا.
الأنساب ينقطع أثرها الذي كان في الدنيا, {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون}، {ولا يسأل حميم حميما}، عن حاله يوم ذاك، وهل يعرف بعضهم بعضا؟ {يبصرونهم}، تبصرهم ويبصرونك، تعرفهم ويعرفونك، ما لك إلا الله الذي بيده النفع والضر.
فسل الله أن يجبر كسرك وفقرك بغناه، وفي الأثر الإلهي, (عبدي، كن لي كما أريد، أكن لك فوق ما تريد)، وفي أثر آخر, (عبدي، اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فقدتني فقدت كل شيء)، والله أعلم، وهو الموفق والهادي سواء السبيل.